حسين مروة - أيها التاريخ.. شكراً!

جيلنا الذي احترق مرّتين في حربين كونيّتين .. ثم احترق أكثر من خمس مرّات في حروب متلاحقة على ترابٍ عربيّ هنا وهناك ...
جيلنا هذا يشكرك أيها التاريخ ..
جيلنا الذي مارس مراراً ، ثم هو الآن ، في لحظة التجربة الجديدة ، يمارس الاحتراق والموت من جديد ، ليمارس الانبعاث والعيش من جديد ...
جيلنا هذا ينحني أمام تواضعك ليقول لك : شكراً ، أيها التاريخ ...
***
أن نحترق ثم ننبعث ، أن نموت ثم نعيش ، لبس ذلك من المعجزات ، ليس ذلك اختراقاً لطبائع الأمور في وجودنا ، ليس ذلك كسراً لقوانين النظام الكوني .. إنّ ذلك حقيقة من الحقائق الدّهرية التي تصنعها أنتَ ، أيها التاريخ ...
هي حقيقة عاديّة في مجرى النهر العريض لحركة التاريخ .. لكن ، هي عظيمة ، وعظيمة في لحظات انطلاقها من بين ضلوع التاريخ ، لتستقرّ نسراً هائلاً على شجرة ٍ في بستاننا العظيم ، بستان هذا الكائن البشري العظيم : الإنسان ...
هي حقيقة عظيمة ... ندركها الآن ، وهي في إحدى لحظات انطلاقها من بين ضلوع التاريخ ...
ندركها ؟ ... لا ، بل هي الآن : احتراقنا من جديد ,, هي الآن : موتنا من جديد ..
هي الآن : احتراقنا وموتنا لننبعثَ ونعيشَ من جديد ...

***
جيلنا الذي أطعمته الفرح العظيم مراراً ، أيها التاريخ .. جيلنا الذي سقيته الحزن العظيم مراراً ، أيها التاريخ .. جيلنا هذا ، يفتح ذراعيْه الآن ، في هذه اللحظات الشرسة ، ليقول لك : شكراً أيها التاريخ ...
شكراً لك لأنك الآن ، وفي هذه اللحظات بالذات ، تطعمنا الفرح العظيم ، وتسقينا الحزن العظيم معاً ، مرّةً واحدة ، ودفعةً واحدة ، وعلى مائدة واحدة ... على مائدة هذا الصّدام الشّرس بين نقيضيْن هما طرفا القضية – الجرح في خاصرة العصر ..
***
هذا الصدام على التراب اللبناني يقع ..
هذان النقيضان ، على التراب اللبناني يصطدمان ..
هذا الصدام ، بين هذيْن النقيضيْن ، على التراب اللبناني ينفحر ، وفي وقته هذا ينفجر ..
هل كلّ هذا من نوع المصادفات ، أيها التاريخ ؟
إنها القضيّة - الجرح ذاتها في عصرنا ...
وأنتَ ، أيها التاريخ ، أنتَ ، لا المصادفات ، قد اختصرتَ طرفيْ القضية ، النقيضيْن كونيّاً ، ثم حصرتهما في إطار هذا التراب اللبناني ... وجاء ، عبر الحدود البعيدة والقريبة ، رافدٌ سرطانيّ من خارج الجسد ، يرفد الطرف السرطانيّ داخل الجسد ، ليغتالَ الحياة في هذا التراب اللبناني ... ليغتال الجذور المختمرة بحبّ الحياة والحرية والديمقراطية في هذا التراب اللبناني ... ليغتال بؤرة الضوء المشتعلة وحدها ، في هذا التراب وسط ظلام الخيانة المطبق على الوطن الكبير...
***
أيها التاريخ ... شكراً !..
لقد اختصرتَ كونية القضية ، قضية الحرية والديمقراطية والتّقدّم ، واختصرتَ طرفيْ القضية هنا في لبنان .. إذن فقد فسحْتَ للحقيقة العظيمة أن تنطلقَ من بين ضلوعكَ ، لتستقرَّ نسراً هائلاً على شجرة الوطن ، على جنوب التراب اللبناني .. وليتحوّل النسر الهائل جيلاً جديداً من الأبطال .. شكلاً جديداً من حب الحياة والحرية والديمقراطية .. معجزة جديدة من الاحتراق والموت اللذيْن هما الانبعاث ، والخصب ، ومواسم الفرح العظيم ، التي ستخرج من رماد المعركة ، ومن لَهَب الحزن العظيم ..



* عنوان لمقالة كتبها الشهيد حسين مروة في جريدة " النداء "
بتاريخ 10 حزيران 1982 في زاوية : < الوطن المقاتل >

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى