يقف القاص والروائى التونسى إبراهيم درغوثى فى منطقة المنافسة القوية على تبوأ مكانة متميزة على خريطة الرواية العربية، لقد أخلص الدرغوثى لفن السرد فظهر جليا منجزه الفنى على مستويى القصة والرواية ( [1]) ويمثل التراث واحدا من أهم الملامح / المداخل لقراءة إبداعه السردى.
لذا لا تسعى هذه المقدمة للوقوف عند روايته الأولى ” الدراويش يعودون للمنفى ” فى معزل عن أعمال الكاتب وخاصة الروائية منها خاصة وأنه يقدم نفسه للقارئ فى مصر للمرة الأولى عبر هذه الطبعة من الرواية، ومن ثم يكون من الأحرى أن تكون المقدمة ذات طابع تعريفى بالكاتب ومشروعه، فإذا كان الدرغوثى يقدم نفسه لقارئ جديد عبر هذه الرواية فإن طموحه – بالتأكيد – لا يتوقف عند رواية ليست الوحيدة فى مشروعه، وإنما يتجاوزها ليشمل أعماله التى يطمح لأن تكون “الدراويش ” فاتحة الباب لمتلق جديد لمشروع الكاتب.
الدرغوثى والتراث
من السهل لقارئ الدرغوثى أن يجد من المؤشرات ما يمكنه من اكتشاف علاقته بالتراث ، وقد امتد عبر مساحة واسعة من إبداعه الروائى، إضافة للقصص القصيرة، والأعمال الروائية ترسم علاقة متفردة لصاحبها بالتراث،إذ تشكل فى كليتها مادة روائية يحسن الروائى توظيفها لإنتاج نصه الحداثى، وهو عندما يتحرك عبر مادة تراثية لا تستغرقه هذه المادة، ولا يستغرقه الزمن التراثى، وإنما هو يتحرك حركة محسوبة بين القطبين: القديم التراثى والحاضر، بغية توظيف العنصر التراثى وجعله فاعلا فى السياق الجديد مما يضيف لوظيفته السابقة وظائف أخرى يكتسبها عبر هذا السياق الجديد.
ويمثل كل عمل روائى من أعمال الدرغوثى الروائية الثلاثة الأولى مرحلة من مراحل تعامله مع التراث:
المرحلة الأولى:- مرحلة الدراويش يعودون إلى المنفى / مرحلة التماهى مع التراث عبر عناصره المتعددة: وهى المرحلة التى تشكل الخطوة الأولى للاتجاه التراثى عند الكاتب، نحن إزاء حركة واضحة بين قطبين زمنيين: الماضى والحاضر 0 الماضى يتمثل فى مجموعة من البقع الزمنية التى تبدو بمثابة المحطات الزمنية التى يتحرك النص بينها، تتضام على مستوى الصورة السردية لتشكل محطة كبرى فى مقابل الحاضر المتماسك.
والسمة الأساس فى الحركة تعتمد على تحديد الزمن أو طرح مساحة زمنية ممتدة، يعلنها السارد من البداية راصدا حدثين يرسمان هاتين المحطتين:
” لم أكن أريد قبل هذا اليوم كتابة هذه الرواية لأنه وكما تعلمون، ومنذ أن أحرق الرعاع فى مدن وقرى الأندلس كتب ابن رشد واتهموه بالزندقة والكفر، وإلى أن حكم ” علماء ” الأزهر بحرق كتاب ” ألف ليلة وليلة ” فى قاهرة المعز فى أواخر القرن العشرين بتهمة إفساد الذوق العام، وأنا أخاف القلم والقرطاس ” ( [2]).
والعودة للزمن الواقعى الذى يضم الحدثين الواقعيين يكشف عن المساحة الزمنية التى يختزلها السارد فى جمل سردية يوظفها للإفصاح عن كثير من الدلالات، وتأكيدا لتمديد المساحة الزمنية يعمد الكاتب إلى تحديد عصرين يرسم ملامحهما مستخدما عنصر المقابلة البارز عبر مجموعة من الوحدات السردية الدالة، التى يبدو ظاهرها التضاد ولكنها فى الحقيقة تقدم حالة من التشابه والمماثلة مما يوحى بأن الزمن الممتد والظروف المتغيرة لم يؤثرا بصورة إيجابية، حيث الأمور تزداد سوءا، وما أشبه الليلة بالبارحة كما قالت العرب، وهذا كله يؤكد فكرة التمديد الزمن عبر مجموعة من العلامات:
المكان: إذ يتخير السارد أمكنة تمثل حاضرتين عربيتين أو علامتين على حضارتين عربيتين إسلاميتين (مدن وقرى الأندلس، و قاهرة المعز )، حيث الأولى علامة لمجد زائل والثانية لحضارة توشك –بفعل قوى الجهل والظلام – أن تزول.، وهو عندما يمدد المكان يعمد إلى جعل الحدود تتماهى عبر المكان بفعل الحركة غير المألوفة للزمن الذى يحوله لمكان يسهل التحرك فى تفاصيله، والإشارة لمساحة تاريخية يتبعه ذكر ملامحها من القهر و سطـوة القوة الغاشمة :
” ثم مسح على عينى بيديه فوجدت نفسى فى مدينة سامراء.
فى عام 291هـ الموافق لـ 903م قبض على صاحب الشامة، وهو أحد قــواد القرامطة، فعزم الخليفة على أن يشهره حتى يراه الناس جميــعا ” ( [3]).
وبذكر سامراء يكون السارد قد أحاط جوانب الوطن العربى عبر حواضره (مكانا ) وحضاراته ( زمانا )، فاردا مساحة الوطن على مستوييها: التاريخى والمكانى، ونكون إزاء أمكنة تشكل حزاما حدوديا:
الأندلس غربا.
القاهرة قلبا.
سامراء شرقا.
ومع ربط كل منها بتاريخه الذى يصب فى التاريخ العربى تتكشف لنا دلالات التركيب السردى المقصود لإنتاج هذه الدلالات، ومع تقدم الحكى تتعدد الأمكنة التى لا تخرج عن هذه الحدود المكانية، وكلها تعمل على الإشارة إلى لحظات تاريخية محددة المعالم تصب بدورها فى التاريخ العربى ( القطائع – بغداد – تونس ) إضافة إلى أحياز فرعية أخرى ( منزل الفرنسى فرانسوا مارتال بتونس – ميناء سفينة نوح – السوبر ماركت ) وغيرها.
– الحدث: لا يختلف إحراق كتب ابن رشد فى الأندلس عن الحكم بحرق ألف ليلة وليلة رغم ما أصاب الحياة من تطور مفترض، وفعل ( الإحراق ) ليس أقل ضررا من الحكم بالحرق، و دوافعهما متشابهة متجددة، الزندقة والكفر يمتدان ليكون لهما قوة الحلول فى إفساد الذوق العام.
– الأشخاص: ويمثلون فريقين أساسيين:
الفاعل: الرعاع فى القديم، وهم كذلك لأنهم يتمتعون بصفات الجهل التى تدفعهم لذلك، وقد كان من المفترض أن يربأ العلماء بأنفسهم عن فعل يدل على الجهل ولكنهم وقعوا فى الفعل الذى أظهرهم فى صورة لا تختلف كثيرا عن القديم، والسارد عندما يضع علماء بين علامتى التنصيص فإنه يعرض بهم فى إتكاء واضح على السخرية من هؤلاء الذين فعلوا ذلك فى نهاية القرن العشرين، وهو محدد زمنى له دلالته فى السياق.
المفعول به: ذلك التراث الإنسانى العربى الذى تغتاله يد الجهل، وهو المتنوع، بين فلسفة ابن رشد، وسرد ألف ليلة وليلة، و المفعولان بهما متهمان مما يوقعهما تحت طائلة الفعل، والمفعول به هنا ليس واحدا فالفعل ينعكس بصورة سلبية على الأجيال المتتالية حتى نصل إلى عصرنا الحاضر، والعصور التالية التى يشير الكاتب إلى استمرار الحدث بها باستمرار قراءة النص أو متابعة المخاطب من قبل السارد.
المرحلة الثانية: مرحلة القيامة الآن /ترقيش الرواية
تقوم رواية” القيامة الآن “على مجموعة من النصوص،يوردها الروائى فى أربعة أجزاء، تشبه فى مجملها السيمفونية الموسيقية:
–الجزء الأول علامات القيامة )، ويطرح راويا عالما بكل شيء، لأنه رأى كل شيء:
” أنا الذى رأى كل شيء “( [4])
هكذا يوطد الاستهلال سلطة الراوى العالم، وسلطة المعرفة، وقوة الإحاطة بتفاصيل ينفرد بها الراوية، والعبارة الاستهلالية كاشفة عن لغة مكثفة تثبت حضور الراوى، وتمنح المتلقى القدرة على أن يتكشف لغة النص، وخاصة الجانب الأسلوبى الخاص ببنية النص دون بنية التراث المنسوجة فيه، فالمتلقى إزاء خطين أسلوبيين: خط ينتمى للنص بصورة مباشرة، يبدو فى تركيب لغة السارد غير المهجنة بلغة التراث، وخط يفصح عن تركيب لغوى خاص بالجملة التراثية أو النص التراثى المتكئ عليه فى بناء النص بصفة عامة.
فالاستهلال –بهذه الصورة – يعمل على أن يوسع دائرة التلقى تبعا للدائرة الواسعة التى يتحرك فيها السارد الذى يعلن عن نفسه منذ البداية، وهو ما يكشفه التحليل النصى للاستهلال :
أنا : ضمير إحالة وكشف عن صوت المتكلم، يمنح السارد فاعليته لكونه فاعلا دلاليا للفعل رأى.
الذى: اسم موصول يربط الضمير بالفعل يلعب دورالصفة المخبرة إعلاما وتثبيتا للفعل وفاعله.
رأى: فعل ماض يؤكد حدوث الفعل ويمنح المتلقى معنى يتسع ليشمل: الرؤية البصرية، والرؤية العلمية ( رأى بمعنى علم ) ويتضمن الضمير الذى يكرر السارد نفسه من خلاله.
كل: مفعول به، يمنح الفعل معنى الكلية والشمول المحقق، كما يؤكد قدرات الفاعل على الرؤية.
شيء: نكرة تؤكد على الشمول، وتعمل على تصنيف المرئيات، فالشيء علامة على الجامد والمعنى، واللفظ يبث طاقة تشويقية تحرك المتلقى لاستشراف النص ومحاولة موازاة معرفة السارد،تلك المعرفة التى نكاد نشعر أنها تحققت قبل النص، قبل بداية الحكى، ومن ثم فهى مؤثرة فى التلقى بالقدر نفسه الذى تؤثره فى المتلقى، هنا يحقق الاستهلال واحدة من أهم وظائفه، إذ هو: ” يعكس جزءا من ( ميكانزم ) العملية الإبداعية، ونعنى الكيفية التى يكون عليها المبدع قبل مرحلة الكتابة ، ونعنى الكيفية التى يكون عليها المبدع قبل مرحلة الكتابة، الحال القلقة ولحظة تحويل الحدس أو التجربة التخيلية واللاشعور إلى كلمات ” ( [5])
والاشتباك الحاصل فى الاستهلال يؤكد هذه الوظيفة، فالضمير يحيل على السارد بوصفه ذاتا فى النص، كما يحيل إلى الروائى الكاتب بوصفه ذاتا خارج النص ( [6])، لذا تأتى الجملة السردية التالية مانحة السارد بعض صفاته،ومعبرة عن المؤلف قبل النص:
” قال عنى أشرار الخلق ” هذا رجل مجنــون ” و أدخلونى “المارستان “.
عشت هناك “عاقلا ” مع المجانين سنين وسنين ثم هبطت إلى الأرض من جديد، أجوب الشوارع التى ما عدت أعرف أسماءها، وأعيش على وقع الكوابيس “( [7] ) .
يضاف إلى ذلك ما يحدثه الاستهلال من تركيز للزمن فى لحظة حاضرة، تضع المتلقى على حافة الأفق المتسع، فالسارد لا يتوقف عند حدود العقل وإنما يتجاوزه بطرح فكرة الجنون التى وسمه بها الآخرون، والتى تحول الواقع المرئى إلى كوابيس، وتفرض سطوة الجنون بمعناه المتجاوز للعقل، وهو يصرح برؤيته الجديدة عبر الجنون:
“أنا الذى رأى كل شيء ” صرت مجنونا، يجرى وراءه الأطفال فى الشوارع وتتعلق الكلاب بتلابيبه.
وبعد أن صرت مجنونا تفتحت أمامى العوالم المغلقة بمفاتيح الرحمن !
