تدرج الطبيعة بالإنسانية في مدارج الرقي والكمال، وتنهج بها مناهج السمو والتطور، فتحرص على النافع وتختار الأصلح، وتجدد دائماً! فتنقل الناس من حال إلى حال، ونخرج بهم من وضع إلى وضع، وما أداتها في هذا إلا الشخصيات العظيمة، والنفوس الكبيرة، والإرادات القوية الوثابة، التي تحمل في أطوائها عظمة الطبيعة نفسها، فإذا هي في أعمالها وحياتها ومواهبها برامج سامية للجنس، وشرائع عالية للنوع، وعوامل ناهضة بدهماء الناس من ظلمة الخمول، وحمأة الانحطاط، ومُثل رفيعة تنير بروعتها في النفوس أعمق الخواطر، وتلهمها الإنشاء والخلق والإبداع!
وما الأدب في وضعه الشامل، ومادته المتصلة بكل شيء إلا دنيا حافلة، وإنسانية كاملة، فهو - كما يقول مكسيم غوركي - مرآة الحياة تنعكس على زجاجته المصقولة، في هدأة الحزن أو ثورة الغضب، سائر مشاكل الحياة وشعابها المترامية، وخيوطها المشتبكة، ومناحيها المتنائية، كما تنعكس كذلك على أديمه الشفاف كافة رغباتنا وشهواتنا ومشاعرنا وآمالنا، والجداول العميقة الراكدة لحماقتنا وطيشنا، وسعادتنا وشقائنا، وشجاعتنا وفرقنا، أمام الغد المجهول، والمصير المحتوم، ومعاني الحب والبغض لدينا، وسائر معايب نفاقنا وعار أكاذيبنا، ومهانة خداعنا، وركود أذهاننا، وآلامنا التي لا تنتهي منها ولا تنتهي منا، وجملة آمالنا الخفاقة الملهبة لشعورنا، المتنزية في خواطرنا. . . وبالاختصار هو كل ما يحيا به العالم وسائر ما يعتمل وينبض في قلوب البشر. . .
فدنيا الأدب هي دنيا الناس تامة كاملة، يصورها لنا الأسلوب المهذب، ويرسمها التعبير الفني الجميل، وإن النهج الذي تسلكه الطبيعة في دنيا الناس للسموّ بالإنسانية، والترقي بالعالم، هو هو بعينه النهج الذي يحتذيه النقد في دنيا الأدب لخدمته وصقله وتهذيبه واختبار الأصلح منه. . . كما تفعل الطبيعة تماماً في دنيا الناس المادية المحسوسة، وما النقد إلا رسالة من رسالات الطبيعة وعمل من أعمالها، فمن المعقول أن يحتذيها في مهمته، وأن يكون على غرارها في وضعه، فهو - على ما يجب أن يكون - إرادة قوية تكشف وتوضح، وتختار وتميز، وتنفي وتثبت، وتزجر وترشد، قد تبتر الضعيف، وقد تح القوي، وما قصدها في ذلك إلى البطش والانتقام، ولا إلى المداهنة والمحاباة، ولكنها تقصد إلى صقل الخواطر، وتهذيب المشاعر، وتطهير الأفكار من مظاهر البساطة الأولى التي تكون للماس إذ يخرج من أحافير الأرض، فما تزال تتعهدها بذلك حتى تقيمها على الوجه الصحيح النافع، فإذا هي سمو بالإنسانية، وصلة بالحياة، ومادة للخلود، ومبعث الروعة والجلال على مدى الدهر وطول الأيام. . .
