الوصف من أهم أغراض الشعر وأخص فنونه. وكلما كثر في شعر لغة أو آثار شاعر، دل على رقيهما الفني، إذ أن مناظر الطبيعة خاصة، وروائع المشاهدات عامة، من أشد العوامل تأثيراً في النفس الشاعرة وتحريكها لعاطفتها وبعثاً لها إلى القول. والوصف في الشعر العربي غزير يتناول شتى الموضوعات، ويبلغ في يد كبار شعراء العربية غاية الاجادة. فكثيراً ما تخلص شعراؤنا من قيود المدح والرثاء والنسيب الاستهلالي - مهما كان تقيدهم بهذه الاغلال الثقيلة التي كبلت الشعر العربي - وعرجوا على وصف أثر من آثار الطبيعة أو المدنية، فأبدعوا وأرضوا الفن، أضعاف ما أرضوه بمبالغات المدح والرثاء والنسيب المدعى.
ولكن الذي أريد الاشارة إليه في هذه الكلمة، ان اعتماد الوصف في الشعر العربي كان دائما على المعنى دون اللفظ، على التشبيه والاستعارة والمجاز دون جرس الألفاظ وتتابع التراكيب ووقع الاوزان والقوافي. بينما الشعر الوصفي الغربي اعتمد على هذه الأشياء الاخيرة اعتماداً كبيراً. فبلغ الغاية في المطابقة بين المعنى واللفظ مطابقة تملأ الوصف حياة وجلاء. وتوفر بعض الشعراء على هذا الضرب من التصوير، ومنهم ملتون وتنيسون، ولا سيما الثاني الذي بلغ في القدرة على تذليل اللفظ للمعنى واستخدامه في تصوير ما يشاء حداً منقطع النظير. وأضحت آثار أولئك الشعراء مهبط وحي لكبار المصورين يستلهمونها ما حوت من روائع الاوصاف ومحكمات الصور ويسجلون ذلك على لوحاتهم.
إذا كان في المنظر المراد تصويره حركة كجريان نهر أو عدو جواد استخدم الشاعر الغربي بحرا من بحور الشعر يلائم تلك الحركة ويحكيها. وإذا كان به صوت أو أصوات مختلفة كهدير أمواج البحر أو قصف المدفع في الحرب اختار من الألفاظ تلك التي تحتوي على حروف خشنة قوية، وإذا كان يصف منظراً ساكنا وادعاً لم يذكر ذلك في القصيدة ذكراً، وإنما استعمل الألفاظ ذات الحروف اللينة كالسين مثلا، وهناك عدا هذا وذاك ضروب شتى من الملاءمة بين الصيغة والمعنى يفتن فيها الشاعر الوصاف ما شاء له اقتداره: ككثرة العطف وتكرار الحروف والكلمات والتراكيب والابيات الكاملة.
ولقد وقع شئ من ذلك في بعض اشعار الوصف العربي، ولكنه كان الهاماً محضا أو اتفاقا عارضا ساقت الشاعر إليه المصادفة السعيدة أو السليقة المجيدة، دون ان يعتمده أو يتكلف في صوغه عناء، ويقرأ القارئ العربي فيستطبيه ويعزو موقعه من نفسه إلى مجرد جودة معاينة وحسن تشبيهاته. ويجمل ذكر شئ من هذا القبيل للتمثيل والبيان:
ففي معلقته يصف أمرؤ القيس الليل في بيته المشهور
فقلت له لما تمطى بصلبه ... واردف اعجازاً وناء بكلكل
وفضلا عن جودة المعنى وحسن التشبيه في هذا البيت يزيد الوزن والتركيب الوصف المراد ظهوراً: فالبحر الطويل ذو الحركة الوئيدة وتكرار العطف بالواو يمثلان بطء مسير الليل ولجاجه في الاقامة وتماديه في الطول خير تمثيل، وفي بيته الآخر حيث يصف جواده بقوله:
مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
نرى تتابع الصفات بلا فاصل في الشطر الاول، واستعمال الألفاظ الضخمة الخشنة في الشطر الثاني يمثلان توثب الجواد وسرعة انطلاقه وارتداده ومفاجآت حركاته تمثيلا جيداً يصرف النظر عن تشبيه بانحطاط الصخر من شاهق. وفي قول المتنبي:
أتوك مجرون الحديد كأنما ... سروا بجياد مالهن قوائم
خميس بشرق الارض والغرب زحفه ... وفي إذن الجوزاء منه زمام
