ينشر التصوير وسواسه الاستحواذي الغريب في كل جوانب الوجود" .. (كتاب عصر الصورة)
إن هيمنة فكرة المماثلة مع مشخصات الواقع في فن الفوتوغراف، تجعل من الصعوبة التعامل مع الصورة الفوتوغرافية باعتبارها واقعة شيئية ورغم إنها تجعل الأمر يحمل قدرا نعتقده ضخما من المكاسب؛ فهي في الوقت ذاته تجلب قدرا ضخما كذلك من الصعوبات المقابلة؛ لذلك نحاول طرح هذه الفكرة بصورة متواترة، رغم صعوبة تقبّل فكرة الشيئية من قطاعات واسعة من الوسط الفني للفن التشكيلي : مبدعين ومتلقين، إلا أن عزاءنا الكبير يتمثل في محافظتنا على منجز نعتقد، ونأمل أن يكون، مختلفا في حقل (النقد التشكيلي) عما هو سائد لدينا من كتابات تنتمي أحيانا إلى سوسيولوجيا الفن، وأحيانا إلى تاريخ الفن، وفي أسوأ الحالات إلى الصحافة...
كان الرسم الكلاسيكي في عصر النهضة ناتج كاميرا وهمية هي قانون المنظور الذي يفترض اللوحة مقطعا من مخروط ينطلق من عين الرسام (=عين الكاميرا) إلى المشهد ولم يفعل التصوير الفوتوغرافي سوى بناء هذا المخروط من خلال صنع صندوق الكاميرا المكونة من : ثقب للتلصص و (لوحة) تقطع مخروط النظر .. وان العودة المماثلة إلى ابسط تعريفات الكاميرا باعتبارها ثقبا للتلصص واستراق النظر، بالمعنى الباربوسي (نسبة إلى هنري باربوس كاتب رواية الجحيم)، يفتح بابا لإعادة تعريف الفوتوغراف، وإعادة تقييم أهدافه، بابا تقف الاركولوجيا على رأس أهدافه، وتنسحب الايديولوجيا عنه إلى ابعد نقطة قصية في الركن البعيد... ويكون مبدأ التلصص فيه استراتيجا ثابتا من مبادئ التصوير الفوتوغرافي، يتحكم بعناصر اللقطة : اختيار زاوية اللقطة، والإضاءة، والإنشاء، ومؤسسةً يتم فيها نمذجة الجسد الجمالي وتنميطه...
ان التلصص من ثقب الكاميرا يماثل المراقبةَ، ولكنّه يفارقها بعمله في اتجاهين متضافرين ومتقاطعين أبدا، لا يبدآن من نقطة واحدة ولكنهما ينتهيان إليها، ويشكلان حوارا متبادلا بين : ثقبٍ للتلصص يمارس لعبة الكشف والإخفاء من خلال فرض درجة من استراق اللقطات عبر البحث عن طيات العري الأكثر أهمية، وبين موديلٍ عارٍ يتفنن في حجب وإظهار ما يرغب من جسده، وعبر هذا الصراع بين الرغبات المتباينة في ما يسميه هايدجر "النزاع القديم بين الفجوة المضاءة وحالة الإخفاء" (هايدجر، معنى الفن، ص76) أي (صراع الكشف والإخفاء)، تتوتر خيوط الشد في اللقطة الفوتوغرافية، ويكشف الجسد – الضوء – الظلام عن نفسه شيئا فشيئا، ولكنْ خارج ما أمكن من سلطة الايدولوجيا لصالح أن تعيش اللقطة كينونتها كواقعة شيئية يلعب قانون (الكشف – الإخفاء) (الضوء – الظل) و(السواد - البياض) الدور الأساس في بنائها الشيئي..
تتوازن إرادتا الكشف – الحجب في النودفوتو nude photo بينما تنتصر إرادة الكشف عن طرفي العملية (الثقب المتلصص للكاميرا والموديل العاري) في الفوتوغراف الجنسي sexual photo الذي يتوجه نحو دوافعه الجنسية؛ بينما لا يتوجه النودفوتو إلى كشف الطيات (المحرمة) كما يطمح الفن الجنسي الخليع؛ فتوجهاته ذات مرتكزات جمالية بهدف اكتشاف سحنة جسد الموديل : قشعريرة جلده، وطياته، وانحناءاته، أي الجسد بوصفه واقعة شيئية... مما يحصنه من الانزلاق إلى نفعية غير مستساغة، كما هو حاصل في الفوتوغراف الجنسي.. فحين يوضع الموديل العاري تحت سطوة الكشف (وهو نمط من التعرية البصرية) فان أهدافه تنحصر في التحسس البصري لسحنة الجسد أي بساطة تحسس (شيئيته) ..