تعال معى نفتح الأبواب ” ( [8])
بعدها ينطلق السارد لعالم لا تحده حدود الخيال التراثى، وأول الأبواب التى يفتتحها النص ” يأجوج ومأجوج ” قافزا قفزة تراثية هائلة المساحة، فالمتلقى يجد نفسه منتقلا بين حاضره الآنى، واللحظة الماضية الممثلة للتراث المتعلق به، ولكنه لا يقف عند حدود التراث القريب بل يتعداه إلى ما يمكن تسميته بما وراء التراث القريب الملموس فى التاريخ العربى، حيث يمدد الزمن بتوسيع رقعته مما يتيح تعدد الشخصيات المسرودة، و تعددها ليس بوصفها مجموعة من الأبطال أو الشخصيات السردية، وإنما بوصفهم أصحاب النصوص الأصلية التى يعتمد عليها النص الروائى، والقارئ هنا أمام مجموعة من الشخصيات:
راو أول: يقدم النص ، قائما بدور المايسترو، المحرك للأصوات الأخرى، المصنف لها.
أصوات متعددة أو رواة آخرين: يحكون عن،أو يحكى عنهم، يشتركون فى تقديم صيغة / صيغ تراثية داخلة فى نسيج السرد، وهم مجموعة من الأصوات التراثية، قوامها:
–ملائكة ( عزرائيل –إسرافيل – جبريل – حملة العرش ).
أنبياء: ( محمد ).
رواة حديث:( أبو هريرة ): ويتكرر صوته عبر مساحة واسعة من الرواية، مما يجعل تكراره مشيرا لقوة الرمز الروائى.
فلاسفة، ومفكرون: ( أبو حامد الغزالى – آدم متز – كارل ماركس – أبو حيان التوحيدى – ابن رشد – لينين ) وغيرهم.
روائيون وشعراء: ( عبد الرحمن منيف – يوسف القعيد – محمود المسعدى – نجيب محفوظ – ابن هانئ الأندلسى ).
شخصيات روائية: ( عادل الخالدى، وسالم العطيوى، و طالع العريفى، والشهيرى، من أبطال رواية ” الآن…معا ) لعبد الرحمن منيف.
مناضلون سياسيون: ( محمد على الحامى وفرحات حشاد: المناضلان النقابيان التونسيان ).
والنص لا يكتفى ببث هذه الشخصيات ليفهم المتلقى وظيفتها / وظائفها عبر سياقه، وإنما يعمد للتصريح بامتزاجها بوصفها الأصوات المتداخلة عبر تجاوزها زمنها الخاص والتقائها فى مكان واحد، وزمان واحد يضم أصواتها:
” سال العرق على جبينى وأنا أستمع إلى الاحتجاجات تأتى من وسط النيران.
اختلطت أصوات: ” كارل ماركس ” و” أبى حيان التوحيدى ” و ابن رشد ” و حسين مروة ” و” نجيب محفوظ ” و ” تولستوى ” و” يوسف القعيد ” و “لينين ” و” محمود المسعدى” و “دوستوفسكى ” و الطيب التزينى ” وأبى الطيب المتنبى “( [9]).
وتبعا لتعدد الأصوات تتنوع المادة الحكائية التى تتشكل من:
نصوص قرآنية.
أحاديث نبوية.
نصوص شعرية.
مقولات فلسفية.
مقاطع سردية من روايات أخرى.
خيوط زمنية يستخدمها السارد للربط بين الأصوات والأحداث، ولإعلان التماهى بين المحطات الزمنية الثلاثة التى يتحرك بينها المتلقى: الماضى – الحاضر – المستقبل، وهى المحطات ذات الحدود المتداخلة.
ففى الماضى يتم نوع من الاستشراف، حيث الصوت المشكل من المادة الحكائية رهن الماضى، أو هو ابن الماضى، فالآيات القرآنية والأحاديث القدسية والنبوية وأقوال الفلاسفة، والمفكرين، ومشاهد القيامة، والبعث، كلها تمثل صوت الماضى، فهى منقولة منه ولكن فعلها مستمر، فهى عملة صالحة للتداول مع مرور الزمن، ولا يوقف تداولها إلا فعل القيامة.
الحاضر هنا حاضر مستمر بوصفه زمن القراءة، وميقات إنتاج الدلالة عبر السياق الجديد ، ويبقى رهان النص لإنتاج دلالته الكلية مرتهنا بزمن صلاحية هذه المقولات / النصوص التى تعول بدورها على المستقبل، و المستقبل فعل مؤجل لصيق الصلة بفعل القيامة بوصفه فعلا مؤجلا يدركه الإنسان حسب درجة إيمانه، قال تعالى “)إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدا، ً وَنَرَاهُ قَرِيباً ( (المعارج:6-7)،، فالقيامة على المستوى الإنسانى فعل مؤجل، أو متمنى تأجيله، وهو المستقبل الذى لا نريد معاينته أو حدوثه فى زمننا.
والنص فى تأثره بهذه الموضوعة يعمد لاستخدام الأفعال المضارعة الواصفة لما يحدث فى المستقبل المستشرف الذى لا مصدر لمعرفته إلا بوسائل معرفية ترتبط بالدين ارتباطا وثيقا، وتنتمى فى مجملها لما أقره الدين مما يجعلها قرائن لها مصداقيتها لدى البشر الذين يزداد يقينهم بكل ما يرد عبر النص القرآنى أو الأحاديث، قدسية كانت أو نبوية.
والسارد يميل بدوره نحو الاتكاء على أصوات سابقة التجهيز يورق بها نصه مقيما شجرة تزداد ارتفاعا مع تقدم عملية الحكى، و تترسخ جذورها العميقة بما يستند إليه من مساحة النصوص التى تتخلل النص الروائى والتى تعمل لمساحتها وتعددها على توسيع المدى الزمنى المحكى فيه، الموصوف، والذى تسقط عليه علامات رامزة تشارك بدورها فى إنتاج الدلالة النصية.
والروائى عندما يصدر نصه بعنوان من مثل ” القيامة…. الآن ” فإنه يستثمر قوة التناص ولا يقدم أحداثا جديدة يمكن أن يفهم منها حدوث القيامة بالفعل، وإنما هو – عبر عملية الترقيش ( [10]) التى تشكل السمة المميزة لهذه المرحلة الدرغوثية، والتى ينسج الروائى فيها نصه حسب آليات متعددة منها:
نصوص تراثية كاملة تدخل النص بوصفها جملة سردية دون التعليق عليها ،فتكون نصا قائما بذاته، متصلا، منفصلا عن النص الروائى،فى الجزء الثانى، و تحت عنوان “أبعد الأبعدين ” يورد موقفا من مواقف النفرى فى ” المواقف والمخاطبات “.
إيراد النص التراثى، مع التعليق عليه:
” قال أبو هريرة:
ويضرب الله عز وجل السراط بين ظهرانى جهنم.
كعقد الشعر أو كحد السيف، عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان.
فيمر الخلق:
كطرف العين.
أو كلمح البصر.
أو كجياد الخيل.
فناح سالم.
ومخدوش.
ومكدوش على وجهه فى جهنم.
ملاحظة ): وجدت فى مخطوطة مكتوب برسم فارسى حديث برسم فارسى حديث أن سرعة المار فوق السراط يمكنها أن تفوق سرعة صاروخ من الصواريخ العابرة للقارات. وقد أكد الشيخ ” الشعراوى ” هذا الخبر ووقع تحته.
ولم أعرف قصد كاتب هذه الإضافة.
فقد أردت إيصالها للقارئ الكريم عله يفهم ما فاتنى فهمه
والسلام “( [11])
3- الاستعانة بصوت ( أبو هريرة) إيهاما بتراثية النص، والنص الذى يكون خبرا من الماضى يعيد السارد صياغته بأسلوبه هو لا بالأسلوب القديم مكررا صفات الراوية القديم للحديث (أبو هريرة ).
المرحلة الثالثة: أسرار صاحب الستر:
وهى المرحلة التى يعمد فيها الدرغوثى إلى التأكيد على التراث بوصفه تقنية، ثم هو يتجه إلى صيغة النص التراثى الذى يدخله فى لعبة التناص.
تقوم الرواية على حكايتين: الحكاية الإطار وهى الأحدث زمنا، والحكاية القديمة وهى الأقدم زمنا معتمدا على شخصية معروفا تاريخيا ” الوليد بن يزيد، تلك الشخصية الإشكالية فى التاريخ العربى، الثرية بما دار حولها من حكايات، وبما تناقلته عنها سطور التراث العربى من تناقضات تظهرها فى صورة الورع التقى حينا، وفى صورة الفاسق الفاسد أحيانا، وهو اختيار يطرح أسئلته المكثفة منذ البداية:
لماذا هذه الشخصية بالذات وهى لا تحمل مقومات بطولة قد يفتقدها عصر كتابة النص مما يجعلها تقوم بدور الكشف عن بطل تتمناه الأمة فى لحظتها الحاضرة ؟.
وما علاقتها بالحاضر ؟
وإلى أى مدى يمكن لتوظيفها روائيا أن يخلق نوعا من الدلالة على عصر كتابة النص ؟.
والرواية على المستوى الفنى تطرح سؤالا له أهميته على مستوى الفن الروائى فى علاقته بالتراث: من أية نقطة تبدأ فاعليات التراث، أو تبدأ عناصر التراث تعلن عن نفسها ؟.
الإجابة يمتلكها النص فى عتبته الأولى، لوحة الغلاف التى تقدم التراث فى صورة بصرية واضحة المعالم، منمنمة فارسية، زاهية الألوان لشيخ يجالس كتبه، شيخ يطل علينا من شرفات الماضى، تمنحه ألوانه الزاهية حضورا متحديا الزمن من أجل البقاء الخالد، كما تمنحه الخلفية المؤطرة بأشجار مثمرة الجمع بين الثمرتين: المادية ( الطبيعة فى حضورها وازدهارها)، والمعنوية ( العقل فى نضجه وإثماره )، و عند إحالة العنوان لذات إنسانية يلتقى باللوحة فى تقديمها للشيخ العربى، الذى يجعل القارئ متسائلا: هل الصورة لصاحب الستر، ذلك الحامل أسرار الخليفة ؟ أم هو الخليفة نفسه، المستور، الفاعل فى الحكاية ” الوليد بن يزيد “؟ والعنوان لا يشير صراحة له وإنما يكتفى بإحداث الإيهام الفنى، ولا يشير إلى الخليفة نفسه وإنما يعمد لصاحب الستر المحيط بالأسرار أو الذى يستطيع أن يحيط بها، والسارد حينما يفعل ذلك يسعى لتجنيب النص الشك فى مصداقيته مما يؤثر على الإيهام الفنى له، عن هو اتجه للخليفة مما يطرح السؤال التشكيكى سريع التردد: فما الكيفية التى تجعل السارد قريبا من الخليفة ليدرك هذه الأسرار، من هنا يكون صاحب الستر عتبة لدخول البلاط، وخط دفاع أول للنص يرد عنه سهام من يتهمه باختلاق الأسرار ودسها على المتلقى، ثم إن صاحب الستر موثوق فيه من لدن المتلقى، وذلك امتداد لثقة الخليفة نفسه فى هذا الحافظ الأسرار، وهى ثقة مركبة، فالخليفة يستمد ثقته من والده الذى وثق بهذا الحافظ، لذلك يسعى لاستعماله منذ الليلة الأولى لتوليه الخلافة، ملحا فى السعى:
” ليلة ولى الوليد بن يزيد الخلافة بعث فى طلبى. قال: أحضروه ولو كان فى السماء السابعة فإننى فى شوق إليه وإن له فى عنقى دينا حان وقت إرجاعه “( [12])
ولأن الرواية تتجاوز حدود الزمان والمكان وحدود قصر الخلافة نفسه، لذا تتعدد عتباتها المتجاوزة للعنوان بوصفه العتبة الأولى، التى ما إن نتجاوزها حتى نجد الإهداء الذى لا يبتعد كثيرا عن التراث ( المكانى ):
” إليها دائما
إلى ” دمشق ” العتيقة
حبا وكرامة ” ([13] )
ويأتى الإهداء مشيرا إلى تجاوز العامل النفسى الذى تربط أواصره بين الروائى والمهدى إليها منتجة علاقة من نوع جديد، علاقة بين مكان حافظ للأسرار وروائى يبحث عن هذه الأسرار بغية تفعيلها، وهو هدف يبدو أن درغوثى يسعى إلى تحقيقه فى أعماله جميعها، وعبر الإهداء المكانى يؤهلنا لما سيأتى فى المتن الروائى، ليدخلنا فى اللعبة السردية بصفتها التراثية المؤسسة للحكى، وحيث يسلمنا للعتبة التراثية التالية التى يفعل الروائى فيها صوت التاريخ، فالنص لا يقدم شخصية خالصة من الخيال، ولكنه يتكئ على شخصية تاريخية يستعين على تقديمها بصوت القلقشندى:
“هو أبو العباس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، كان يلقب بالمكتفى بالله وكان مصروف الهمة إلى اللهو والأكل والشرب وسماع الغناء.
