نشأ أدب الأطفال العربي شفوياً ينثال من أفواه الأمهات اللاتي يتحفن صغارهن بأغاني المهد العذبة التي يسميها بعض الأدباء والنقاد " أمهودة" و يسميها آخرون "تنويمة " ... ، و اشتد عود المكتوب منه على يد مبدعين كبار ،حازوا قصب السبق في اجتراح القول في هذا المضمار مثل : الأديب المصري محمد جلال عثمان (1828-1898) ، الذي أصدر كتابه " العيون اليواقظ في الحكم والأمثال و المواعظ" في طبعته المدرسية الأولى عام 1894..") ( ، و ليس يخفى تنوع التجارب المترددة بين الاقتباس و الترجمة و التأصيل الذي نلمس بعض مياسمه في النصوص التي اتخذت من الابل مادة للكتابة و التخييل .
لقد تسللت الابل إلى أدب الطفل العربي منذ وقت مبكر ، بحكم العلاقة الأليفة التي تصل البدو بهذا الحيوان الذي يقتاتون على منتجاته (ألبان ، لحوم ...) ، و يقاسمهم قساوة العيش في الصحراء ، و يحمل أثقالهم إلى أقصى البقاع ، وقد نعثر في أغاني الأطفال على الكثير من الأنشودات العذبة التي تنطوي على ذكر الابل تمجيداً لتضحياتها أو احتفاء بجمال " طباعها ، أو ترفلا معها في عالم الخيال على النحو الذي سجلته الباحثة الفرنسية Odette De puigaudeau خلال زيارتها لإحدى القرى الصحراوية جنوب المغرب ،إذ وجدت الصغار يغنون أغنيات جميلة غارقة في الخيال ، ترجمت منها مقاطع مثل :
Un chameau broute
Que fait tu ؟
J’engraisse ma bosse pour le voyage de Muhammad !
يسيل السؤال عن سرّ الشرَه في قضم العشب ، فيجيب الجمل : أسمنُ سنامي لأجل سفر الرسول ...، إنها الفكرة ذاتها التي تضمنتها قصة المسافر الصغير " طارق ، فتى الصحراء الأزرق" التي ورد فيها : " وقبل الانطلاق ، أطعمت الجمال جيداً ، وقدمت لها كميات كبيرة من الماء ، لكي تتمكن من البقاء أربعين يوماً" ، فالابل معروفة بتخزين المياه و الطاقة ، و السفر الطويل على ظهورها ألهب خيال كثير من المبدعين الكبار من طينة الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي " جعل الجمل " ظريف" يرحل في قصة " رحلة إلى جزيرة الدويشة" مع الأطفال و الديك حسن كل خميس بعد الفراغ من الواجبات المدرسية ، " ليعيشوا الفوضى بلا حدود ودون أوامر وتعليمات ، ويلبسوا تاج الجزيرة (...) حتى يؤذن لهم الديك حسن معلناً لهم أن عليهم العودة من بوابة الحلم إلى أرض الواقع(...) ، (إنها) قصة تعلي من معاني الحرية المطلقة، والحرية المسئولة في نفس الطفل(...) ضمن حدود تفصل بين الأمرين، حتى لا ترتبك المعاني الطيبةفي النفس" .
الجمل في أزجال أحمد الطيب العلج :
اعتبارا لمنزلة الجمل في مخيالنا الشعبي ، رسم أحمد الطيب العلج في نصه الموجه للأطفال " الجمل و الذياب" ، صورة سردية بديعة عن جمل أوهنه المسير ،وتخلف عن القافلة ، فأضحى نهب الضواري و الجوارح :
العَزِيزْ هَاذْ الجمل الراحلْ
اللّي كانْ قِيمة و صَارْ لْقِيمَة
جُثّة هَامْدَة ساهْل ماهْل
و الذّيَاب تَفْرَسْ لَغنيمَة
و النّسُورْ اسْرَابْ و اسْرَابْ
و الغرْباَن شحَالْ من اغْرابْ
وكُلّ فَارسْ يَبْغِي يبْدَ
يَاخُذ حَقّه فْ هَاذْ الزّرْدَة .