"إن كانت دراسات الممارسات التي تقع على هذا الجسد، والذي يوقعها كذلك على أجساد آخرين، هو موضوع الفلسفة في هذا العصر"، كما يقول مطاع صفدي؛ فان واحدا من أهم موضوعات الفوتوغراف الأسود والأبيض هو الجسد الإنساني بهدف اختراقه بصريا... إيذانا بـ"ولادة جسد مختلف" من لونين، يلفّه الظلام، ويلسعه الضوء بقوة في أجزاء نمطية منه .. جسد يختلف عن سحنة الأجساد التي أنتجها الرسامون قبل اختراع الفوتوغراف.
حين نحاول أن نتتبع خطى فوكو في مساهمته بإعادة كتابة تاريخ الجسد الذي تطور من مرحلة اعتباره قوة عمل (نتذكّر كتاب دور العمل في تحول القرد إلى إنسان لانجلز) إلى مرحلة الجسد المسيّس الذي ينبغي إخضاعه إلى مؤسسة الجسد المنضبط، فيما يبدو التشريح (اناتومي) منهمكا في ما تحت جلد الجسد، ثم إلى مرحلة الجسد السلعة، وكلها تسعى حثيثا لرؤية (اللامرئي) الذي يصفه فوكو بـ"ـما يجري إخفاؤه وطيّه" من قبل هذه الاستراتيجات؛ وما بين الجسد المنضبط والجسد السلعة، وهي كلها مؤسسات بصَرية مرئية، تتضافر قوى الإعلان العولمية إلى وضع الجسد بأكبر درجة ممكنة تحت التعرية من خلال الإعلانات، وبين القوى الدينية المتطرفة التي تحاول أن يصل الجسد تحت هيمنة نمطها للحجاب إلى اكبر درجة ممكنة من الحجب، بينما تنتفض من تحت الرماد مرحلةٌ أخرى لـ(ـلجسد – الواقعة شيئية) التي تماثل شيئية اللوحة.. وهي مرحلة يرفض فيها الجسد أن يخضع لإكراهات شركات الإعلان في التعرية واكراهات القوى المتطرفة في الحجب، وتقدّمُ نموذجََ الجسد – الجمالي (الواقعة الشيئية) كنمط يوتوبي للجسد رغم انه ما زال يخضع لقانون الإخفاء – الكشف ذاته ولكن بأهداف تتخلص باضطراد من نفعيتيها، إلا أن ذلك أمر نظري فبالتحليل النهائي تحاول كل مؤسسات المراقبة والهيمنة أن تحاول الوصول إلى تأهيل الجسد وتنميطه وولادة المجتمع الانضباطي الشامل، فحتى مؤسسة الانضباط الجمالي تهدف إلى تقنين مقاساته.
نعود، عبر الفوتوغراف، إلى علانية الجسد، تلك العلانية التي مورست في أندية العراة، وفي طفولة البشرية، وفي حفلات التعذيب وسط الجماهير الملتذة بتقطيع أوصال الجسد بهدف تحقيق المرحلة التالية الهدف التي بدأت "تتعاون فيها على الجسد المجتمعاتُ الانضباطية المعقلنة، الموصوفة بالتعذيب الناعم والهادئ والصامت والمقنن بدقة والموزع بعدالة ومعرفة سواء في جغرافية الجسد الخارجية أو جغرافيته الداخلية (= الروح)" (مطاع صفدي)، وهذا الانتشار الشامل للانضباط (السيطرة والرقابة) في كافة الفعاليات في العصر الحديث طال جماليات الجسد بشكل مماثل حيث قنّنت مقاسات الجسد بشكل دقيق وبنموذج أوربي كنموذج أو كذائقة..