وكان نقش خاتمه:” ياوليد احذر الموت “
” مآثر الإنافة فى معالم الخلافة “
” القلقشندى “( [14])
صوت القلقشندى فى تحديده فترة زمنية ذات معالم واضحة من شأنها أن تمنح المتلقى نوعا من الاستقرار المعرفى الذى يجعله يبدأ من أرض الواقع، منطلقا إلى آفاق الشخصية المرســومة بعناية السرد، وتكون هذه المعالم الواضحة بمثابة الأدوات التى يستخدمها المتلقى حال إنتاج الدلالة النصية، يضاف إليها عتبة أخرى تتمثل فى قول الشاعر ابن هرمة:
أسأل الله سكرة قبل موتى وصياح الصبيان يا سكران
الذى يمثل شكلا من أشكال تقديم الشخصية، أو بمثابة التعليق على طبيعتها المتفردة، ثم هو أخيرا يلعب دور الصوت الناطق بلسان الخليفة، فالسؤال أمنية للخليفة يعبر عنها الشاعر فى مقولته، والأمنية تكشف عن طبيعة الوليد وتطلعاتها، ورغبته فى تحقيق أمنياته البعيدة المنال، وهو –بوصفه مسؤلا عن الجماعة – لا يتمنى لهم ما يكشف عن تحمله مسؤلية الجماعة، ولكنه يتمنى ما يعد محققا لرغباته هو، والسكرة التى يتمناها ليست سكر ة بفعل الخمر فحسب ولكنها تحيل لأنواع السكر: سكر المال، وسكر الشباب، وسكر السلطان ( [15]).
بعدها يأتى النص فى قسمين أساسيين:
– الحكاية الإطار بعنوان:
فى البحث عن كنز التاجر التمبكتى
وتحكى تفاصيل العثور على صندوق من المخطوطات عبر البحث عن كنز التاجر التمبكتى تحت أسوار المسجد الجامع فى تونس، ومن بين المخطوطات، مخطوطة تحكى قصة صاحب ستر الخليفة.
– يتلوها المتن الحكائى:
جوانب من السيرة الذاتية
لصاحب ستر الخليفة
الوليد بن يزيد الأموى
وفيها يقدم النص تفاصيل حياة الخليفة الوليد بن يزيد من خلال راو ثان، يتسلم خيط الحكاية من الراوى فى الحكاية الإطار، ويروح يقدم التفاصيل التى تفتح زاوية الرؤية على المرحلة التاريخية التى يعاد إحياؤها عبر إعادة قراءة المخطوطة أو طرح ما فيها فى زمن تال هو زمن اكتشافها، لتقدم شخصية غائبة، حاضرة، يتم استدعاء مقوماتها لا لكونها تحمل من المبادئ والقيم،و معانى البطولة ما يؤهلها لأن تكون نموذجا فريدا لخدمة فكرة القدوة، ولكنها شخصية تحمل من التناقض والمساوئ ما يجعلها نموذجا منفرا بشهادة الواقع التاريخى الذى يطرحه القلقشندى، وبشهادة أفعال الشخصية التى يرسمها النص متجاوزة حدود القيم والمبادئ والأعراف، مما يطرح تساؤلا عن جدوى العودة لمثل هذه الشخصية بسماتها هذه.
أنماط التناص التراثى
يتعامل الدرغوثى مع التراث عبر مجموعة من الأنماط التى تكشف عما يأخذه الروائى من تراثه عبر عملية الفحص والانتقاء الدائمتين اللتين لابد أن يقوم الكاتب بهما ، واضعا معاييره الخاصة للتعامل مع تراثه الذى يشاركه فيه الآخرون، وحيث يكون محكوما من القراء بالوضع الذى يجعله مسئولا دائما عما أخذ ومالم يأخذ، عما وظف وما أهمل، أو عن الكيفية التى جعلت نصا قادرا على أن يدخل فى سياقه النص السابق دون أن يرفضه النص الجديد بوصفه جسدا غريبا بالنسبة لجسم النص، ومع تعدد الأنماط التى تكشفها روايات الدرغوثى، نتوقف عند مجموعة محددة منها، تشكل فى الوقت نفسه آليات لظهور التراث فى أعماله : اللغة – الشخصية – الأشياء – الحدث ، تتضح فى نمطين أساسين ( اللغة – الشخصية ).
أولا: اللغة
للغة فى استخدامها بعدان أساسيان:
تراثى.
آنى.
فكل لغة تراثية بصورة ما، فهى تراثية بمعنى القدم التاريخى، وتراثية بمعنى قدرتها على أن تتضمن معانى لها طابعها التاريخى المتجدد، ثم هى تراثية فى قبضتها على معانى بعينها لا يغيرها الجانب المتجدد زمنيا، وهناك من التراكيب ما يحيل متلقيه للماضى لاتكائه على معنى قار تاريخيا، فعندما نستخدم لفظ أصحاب الكهف فالمعنى المستقر فى التركيب يحيلنا إلى ذلك الماضى الذى اكتسب فيه التركيب طبيعته المعنوية.، ومن ثم يكون للغة هذا البعد التراثى السابق للبعد الآنى، المتجدد.
2- اللغة فى آنيتها
كما أن اللغة فى جانبها التراثى تستقل بذاتها فى إنتاج الكم الأكبر من التركيبات التى تتحول إلى تعبيرات جاهزة وأكلاشيهات قريبة المنال على المتكلمين والكتاب مما يفقدها الكثير من قيمتها التراثية ( [16]) أو على أقل تقدير القيمة التى اكتسبتها عبر الاستعمال اللغوى الممتد زمنيا، فإنها فى طرحها الآنى تستقل بطرح الجديد من التركيبات التى تمنح الإطار الموضوعة فيه (النص ) حيويته وتجعل منه صورة متجددة، وتمنحه الكثير مما يجعله قادرا على أن يؤدى رسالته الدلالية أو يمنح متلقيه مساحة كبرى من الوعى عبر جماليات اللغة النصية.
ولأن لغة الرواية الدرغوثية مزيج من النمطين، أو تركيب من النوعين معا فإنه بإمكاننا أن نرصد مستويين أساسيين للغته الموزعة بين السرد والوصف والحوار:
– المستوى الأول: مستوى التوالى وفيه لا يحدث المزج بين اللغتين فى تركيب واحد وإنما تتوالى اللغة التراثية والآنية فى ترتيب يتوزع بين التراثى والآنى، حيث يرد التراثى تاليا للآنى، إذ من المنطقى أن يستهل النص بلغة آنية تقدم للتفاصيل السردية وتكون مؤهلا وتمهيدا للدخول فى النص وما يشتمل عليه من معطيات نصية، وقد تحقق هذا الجانب فى ” أسرار صاحب الستر ” حيث البداية بالحكاية الإطار، حكاية كنز التاجر التمبكتى، يتلوها حكاية النص الأساسية، حكاية الوليد بن يزيد ، حيث تأخذ اللغة طابعها التراثى لتأخذ المتلقى لزمنها، زمن الحكاية من ناحية وزمن اللغة من ناحية أخرى.
– المستوى الثانى: مستوى التضفير أو اللغة فى آنيتها، تلك اللغة الدرغوثية أو لغة النص الدرغوثى تلك التى تمثل التركيب الأسلوبى الخاص أو مؤشرات استخدام الدرغوثى للغته تلك التى يتجلى فيها وعبرها بناء جملته السردية، أوالحوارية التى تجرى على ألسنة شخوصه.
والدرغوثى فى لغته السردية يقيم تضفيرا بين النوعين: التراثى والآنى، من شأنه أن يجعل النص ضفيرة من هجين لغوى يفتح مساحة الزمن حيث المتلقى يتحرك بين ضفتى اللغة عبر طرحها، ضفة الماضى، وضفة الحاضر، وتتجلى الضفيرة اللغوية عند الدرغوثى عبر طريقتين:
اللغة المجردة من الشخصيات الحكائية ، نعنى لغة الراوى بالأساس، ذلك الذى يقدم نفسه بداية فى كثير من النصوص ” لم أكن أريد قبل هذا اليوم كتابة هذه الرواية لأنه وكما تعلمون، ومنذ أن أحرق الرعاع فى مدن وقرى الأندلس كتب ابن رشد واتهموه بالزندقة والكفر، وإلى أن حكم “علماء ” الأزهر بحرق كتاب ” ألف ليلة وليلة ” فى قاهرة المعز فى أواخر القرن العشرين بتهمة إفساد الذوق العام، وأنا أخاف القلم والقرطاس ” ( [17])، اللغة هنا ليست حوارية بالمعنى المباشر، وإذا كان عليها أن تنم عن صاحبها فإنها لا تنم عن شخصية حاضرة فى الحكى، وإنما يكون حضورها قاصرا على السرد بمعنى أنها تحكى ولا يُحكى عنها، تقدم نفسها للآخرين ولا يقدمها أحد، ولأنه لا يهتم أحد بأن يفعل فإن الراوى يكون مسئولا عندها عن تقديم العالم الروائى بلغته أو بطريقته التى يعتمد فيها على لغة خاصة به ليست مسئولة بدرجة ما عن تقديم الجانب النفسى للشخصيات لذا فإنها لا تشتبك كثيرا بلغة الحلم أو باللغة الإيهامية. واللغة فى هذا الجانب نسيج دال على عالم الرواية فى المقام الأول قبل أن تدل على عالم الشخصيات، لغة تستمد قوتها من كونها مفعمة بالإحالات والإزاحات، وهو ما يدركه المتلقى بسهولة ليضيف هذا كله لقدرات الكاتب ( المستعمل الأول للغة، أو المحرك الأساس لها ) ” أتقن إبراهيم درغوثى اللعب بالملفوظات وأكثر من الانزياحات مستعملا لغة تلائم الأحيزة والأزمنة والشخوص الذين يتحركون داخل عوالم عجائبية فاعتمد الوصف مزوقا المناظر والحلل والوجوه والقصور والبساتين والروائح والفضاءات والأرواح ” ( [18]).
اللغة الخاصة بالشخصيات،أو المتعلقة بها، المسندة لها وهى لغة لا يجعلها الدرغوثى منغمسة فى التراثية صحيح أنها قد تنحاز للجانب التراثى فى بعض جوانبها ولكنها ليست تتماهى بالتراث، وعندما يعمد الراوى لوضع اللغة بلفظها التراثى فإنه يقيم دلالة من نوع خاص تطرح على متلقيها نوعا من الوعى بالماضى فى علاقة الحاضر أو المستقبل به، بحيث لا يكون استدعاء النص أو إقامته بلغته مجانيا لمجرد ملء الفراغ، فعندما يطرح النص أبيات جرت على لسان الوليد بن يزيد يقول فيها:
دعوا لي سليمى والطلاء وقينةً وكأساً ألا حسبي بذلك مالا
إذا ما صفا عيشى برملة عالجٍ وعانقت سلمى لا أريد بدالا
خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ثباتاً يساوي ما حييت عقالا
وخلوا عناني قبل عيرٍ وما جرى ولا تحسدوني أن أموت هزالا ( [19])
فإنه أولا يطرح الشخصية وزمنها عبر مقولاتها، وعبر اللغة المعبرة عن الاثنين معا، وهنا نكون على وعى بطبيعة الشخصية، ذلك الوعى الذى لا يتحقق إلا عبر العودة للماضى لاستكشاف الشخصية المروى عنها قبل إسقاط سماتها على الشخصية المعاصرة أو بعبارة أخرى على زمن الكتابة ومن بعده زمن التلقى حيث يتحقق الهدف الأعلى للنص أو المحطة الأخيرة للشخصية وقد استقرت هناك عند منطقة توالد الوعى بالنص، وما يطرحه من دلالات ومعان لها قيمتها للنص والمتلقى من بعده ، والمتلقى هنا مع هذه الأبيات تحديدا يكون على يقين من أنه ليس أمام شخصية من صنع الخيال – وإن تدخل الخيال فى إحكام قوانينها الفنية – شخصية لها حضورها التاريخى عبر تيقنه من إيراد مقولاتها عبر وثائق التاريخ ([20] )، هنا يرى المتلقى الشخصية قائمة عبر لغتها، تتدخل فى الحكى دون أن تقبع هناك على الورق سلبية لا تشارك فى الأحداث، هنا يكون للشخصية صوتها الذى يتبوأ مكانته فى النص، ويمنح نفسه مساحة من السرد تكون قادرة على تفعيل دور الشخصية ومنحها أبعادا لها قيمتها فى سياق النص.
ثانيا: الشخصية التراثية
فى بنائه لشخصياته يعمد الدرغوثى لتحريك شخصياته حركة ترددية بين التراثى والآنى، حيث يمتزج التراثى بالآنى على مستوى الشخصيات القائمة بدورها، وإذا ما قررنا النظر للشخصيات عبر هذه الزاوية فإننا نتوقف عند ثلاثة أنواع :
– الأول: الشخصية التراثية الخالصة: وهى تلك الشخصيات التى يعتمد الدرغوثى على رسمها محكومة بأفعالها التاريخية ومن أهمها شخصية الوليد بن يزيد تلك الشخصية التى يواجه الروائى فى استعمالها التاريخ بوصفه المعيار، معيار نظر المتلقى ومرجعية القارئ الذى يتابع الشخصية الروائية محكوما بالتاريخ وما أوردته كتبه عن الشخصية التى تتحرك أمامه عبر النص الروائى وقد أعاد طرحها فى سياق مغاير مما يجعله ( الروائى ) محاولا إسباغ صفات الواقعية عليها أو إيراد الصفات التى يدرك أن المتلقى سيكون على وعى بها مما يجعل المتلقى يتربص نوعا ما بالنص والتربص ههنا ليس معناه البحث عن ثغرة للدخول بقدر ما يكون التربص بحثا عن سمات الاختلاف بين التاريخى والروائى، بين الشخصية ذات الحضور الواقعى، وقد حكم التاريخ مسألة وجودها السابق من ناحية، وبين الشخصية فى وجودها الروائى أو الواقعى الجديد – إن صح التعبير – من ناحية أخرى.