لم تستطع الذئاب التي أحاطت بالجمل الاقتراب منه في عزّ قوته ووقوفه شامخا ، لكن ، لما خارت قواه ، و تعفر أنفه في التراب ، تناهبته الذئاب و النسور و الغربان التي تداعت إلى الوليمة (الزّردة) . إنه مشهد مؤلم مختزل لمعنى المثل العامي : (إلَ طاحت البقرة ، يكثروا الجْنَاوَى= إذا سقطت البقرة ،كثرت السكاكين) . و ليس المعنى البعيد المنقول بين طوايا النص ، سوى وجوب الحذر من الذئاب البشرية التي تتهيب الشخص في حالة شموخه و قوة سلطته ، لكنها تهتبل فرصة الضعف كي تنهال عليه تجريحاً و تشويها ...
جمّول يصاحب القمر
يسافر المتلقي على أجنحة الخيال الأدبي مع الكاتبة القديرة ثريا عبد البديع في قصة الطفل " جمّول يصاحب القمر" ، إلى عالم الجمل الصغير " جمّول" الذي " يسكن الصحراء ، يعيش فوق الرمال الناعمة ، يصحو من نومه مبكرا ، يصبّح صديقته الشمس ، فتبتسم له ، تداعب شعره بأشعتها الذهبية " ، و يلقي به الفضول في ورطة حقيقية ، حين يستعذب سباق الجمال الكبيرة ، تعجبه رشاقتها و سرعتها ، و يمشي وراءها ، فينتهي ضليلا لا يهتدي إلى مهجع أمه و أخيه " عسل" ، لكنه يفرح بعد هلع عظيم ، عندما يظهر " في السماء نور مستدير ... فضي اللون " ، يضيء الصحراء . إنه القمر الذي سيصحبه إلى أمه ، و يؤنس وحدته ...
تخرج الطبيعة في هذا النص الجميل من ضيق التوحش إلى سعة التأنُّس ، فالجمل الصغير يستمتع بفضاء الصحراء العذري ، و يستحم تحت أشعة شمسها الدافئة ، و يأنس في الليل بصاحبه الذي يبلغه مأمنه ، أي القمر صاحب الفضل في الأمان والمعرفة (عرفه على أخواته النجوم التي طالما بددت ظلمة الليل قبل أن تكتشف المصابيح).
و الطبيعة بعذريتها و براءتها في النص ، مسخرة تسخيرا لطيفا لإبلاغ رسائل ينبغي أن يعيها الانسان و يقتنصها من عالم الحيوان ، مثل فيض عاطفة الأمومة التي دفعت الناقة إلى الخروج بحثا عن ابنها جموّل ، و التضامن بين المكوَّنات ، و التكامل بين وظائف الشمس و القمر المتعاقبين ...
الجمل التعيس :
قد يكون العنوان نذير أمر مؤلمسيحلّبالجمل، فيصبح تعيساً . أيّ أمر ذاك ؟ ، هل خلق الجمل تعيسا أم جلب له التعاسة مكر الآخرين ؟. ذاك ما سيعرفه الأطفال عندما ، تصافحهم في الصفحات الأولى من القصة أوصاف "الجمل الطيب " : " كان يملك قروناً رائعة ، وذيلا طويلا ، أملس الشعر " .
إنه وصف غرائبي عجائبي ، يذكر بالجمل المجنح " في بعض الأقاصيص و الأساطير . تثير هيئة الجمل العجيبة غيرة الحيوانات الأخرى المدعوة إلى حفلة . يستعطفه الأيل كي يمنحه قرونه . يرق لحاله و يستجيب لطلبه ، فيخلع له القرون . يأتيه الحصان طالبا مبادلة ذيله القصير بذيل الجمل الطويل ، فيعيره إياه , يتواعد معهما عند الماء كي يردا إليه ممتلكاته المعارة (القرون الصلبة و الذيل الطويل) ،لكنهما يغدران به ، ويختفيان ، ثميبعثان إليه طائر " العقعق " كي يبلغه : " إنك لن تستعيد قرونك و ذيلك حتى يصبح لعنز الجبال قرون ، وتطال السماء !.
تنطوي القصة على بقايا تفكير خرافي ميثولوجي ، وتتوكأ الكاتبة سوزان قازان على عصا الأساطير الهاجعة في بعض حكاياتنا الشعبية ،كي ترسم صورة " الجمل الطيب " حدّ السذاجة ، إذ ذهبت طيبوبته و سلامة قلبه بأشياءٍ أعارها للغير الذي غرّته طلاوة كلامه و حلاوة استعطافه . و يحمل النص الجميل إلى عقل كل طفل ، على القصد القريب ، معاني وجوب لزوم الحذر في التعامل مع الأغيار ، كما يذم ، على القصد البعيد ، البلادة و السذاجة التي قد تجلب التعاسة .