إذا كان بنتام حين اقترح في العام 1791 نموذجه الشهير للسجن قد أسس منظومة مراقبة كان يسعى أن تكون (منظومة للنظرة المحدقة) فإن اختراع صندوق كاميرا التصوير الفوتوغرافي كان تأسيسا لمنظومة للتلصص على الواقع من ثقب، فكان السجن بالتحليل الفوكوي النهائي نظاما بصَريا للنظرة المحدقة الكلية ذات المتجه الواحد من الحارس تجاه السجين، بينما تخلق الكاميرا نظاما بصريا بمتجه متبادل يشكله طرفا : ثقب الكاميرا والموديل (الجسد) العاري كمادة بصرية مسموح بها.. فكان السجن مغمورا بالضوء ولا مكان للظلال فيه؛ وهو ما ينطلق منه التصوير الجنسي حينما يغرق الجسد الغارق فيه بالضوء، بينما يبدأ التصوير النودفوتو من الجسد الغارق بالظلمة..
إن تصوير الجسد عمل غير حيادي .. يجب أن يكون متلصصا بشكل استثنائي، وان تشمل هذه السمة كل فن التصوير من اجل اكتشاف الزاوية واللقطة الاستثنائية (التلصص والكشف)، فقد كان ميرلوبونتي يقارن في كتابه (العين والمخ) 1960، بين العلم وفن التصوير الزيتي بان العلم ينظر إلى الأشياء من أعلى في حين ينغمس فن التصوير في عالم الرؤية، ففتحة صندوق الكاميرا هو أكثر من فتحة لتقنين دخول كمية من الضوء، فقد كان يتحدث عن جسد العالم الحيّ ولحمه، الجسد الذي هو "تفاعل تبادلي بين الضوء والظل" (عصر الصورة ص 102).
إن تلصص السجن هو نظرةٌ محدقة تراقب تحركات الجسد اجتماعيا باعتبار السجن جزءا من نظام اجتماعي شامل للمراقبة، بينما يختلس الفوتوغراف النظر إلى سحنة الواقع (الجلد) وثنياته، وطياته الخبيئة، وعبر ملايين الكاميرات المنتشرة حول العالم (أداة رؤية كلية)؛ فكان واحدا من أهم مهامها اتخاذها الجسد موضوعا للرؤية، فهي إذن كذلك منظومة شاملة لمراقبة الجسد وتسجيل حركاته وسكناته في مشروع لمراقبة جلد العالم وجلد الجسد بطريقة كلية..
خالد خضير الصالحي
إن هيمنة فكرة المماثلة مع مشخصات الواقع في فن الفوتوغراف، تجعل من الصعوبة التعامل مع الصورة الفوتوغرافية باعتبارها واقعة شيئية ورغم إنها تجعل الأمر يحمل قدرا نعتقده ضخما من المكاسب؛ فهي في الوقت ذاته تجلب قدرا ضخما كذلك من الصعوبات المقابلة؛ لذلك نحاول طرح هذه الفكرة بصورة متواترة، رغم صعوبة تقبّل فكرة الشيئية من قطاعات واسعة من الوسط الفني للفن التشكيلي : مبدعين ومتلقين، إلا أن عزاءنا الكبير يتمثل في محافظتنا على منجز نعتقد، ونأمل أن يكون، مختلفا في حقل (النقد التشكيلي) عما هو سائد لدينا من كتابات تنتمي أحيانا إلى سوسيولوجيا الفن، وأحيانا إلى تاريخ الفن، وفي أسوأ الحالات إلى الصحافة...
كان الرسم الكلاسيكي في عصر النهضة ناتج كاميرا وهمية هي قانون المنظور الذي يفترض اللوحة مقطعا من مخروط ينطلق من عين الرسام (=عين الكاميرا) إلى المشهد ولم يفعل التصوير الفوتوغرافي سوى بناء هذا المخروط من خلال صنع صندوق الكاميرا المكونة من : ثقب للتلصص و (لوحة) تقطع مخروط النظر .. وان العودة المماثلة إلى ابسط تعريفات الكاميرا باعتبارها ثقبا للتلصص واستراق النظر، بالمعنى الباربوسي (نسبة إلى هنري باربوس كاتب رواية الجحيم)، يفتح بابا لإعادة تعريف الفوتوغراف، وإعادة تقييم أهدافه، بابا تقف الاركولوجيا على رأس أهدافه، وتنسحب الايديولوجيا عنه إلى ابعد نقطة قصية في الركن البعيد... ويكون مبدأ التلصص فيه استراتيجا ثابتا من مبادئ التصوير الفوتوغرافي، يتحكم بعناصر اللقطة : اختيار زاوية اللقطة، والإضاءة، والإنشاء، ومؤسسةً يتم فيها نمذجة الجسد الجمالي وتنميطه...