والأدب والنقد يهدفان إلى غاية واحدة، ويتعاونان في مهمة متفقة، فالأدب - كما يقول الرافعي - يقدّر لهذا العالم قيمته الإنسانية بإضافة الصور الفكرية الجميلة إليه، ومحاولة إظهار النظام المجهول في متناقضات النفس البشرية، والارتفاع بهذه النفس عن الواقع المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة، وصولة الغريزة، وغرارة الطبع الحيواني؛ والنقد من وراء الأدب في هذا كله، يصح له هذا (التقدير) من جميع جهاته، ويسدده على طريقه القويم، ويدله على الصور الرائعة التي يصح أن تكون مثلاً أعلى لما نطلبه من جمال الحياة وجمال العواطف، ومن ثم كان النقد - كما يقل شوقي - حارس الأدب، ومكمل الكتاب والكتب، ومن ثم أيضاً كان النقد أساساً لكل نهوض أدبي مثمر، فإذا ما رأيت أدباً مهذباً يغمر أصحابه بالحياة، ويؤدي لهم غذاء العواطف والعقول، ويملأ نفوسهم باليقظة والحكمة والإحساس، ويرفعهم عالياً إلى الكمال الإنساني، ثم رحت تتلمس السبب في ذلك فلن تجده إلا النقد، ثم النقد، ولا شيء غير النقد. . .
قال لي أديب كنت أبسط له هذا الرأي: ولكنك تعلم يا صاحبي أن أهل الفن قوم خلقهم الله أحرار المواهب، فهم يطلبون حرية الفكر، وذلك عندهم كل شيء، ولعلك تذكر في ذلك قول ملتون الخالد (أعطني حرية القول، وحرية الفكر، وحرية الضمير، ولا تعطني شيئاً غير ذلك) والنقد إنما هو ضرب من ضروب الحجر على هذه الحرية وحبسها عن التحليق في سماء الفن وجو الحياة الفسيح، ولاشك أن الفنان إذا ما فقد حريته فقد فقدَ عبقريته، وتلاشت شخصيته. . . ثم أنت تعلم أن حياة الفن إعجاب وتقدير، وأن الفنان في حاجة كبيرة إلى العطف والثناء والمدد والبخور، ولكن النقد كثيراً ما يرهق أعصاب الفنانين - وهي الدقيقة المرهفة - بصلف الأستاذية، وعنت الحزازة وعبث التطفل، وكثيراً ما هوي فنانون صرعى هذا الطغيان أو قل هذا اللؤم، وكثيراً ما أحجم كرام فضلاء عن الظهور في الميدان ضناً بأعراضهم أن ترتع فيها الألسنة المضراة، وصوتاً لآثارهم أن تبتلى بلئيم لا ينصف، أو جاهل يتعسف. وقديماً قيل: أحق الناس بالرحمة عالم يجري عليه حكم جاهل! وهذا ما يجعلني أعتقد أن النقد عداوة للأدب، وتهجم على كرامة الفن، وأنه طاغية مستبد، يهدم ويثبط، ويندفع في جبروته واستبداده لا يلوي على شيء ولا يحفل بشيء ولا يفيد في شيء. . . وهذا ما جعلني أيضاً أرتاح لصنيع ألمانيا يوم حرمت النقد الأدبي، ووقفت به عند عرض الموضوعات وبسطها دون التعليق عليها أو إبداء أي رأي. ولقد كان وزير الدعاية الألمانية على حق إذ يقل في بيانه الذي أصدره في ذلك الصدد: إن الفن لا يفقد شيئاً إذا ما بعد أولئك النقدة الأغرار من الميدان، إذ العظمة الزائفة تسقط من غير أن يسقطها النقد، أما أصحاب العظمة الحقيقية فيجب أن يسمح لهم بحرية الابتكار، والاحتفاظ بكرامتهم الفنية، ويجب أن تصان العبقرية الصحيحة من كل ما يؤذيها ويمهد لسقوطها!