الناقة الرشيقة :
يستوحي العربي بنجلون في قصته الرائعة " الناقة الرشيقة" جوهر قصة نبي الله صالح ، و ينأى عن السرد الجاف و الوعظ المباشر ، إذ يهتدي بخياله الخصب إلى حيلة سردية لا تجعل من منجزه القصصي " كلام كتب عن كتب " بتعبير بنيس، إذ أن السارد المتحدث بضمير المتكلم مضى إلى السوق كي يشتري حصانا؟ بغلا؟ جملا ؟ حماراً؟ ، لكنه كاد يطير فرحاً من فرط جمال " ناقة رشيقة " سبت عقله ، و سيطرت على فؤاده . اشتراها دون ان يفرط في المساومة ، و مضت تتبعه بريثٍ ومهل ، كأنها ظله الذي يلازمه . حدثته في الطريق قائلة :" أنا هكذا دائما ، أسير ببطء ، آكل ببطء ، كيلا أتعب ، فيصيبني الجوع والعطش . لا تنس أنني أخزن الماء و الغذاء في سنامي (...)، وفي أقدامي وسائد من لحم تحميني من الحر الشديد ، ومن الغوص في الرمل ، كما يغطي جسمي وبر يحفظني من الحر والرمل ، و اسمي الناقة ، واسم ذكري الجمل ، و اسم ولدي سقب ، و ابنتي حائل" (ص5-6).
حكت له بعد أن وصلا البيت قصة جدتها (ناقة صالح) التي خرجت بقدرة الله من الصخرة ، و عقرها تسعة رهط من قوم صالح ، فأنزل الله بهم العقاب ، إذ كذبوا نبيه ، وآذوا الناقة المعجزة . لما فرغت الناقة الرشيقة من حكايتها ، عانقها صاحبها ، ووعدها بتمام العناية بها ، فأجابته : " وأنا أيضا ، سأبقى سفينتك التي تقلك في الصحراء القاحلة ،و أفيدك بلحمي ووبري... !.
لقد حرص الكاتب على تشريب نصه أبعاداً دينية ، و تسريب قيمحفظ العهد وعدم الغدر و المحافظة على الحيوان و الرأفة به عبر منافذ السرد الشيق الذي يزاوج بين الحوار والوصف ، كما أبدع في رفد و إغناء رصيد القارئ الصغير بعديد المصطلحات المتعلقة بالابل كالسقب و الحائل.
" الجمل" في قصة طارق ،فتى الصحراء الأزرق:
يدرب " خالد" في القصة أعلاه أخاه " طارق" على مهارة ركوب الابل استعداداً للسفر مع القافلة التجارية ، " و يكرر على مسامعه :
"-لا تمتط السرج إلا عندما يكون الجمل باركاً على ركبتيه ، وكي تجعله ينهض ، شُد الحبل الذي يمر في حلْقة أنفه ، وادفعه للتقدم وأنت تضرب سقف حلقك " اكلاك ! اكلاك ! ،ومن ثم أمسك اللجام ، والْكُزِالجمل من عنقه بالأصبع الكبيرة من قدمك ، لكي توجهه في الاتجاه المناسب".
يتقن الصغير خالد الركوب ، ويجيد امتطاء الجمل بعد فترة تدريب متواصل ، يرشحه والده للمضي مع القافلة ، و يسلمه جملا صغيرا يناسب حداثة سنه . في الطريق ، يدلهمُّ الليل و تشتد الريح ، و يستفيق القوم في صباح اليوم التالي وقد اختفت جميع جمال القافلة بما عليها إلا الجمل الصغير الذي لم يبرح المخيم ، و يمضي طارق بأمر من أبيه على ظهر جمله كي يجلب الماء ، يصيبه العياء إثر الوصول إلى مورد الماء ، و يغمى عليه من شدة التعب ، و يستيقظ بعد ذلك على صوت جلبة ، لا يدري أهم لصوص أم قطاع طرق ؟ . يستمسك ببقايا شجاعته ، ويحاور رئيسهم ، و يتعرف على إبل القافلة الضالة بيدهم ، و يصحبهم إلى قومه ، فيعجبون بشجاعته ، و يثني أكبرهم عليه بحضرة أبيه ، و " لا تزال قبائل الرجال الزرق تتناقل مغامرة طارق المثيرة بكل فخر و اعتزاز".