الروائى ههنا يعتمد على شخصية جاهزة إلى حد ما ، جاهزة على المستوى الذى لا يمكنه خلاله أن يخالف الواقع التاريخى، أعنى مستوى البعد الجسمانى مثلا، ومن ثم يكون الاتكاء على الوثائق التاريخية التى تساعد فى تقديم الإطار العام للشخصية قبل أن يتدخل الخيال الروائى فى طرح بقية السمات، عندها يكون المتلقى قد اختزن الطرح التاريخى لصالح الطرح الفنى:
” هو أبو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان كان يلقب بالمكتفى بالله وكان مصروف الهمة إلى اللهو والأكل والشرب وسماع الغناء وكان نقش خاتمه: ” يا وليد احذر الموت ! ” “
مآثر الإنافة فى معالم الخلافة ”
” القلقشندى ” ( [21])
والطرح الفنى يؤدى بنا للنظر فيما تطرحه شخصية بهذه السمات، شخصية لها نظيرها فى زمن الكتابة أو لها ما يقابلها فى وعى الحاضر لذا يكون للرواية أن توظفها عامدة لتقديم خطوة مناسبة لإنتاج الدلالة الروائية.
ولهذه الشخصية نوعان:
شخصية تراثية قديمة: تتناول شخصية من التراث العربى المعروف، شخصية يمكنك أن تجد أخبارها ووثائقها فى التراث العربى القديم ونموذجها الأوضح عند الدرغوثى، شخصية الوليد بن يزيد فى رواية ” أسرار صاحب الستر ” وغيرها من الشخصيات المتناثرة فى ” الدراويش يعودون إلى المنفى ” وفى ” القيامة الآن “.
شخصية تراثية معاصرة: أو يمكن أن نسميها شخصية من التراث الحديث، تتناول شخصية لها حضورها الواقعى ولكنها أقل شهرة من السابقة وحضورها ليس عاما وإنما هى منتزعة من المحيط الاجتماعى الأقرب للروائى ونموذجها عمال مناجم الفوسفات فى تونس بوصفهم شخصيات وليدة المكان الواقعى المتعين كما يراه المؤلف، ويتوجه إليه بروايته الأخيرة ” وراء السراب قليلا “:
” إلى صهرى: محمد بن فطوم.
وإلى رفاقه عمال المناجم.
فى قفصة.
وفى تونس.
وفى كل بقاع الأرض. ” ( [22])
ولا تتأسس واقعية الأشخاص على حضور عمال المناجم و تردد صوتهم فى النص، وإنما من تطلع الروائى إلى أن يكتب روايته حول هؤلاء العمال ( [23]) راصدا تاريخا ليس من السهل التوصل إليه ما لم يكن الكاتب على علاقة واقعية بدرجة ما بهذا الواقع المتعين، علاقة تتيح له أن يستثمر وعيه بالعالم وما يضم من أشخاص واحداث هى جزء من المجتمع الإنسانى المرصود عبر النص.
-الثانى: شخصية عصرية خالصة: وهى تلك الشخصيات المعصرنة التى تمثل المقابل الفنى للنوع السابق والتى يضعها الدرغوثى على أهبة الاستعداد للقيام بدورها الفنى، وهى شخصيات من الطبيعى أو من المنطقى أن تتردد فى أعمال الروائى المعاصر.
– الثالث: الشخصية المزيج بين النوعين حيث الشخصية العصرية تتماس مع السمات التراثية فترتفع بالشخصية إلى درجة العجائبى، فى ” وراء السراب قليلا ” يمثل نموذج الجدة المثال الواضح على هذا الجانب، فالجدة شخصية ليست تراثية فى طابعها العام ولكنها تمنح صفات ذات طابع تراثى ” الآن أنهت الأرضة نخر عصا الجدة فخرت على وجهها بعد أعوام من الوقوف على رجل واحدة ودقت طبول الحزن من جديد. وملأ العويل والنواح الكون ” ( [24]) موظفا التراث القرآنى عبر قصة سليمان عليه السلام ([25] ).
لقد نجح الدرغوثى إلى حد كبير فى استثمار الدال التراثى فى معظم نصوصه الروائية منها والقصصية القصيرة ولكنه لم يوظف التراث بالصورة الجامدة التى تبدو فيها التيمة التراثية مجرد واجهة، أو لافتة على عصر بعينه ولكنه فى انتقائه لشخوصه ولغتهم ومجال حركتهم خلق تراثا موازيا يتكئ على القديم ولكنه يحقق لنصه حيوية جديدة تعتمد على معطيات العصر فحق له أن يتبوأ مكانته على خارطة الإبداع العربى.
* هوامش وإشارات:
[1] – ولد إبراهيم درغوثى فى 21/12/1955 بالمحاسن من بلاد الجريد جنوب تونس، ولم تغره العاصمة بأضوائها، فارتبط بالجنوب التونسى لم يفارقه حتى اليوم، مخلصا للمكان ومستلهما خصوصيته وهذا ما تبلور بشكل أكثر وضوحا فى كثير من أعماله وخاصة روايته الأخيرة ” وراء السراب قليلا” التى استلهم فيها حياة عمال مناجم الفوسفات فى الجنوب التونسى، ترجمت بعض أعماله للفرنسية والإنجليزية والألمانية، وتناول النقاد أعماله فى كثير من الدراسات النقدية، منها مجموعة من الدراسات ضمها كتاب ” حداثة التماسات / تماس الحداثات فى القصة والرواية لدى إبراهيم درغوثى ” بمقدمة للروائى والناقد التونسى فرج الحوار، وتضمنت دراسات معمقة بأقلام: د. محمد القاضى – د. محمد الناصر العجيمى – د. مصطفى الضبع – محمد نجيب العمامى – فوزية علوى – مجدى بن عيسى – نجاة العدوانى.
للروائى إنتاج متوازن بين القصة والرواية، أربع مجموعات قصصية:
– النخل يموت واقفا، دار صامد، تونس، 1989.
– الخبز المر ، دار صامد، تونس، 1990.
– رجل محترم جدا ، دار سحر، تونس 1995.
– كأسك يا مطر ، دار سحر 1997.
وله ما يزيد عن هذا العدد من الرواية:
الدراويش يعودون إلى المنفى، دار رياض الريس، لندن
القيامة… الآن دار الحوار، اللاذقية 1998.
شبابيك منتصف الليل، دار سحر، تونس 1996.
أسرار صاحب الستر، دار صامد، تونس
وراء السراب قليلا، دار الإتحاف، تونس 2002.
[2] – إبراهيم درغوثى: الدراويش يعودون إلى المنفى، دار رياض الريس، لندن، ط1، 1992، ص 13.
[3] – السابق ص 16.
[4] – القيامة..الآن ص 9.
[5] – ياسين النصير: الاستهلال، فن البدايات فى النص الأدبى، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1998، ص 27.
[6] – مع السطور الأولى من الرواية، وقبل أن يتبين المتلقى ماهية الأفراد والأصوات التى يتعامل معها،وقبل أن يتعرف أسماء الأشخاص الذين يتعامل معهم، اسم الذات الأولى الذى طالعه توا على الغلاف، نعنى اسم المؤلف، وحيث لا يستطيع بسهولة أن يتخلص من سيطرة هذا الاسم ويحتاج لصفحات – قد تطول – حتى يتوارى الاسم هناك وراء الأشخاص، لذا يحدث الاشتباك عبر الصوت الأول، بين المؤلف والشخصية الأولى التى تقدم نفسها للمتلقى.
[7] – القيامة..الآن ص 9.
[8] – السابق نفسه.
[9] – القيامة..الآن ص 34.
[10] – نعنى بالترقيش، إضافة نصوص كاملة للنص الروائى بحيث يبدو النص ذا ألوان متعددة، أو شجرة تضاف إليها أوراق جديدة تعمل على أن تشكل نسيجا له طابعه الخاص فى سياقه الجديد، وتمنح النص تعددا لونيا، يبدو النص من خلاله كيانا متعدد المصادر، والقارئ يعتمد تلقيه على تناسى هذه المصادر، فهى تأخذ طابعا، وسياقا جديدين يجعلانها تبدو نصوصا خاصة بالرواية ، والترقيش يعد مرتبة تالية للتناص،أو هو مرحلة من مراحله،يغايره من زاويتين:
– أن التناص لا يحدد الكم أو المساحة النصية التى يستعيرها النص من النص /النصوص الأخرى، فالتناص ” مصطلح صاغته جوليا كريستيفا للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى وهى لا تعنى تأثير نص فى آخر أو تتبع المصادر التى استقى منها نص تضميناته من نصوص سابقة بل تعنى تفاعل أنظمة أسلوبية. وتشمل العلاقات التناصية إعادة الترتيب، والإيماءة أو التلميح المتعلق بالموضوع أو البنية والتحويل والمحاكاة الهزلية ”
انظر: إبراهيم فتحى: معجم المصطلحات الأدبية، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط 1، 2000ص 87.
وانظر: د. محمد عنانى: المصطلحات الأدبية الحديثة، لونجمان، ط1، 1996ص 46.
– أن التناص يمكن البحث فيه، وعنه دون العودة الصريحة للنص السابق، فالمبدع قد لا يشير صراحة للنص الآخر، ومن ثم تكون عملية البحث عن هذا النص شكلا من أشكال محولة التعرف على أسلوب خفى ليس مصرحا به، ظلال لنص آخر، فى الوقت الذى يمكن أن نرى الترقيش بوصفه نصا مشارا إليه عن عمد يدخل السياق الجديد بغية استدعاء النص بكامله، وأن الإشارات التى يبثها النص يستثمرها المتلقى للعودة –مهتديا بها – إلى النص القديم، وهذا مالا يطرحه التناص، أو لا يصرح به.
والدرغوثى عندما يضعنا أمام رواية ” شرق المتوسط لمنيف فإنه يعقد رباطا مع القارئ يعاهده فيه على العودة للرواية، والقارئ عندها يفقد الكثير من الدلالات إن لم يكن على علاقة معرفية بالنص السابق.
[11] – القيامة.. الآن ص 74.
[12] – أسرار صاحب الستر ص 34.
[13] – أسرار صاحب الستر ص 5.
[14] –أسرار صاحب الستر ص 6.
[15] – ورد فى لسان العرب: السكر ثلاثة أنواع: سكر الشباب وسكر المال وسكر السلطان . انظر: لسان العرب: مادة ( سكر ).
[16] – يحدث هذا فى الكثير من التعبيرات التى يستخدمها كثير من مستخدمى العربية مما يعرضها للابتذال ومن ثم فقدانها قيمتها الدلالية، إن التعبيرات الدارجة من مثل
[17] – إبراهيم الدرغوثى: الدراويش يعودون إلى المنفى ، دار رياض الريس، لندن، ط 1، 1992، ص 13.
[18] – نجاة العدوانى: عندما تعيد الرواية المعاصرة إنتاج وقائع تاريخية موثقة، ضمن كتاب: حداثة التماسات، تماس الحداثات فى القصة والرواية لدى إبراهيم درغوثى، دار سحر للنشر ، تونس 2000، ص116.
[19] – إبراهيم درغوثى: أسرار صاحب الستر، صامد للنشر والتوزيع، تونس 1998، ص 127.
[20] – يمكن للقارئ أن يتثبت من الشخصية عبر معرفته التاريخية بها، أو من تتبع الإشارات والإحالات التوثيقية التى يحيله إليها الكاتب، انظر ص 6، 40، 70، 127- 129 من أسرار صاحب الستر.
[21] – أسرار صاحب الستر ص 6.
[22] – إبراهيم درغوثى: وراء السراب…قليلا،دار الإتحاف للنشر، تونس 2002، ص 5.
[23] – فى لقائى الأول بالدرغوثى ( تونس، ديسمبر 1997) وفى واحدة من مناطق استخراج الفوسفات راح يتحدث بشغف عن رغبته فى كتابة رواية عن عمال الفوسفات فى جنوب تونس، وأنه يأتى إلى المكان يتملى روحه استعدادا للكتابة، وفى لقاءاتى المتباعدة كنت أسأله عن النص فيؤكد أنه فى طور الكتابة حتى فاجأنى بالرواية منشورة عام 2002، وقد ذيلها بتاريخ كتابة النص وتاريخ الانتهاء منه ( أم العرائس – قفصة – جانفى 1999- ديسمبر 2001) انظر الرواية ص 210.
[24] – وراء السراب قليلا، ص 74.
[25] – قال تعالى فى سورة سبأ ” فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ” (14).