ولقد يبدو هذا الكلام طريفاً لبعض الناس، وأذكر أني سمعت صداه في ندوة أدبية، وقرأت كلاماً بمعناه في إحدى الصحف، ولكنه في الواقع أفن من الرأي لا يصح في عقل، ولا يستقيم في منطق، فان النقد ليس مصادمة لحرية الفنان في شيء ولكنه نهوض بهذه الحرية إلى الأوج، وارتفاع بها عن العبث، وتقويم لها على المبادئ القويمة، والرغبات النافعة، وإذا كان له أن يقف بالفنان عند حدود، أو يلزمه بقيود، فليست هي إلا الحدود الفنية، والقيود التي هي معالم الفن نفسه ودعائم كيانه، وبالتزامها يسمو وينهض، وبمراعاتها ينمو ويفرع. فإذا ما أباح لنفسه أن يتعداها وأن يستهين بها، هان أمره، وهاض شأنه وذهبت شخصيته، وانتهت رسالته، كتلك القيود التي يتملص منها بعض الناس، من تفريط في حق اللغة، عدم العناية بالأسلوب، والاستهانة بأوضاع العرف والأخلاق، والتقاليد والدين!
ثم لماذا يناهض النقد الأدب؟ والنقد والأدب صنوان يجمعهما الفن إلى أصل واحد، ويربطها برباط العصبية والقرابة، أو على الأقل برباط الود والصداقة، فإذا ما نظر النقد إلى الأدب وهو ينصح له، أو يسخر منه، أو ينكر عليه، أو يعجب به، فما هو في هذا كله إلا الصديق الحدب، والرفيق المخلص، من واجبه أن يصور الأدب أمام نفسه بأغلاطه ومساوئه، وصوابه ومحاسنه، وأن يرى في ذلك الرأي الصريح المخلص، كما يفعل الأدب تماماً إذ يصور الحياة أمام نفسها بأغلاطها ومساوئها، وصوابها ومحاسنها، وأن يحكم في ذلك برأيه وتقديره، ولا عيب على النقد في صنيعه هذا، كما لا عيب على القاضي إذا ما أعلن كلمة الحق، والواصف إذا ما قرر حقيقة الموصوف، والصديق إذا ما صارح صديقه بالذي فيه، ولكن العيب ألا يؤدي ذلك جهده، ويعمل له وسعه؛ وإن من خطأ الرأي أن نحسب النقد عداوة للأدب، وتهجماً على كرامة الفن، وأنه طاغية مستبد لا يحفل بشيء ولا يفيد في شيء. . . فأن الطبيعة ليست بقاسية من ذهابها بالزبد ليبقي ما ينفع الناس، والطبيب ليس بمتجبر ولا بمستبد إذا ما بتر العضو الفاسد لينجو المريض. والصائغ لا يقصد الشر إذا ما تناول حجر الماس بالإحراق والصهر والصقل ليخلص جوهره وتنجلي لمعته، وكذلك قل في النقد إذا ما وضع الحق في نصابه، ودافع عن الفن في نسقه الأعلى، وعمل على تخليصه من شوائب الفضول والدعوى المزورة والمآرب المتهمة، وإن من انقلاب الأوضاع والاستهانة بالحقائق أن نحسب التهذيب عداوة، والصراحة تهجماً، والتطهير هدماً وتثبيطاً، وإذا كان بعض الأدباء لا يفيدون من النقد صقلاً وسمواً وتهذيباً وإرشاداً فليس الذنب ذنب النقد، ولكنه التفريط منهم في الانتفاع بالرشد والإصاخة إلى النصيحة، وما هم إلا كالمريض، يصف الطبيب له الدواء، ويقدر عليه الغذاء، ويقر له ما يأتي وما يدع، ولكنه يستهين بهذا كله، وما يزال حتى ينوء بعلته، ويتلف بدائه، ثم يتبجح فيلحى الطبيب!!