ان التلصص من ثقب الكاميرا يماثل المراقبةَ، ولكنّه يفارقها بعمله في اتجاهين متضافرين ومتقاطعين أبدا، لا يبدآن من نقطة واحدة ولكنهما ينتهيان إليها، ويشكلان حوارا متبادلا بين : ثقبٍ للتلصص يمارس لعبة الكشف والإخفاء من خلال فرض درجة من استراق اللقطات عبر البحث عن طيات العري الأكثر أهمية، وبين موديلٍ عارٍ يتفنن في حجب وإظهار ما يرغب من جسده، وعبر هذا الصراع بين الرغبات المتباينة في ما يسميه هايدجر "النزاع القديم بين الفجوة المضاءة وحالة الإخفاء" (هايدجر، معنى الفن، ص76) أي (صراع الكشف والإخفاء)، تتوتر خيوط الشد في اللقطة الفوتوغرافية، ويكشف الجسد – الضوء – الظلام عن نفسه شيئا فشيئا، ولكنْ خارج ما أمكن من سلطة الايدولوجيا لصالح أن تعيش اللقطة كينونتها كواقعة شيئية يلعب قانون (الكشف – الإخفاء) (الضوء – الظل) و(السواد - البياض) الدور الأساس في بنائها الشيئي..
تتوازن إرادتا الكشف – الحجب في النودفوتو nude photo بينما تنتصر إرادة الكشف عن طرفي العملية (الثقب المتلصص للكاميرا والموديل العاري) في الفوتوغراف الجنسي sexual photo الذي يتوجه نحو دوافعه الجنسية؛ بينما لا يتوجه النودفوتو إلى كشف الطيات (المحرمة) كما يطمح الفن الجنسي الخليع؛ فتوجهاته ذات مرتكزات جمالية بهدف اكتشاف سحنة جسد الموديل : قشعريرة جلده، وطياته، وانحناءاته، أي الجسد بوصفه واقعة شيئية... مما يحصنه من الانزلاق إلى نفعية غير مستساغة، كما هو حاصل في الفوتوغراف الجنسي.. فحين يوضع الموديل العاري تحت سطوة الكشف (وهو نمط من التعرية البصرية) فان أهدافه تنحصر في التحسس البصري لسحنة الجسد أي بساطة تحسس (شيئيته) ..
"إن كانت دراسات الممارسات التي تقع على هذا الجسد، والذي يوقعها كذلك على أجساد آخرين، هو موضوع الفلسفة في هذا العصر"، كما يقول مطاع صفدي؛ فان واحدا من أهم موضوعات الفوتوغراف الأسود والأبيض هو الجسد الإنساني بهدف اختراقه بصريا... إيذانا بـ"ولادة جسد مختلف" من لونين، يلفّه الظلام، ويلسعه الضوء بقوة في أجزاء نمطية منه .. جسد يختلف عن سحنة الأجساد التي أنتجها الرسامون قبل اختراع الفوتوغراف.
حين نحاول أن نتتبع خطى فوكو في مساهمته بإعادة كتابة تاريخ الجسد الذي تطور من مرحلة اعتباره قوة عمل (نتذكّر كتاب دور العمل في تحول القرد إلى إنسان لانجلز) إلى مرحلة الجسد المسيّس الذي ينبغي إخضاعه إلى مؤسسة الجسد المنضبط، فيما يبدو التشريح (اناتومي) منهمكا في ما تحت جلد الجسد، ثم إلى مرحلة الجسد السلعة، وكلها تسعى حثيثا لرؤية (اللامرئي) الذي يصفه فوكو بـ"ـما يجري إخفاؤه وطيّه" من قبل هذه الاستراتيجات؛ وما بين الجسد المنضبط والجسد السلعة، وهي كلها مؤسسات بصَرية مرئية، تتضافر قوى الإعلان العولمية إلى وضع الجسد بأكبر درجة ممكنة تحت التعرية من خلال الإعلانات، وبين القوى الدينية المتطرفة التي تحاول أن يصل الجسد تحت هيمنة نمطها للحجاب إلى اكبر درجة ممكنة من الحجب، بينما تنتفض من تحت الرماد مرحلةٌ أخرى لـ(ـلجسد – الواقعة شيئية) التي تماثل شيئية اللوحة.. وهي مرحلة يرفض فيها الجسد أن يخضع لإكراهات شركات الإعلان في التعرية واكراهات القوى المتطرفة في الحجب، وتقدّمُ نموذجََ الجسد – الجمالي (الواقعة الشيئية) كنمط يوتوبي للجسد رغم انه ما زال يخضع لقانون الإخفاء – الكشف ذاته ولكن بأهداف تتخلص باضطراد من نفعيتيها، إلا أن ذلك أمر نظري فبالتحليل النهائي تحاول كل مؤسسات المراقبة والهيمنة أن تحاول الوصول إلى تأهيل الجسد وتنميطه وولادة المجتمع الانضباطي الشامل، فحتى مؤسسة الانضباط الجمالي تهدف إلى تقنين مقاساته.