د. مصطفى الضبع
* http://alketaba.com/تجليات-التراث-ع...6zxszLwUHI_9HwV_oxOyoGqoGp-sBaecJtCdSx55PXFUc
لذا لا تسعى هذه المقدمة للوقوف عند روايته الأولى ” الدراويش يعودون للمنفى ” فى معزل عن أعمال الكاتب وخاصة الروائية منها خاصة وأنه يقدم نفسه للقارئ فى مصر للمرة الأولى عبر هذه الطبعة من الرواية، ومن ثم يكون من الأحرى أن تكون المقدمة ذات طابع تعريفى بالكاتب ومشروعه، فإذا كان الدرغوثى يقدم نفسه لقارئ جديد عبر هذه الرواية فإن طموحه – بالتأكيد – لا يتوقف عند رواية ليست الوحيدة فى مشروعه، وإنما يتجاوزها ليشمل أعماله التى يطمح لأن تكون “الدراويش ” فاتحة الباب لمتلق جديد لمشروع الكاتب.
الدرغوثى والتراث
من السهل لقارئ الدرغوثى أن يجد من المؤشرات ما يمكنه من اكتشاف علاقته بالتراث ، وقد امتد عبر مساحة واسعة من إبداعه الروائى، إضافة للقصص القصيرة، والأعمال الروائية ترسم علاقة متفردة لصاحبها بالتراث،إذ تشكل فى كليتها مادة روائية يحسن الروائى توظيفها لإنتاج نصه الحداثى، وهو عندما يتحرك عبر مادة تراثية لا تستغرقه هذه المادة، ولا يستغرقه الزمن التراثى، وإنما هو يتحرك حركة محسوبة بين القطبين: القديم التراثى والحاضر، بغية توظيف العنصر التراثى وجعله فاعلا فى السياق الجديد مما يضيف لوظيفته السابقة وظائف أخرى يكتسبها عبر هذا السياق الجديد.
ويمثل كل عمل روائى من أعمال الدرغوثى الروائية الثلاثة الأولى مرحلة من مراحل تعامله مع التراث:
المرحلة الأولى:- مرحلة الدراويش يعودون إلى المنفى / مرحلة التماهى مع التراث عبر عناصره المتعددة: وهى المرحلة التى تشكل الخطوة الأولى للاتجاه التراثى عند الكاتب، نحن إزاء حركة واضحة بين قطبين زمنيين: الماضى والحاضر 0 الماضى يتمثل فى مجموعة من البقع الزمنية التى تبدو بمثابة المحطات الزمنية التى يتحرك النص بينها، تتضام على مستوى الصورة السردية لتشكل محطة كبرى فى مقابل الحاضر المتماسك.
والسمة الأساس فى الحركة تعتمد على تحديد الزمن أو طرح مساحة زمنية ممتدة، يعلنها السارد من البداية راصدا حدثين يرسمان هاتين المحطتين:
” لم أكن أريد قبل هذا اليوم كتابة هذه الرواية لأنه وكما تعلمون، ومنذ أن أحرق الرعاع فى مدن وقرى الأندلس كتب ابن رشد واتهموه بالزندقة والكفر، وإلى أن حكم ” علماء ” الأزهر بحرق كتاب ” ألف ليلة وليلة ” فى قاهرة المعز فى أواخر القرن العشرين بتهمة إفساد الذوق العام، وأنا أخاف القلم والقرطاس ” ( [2]).
والعودة للزمن الواقعى الذى يضم الحدثين الواقعيين يكشف عن المساحة الزمنية التى يختزلها السارد فى جمل سردية يوظفها للإفصاح عن كثير من الدلالات، وتأكيدا لتمديد المساحة الزمنية يعمد الكاتب إلى تحديد عصرين يرسم ملامحهما مستخدما عنصر المقابلة البارز عبر مجموعة من الوحدات السردية الدالة، التى يبدو ظاهرها التضاد ولكنها فى الحقيقة تقدم حالة من التشابه والمماثلة مما يوحى بأن الزمن الممتد والظروف المتغيرة لم يؤثرا بصورة إيجابية، حيث الأمور تزداد سوءا، وما أشبه الليلة بالبارحة كما قالت العرب، وهذا كله يؤكد فكرة التمديد الزمن عبر مجموعة من العلامات:
المكان: إذ يتخير السارد أمكنة تمثل حاضرتين عربيتين أو علامتين على حضارتين عربيتين إسلاميتين (مدن وقرى الأندلس، و قاهرة المعز )، حيث الأولى علامة لمجد زائل والثانية لحضارة توشك –بفعل قوى الجهل والظلام – أن تزول.، وهو عندما يمدد المكان يعمد إلى جعل الحدود تتماهى عبر المكان بفعل الحركة غير المألوفة للزمن الذى يحوله لمكان يسهل التحرك فى تفاصيله، والإشارة لمساحة تاريخية يتبعه ذكر ملامحها من القهر و سطـوة القوة الغاشمة :
” ثم مسح على عينى بيديه فوجدت نفسى فى مدينة سامراء.
فى عام 291هـ الموافق لـ 903م قبض على صاحب الشامة، وهو أحد قــواد القرامطة، فعزم الخليفة على أن يشهره حتى يراه الناس جميــعا ” ( [3]).
وبذكر سامراء يكون السارد قد أحاط جوانب الوطن العربى عبر حواضره (مكانا ) وحضاراته ( زمانا )، فاردا مساحة الوطن على مستوييها: التاريخى والمكانى، ونكون إزاء أمكنة تشكل حزاما حدوديا:
الأندلس غربا.
القاهرة قلبا.
سامراء شرقا.
ومع ربط كل منها بتاريخه الذى يصب فى التاريخ العربى تتكشف لنا دلالات التركيب السردى المقصود لإنتاج هذه الدلالات، ومع تقدم الحكى تتعدد الأمكنة التى لا تخرج عن هذه الحدود المكانية، وكلها تعمل على الإشارة إلى لحظات تاريخية محددة المعالم تصب بدورها فى التاريخ العربى ( القطائع – بغداد – تونس ) إضافة إلى أحياز فرعية أخرى ( منزل الفرنسى فرانسوا مارتال بتونس – ميناء سفينة نوح – السوبر ماركت ) وغيرها.
– الحدث: لا يختلف إحراق كتب ابن رشد فى الأندلس عن الحكم بحرق ألف ليلة وليلة رغم ما أصاب الحياة من تطور مفترض، وفعل ( الإحراق ) ليس أقل ضررا من الحكم بالحرق، و دوافعهما متشابهة متجددة، الزندقة والكفر يمتدان ليكون لهما قوة الحلول فى إفساد الذوق العام.
– الأشخاص: ويمثلون فريقين أساسيين:
الفاعل: الرعاع فى القديم، وهم كذلك لأنهم يتمتعون بصفات الجهل التى تدفعهم لذلك، وقد كان من المفترض أن يربأ العلماء بأنفسهم عن فعل يدل على الجهل ولكنهم وقعوا فى الفعل الذى أظهرهم فى صورة لا تختلف كثيرا عن القديم، والسارد عندما يضع علماء بين علامتى التنصيص فإنه يعرض بهم فى إتكاء واضح على السخرية من هؤلاء الذين فعلوا ذلك فى نهاية القرن العشرين، وهو محدد زمنى له دلالته فى السياق.
المفعول به: ذلك التراث الإنسانى العربى الذى تغتاله يد الجهل، وهو المتنوع، بين فلسفة ابن رشد، وسرد ألف ليلة وليلة، و المفعولان بهما متهمان مما يوقعهما تحت طائلة الفعل، والمفعول به هنا ليس واحدا فالفعل ينعكس بصورة سلبية على الأجيال المتتالية حتى نصل إلى عصرنا الحاضر، والعصور التالية التى يشير الكاتب إلى استمرار الحدث بها باستمرار قراءة النص أو متابعة المخاطب من قبل السارد.
المرحلة الثانية: مرحلة القيامة الآن /ترقيش الرواية
تقوم رواية” القيامة الآن “على مجموعة من النصوص،يوردها الروائى فى أربعة أجزاء، تشبه فى مجملها السيمفونية الموسيقية:
–الجزء الأول علامات القيامة )، ويطرح راويا عالما بكل شيء، لأنه رأى كل شيء:
” أنا الذى رأى كل شيء “( [4])
هكذا يوطد الاستهلال سلطة الراوى العالم، وسلطة المعرفة، وقوة الإحاطة بتفاصيل ينفرد بها الراوية، والعبارة الاستهلالية كاشفة عن لغة مكثفة تثبت حضور الراوى، وتمنح المتلقى القدرة على أن يتكشف لغة النص، وخاصة الجانب الأسلوبى الخاص ببنية النص دون بنية التراث المنسوجة فيه، فالمتلقى إزاء خطين أسلوبيين: خط ينتمى للنص بصورة مباشرة، يبدو فى تركيب لغة السارد غير المهجنة بلغة التراث، وخط يفصح عن تركيب لغوى خاص بالجملة التراثية أو النص التراثى المتكئ عليه فى بناء النص بصفة عامة.
فالاستهلال –بهذه الصورة – يعمل على أن يوسع دائرة التلقى تبعا للدائرة الواسعة التى يتحرك فيها السارد الذى يعلن عن نفسه منذ البداية، وهو ما يكشفه التحليل النصى للاستهلال :
أنا : ضمير إحالة وكشف عن صوت المتكلم، يمنح السارد فاعليته لكونه فاعلا دلاليا للفعل رأى.
الذى: اسم موصول يربط الضمير بالفعل يلعب دورالصفة المخبرة إعلاما وتثبيتا للفعل وفاعله.
رأى: فعل ماض يؤكد حدوث الفعل ويمنح المتلقى معنى يتسع ليشمل: الرؤية البصرية، والرؤية العلمية ( رأى بمعنى علم ) ويتضمن الضمير الذى يكرر السارد نفسه من خلاله.
كل: مفعول به، يمنح الفعل معنى الكلية والشمول المحقق، كما يؤكد قدرات الفاعل على الرؤية.
شيء: نكرة تؤكد على الشمول، وتعمل على تصنيف المرئيات، فالشيء علامة على الجامد والمعنى، واللفظ يبث طاقة تشويقية تحرك المتلقى لاستشراف النص ومحاولة موازاة معرفة السارد،تلك المعرفة التى نكاد نشعر أنها تحققت قبل النص، قبل بداية الحكى، ومن ثم فهى مؤثرة فى التلقى بالقدر نفسه الذى تؤثره فى المتلقى، هنا يحقق الاستهلال واحدة من أهم وظائفه، إذ هو: ” يعكس جزءا من ( ميكانزم ) العملية الإبداعية، ونعنى الكيفية التى يكون عليها المبدع قبل مرحلة الكتابة ، ونعنى الكيفية التى يكون عليها المبدع قبل مرحلة الكتابة، الحال القلقة ولحظة تحويل الحدس أو التجربة التخيلية واللاشعور إلى كلمات ” ( [5])
والاشتباك الحاصل فى الاستهلال يؤكد هذه الوظيفة، فالضمير يحيل على السارد بوصفه ذاتا فى النص، كما يحيل إلى الروائى الكاتب بوصفه ذاتا خارج النص ( [6])، لذا تأتى الجملة السردية التالية مانحة السارد بعض صفاته،ومعبرة عن المؤلف قبل النص:
” قال عنى أشرار الخلق ” هذا رجل مجنــون ” و أدخلونى “المارستان “.
عشت هناك “عاقلا ” مع المجانين سنين وسنين ثم هبطت إلى الأرض من جديد، أجوب الشوارع التى ما عدت أعرف أسماءها، وأعيش على وقع الكوابيس “( [7] ) .
يضاف إلى ذلك ما يحدثه الاستهلال من تركيز للزمن فى لحظة حاضرة، تضع المتلقى على حافة الأفق المتسع، فالسارد لا يتوقف عند حدود العقل وإنما يتجاوزه بطرح فكرة الجنون التى وسمه بها الآخرون، والتى تحول الواقع المرئى إلى كوابيس، وتفرض سطوة الجنون بمعناه المتجاوز للعقل، وهو يصرح برؤيته الجديدة عبر الجنون:
“أنا الذى رأى كل شيء ” صرت مجنونا، يجرى وراءه الأطفال فى الشوارع وتتعلق الكلاب بتلابيبه.
وبعد أن صرت مجنونا تفتحت أمامى العوالم المغلقة بمفاتيح الرحمن !
تعال معى نفتح الأبواب ” ( [8])
بعدها ينطلق السارد لعالم لا تحده حدود الخيال التراثى، وأول الأبواب التى يفتتحها النص ” يأجوج ومأجوج ” قافزا قفزة تراثية هائلة المساحة، فالمتلقى يجد نفسه منتقلا بين حاضره الآنى، واللحظة الماضية الممثلة للتراث المتعلق به، ولكنه لا يقف عند حدود التراث القريب بل يتعداه إلى ما يمكن تسميته بما وراء التراث القريب الملموس فى التاريخ العربى، حيث يمدد الزمن بتوسيع رقعته مما يتيح تعدد الشخصيات المسرودة، و تعددها ليس بوصفها مجموعة من الأبطال أو الشخصيات السردية، وإنما بوصفهم أصحاب النصوص الأصلية التى يعتمد عليها النص الروائى، والقارئ هنا أمام مجموعة من الشخصيات:
راو أول: يقدم النص ، قائما بدور المايسترو، المحرك للأصوات الأخرى، المصنف لها.