على أننا إذ نقول النقد، فإنما نعني ذلك الفن الجليل بقواعده المقررة، وأصوله المحررة، وغايته الشريفة، وهو شيء أسمى من التقييم والتقريظ والاستجداء، وأنبل من العبث والغرور والتفيهق، وأرفع من الشتم والحسد والحزازة وكل اعتبار شخصي، وإن من اختلاط الأمر أن نحسب كل هذه من باب النقد ونعتبرها منه، وما هي إلا اعتبارات رخيصة، وسفاسف تافهة، وشرور وآثام شأنها من النقد شأن الأعشاب الضارة في الروضة المعطار. والنقد بريء منها، بل إنه ليناهضها كما يناهض كل أذى وشر. ولقد صدق شوقي إذ يقول: (من نقد على غضب أسخط الحق، ومن نقد على حقد احترق وإن ظن أنه حرق، ومن نقد على حسد لم يخف بغيه على أحد، ومن نقد على حب حابى وجمح به التشيع، وإنما النقد فن كريم، وهو آلة إنشاء، وعدة بناء، وليس كما يزعمه الزاعمون معول هدم ولا أداة تحطيم. . .) ثم إننا إذ نقول الناقد فلسنا نريده من أولئك المزورين الأدعياء الذين ليس لهم أداة النقد، ولا عندهم وسائله، ولكنا نعنيه من أهل النظر المميز، والمتأمل الفاحص، أولئك الذين لهم قدرة الحكم، وفيهم قوة الصواب، وعندهم وسائل الترجيح، وغايتهم الأنصاف، وشأنهم خدمة الفن، وهم من ضميرهم في يقظة تلقى في روعهم دائماً أن الناقد مستهدف يعرض عقله وثقافته وحكمه على الناس، فإذا لم يخلص للحقيقة، ولم يفطن إلى مواقع الصواب في كل هذا عرّض نفسه للزراية والسخرية، وتدلى بعقله وفنه إلى أسفل. . .
والقوم في أوربا يفهمون النقد بهذا المعنى، ويجرون فيه على هذا الأعتبار، والناقد لا يقوم فيهم إلا بهذه القوة وعلى هذا الشرط، ولذا نجد النقد عندهم قد أزهر وأثمر، وأفاد ونفع، فهو مجلي العبقريات ودعائم النبوغ وظل التأليف، وعضد الفن، يدعن له الأدباء في ارتياح واطمئنان، ويرمقونه بالإجلال والإكبار ويصيخون لكلمته بالوعي والأنتفاع، وبهه الروح الطبية استطاع (تين) أن يخلق (ستاندال) ويرفع من (كانت)، ويدين تسعة أعشار الطبقة الراقية من الفرنسيين في القرن التاسع كما يقول بعض المؤرخين!
أما عندنا، فموعدنا بذلك بقية المقال.
محمد فهمي عبد اللطيف
مجلة الرسالة - العدد 281
بتاريخ: 21 - 11 - 1938
وما الأدب في وضعه الشامل، ومادته المتصلة بكل شيء إلا دنيا حافلة، وإنسانية كاملة، فهو - كما يقول مكسيم غوركي - مرآة الحياة تنعكس على زجاجته المصقولة، في هدأة الحزن أو ثورة الغضب، سائر مشاكل الحياة وشعابها المترامية، وخيوطها المشتبكة، ومناحيها المتنائية، كما تنعكس كذلك على أديمه الشفاف كافة رغباتنا وشهواتنا ومشاعرنا وآمالنا، والجداول العميقة الراكدة لحماقتنا وطيشنا، وسعادتنا وشقائنا، وشجاعتنا وفرقنا، أمام الغد المجهول، والمصير المحتوم، ومعاني الحب والبغض لدينا، وسائر معايب نفاقنا وعار أكاذيبنا، ومهانة خداعنا، وركود أذهاننا، وآلامنا التي لا تنتهي منها ولا تنتهي منا، وجملة آمالنا الخفاقة الملهبة لشعورنا، المتنزية في خواطرنا. . . وبالاختصار هو كل ما يحيا به العالم وسائر ما يعتمل وينبض في قلوب البشر. . .