نعود، عبر الفوتوغراف، إلى علانية الجسد، تلك العلانية التي مورست في أندية العراة، وفي طفولة البشرية، وفي حفلات التعذيب وسط الجماهير الملتذة بتقطيع أوصال الجسد بهدف تحقيق المرحلة التالية الهدف التي بدأت "تتعاون فيها على الجسد المجتمعاتُ الانضباطية المعقلنة، الموصوفة بالتعذيب الناعم والهادئ والصامت والمقنن بدقة والموزع بعدالة ومعرفة سواء في جغرافية الجسد الخارجية أو جغرافيته الداخلية (= الروح)" (مطاع صفدي)، وهذا الانتشار الشامل للانضباط (السيطرة والرقابة) في كافة الفعاليات في العصر الحديث طال جماليات الجسد بشكل مماثل حيث قنّنت مقاسات الجسد بشكل دقيق وبنموذج أوربي كنموذج أو كذائقة..
إذا كان بنتام حين اقترح في العام 1791 نموذجه الشهير للسجن قد أسس منظومة مراقبة كان يسعى أن تكون (منظومة للنظرة المحدقة) فإن اختراع صندوق كاميرا التصوير الفوتوغرافي كان تأسيسا لمنظومة للتلصص على الواقع من ثقب، فكان السجن بالتحليل الفوكوي النهائي نظاما بصَريا للنظرة المحدقة الكلية ذات المتجه الواحد من الحارس تجاه السجين، بينما تخلق الكاميرا نظاما بصريا بمتجه متبادل يشكله طرفا : ثقب الكاميرا والموديل (الجسد) العاري كمادة بصرية مسموح بها.. فكان السجن مغمورا بالضوء ولا مكان للظلال فيه؛ وهو ما ينطلق منه التصوير الجنسي حينما يغرق الجسد الغارق فيه بالضوء، بينما يبدأ التصوير النودفوتو من الجسد الغارق بالظلمة..
إن تصوير الجسد عمل غير حيادي .. يجب أن يكون متلصصا بشكل استثنائي، وان تشمل هذه السمة كل فن التصوير من اجل اكتشاف الزاوية واللقطة الاستثنائية (التلصص والكشف)، فقد كان ميرلوبونتي يقارن في كتابه (العين والمخ) 1960، بين العلم وفن التصوير الزيتي بان العلم ينظر إلى الأشياء من أعلى في حين ينغمس فن التصوير في عالم الرؤية، ففتحة صندوق الكاميرا هو أكثر من فتحة لتقنين دخول كمية من الضوء، فقد كان يتحدث عن جسد العالم الحيّ ولحمه، الجسد الذي هو "تفاعل تبادلي بين الضوء والظل" (عصر الصورة ص 102).
إن تلصص السجن هو نظرةٌ محدقة تراقب تحركات الجسد اجتماعيا باعتبار السجن جزءا من نظام اجتماعي شامل للمراقبة، بينما يختلس الفوتوغراف النظر إلى سحنة الواقع (الجلد) وثنياته، وطياته الخبيئة، وعبر ملايين الكاميرات المنتشرة حول العالم (أداة رؤية كلية)؛ فكان واحدا من أهم مهامها اتخاذها الجسد موضوعا للرؤية، فهي إذن كذلك منظومة شاملة لمراقبة الجسد وتسجيل حركاته وسكناته في مشروع لمراقبة جلد العالم وجلد الجسد بطريقة كلية..
خالد خضير الصالحي