نخلص من هذا التلخيصإلى إدراك الدور التعليمي –التعلمي للقصة ، بوصفها أداة للنقل البيداغوجي لمهارات ركوب الابل ، فضلا عن حمولتها التشويقية التي تفتح عين الطفل على مغامرات " الطارقي" الصغير ، فتى الصحراء الأزرق في البيداء ذات الحرّ الشديد و مورد الماء البعيد.
د. بوزيد الغلى
[SIZE=6](مقالة منشورة بمجلة الإبل عام 2014)..[/SIZE]
لقد تسللت الابل إلى أدب الطفل العربي منذ وقت مبكر ، بحكم العلاقة الأليفة التي تصل البدو بهذا الحيوان الذي يقتاتون على منتجاته (ألبان ، لحوم ...) ، و يقاسمهم قساوة العيش في الصحراء ، و يحمل أثقالهم إلى أقصى البقاع ، وقد نعثر في أغاني الأطفال على الكثير من الأنشودات العذبة التي تنطوي على ذكر الابل تمجيداً لتضحياتها أو احتفاء بجمال " طباعها ، أو ترفلا معها في عالم الخيال على النحو الذي سجلته الباحثة الفرنسية Odette De puigaudeau خلال زيارتها لإحدى القرى الصحراوية جنوب المغرب ،إذ وجدت الصغار يغنون أغنيات جميلة غارقة في الخيال ، ترجمت منها مقاطع مثل :
Un chameau broute
Que fait tu ؟
J’engraisse ma bosse pour le voyage de Muhammad !
يسيل السؤال عن سرّ الشرَه في قضم العشب ، فيجيب الجمل : أسمنُ سنامي لأجل سفر الرسول ...، إنها الفكرة ذاتها التي تضمنتها قصة المسافر الصغير " طارق ، فتى الصحراء الأزرق" التي ورد فيها : " وقبل الانطلاق ، أطعمت الجمال جيداً ، وقدمت لها كميات كبيرة من الماء ، لكي تتمكن من البقاء أربعين يوماً" ، فالابل معروفة بتخزين المياه و الطاقة ، و السفر الطويل على ظهورها ألهب خيال كثير من المبدعين الكبار من طينة الدكتور عبد الوهاب المسيري الذي " جعل الجمل " ظريف" يرحل في قصة " رحلة إلى جزيرة الدويشة" مع الأطفال و الديك حسن كل خميس بعد الفراغ من الواجبات المدرسية ، " ليعيشوا الفوضى بلا حدود ودون أوامر وتعليمات ، ويلبسوا تاج الجزيرة (...) حتى يؤذن لهم الديك حسن معلناً لهم أن عليهم العودة من بوابة الحلم إلى أرض الواقع(...) ، (إنها) قصة تعلي من معاني الحرية المطلقة، والحرية المسئولة في نفس الطفل(...) ضمن حدود تفصل بين الأمرين، حتى لا ترتبك المعاني الطيبةفي النفس" .
الجمل في أزجال أحمد الطيب العلج :
اعتبارا لمنزلة الجمل في مخيالنا الشعبي ، رسم أحمد الطيب العلج في نصه الموجه للأطفال " الجمل و الذياب" ، صورة سردية بديعة عن جمل أوهنه المسير ،وتخلف عن القافلة ، فأضحى نهب الضواري و الجوارح :
العَزِيزْ هَاذْ الجمل الراحلْ
اللّي كانْ قِيمة و صَارْ لْقِيمَة
جُثّة هَامْدَة ساهْل ماهْل
و الذّيَاب تَفْرَسْ لَغنيمَة
و النّسُورْ اسْرَابْ و اسْرَابْ
و الغرْباَن شحَالْ من اغْرابْ
وكُلّ فَارسْ يَبْغِي يبْدَ
يَاخُذ حَقّه فْ هَاذْ الزّرْدَة .
لم تستطع الذئاب التي أحاطت بالجمل الاقتراب منه في عزّ قوته ووقوفه شامخا ، لكن ، لما خارت قواه ، و تعفر أنفه في التراب ، تناهبته الذئاب و النسور و الغربان التي تداعت إلى الوليمة (الزّردة) . إنه مشهد مؤلم مختزل لمعنى المثل العامي : (إلَ طاحت البقرة ، يكثروا الجْنَاوَى= إذا سقطت البقرة ،كثرت السكاكين) . و ليس المعنى البعيد المنقول بين طوايا النص ، سوى وجوب الحذر من الذئاب البشرية التي تتهيب الشخص في حالة شموخه و قوة سلطته ، لكنها تهتبل فرصة الضعف كي تنهال عليه تجريحاً و تشويها ...