فدنيا الأدب هي دنيا الناس تامة كاملة، يصورها لنا الأسلوب المهذب، ويرسمها التعبير الفني الجميل، وإن النهج الذي تسلكه الطبيعة في دنيا الناس للسموّ بالإنسانية، والترقي بالعالم، هو هو بعينه النهج الذي يحتذيه النقد في دنيا الأدب لخدمته وصقله وتهذيبه واختبار الأصلح منه. . . كما تفعل الطبيعة تماماً في دنيا الناس المادية المحسوسة، وما النقد إلا رسالة من رسالات الطبيعة وعمل من أعمالها، فمن المعقول أن يحتذيها في مهمته، وأن يكون على غرارها في وضعه، فهو - على ما يجب أن يكون - إرادة قوية تكشف وتوضح، وتختار وتميز، وتنفي وتثبت، وتزجر وترشد، قد تبتر الضعيف، وقد تح القوي، وما قصدها في ذلك إلى البطش والانتقام، ولا إلى المداهنة والمحاباة، ولكنها تقصد إلى صقل الخواطر، وتهذيب المشاعر، وتطهير الأفكار من مظاهر البساطة الأولى التي تكون للماس إذ يخرج من أحافير الأرض، فما تزال تتعهدها بذلك حتى تقيمها على الوجه الصحيح النافع، فإذا هي سمو بالإنسانية، وصلة بالحياة، ومادة للخلود، ومبعث الروعة والجلال على مدى الدهر وطول الأيام. . .
والأدب والنقد يهدفان إلى غاية واحدة، ويتعاونان في مهمة متفقة، فالأدب - كما يقول الرافعي - يقدّر لهذا العالم قيمته الإنسانية بإضافة الصور الفكرية الجميلة إليه، ومحاولة إظهار النظام المجهول في متناقضات النفس البشرية، والارتفاع بهذه النفس عن الواقع المنحط المجتمع من غشاوة الفطرة، وصولة الغريزة، وغرارة الطبع الحيواني؛ والنقد من وراء الأدب في هذا كله، يصح له هذا (التقدير) من جميع جهاته، ويسدده على طريقه القويم، ويدله على الصور الرائعة التي يصح أن تكون مثلاً أعلى لما نطلبه من جمال الحياة وجمال العواطف، ومن ثم كان النقد - كما يقل شوقي - حارس الأدب، ومكمل الكتاب والكتب، ومن ثم أيضاً كان النقد أساساً لكل نهوض أدبي مثمر، فإذا ما رأيت أدباً مهذباً يغمر أصحابه بالحياة، ويؤدي لهم غذاء العواطف والعقول، ويملأ نفوسهم باليقظة والحكمة والإحساس، ويرفعهم عالياً إلى الكمال الإنساني، ثم رحت تتلمس السبب في ذلك فلن تجده إلا النقد، ثم النقد، ولا شيء غير النقد. . .
قال لي أديب كنت أبسط له هذا الرأي: ولكنك تعلم يا صاحبي أن أهل الفن قوم خلقهم الله أحرار المواهب، فهم يطلبون حرية الفكر، وذلك عندهم كل شيء، ولعلك تذكر في ذلك قول ملتون الخالد (أعطني حرية القول، وحرية الفكر، وحرية الضمير، ولا تعطني شيئاً غير ذلك) والنقد إنما هو ضرب من ضروب الحجر على هذه الحرية وحبسها عن التحليق في سماء الفن وجو الحياة الفسيح، ولاشك أن الفنان إذا ما فقد حريته فقد فقدَ عبقريته، وتلاشت شخصيته. . . ثم أنت تعلم أن حياة الفن إعجاب وتقدير، وأن الفنان في حاجة كبيرة إلى العطف والثناء والمدد والبخور، ولكن النقد كثيراً ما يرهق أعصاب الفنانين - وهي الدقيقة المرهفة - بصلف الأستاذية، وعنت الحزازة وعبث التطفل، وكثيراً ما هوي فنانون صرعى هذا الطغيان أو قل هذا اللؤم، وكثيراً ما أحجم كرام فضلاء عن الظهور في الميدان ضناً بأعراضهم أن ترتع فيها الألسنة المضراة، وصوتاً لآثارهم أن تبتلى بلئيم لا ينصف، أو جاهل يتعسف. وقديماً قيل: أحق الناس بالرحمة عالم يجري عليه حكم جاهل! وهذا ما يجعلني أعتقد أن النقد عداوة للأدب، وتهجم على كرامة الفن، وأنه طاغية مستبد، يهدم ويثبط، ويندفع في جبروته واستبداده لا يلوي على شيء ولا يحفل بشيء ولا يفيد في شيء. . . وهذا ما جعلني أيضاً أرتاح لصنيع ألمانيا يوم حرمت النقد الأدبي، ووقفت به عند عرض الموضوعات وبسطها دون التعليق عليها أو إبداء أي رأي. ولقد كان وزير الدعاية الألمانية على حق إذ يقل في بيانه الذي أصدره في ذلك الصدد: إن الفن لا يفقد شيئاً إذا ما بعد أولئك النقدة الأغرار من الميدان، إذ العظمة الزائفة تسقط من غير أن يسقطها النقد، أما أصحاب العظمة الحقيقية فيجب أن يسمح لهم بحرية الابتكار، والاحتفاظ بكرامتهم الفنية، ويجب أن تصان العبقرية الصحيحة من كل ما يؤذيها ويمهد لسقوطها!