نرى وصفا رائعا لجيش كثيف وئيد الزحف لكثافته، وليس في البيتين معنى كبير، وليس فيهما سوى مبالغة غير معقولة ولكنه البحر الطويل يمثل هذه الحركة البطيئة أتم تمثيل، هذا فضلا عن فخامة الألفاظ التي تخيرها الشاعر؛ ونرى البحر الطويل يؤدي مثل هذا الغرض ويرسم صورة أخرى رائعة في قول جميل
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالاركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الاحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطى الأباطح
فهنا حركة الابل البطيئة واضحة ماثلة، وقد كان جميل ملهما حيث ذكر اسم كلمة أعناق في البيت الثاني فانها وحدها ترسم الصورة التي اراد: فان ذكر الجزء الأهم من الصورة، كثيراً ما يبعث إلى المخيلة باقي الاجزاء ويبرز الصورة جليلة كاملة، ويترك البحر الطويل مثل هذا الأثر أيضاً قول البارودي الذي اشار إليه الدكتور صبري في كتابه عن الشاعر:
- ونبهنا وقع الندى في خميلة -
فإذا قرئ هذا الشطر بتأن وجدنا الوزن يمثل تساقط قطرات الندى متتابعة، أما الحركة السريعة فيمثلها البحر الكامل، ومن ذلك قول المتنبي:
اقبلت تبسم والجياد عوابس ... يخببن بالحلق المضاعف والقنا
عقدت سنابكها عليها عثيراً ... لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا
ففي البيت الثاني نرى مبالغة أخرى من مبالغات المتنبي، وهي لا تكاد تؤدي معنى، ولكن البحر الذي صيغت فيه القصيدة يؤدي خبب الجياد خير أداء، حتى ليكاد يريك توثب الفرسان فوق ظهورها، ولو حاول الشاعر وصف الخبب في البحر الطويل لما استقامت صورته.
ولتكرار الألفاظ أو التعبيرات أحيانا اثر بليغ في ابراز الصور وبعث الاخيلة. ففي قول ابن هانئ الاندلسي:
وفوارس لا الهضب يوم مغارها ... هضب ولا الوعر الحزون حزون
يوحى تكرار كلمتي هضب وحزون إلى المخيلة تتابع الهضاب والربى أثناء عدو الفرس، فكأنه يعرض أمام العين شريطا سينمائيا متحركا، أضف إلى ذلك صوغ البيت في البحر الكامل واختيار الكلمات الفخمة، وفي قول الأستاذ المازني:
لغط اليم إذا طما ... والتقت فيه هضاب بهضاب
ترى صورة رائعة لجيشان اليم، ولا يرجع هذا إلى معنى البيت وحده، ولكن إلى وزنه وألفاظه كذاك: فبحر الرمل يمثل الحركة المتضاربة أدق تمثيل. وتكرار كلمتي اليم وهضاب يوحي إلى المخيلة تتابع اللجج، وتكرار حرف الهاء ثلاث مرات في الشطر الثاني يزيد الركة تصويراً وبروزاً.
كان ذلك في الغالب كما ذكرت محض اتفاق أو الهام، ولم يقم في العربية فرد أو مدرسة تتوفر على هذا الضرب من النظم والتصوير وإنما حين اتجه نظر الشعراء إلى اللفظ صادف ذلك عصر انحلال الأدب فلم يسخروا اللفظ لابراز المعنى، بل صرفوا كل همهم إلى اللفظ دون المعنى، وولعوا بالألاعيب اللفظية التي سموها محسنات، وأوغلوا هذه الغثاثات على اجل فنون الشعر خطرا كالرثاء والنسيب فأسفت وانعدم فيها الحس والشعور؛ فرأينا شاعرا ينسب فيقول
ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني
وآخر يتوجع فيقول:
لي مهجة في النازعات وعبرة ... في المرسلات وفكرة في هل أتى
وثالثاً يمدح فيقول:
وان أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له
وليس في كل هذا التعبير عن شعور أو أداء غرض، وما هو إلا عبث بالألفاظ واقتناص للجناس والطباق والسجع، والتورية، وإنما أكثرت من هذه الامثلة الغثة لأوضح كم كان الشعر العربي يربح لو أن المجهودات التي صرفت في مثل هذا التحايل العقيم وجهت إلى تسخير اللفظ للمعنى، والاستعانة بهما معا على ابراز الوصف المقصود كما يصنع شعراء الغرب.