جمّول يصاحب القمر
يسافر المتلقي على أجنحة الخيال الأدبي مع الكاتبة القديرة ثريا عبد البديع في قصة الطفل " جمّول يصاحب القمر" ، إلى عالم الجمل الصغير " جمّول" الذي " يسكن الصحراء ، يعيش فوق الرمال الناعمة ، يصحو من نومه مبكرا ، يصبّح صديقته الشمس ، فتبتسم له ، تداعب شعره بأشعتها الذهبية " ، و يلقي به الفضول في ورطة حقيقية ، حين يستعذب سباق الجمال الكبيرة ، تعجبه رشاقتها و سرعتها ، و يمشي وراءها ، فينتهي ضليلا لا يهتدي إلى مهجع أمه و أخيه " عسل" ، لكنه يفرح بعد هلع عظيم ، عندما يظهر " في السماء نور مستدير ... فضي اللون " ، يضيء الصحراء . إنه القمر الذي سيصحبه إلى أمه ، و يؤنس وحدته ...
تخرج الطبيعة في هذا النص الجميل من ضيق التوحش إلى سعة التأنُّس ، فالجمل الصغير يستمتع بفضاء الصحراء العذري ، و يستحم تحت أشعة شمسها الدافئة ، و يأنس في الليل بصاحبه الذي يبلغه مأمنه ، أي القمر صاحب الفضل في الأمان والمعرفة (عرفه على أخواته النجوم التي طالما بددت ظلمة الليل قبل أن تكتشف المصابيح).
و الطبيعة بعذريتها و براءتها في النص ، مسخرة تسخيرا لطيفا لإبلاغ رسائل ينبغي أن يعيها الانسان و يقتنصها من عالم الحيوان ، مثل فيض عاطفة الأمومة التي دفعت الناقة إلى الخروج بحثا عن ابنها جموّل ، و التضامن بين المكوَّنات ، و التكامل بين وظائف الشمس و القمر المتعاقبين ...
الجمل التعيس :
قد يكون العنوان نذير أمر مؤلمسيحلّبالجمل، فيصبح تعيساً . أيّ أمر ذاك ؟ ، هل خلق الجمل تعيسا أم جلب له التعاسة مكر الآخرين ؟. ذاك ما سيعرفه الأطفال عندما ، تصافحهم في الصفحات الأولى من القصة أوصاف "الجمل الطيب " : " كان يملك قروناً رائعة ، وذيلا طويلا ، أملس الشعر " .
إنه وصف غرائبي عجائبي ، يذكر بالجمل المجنح " في بعض الأقاصيص و الأساطير . تثير هيئة الجمل العجيبة غيرة الحيوانات الأخرى المدعوة إلى حفلة . يستعطفه الأيل كي يمنحه قرونه . يرق لحاله و يستجيب لطلبه ، فيخلع له القرون . يأتيه الحصان طالبا مبادلة ذيله القصير بذيل الجمل الطويل ، فيعيره إياه , يتواعد معهما عند الماء كي يردا إليه ممتلكاته المعارة (القرون الصلبة و الذيل الطويل) ،لكنهما يغدران به ، ويختفيان ، ثميبعثان إليه طائر " العقعق " كي يبلغه : " إنك لن تستعيد قرونك و ذيلك حتى يصبح لعنز الجبال قرون ، وتطال السماء !.
تنطوي القصة على بقايا تفكير خرافي ميثولوجي ، وتتوكأ الكاتبة سوزان قازان على عصا الأساطير الهاجعة في بعض حكاياتنا الشعبية ،كي ترسم صورة " الجمل الطيب " حدّ السذاجة ، إذ ذهبت طيبوبته و سلامة قلبه بأشياءٍ أعارها للغير الذي غرّته طلاوة كلامه و حلاوة استعطافه . و يحمل النص الجميل إلى عقل كل طفل ، على القصد القريب ، معاني وجوب لزوم الحذر في التعامل مع الأغيار ، كما يذم ، على القصد البعيد ، البلادة و السذاجة التي قد تجلب التعاسة .