ولقد يبدو هذا الكلام طريفاً لبعض الناس، وأذكر أني سمعت صداه في ندوة أدبية، وقرأت كلاماً بمعناه في إحدى الصحف، ولكنه في الواقع أفن من الرأي لا يصح في عقل، ولا يستقيم في منطق، فان النقد ليس مصادمة لحرية الفنان في شيء ولكنه نهوض بهذه الحرية إلى الأوج، وارتفاع بها عن العبث، وتقويم لها على المبادئ القويمة، والرغبات النافعة، وإذا كان له أن يقف بالفنان عند حدود، أو يلزمه بقيود، فليست هي إلا الحدود الفنية، والقيود التي هي معالم الفن نفسه ودعائم كيانه، وبالتزامها يسمو وينهض، وبمراعاتها ينمو ويفرع. فإذا ما أباح لنفسه أن يتعداها وأن يستهين بها، هان أمره، وهاض شأنه وذهبت شخصيته، وانتهت رسالته، كتلك القيود التي يتملص منها بعض الناس، من تفريط في حق اللغة، عدم العناية بالأسلوب، والاستهانة بأوضاع العرف والأخلاق، والتقاليد والدين!
ثم لماذا يناهض النقد الأدب؟ والنقد والأدب صنوان يجمعهما الفن إلى أصل واحد، ويربطها برباط العصبية والقرابة، أو على الأقل برباط الود والصداقة، فإذا ما نظر النقد إلى الأدب وهو ينصح له، أو يسخر منه، أو ينكر عليه، أو يعجب به، فما هو في هذا كله إلا الصديق الحدب، والرفيق المخلص، من واجبه أن يصور الأدب أمام نفسه بأغلاطه ومساوئه، وصوابه ومحاسنه، وأن يرى في ذلك الرأي الصريح المخلص، كما يفعل الأدب تماماً إذ يصور الحياة أمام نفسها بأغلاطها ومساوئها، وصوابها ومحاسنها، وأن يحكم في ذلك برأيه وتقديره، ولا عيب على النقد في صنيعه هذا، كما لا عيب على القاضي إذا ما أعلن كلمة الحق، والواصف إذا ما قرر حقيقة الموصوف، والصديق إذا ما صارح صديقه بالذي فيه، ولكن العيب ألا يؤدي ذلك جهده، ويعمل له وسعه؛ وإن من خطأ الرأي أن نحسب النقد عداوة للأدب، وتهجماً على كرامة الفن، وأنه طاغية مستبد لا يحفل بشيء ولا يفيد في شيء. . . فأن الطبيعة ليست بقاسية من ذهابها بالزبد ليبقي ما ينفع الناس، والطبيب ليس بمتجبر ولا بمستبد إذا ما بتر العضو الفاسد لينجو المريض. والصائغ لا يقصد الشر إذا ما تناول حجر الماس بالإحراق والصهر والصقل ليخلص جوهره وتنجلي لمعته، وكذلك قل في النقد إذا ما وضع الحق في نصابه، ودافع عن الفن في نسقه الأعلى، وعمل على تخليصه من شوائب الفضول والدعوى المزورة والمآرب المتهمة، وإن من انقلاب الأوضاع والاستهانة بالحقائق أن نحسب التهذيب عداوة، والصراحة تهجماً، والتطهير هدماً وتثبيطاً، وإذا كان بعض الأدباء لا يفيدون من النقد صقلاً وسمواً وتهذيباً وإرشاداً فليس الذنب ذنب النقد، ولكنه التفريط منهم في الانتفاع بالرشد والإصاخة إلى النصيحة، وما هم إلا كالمريض، يصف الطبيب له الدواء، ويقدر عليه الغذاء، ويقر له ما يأتي وما يدع، ولكنه يستهين بهذا كله، وما يزال حتى ينوء بعلته، ويتلف بدائه، ثم يتبجح فيلحى الطبيب!!