أصوات متعددة أو رواة آخرين: يحكون عن،أو يحكى عنهم، يشتركون فى تقديم صيغة / صيغ تراثية داخلة فى نسيج السرد، وهم مجموعة من الأصوات التراثية، قوامها:
–ملائكة ( عزرائيل –إسرافيل – جبريل – حملة العرش ).
أنبياء: ( محمد ).
رواة حديث:( أبو هريرة ): ويتكرر صوته عبر مساحة واسعة من الرواية، مما يجعل تكراره مشيرا لقوة الرمز الروائى.
فلاسفة، ومفكرون: ( أبو حامد الغزالى – آدم متز – كارل ماركس – أبو حيان التوحيدى – ابن رشد – لينين ) وغيرهم.
روائيون وشعراء: ( عبد الرحمن منيف – يوسف القعيد – محمود المسعدى – نجيب محفوظ – ابن هانئ الأندلسى ).
شخصيات روائية: ( عادل الخالدى، وسالم العطيوى، و طالع العريفى، والشهيرى، من أبطال رواية ” الآن…معا ) لعبد الرحمن منيف.
مناضلون سياسيون: ( محمد على الحامى وفرحات حشاد: المناضلان النقابيان التونسيان ).
والنص لا يكتفى ببث هذه الشخصيات ليفهم المتلقى وظيفتها / وظائفها عبر سياقه، وإنما يعمد للتصريح بامتزاجها بوصفها الأصوات المتداخلة عبر تجاوزها زمنها الخاص والتقائها فى مكان واحد، وزمان واحد يضم أصواتها:
” سال العرق على جبينى وأنا أستمع إلى الاحتجاجات تأتى من وسط النيران.
اختلطت أصوات: ” كارل ماركس ” و” أبى حيان التوحيدى ” و ابن رشد ” و حسين مروة ” و” نجيب محفوظ ” و ” تولستوى ” و” يوسف القعيد ” و “لينين ” و” محمود المسعدى” و “دوستوفسكى ” و الطيب التزينى ” وأبى الطيب المتنبى “( [9]).
وتبعا لتعدد الأصوات تتنوع المادة الحكائية التى تتشكل من:
نصوص قرآنية.
أحاديث نبوية.
نصوص شعرية.
مقولات فلسفية.
مقاطع سردية من روايات أخرى.
خيوط زمنية يستخدمها السارد للربط بين الأصوات والأحداث، ولإعلان التماهى بين المحطات الزمنية الثلاثة التى يتحرك بينها المتلقى: الماضى – الحاضر – المستقبل، وهى المحطات ذات الحدود المتداخلة.
ففى الماضى يتم نوع من الاستشراف، حيث الصوت المشكل من المادة الحكائية رهن الماضى، أو هو ابن الماضى، فالآيات القرآنية والأحاديث القدسية والنبوية وأقوال الفلاسفة، والمفكرين، ومشاهد القيامة، والبعث، كلها تمثل صوت الماضى، فهى منقولة منه ولكن فعلها مستمر، فهى عملة صالحة للتداول مع مرور الزمن، ولا يوقف تداولها إلا فعل القيامة.
الحاضر هنا حاضر مستمر بوصفه زمن القراءة، وميقات إنتاج الدلالة عبر السياق الجديد ، ويبقى رهان النص لإنتاج دلالته الكلية مرتهنا بزمن صلاحية هذه المقولات / النصوص التى تعول بدورها على المستقبل، و المستقبل فعل مؤجل لصيق الصلة بفعل القيامة بوصفه فعلا مؤجلا يدركه الإنسان حسب درجة إيمانه، قال تعالى “)إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدا، ً وَنَرَاهُ قَرِيباً ( (المعارج:6-7)،، فالقيامة على المستوى الإنسانى فعل مؤجل، أو متمنى تأجيله، وهو المستقبل الذى لا نريد معاينته أو حدوثه فى زمننا.
والنص فى تأثره بهذه الموضوعة يعمد لاستخدام الأفعال المضارعة الواصفة لما يحدث فى المستقبل المستشرف الذى لا مصدر لمعرفته إلا بوسائل معرفية ترتبط بالدين ارتباطا وثيقا، وتنتمى فى مجملها لما أقره الدين مما يجعلها قرائن لها مصداقيتها لدى البشر الذين يزداد يقينهم بكل ما يرد عبر النص القرآنى أو الأحاديث، قدسية كانت أو نبوية.
والسارد يميل بدوره نحو الاتكاء على أصوات سابقة التجهيز يورق بها نصه مقيما شجرة تزداد ارتفاعا مع تقدم عملية الحكى، و تترسخ جذورها العميقة بما يستند إليه من مساحة النصوص التى تتخلل النص الروائى والتى تعمل لمساحتها وتعددها على توسيع المدى الزمنى المحكى فيه، الموصوف، والذى تسقط عليه علامات رامزة تشارك بدورها فى إنتاج الدلالة النصية.
والروائى عندما يصدر نصه بعنوان من مثل ” القيامة…. الآن ” فإنه يستثمر قوة التناص ولا يقدم أحداثا جديدة يمكن أن يفهم منها حدوث القيامة بالفعل، وإنما هو – عبر عملية الترقيش ( [10]) التى تشكل السمة المميزة لهذه المرحلة الدرغوثية، والتى ينسج الروائى فيها نصه حسب آليات متعددة منها:
نصوص تراثية كاملة تدخل النص بوصفها جملة سردية دون التعليق عليها ،فتكون نصا قائما بذاته، متصلا، منفصلا عن النص الروائى،فى الجزء الثانى، و تحت عنوان “أبعد الأبعدين ” يورد موقفا من مواقف النفرى فى ” المواقف والمخاطبات “.
إيراد النص التراثى، مع التعليق عليه:
” قال أبو هريرة:
ويضرب الله عز وجل السراط بين ظهرانى جهنم.
كعقد الشعر أو كحد السيف، عليه كلاليب وخطاطيف وحسك كحسك السعدان.
فيمر الخلق:
كطرف العين.
أو كلمح البصر.
أو كجياد الخيل.
فناح سالم.
ومخدوش.
ومكدوش على وجهه فى جهنم.
ملاحظة ): وجدت فى مخطوطة مكتوب برسم فارسى حديث برسم فارسى حديث أن سرعة المار فوق السراط يمكنها أن تفوق سرعة صاروخ من الصواريخ العابرة للقارات. وقد أكد الشيخ ” الشعراوى ” هذا الخبر ووقع تحته.
ولم أعرف قصد كاتب هذه الإضافة.
فقد أردت إيصالها للقارئ الكريم عله يفهم ما فاتنى فهمه
والسلام “( [11])
3- الاستعانة بصوت ( أبو هريرة) إيهاما بتراثية النص، والنص الذى يكون خبرا من الماضى يعيد السارد صياغته بأسلوبه هو لا بالأسلوب القديم مكررا صفات الراوية القديم للحديث (أبو هريرة ).
المرحلة الثالثة: أسرار صاحب الستر:
وهى المرحلة التى يعمد فيها الدرغوثى إلى التأكيد على التراث بوصفه تقنية، ثم هو يتجه إلى صيغة النص التراثى الذى يدخله فى لعبة التناص.
تقوم الرواية على حكايتين: الحكاية الإطار وهى الأحدث زمنا، والحكاية القديمة وهى الأقدم زمنا معتمدا على شخصية معروفا تاريخيا ” الوليد بن يزيد، تلك الشخصية الإشكالية فى التاريخ العربى، الثرية بما دار حولها من حكايات، وبما تناقلته عنها سطور التراث العربى من تناقضات تظهرها فى صورة الورع التقى حينا، وفى صورة الفاسق الفاسد أحيانا، وهو اختيار يطرح أسئلته المكثفة منذ البداية:
لماذا هذه الشخصية بالذات وهى لا تحمل مقومات بطولة قد يفتقدها عصر كتابة النص مما يجعلها تقوم بدور الكشف عن بطل تتمناه الأمة فى لحظتها الحاضرة ؟.
وما علاقتها بالحاضر ؟
وإلى أى مدى يمكن لتوظيفها روائيا أن يخلق نوعا من الدلالة على عصر كتابة النص ؟.
والرواية على المستوى الفنى تطرح سؤالا له أهميته على مستوى الفن الروائى فى علاقته بالتراث: من أية نقطة تبدأ فاعليات التراث، أو تبدأ عناصر التراث تعلن عن نفسها ؟.
الإجابة يمتلكها النص فى عتبته الأولى، لوحة الغلاف التى تقدم التراث فى صورة بصرية واضحة المعالم، منمنمة فارسية، زاهية الألوان لشيخ يجالس كتبه، شيخ يطل علينا من شرفات الماضى، تمنحه ألوانه الزاهية حضورا متحديا الزمن من أجل البقاء الخالد، كما تمنحه الخلفية المؤطرة بأشجار مثمرة الجمع بين الثمرتين: المادية ( الطبيعة فى حضورها وازدهارها)، والمعنوية ( العقل فى نضجه وإثماره )، و عند إحالة العنوان لذات إنسانية يلتقى باللوحة فى تقديمها للشيخ العربى، الذى يجعل القارئ متسائلا: هل الصورة لصاحب الستر، ذلك الحامل أسرار الخليفة ؟ أم هو الخليفة نفسه، المستور، الفاعل فى الحكاية ” الوليد بن يزيد “؟ والعنوان لا يشير صراحة له وإنما يكتفى بإحداث الإيهام الفنى، ولا يشير إلى الخليفة نفسه وإنما يعمد لصاحب الستر المحيط بالأسرار أو الذى يستطيع أن يحيط بها، والسارد حينما يفعل ذلك يسعى لتجنيب النص الشك فى مصداقيته مما يؤثر على الإيهام الفنى له، عن هو اتجه للخليفة مما يطرح السؤال التشكيكى سريع التردد: فما الكيفية التى تجعل السارد قريبا من الخليفة ليدرك هذه الأسرار، من هنا يكون صاحب الستر عتبة لدخول البلاط، وخط دفاع أول للنص يرد عنه سهام من يتهمه باختلاق الأسرار ودسها على المتلقى، ثم إن صاحب الستر موثوق فيه من لدن المتلقى، وذلك امتداد لثقة الخليفة نفسه فى هذا الحافظ الأسرار، وهى ثقة مركبة، فالخليفة يستمد ثقته من والده الذى وثق بهذا الحافظ، لذلك يسعى لاستعماله منذ الليلة الأولى لتوليه الخلافة، ملحا فى السعى:
” ليلة ولى الوليد بن يزيد الخلافة بعث فى طلبى. قال: أحضروه ولو كان فى السماء السابعة فإننى فى شوق إليه وإن له فى عنقى دينا حان وقت إرجاعه “( [12])
ولأن الرواية تتجاوز حدود الزمان والمكان وحدود قصر الخلافة نفسه، لذا تتعدد عتباتها المتجاوزة للعنوان بوصفه العتبة الأولى، التى ما إن نتجاوزها حتى نجد الإهداء الذى لا يبتعد كثيرا عن التراث ( المكانى ):
” إليها دائما
إلى ” دمشق ” العتيقة
حبا وكرامة ” ([13] )
ويأتى الإهداء مشيرا إلى تجاوز العامل النفسى الذى تربط أواصره بين الروائى والمهدى إليها منتجة علاقة من نوع جديد، علاقة بين مكان حافظ للأسرار وروائى يبحث عن هذه الأسرار بغية تفعيلها، وهو هدف يبدو أن درغوثى يسعى إلى تحقيقه فى أعماله جميعها، وعبر الإهداء المكانى يؤهلنا لما سيأتى فى المتن الروائى، ليدخلنا فى اللعبة السردية بصفتها التراثية المؤسسة للحكى، وحيث يسلمنا للعتبة التراثية التالية التى يفعل الروائى فيها صوت التاريخ، فالنص لا يقدم شخصية خالصة من الخيال، ولكنه يتكئ على شخصية تاريخية يستعين على تقديمها بصوت القلقشندى:
“هو أبو العباس الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان، كان يلقب بالمكتفى بالله وكان مصروف الهمة إلى اللهو والأكل والشرب وسماع الغناء.