الناقة الرشيقة :
يستوحي العربي بنجلون في قصته الرائعة " الناقة الرشيقة" جوهر قصة نبي الله صالح ، و ينأى عن السرد الجاف و الوعظ المباشر ، إذ يهتدي بخياله الخصب إلى حيلة سردية لا تجعل من منجزه القصصي " كلام كتب عن كتب " بتعبير بنيس، إذ أن السارد المتحدث بضمير المتكلم مضى إلى السوق كي يشتري حصانا؟ بغلا؟ جملا ؟ حماراً؟ ، لكنه كاد يطير فرحاً من فرط جمال " ناقة رشيقة " سبت عقله ، و سيطرت على فؤاده . اشتراها دون ان يفرط في المساومة ، و مضت تتبعه بريثٍ ومهل ، كأنها ظله الذي يلازمه . حدثته في الطريق قائلة :" أنا هكذا دائما ، أسير ببطء ، آكل ببطء ، كيلا أتعب ، فيصيبني الجوع والعطش . لا تنس أنني أخزن الماء و الغذاء في سنامي (...)، وفي أقدامي وسائد من لحم تحميني من الحر الشديد ، ومن الغوص في الرمل ، كما يغطي جسمي وبر يحفظني من الحر والرمل ، و اسمي الناقة ، واسم ذكري الجمل ، و اسم ولدي سقب ، و ابنتي حائل" (ص5-6).
حكت له بعد أن وصلا البيت قصة جدتها (ناقة صالح) التي خرجت بقدرة الله من الصخرة ، و عقرها تسعة رهط من قوم صالح ، فأنزل الله بهم العقاب ، إذ كذبوا نبيه ، وآذوا الناقة المعجزة . لما فرغت الناقة الرشيقة من حكايتها ، عانقها صاحبها ، ووعدها بتمام العناية بها ، فأجابته : " وأنا أيضا ، سأبقى سفينتك التي تقلك في الصحراء القاحلة ،و أفيدك بلحمي ووبري... !.
لقد حرص الكاتب على تشريب نصه أبعاداً دينية ، و تسريب قيمحفظ العهد وعدم الغدر و المحافظة على الحيوان و الرأفة به عبر منافذ السرد الشيق الذي يزاوج بين الحوار والوصف ، كما أبدع في رفد و إغناء رصيد القارئ الصغير بعديد المصطلحات المتعلقة بالابل كالسقب و الحائل.
" الجمل" في قصة طارق ،فتى الصحراء الأزرق:
يدرب " خالد" في القصة أعلاه أخاه " طارق" على مهارة ركوب الابل استعداداً للسفر مع القافلة التجارية ، " و يكرر على مسامعه :
"-لا تمتط السرج إلا عندما يكون الجمل باركاً على ركبتيه ، وكي تجعله ينهض ، شُد الحبل الذي يمر في حلْقة أنفه ، وادفعه للتقدم وأنت تضرب سقف حلقك " اكلاك ! اكلاك ! ،ومن ثم أمسك اللجام ، والْكُزِالجمل من عنقه بالأصبع الكبيرة من قدمك ، لكي توجهه في الاتجاه المناسب".
يتقن الصغير خالد الركوب ، ويجيد امتطاء الجمل بعد فترة تدريب متواصل ، يرشحه والده للمضي مع القافلة ، و يسلمه جملا صغيرا يناسب حداثة سنه . في الطريق ، يدلهمُّ الليل و تشتد الريح ، و يستفيق القوم في صباح اليوم التالي وقد اختفت جميع جمال القافلة بما عليها إلا الجمل الصغير الذي لم يبرح المخيم ، و يمضي طارق بأمر من أبيه على ظهر جمله كي يجلب الماء ، يصيبه العياء إثر الوصول إلى مورد الماء ، و يغمى عليه من شدة التعب ، و يستيقظ بعد ذلك على صوت جلبة ، لا يدري أهم لصوص أم قطاع طرق ؟ . يستمسك ببقايا شجاعته ، ويحاور رئيسهم ، و يتعرف على إبل القافلة الضالة بيدهم ، و يصحبهم إلى قومه ، فيعجبون بشجاعته ، و يثني أكبرهم عليه بحضرة أبيه ، و " لا تزال قبائل الرجال الزرق تتناقل مغامرة طارق المثيرة بكل فخر و اعتزاز".
نخلص من هذا التلخيصإلى إدراك الدور التعليمي –التعلمي للقصة ، بوصفها أداة للنقل البيداغوجي لمهارات ركوب الابل ، فضلا عن حمولتها التشويقية التي تفتح عين الطفل على مغامرات " الطارقي" الصغير ، فتى الصحراء الأزرق في البيداء ذات الحرّ الشديد و مورد الماء البعيد.
د. بوزيد الغلى
[SIZE=6](مقالة منشورة بمجلة الإبل عام 2014)..[/SIZE]