على أننا إذ نقول النقد، فإنما نعني ذلك الفن الجليل بقواعده المقررة، وأصوله المحررة، وغايته الشريفة، وهو شيء أسمى من التقييم والتقريظ والاستجداء، وأنبل من العبث والغرور والتفيهق، وأرفع من الشتم والحسد والحزازة وكل اعتبار شخصي، وإن من اختلاط الأمر أن نحسب كل هذه من باب النقد ونعتبرها منه، وما هي إلا اعتبارات رخيصة، وسفاسف تافهة، وشرور وآثام شأنها من النقد شأن الأعشاب الضارة في الروضة المعطار. والنقد بريء منها، بل إنه ليناهضها كما يناهض كل أذى وشر. ولقد صدق شوقي إذ يقول: (من نقد على غضب أسخط الحق، ومن نقد على حقد احترق وإن ظن أنه حرق، ومن نقد على حسد لم يخف بغيه على أحد، ومن نقد على حب حابى وجمح به التشيع، وإنما النقد فن كريم، وهو آلة إنشاء، وعدة بناء، وليس كما يزعمه الزاعمون معول هدم ولا أداة تحطيم. . .) ثم إننا إذ نقول الناقد فلسنا نريده من أولئك المزورين الأدعياء الذين ليس لهم أداة النقد، ولا عندهم وسائله، ولكنا نعنيه من أهل النظر المميز، والمتأمل الفاحص، أولئك الذين لهم قدرة الحكم، وفيهم قوة الصواب، وعندهم وسائل الترجيح، وغايتهم الأنصاف، وشأنهم خدمة الفن، وهم من ضميرهم في يقظة تلقى في روعهم دائماً أن الناقد مستهدف يعرض عقله وثقافته وحكمه على الناس، فإذا لم يخلص للحقيقة، ولم يفطن إلى مواقع الصواب في كل هذا عرّض نفسه للزراية والسخرية، وتدلى بعقله وفنه إلى أسفل. . .
والقوم في أوربا يفهمون النقد بهذا المعنى، ويجرون فيه على هذا الأعتبار، والناقد لا يقوم فيهم إلا بهذه القوة وعلى هذا الشرط، ولذا نجد النقد عندهم قد أزهر وأثمر، وأفاد ونفع، فهو مجلي العبقريات ودعائم النبوغ وظل التأليف، وعضد الفن، يدعن له الأدباء في ارتياح واطمئنان، ويرمقونه بالإجلال والإكبار ويصيخون لكلمته بالوعي والأنتفاع، وبهه الروح الطبية استطاع (تين) أن يخلق (ستاندال) ويرفع من (كانت)، ويدين تسعة أعشار الطبقة الراقية من الفرنسيين في القرن التاسع كما يقول بعض المؤرخين!
أما عندنا، فموعدنا بذلك بقية المقال.
محمد فهمي عبد اللطيف
مجلة الرسالة - العدد 281
بتاريخ: 21 - 11 - 1938