وكان نقش خاتمه:” ياوليد احذر الموت “
” مآثر الإنافة فى معالم الخلافة “
” القلقشندى “( [14])
صوت القلقشندى فى تحديده فترة زمنية ذات معالم واضحة من شأنها أن تمنح المتلقى نوعا من الاستقرار المعرفى الذى يجعله يبدأ من أرض الواقع، منطلقا إلى آفاق الشخصية المرســومة بعناية السرد، وتكون هذه المعالم الواضحة بمثابة الأدوات التى يستخدمها المتلقى حال إنتاج الدلالة النصية، يضاف إليها عتبة أخرى تتمثل فى قول الشاعر ابن هرمة:
أسأل الله سكرة قبل موتى وصياح الصبيان يا سكران
الذى يمثل شكلا من أشكال تقديم الشخصية، أو بمثابة التعليق على طبيعتها المتفردة، ثم هو أخيرا يلعب دور الصوت الناطق بلسان الخليفة، فالسؤال أمنية للخليفة يعبر عنها الشاعر فى مقولته، والأمنية تكشف عن طبيعة الوليد وتطلعاتها، ورغبته فى تحقيق أمنياته البعيدة المنال، وهو –بوصفه مسؤلا عن الجماعة – لا يتمنى لهم ما يكشف عن تحمله مسؤلية الجماعة، ولكنه يتمنى ما يعد محققا لرغباته هو، والسكرة التى يتمناها ليست سكر ة بفعل الخمر فحسب ولكنها تحيل لأنواع السكر: سكر المال، وسكر الشباب، وسكر السلطان ( [15]).
بعدها يأتى النص فى قسمين أساسيين:
– الحكاية الإطار بعنوان:
فى البحث عن كنز التاجر التمبكتى
وتحكى تفاصيل العثور على صندوق من المخطوطات عبر البحث عن كنز التاجر التمبكتى تحت أسوار المسجد الجامع فى تونس، ومن بين المخطوطات، مخطوطة تحكى قصة صاحب ستر الخليفة.
– يتلوها المتن الحكائى:
جوانب من السيرة الذاتية
لصاحب ستر الخليفة
الوليد بن يزيد الأموى
وفيها يقدم النص تفاصيل حياة الخليفة الوليد بن يزيد من خلال راو ثان، يتسلم خيط الحكاية من الراوى فى الحكاية الإطار، ويروح يقدم التفاصيل التى تفتح زاوية الرؤية على المرحلة التاريخية التى يعاد إحياؤها عبر إعادة قراءة المخطوطة أو طرح ما فيها فى زمن تال هو زمن اكتشافها، لتقدم شخصية غائبة، حاضرة، يتم استدعاء مقوماتها لا لكونها تحمل من المبادئ والقيم،و معانى البطولة ما يؤهلها لأن تكون نموذجا فريدا لخدمة فكرة القدوة، ولكنها شخصية تحمل من التناقض والمساوئ ما يجعلها نموذجا منفرا بشهادة الواقع التاريخى الذى يطرحه القلقشندى، وبشهادة أفعال الشخصية التى يرسمها النص متجاوزة حدود القيم والمبادئ والأعراف، مما يطرح تساؤلا عن جدوى العودة لمثل هذه الشخصية بسماتها هذه.
أنماط التناص التراثى
يتعامل الدرغوثى مع التراث عبر مجموعة من الأنماط التى تكشف عما يأخذه الروائى من تراثه عبر عملية الفحص والانتقاء الدائمتين اللتين لابد أن يقوم الكاتب بهما ، واضعا معاييره الخاصة للتعامل مع تراثه الذى يشاركه فيه الآخرون، وحيث يكون محكوما من القراء بالوضع الذى يجعله مسئولا دائما عما أخذ ومالم يأخذ، عما وظف وما أهمل، أو عن الكيفية التى جعلت نصا قادرا على أن يدخل فى سياقه النص السابق دون أن يرفضه النص الجديد بوصفه جسدا غريبا بالنسبة لجسم النص، ومع تعدد الأنماط التى تكشفها روايات الدرغوثى، نتوقف عند مجموعة محددة منها، تشكل فى الوقت نفسه آليات لظهور التراث فى أعماله : اللغة – الشخصية – الأشياء – الحدث ، تتضح فى نمطين أساسين ( اللغة – الشخصية ).
أولا: اللغة
للغة فى استخدامها بعدان أساسيان:
تراثى.
آنى.
فكل لغة تراثية بصورة ما، فهى تراثية بمعنى القدم التاريخى، وتراثية بمعنى قدرتها على أن تتضمن معانى لها طابعها التاريخى المتجدد، ثم هى تراثية فى قبضتها على معانى بعينها لا يغيرها الجانب المتجدد زمنيا، وهناك من التراكيب ما يحيل متلقيه للماضى لاتكائه على معنى قار تاريخيا، فعندما نستخدم لفظ أصحاب الكهف فالمعنى المستقر فى التركيب يحيلنا إلى ذلك الماضى الذى اكتسب فيه التركيب طبيعته المعنوية.، ومن ثم يكون للغة هذا البعد التراثى السابق للبعد الآنى، المتجدد.
2- اللغة فى آنيتها
كما أن اللغة فى جانبها التراثى تستقل بذاتها فى إنتاج الكم الأكبر من التركيبات التى تتحول إلى تعبيرات جاهزة وأكلاشيهات قريبة المنال على المتكلمين والكتاب مما يفقدها الكثير من قيمتها التراثية ( [16]) أو على أقل تقدير القيمة التى اكتسبتها عبر الاستعمال اللغوى الممتد زمنيا، فإنها فى طرحها الآنى تستقل بطرح الجديد من التركيبات التى تمنح الإطار الموضوعة فيه (النص ) حيويته وتجعل منه صورة متجددة، وتمنحه الكثير مما يجعله قادرا على أن يؤدى رسالته الدلالية أو يمنح متلقيه مساحة كبرى من الوعى عبر جماليات اللغة النصية.
ولأن لغة الرواية الدرغوثية مزيج من النمطين، أو تركيب من النوعين معا فإنه بإمكاننا أن نرصد مستويين أساسيين للغته الموزعة بين السرد والوصف والحوار:
– المستوى الأول: مستوى التوالى وفيه لا يحدث المزج بين اللغتين فى تركيب واحد وإنما تتوالى اللغة التراثية والآنية فى ترتيب يتوزع بين التراثى والآنى، حيث يرد التراثى تاليا للآنى، إذ من المنطقى أن يستهل النص بلغة آنية تقدم للتفاصيل السردية وتكون مؤهلا وتمهيدا للدخول فى النص وما يشتمل عليه من معطيات نصية، وقد تحقق هذا الجانب فى ” أسرار صاحب الستر ” حيث البداية بالحكاية الإطار، حكاية كنز التاجر التمبكتى، يتلوها حكاية النص الأساسية، حكاية الوليد بن يزيد ، حيث تأخذ اللغة طابعها التراثى لتأخذ المتلقى لزمنها، زمن الحكاية من ناحية وزمن اللغة من ناحية أخرى.
– المستوى الثانى: مستوى التضفير أو اللغة فى آنيتها، تلك اللغة الدرغوثية أو لغة النص الدرغوثى تلك التى تمثل التركيب الأسلوبى الخاص أو مؤشرات استخدام الدرغوثى للغته تلك التى يتجلى فيها وعبرها بناء جملته السردية، أوالحوارية التى تجرى على ألسنة شخوصه.
والدرغوثى فى لغته السردية يقيم تضفيرا بين النوعين: التراثى والآنى، من شأنه أن يجعل النص ضفيرة من هجين لغوى يفتح مساحة الزمن حيث المتلقى يتحرك بين ضفتى اللغة عبر طرحها، ضفة الماضى، وضفة الحاضر، وتتجلى الضفيرة اللغوية عند الدرغوثى عبر طريقتين:
اللغة المجردة من الشخصيات الحكائية ، نعنى لغة الراوى بالأساس، ذلك الذى يقدم نفسه بداية فى كثير من النصوص ” لم أكن أريد قبل هذا اليوم كتابة هذه الرواية لأنه وكما تعلمون، ومنذ أن أحرق الرعاع فى مدن وقرى الأندلس كتب ابن رشد واتهموه بالزندقة والكفر، وإلى أن حكم “علماء ” الأزهر بحرق كتاب ” ألف ليلة وليلة ” فى قاهرة المعز فى أواخر القرن العشرين بتهمة إفساد الذوق العام، وأنا أخاف القلم والقرطاس ” ( [17])، اللغة هنا ليست حوارية بالمعنى المباشر، وإذا كان عليها أن تنم عن صاحبها فإنها لا تنم عن شخصية حاضرة فى الحكى، وإنما يكون حضورها قاصرا على السرد بمعنى أنها تحكى ولا يُحكى عنها، تقدم نفسها للآخرين ولا يقدمها أحد، ولأنه لا يهتم أحد بأن يفعل فإن الراوى يكون مسئولا عندها عن تقديم العالم الروائى بلغته أو بطريقته التى يعتمد فيها على لغة خاصة به ليست مسئولة بدرجة ما عن تقديم الجانب النفسى للشخصيات لذا فإنها لا تشتبك كثيرا بلغة الحلم أو باللغة الإيهامية. واللغة فى هذا الجانب نسيج دال على عالم الرواية فى المقام الأول قبل أن تدل على عالم الشخصيات، لغة تستمد قوتها من كونها مفعمة بالإحالات والإزاحات، وهو ما يدركه المتلقى بسهولة ليضيف هذا كله لقدرات الكاتب ( المستعمل الأول للغة، أو المحرك الأساس لها ) ” أتقن إبراهيم درغوثى اللعب بالملفوظات وأكثر من الانزياحات مستعملا لغة تلائم الأحيزة والأزمنة والشخوص الذين يتحركون داخل عوالم عجائبية فاعتمد الوصف مزوقا المناظر والحلل والوجوه والقصور والبساتين والروائح والفضاءات والأرواح ” ( [18]).
اللغة الخاصة بالشخصيات،أو المتعلقة بها، المسندة لها وهى لغة لا يجعلها الدرغوثى منغمسة فى التراثية صحيح أنها قد تنحاز للجانب التراثى فى بعض جوانبها ولكنها ليست تتماهى بالتراث، وعندما يعمد الراوى لوضع اللغة بلفظها التراثى فإنه يقيم دلالة من نوع خاص تطرح على متلقيها نوعا من الوعى بالماضى فى علاقة الحاضر أو المستقبل به، بحيث لا يكون استدعاء النص أو إقامته بلغته مجانيا لمجرد ملء الفراغ، فعندما يطرح النص أبيات جرت على لسان الوليد بن يزيد يقول فيها:
دعوا لي سليمى والطلاء وقينةً وكأساً ألا حسبي بذلك مالا
إذا ما صفا عيشى برملة عالجٍ وعانقت سلمى لا أريد بدالا
خذوا ملككم لا ثبت الله ملككم ثباتاً يساوي ما حييت عقالا
وخلوا عناني قبل عيرٍ وما جرى ولا تحسدوني أن أموت هزالا ( [19])
فإنه أولا يطرح الشخصية وزمنها عبر مقولاتها، وعبر اللغة المعبرة عن الاثنين معا، وهنا نكون على وعى بطبيعة الشخصية، ذلك الوعى الذى لا يتحقق إلا عبر العودة للماضى لاستكشاف الشخصية المروى عنها قبل إسقاط سماتها على الشخصية المعاصرة أو بعبارة أخرى على زمن الكتابة ومن بعده زمن التلقى حيث يتحقق الهدف الأعلى للنص أو المحطة الأخيرة للشخصية وقد استقرت هناك عند منطقة توالد الوعى بالنص، وما يطرحه من دلالات ومعان لها قيمتها للنص والمتلقى من بعده ، والمتلقى هنا مع هذه الأبيات تحديدا يكون على يقين من أنه ليس أمام شخصية من صنع الخيال – وإن تدخل الخيال فى إحكام قوانينها الفنية – شخصية لها حضورها التاريخى عبر تيقنه من إيراد مقولاتها عبر وثائق التاريخ ([20] )، هنا يرى المتلقى الشخصية قائمة عبر لغتها، تتدخل فى الحكى دون أن تقبع هناك على الورق سلبية لا تشارك فى الأحداث، هنا يكون للشخصية صوتها الذى يتبوأ مكانته فى النص، ويمنح نفسه مساحة من السرد تكون قادرة على تفعيل دور الشخصية ومنحها أبعادا لها قيمتها فى سياق النص.
ثانيا: الشخصية التراثية
فى بنائه لشخصياته يعمد الدرغوثى لتحريك شخصياته حركة ترددية بين التراثى والآنى، حيث يمتزج التراثى بالآنى على مستوى الشخصيات القائمة بدورها، وإذا ما قررنا النظر للشخصيات عبر هذه الزاوية فإننا نتوقف عند ثلاثة أنواع :
– الأول: الشخصية التراثية الخالصة: وهى تلك الشخصيات التى يعتمد الدرغوثى على رسمها محكومة بأفعالها التاريخية ومن أهمها شخصية الوليد بن يزيد تلك الشخصية التى يواجه الروائى فى استعمالها التاريخ بوصفه المعيار، معيار نظر المتلقى ومرجعية القارئ الذى يتابع الشخصية الروائية محكوما بالتاريخ وما أوردته كتبه عن الشخصية التى تتحرك أمامه عبر النص الروائى وقد أعاد طرحها فى سياق مغاير مما يجعله ( الروائى ) محاولا إسباغ صفات الواقعية عليها أو إيراد الصفات التى يدرك أن المتلقى سيكون على وعى بها مما يجعل المتلقى يتربص نوعا ما بالنص والتربص ههنا ليس معناه البحث عن ثغرة للدخول بقدر ما يكون التربص بحثا عن سمات الاختلاف بين التاريخى والروائى، بين الشخصية ذات الحضور الواقعى، وقد حكم التاريخ مسألة وجودها السابق من ناحية، وبين الشخصية فى وجودها الروائى أو الواقعى الجديد – إن صح التعبير – من ناحية أخرى.
الروائى ههنا يعتمد على شخصية جاهزة إلى حد ما ، جاهزة على المستوى الذى لا يمكنه خلاله أن يخالف الواقع التاريخى، أعنى مستوى البعد الجسمانى مثلا، ومن ثم يكون الاتكاء على الوثائق التاريخية التى تساعد فى تقديم الإطار العام للشخصية قبل أن يتدخل الخيال الروائى فى طرح بقية السمات، عندها يكون المتلقى قد اختزن الطرح التاريخى لصالح الطرح الفنى:
” هو أبو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان كان يلقب بالمكتفى بالله وكان مصروف الهمة إلى اللهو والأكل والشرب وسماع الغناء وكان نقش خاتمه: ” يا وليد احذر الموت ! ” “
مآثر الإنافة فى معالم الخلافة ”
” القلقشندى ” ( [21])
والطرح الفنى يؤدى بنا للنظر فيما تطرحه شخصية بهذه السمات، شخصية لها نظيرها فى زمن الكتابة أو لها ما يقابلها فى وعى الحاضر لذا يكون للرواية أن توظفها عامدة لتقديم خطوة مناسبة لإنتاج الدلالة الروائية.
ولهذه الشخصية نوعان:
شخصية تراثية قديمة: تتناول شخصية من التراث العربى المعروف، شخصية يمكنك أن تجد أخبارها ووثائقها فى التراث العربى القديم ونموذجها الأوضح عند الدرغوثى، شخصية الوليد بن يزيد فى رواية ” أسرار صاحب الستر ” وغيرها من الشخصيات المتناثرة فى ” الدراويش يعودون إلى المنفى ” وفى ” القيامة الآن “.
شخصية تراثية معاصرة: أو يمكن أن نسميها شخصية من التراث الحديث، تتناول شخصية لها حضورها الواقعى ولكنها أقل شهرة من السابقة وحضورها ليس عاما وإنما هى منتزعة من المحيط الاجتماعى الأقرب للروائى ونموذجها عمال مناجم الفوسفات فى تونس بوصفهم شخصيات وليدة المكان الواقعى المتعين كما يراه المؤلف، ويتوجه إليه بروايته الأخيرة ” وراء السراب قليلا “:
” إلى صهرى: محمد بن فطوم.
وإلى رفاقه عمال المناجم.
فى قفصة.
وفى تونس.
وفى كل بقاع الأرض. ” ( [22])
ولا تتأسس واقعية الأشخاص على حضور عمال المناجم و تردد صوتهم فى النص، وإنما من تطلع الروائى إلى أن يكتب روايته حول هؤلاء العمال ( [23]) راصدا تاريخا ليس من السهل التوصل إليه ما لم يكن الكاتب على علاقة واقعية بدرجة ما بهذا الواقع المتعين، علاقة تتيح له أن يستثمر وعيه بالعالم وما يضم من أشخاص واحداث هى جزء من المجتمع الإنسانى المرصود عبر النص.
-الثانى: شخصية عصرية خالصة: وهى تلك الشخصيات المعصرنة التى تمثل المقابل الفنى للنوع السابق والتى يضعها الدرغوثى على أهبة الاستعداد للقيام بدورها الفنى، وهى شخصيات من الطبيعى أو من المنطقى أن تتردد فى أعمال الروائى المعاصر.
– الثالث: الشخصية المزيج بين النوعين حيث الشخصية العصرية تتماس مع السمات التراثية فترتفع بالشخصية إلى درجة العجائبى، فى ” وراء السراب قليلا ” يمثل نموذج الجدة المثال الواضح على هذا الجانب، فالجدة شخصية ليست تراثية فى طابعها العام ولكنها تمنح صفات ذات طابع تراثى ” الآن أنهت الأرضة نخر عصا الجدة فخرت على وجهها بعد أعوام من الوقوف على رجل واحدة ودقت طبول الحزن من جديد. وملأ العويل والنواح الكون ” ( [24]) موظفا التراث القرآنى عبر قصة سليمان عليه السلام ([25] ).
لقد نجح الدرغوثى إلى حد كبير فى استثمار الدال التراثى فى معظم نصوصه الروائية منها والقصصية القصيرة ولكنه لم يوظف التراث بالصورة الجامدة التى تبدو فيها التيمة التراثية مجرد واجهة، أو لافتة على عصر بعينه ولكنه فى انتقائه لشخوصه ولغتهم ومجال حركتهم خلق تراثا موازيا يتكئ على القديم ولكنه يحقق لنصه حيوية جديدة تعتمد على معطيات العصر فحق له أن يتبوأ مكانته على خارطة الإبداع العربى.
* هوامش وإشارات:
[1] – ولد إبراهيم درغوثى فى 21/12/1955 بالمحاسن من بلاد الجريد جنوب تونس، ولم تغره العاصمة بأضوائها، فارتبط بالجنوب التونسى لم يفارقه حتى اليوم، مخلصا للمكان ومستلهما خصوصيته وهذا ما تبلور بشكل أكثر وضوحا فى كثير من أعماله وخاصة روايته الأخيرة ” وراء السراب قليلا” التى استلهم فيها حياة عمال مناجم الفوسفات فى الجنوب التونسى، ترجمت بعض أعماله للفرنسية والإنجليزية والألمانية، وتناول النقاد أعماله فى كثير من الدراسات النقدية، منها مجموعة من الدراسات ضمها كتاب ” حداثة التماسات / تماس الحداثات فى القصة والرواية لدى إبراهيم درغوثى ” بمقدمة للروائى والناقد التونسى فرج الحوار، وتضمنت دراسات معمقة بأقلام: د. محمد القاضى – د. محمد الناصر العجيمى – د. مصطفى الضبع – محمد نجيب العمامى – فوزية علوى – مجدى بن عيسى – نجاة العدوانى.
للروائى إنتاج متوازن بين القصة والرواية، أربع مجموعات قصصية:
– النخل يموت واقفا، دار صامد، تونس، 1989.
– الخبز المر ، دار صامد، تونس، 1990.
– رجل محترم جدا ، دار سحر، تونس 1995.
– كأسك يا مطر ، دار سحر 1997.
وله ما يزيد عن هذا العدد من الرواية:
الدراويش يعودون إلى المنفى، دار رياض الريس، لندن
القيامة… الآن دار الحوار، اللاذقية 1998.
شبابيك منتصف الليل، دار سحر، تونس 1996.
أسرار صاحب الستر، دار صامد، تونس
وراء السراب قليلا، دار الإتحاف، تونس 2002.
[2] – إبراهيم درغوثى: الدراويش يعودون إلى المنفى، دار رياض الريس، لندن، ط1، 1992، ص 13.
[3] – السابق ص 16.
[4] – القيامة..الآن ص 9.
[5] – ياسين النصير: الاستهلال، فن البدايات فى النص الأدبى، الهيئة العامة لقصور الثقافة، 1998، ص 27.
[6] – مع السطور الأولى من الرواية، وقبل أن يتبين المتلقى ماهية الأفراد والأصوات التى يتعامل معها،وقبل أن يتعرف أسماء الأشخاص الذين يتعامل معهم، اسم الذات الأولى الذى طالعه توا على الغلاف، نعنى اسم المؤلف، وحيث لا يستطيع بسهولة أن يتخلص من سيطرة هذا الاسم ويحتاج لصفحات – قد تطول – حتى يتوارى الاسم هناك وراء الأشخاص، لذا يحدث الاشتباك عبر الصوت الأول، بين المؤلف والشخصية الأولى التى تقدم نفسها للمتلقى.
[7] – القيامة..الآن ص 9.
[8] – السابق نفسه.
[9] – القيامة..الآن ص 34.
[10] – نعنى بالترقيش، إضافة نصوص كاملة للنص الروائى بحيث يبدو النص ذا ألوان متعددة، أو شجرة تضاف إليها أوراق جديدة تعمل على أن تشكل نسيجا له طابعه الخاص فى سياقه الجديد، وتمنح النص تعددا لونيا، يبدو النص من خلاله كيانا متعدد المصادر، والقارئ يعتمد تلقيه على تناسى هذه المصادر، فهى تأخذ طابعا، وسياقا جديدين يجعلانها تبدو نصوصا خاصة بالرواية ، والترقيش يعد مرتبة تالية للتناص،أو هو مرحلة من مراحله،يغايره من زاويتين:
– أن التناص لا يحدد الكم أو المساحة النصية التى يستعيرها النص من النص /النصوص الأخرى، فالتناص ” مصطلح صاغته جوليا كريستيفا للإشارة إلى العلاقات المتبادلة بين نص معين ونصوص أخرى وهى لا تعنى تأثير نص فى آخر أو تتبع المصادر التى استقى منها نص تضميناته من نصوص سابقة بل تعنى تفاعل أنظمة أسلوبية. وتشمل العلاقات التناصية إعادة الترتيب، والإيماءة أو التلميح المتعلق بالموضوع أو البنية والتحويل والمحاكاة الهزلية ”
انظر: إبراهيم فتحى: معجم المصطلحات الأدبية، دار شرقيات للنشر والتوزيع، ط 1، 2000ص 87.
وانظر: د. محمد عنانى: المصطلحات الأدبية الحديثة، لونجمان، ط1، 1996ص 46.
– أن التناص يمكن البحث فيه، وعنه دون العودة الصريحة للنص السابق، فالمبدع قد لا يشير صراحة للنص الآخر، ومن ثم تكون عملية البحث عن هذا النص شكلا من أشكال محولة التعرف على أسلوب خفى ليس مصرحا به، ظلال لنص آخر، فى الوقت الذى يمكن أن نرى الترقيش بوصفه نصا مشارا إليه عن عمد يدخل السياق الجديد بغية استدعاء النص بكامله، وأن الإشارات التى يبثها النص يستثمرها المتلقى للعودة –مهتديا بها – إلى النص القديم، وهذا مالا يطرحه التناص، أو لا يصرح به.
والدرغوثى عندما يضعنا أمام رواية ” شرق المتوسط لمنيف فإنه يعقد رباطا مع القارئ يعاهده فيه على العودة للرواية، والقارئ عندها يفقد الكثير من الدلالات إن لم يكن على علاقة معرفية بالنص السابق.
[11] – القيامة.. الآن ص 74.
[12] – أسرار صاحب الستر ص 34.
[13] – أسرار صاحب الستر ص 5.
[14] –أسرار صاحب الستر ص 6.
[15] – ورد فى لسان العرب: السكر ثلاثة أنواع: سكر الشباب وسكر المال وسكر السلطان . انظر: لسان العرب: مادة ( سكر ).
[16] – يحدث هذا فى الكثير من التعبيرات التى يستخدمها كثير من مستخدمى العربية مما يعرضها للابتذال ومن ثم فقدانها قيمتها الدلالية، إن التعبيرات الدارجة من مثل
[17] – إبراهيم الدرغوثى: الدراويش يعودون إلى المنفى ، دار رياض الريس، لندن، ط 1، 1992، ص 13.
[18] – نجاة العدوانى: عندما تعيد الرواية المعاصرة إنتاج وقائع تاريخية موثقة، ضمن كتاب: حداثة التماسات، تماس الحداثات فى القصة والرواية لدى إبراهيم درغوثى، دار سحر للنشر ، تونس 2000، ص116.
[19] – إبراهيم درغوثى: أسرار صاحب الستر، صامد للنشر والتوزيع، تونس 1998، ص 127.
[20] – يمكن للقارئ أن يتثبت من الشخصية عبر معرفته التاريخية بها، أو من تتبع الإشارات والإحالات التوثيقية التى يحيله إليها الكاتب، انظر ص 6، 40، 70، 127- 129 من أسرار صاحب الستر.
[21] – أسرار صاحب الستر ص 6.
[22] – إبراهيم درغوثى: وراء السراب…قليلا،دار الإتحاف للنشر، تونس 2002، ص 5.
[23] – فى لقائى الأول بالدرغوثى ( تونس، ديسمبر 1997) وفى واحدة من مناطق استخراج الفوسفات راح يتحدث بشغف عن رغبته فى كتابة رواية عن عمال الفوسفات فى جنوب تونس، وأنه يأتى إلى المكان يتملى روحه استعدادا للكتابة، وفى لقاءاتى المتباعدة كنت أسأله عن النص فيؤكد أنه فى طور الكتابة حتى فاجأنى بالرواية منشورة عام 2002، وقد ذيلها بتاريخ كتابة النص وتاريخ الانتهاء منه ( أم العرائس – قفصة – جانفى 1999- ديسمبر 2001) انظر الرواية ص 210.
[24] – وراء السراب قليلا، ص 74.
[25] – قال تعالى فى سورة سبأ ” فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ” (14).
د. مصطفى الضبع
* http://alketaba.com/تجليات-التراث-ع...6zxszLwUHI_9HwV_oxOyoGqoGp-sBaecJtCdSx55PXFUc