وليس في طبيعة اللغة العربية قصور يحول بينها وبين مجاراة اللغات الأخرى في هذا الباب، بل لها من الميزات ما يقدمها على غيرها: فهي كثيرة البحور التي تؤدي كل منها غرضا مختلفا، غزيرة الألفاظ الوعرة الضخمة والرقيقة اللطيفة التي توحي بخشونتها أو رقتها مختلف الصفات، غنية بالحروف السلسة اللينة والحروف الخشنة الجافية التي تطاوع الناظم القدير. ليس يعوز العربية شئ من ذلك وإنما يعوزها الجرأة من الناظمين بها والعزم والجلد.
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 44
بتاريخ: 07 - 05 - 1934
ولكن الذي أريد الاشارة إليه في هذه الكلمة، ان اعتماد الوصف في الشعر العربي كان دائما على المعنى دون اللفظ، على التشبيه والاستعارة والمجاز دون جرس الألفاظ وتتابع التراكيب ووقع الاوزان والقوافي. بينما الشعر الوصفي الغربي اعتمد على هذه الأشياء الاخيرة اعتماداً كبيراً. فبلغ الغاية في المطابقة بين المعنى واللفظ مطابقة تملأ الوصف حياة وجلاء. وتوفر بعض الشعراء على هذا الضرب من التصوير، ومنهم ملتون وتنيسون، ولا سيما الثاني الذي بلغ في القدرة على تذليل اللفظ للمعنى واستخدامه في تصوير ما يشاء حداً منقطع النظير. وأضحت آثار أولئك الشعراء مهبط وحي لكبار المصورين يستلهمونها ما حوت من روائع الاوصاف ومحكمات الصور ويسجلون ذلك على لوحاتهم.
إذا كان في المنظر المراد تصويره حركة كجريان نهر أو عدو جواد استخدم الشاعر الغربي بحرا من بحور الشعر يلائم تلك الحركة ويحكيها. وإذا كان به صوت أو أصوات مختلفة كهدير أمواج البحر أو قصف المدفع في الحرب اختار من الألفاظ تلك التي تحتوي على حروف خشنة قوية، وإذا كان يصف منظراً ساكنا وادعاً لم يذكر ذلك في القصيدة ذكراً، وإنما استعمل الألفاظ ذات الحروف اللينة كالسين مثلا، وهناك عدا هذا وذاك ضروب شتى من الملاءمة بين الصيغة والمعنى يفتن فيها الشاعر الوصاف ما شاء له اقتداره: ككثرة العطف وتكرار الحروف والكلمات والتراكيب والابيات الكاملة.
ولقد وقع شئ من ذلك في بعض اشعار الوصف العربي، ولكنه كان الهاماً محضا أو اتفاقا عارضا ساقت الشاعر إليه المصادفة السعيدة أو السليقة المجيدة، دون ان يعتمده أو يتكلف في صوغه عناء، ويقرأ القارئ العربي فيستطبيه ويعزو موقعه من نفسه إلى مجرد جودة معاينة وحسن تشبيهاته. ويجمل ذكر شئ من هذا القبيل للتمثيل والبيان:
ففي معلقته يصف أمرؤ القيس الليل في بيته المشهور
فقلت له لما تمطى بصلبه ... واردف اعجازاً وناء بكلكل
وفضلا عن جودة المعنى وحسن التشبيه في هذا البيت يزيد الوزن والتركيب الوصف المراد ظهوراً: فالبحر الطويل ذو الحركة الوئيدة وتكرار العطف بالواو يمثلان بطء مسير الليل ولجاجه في الاقامة وتماديه في الطول خير تمثيل، وفي بيته الآخر حيث يصف جواده بقوله:
مكر مفر مقبل مدبر معا ... كجلمود صخر حطه السيل من عل
نرى تتابع الصفات بلا فاصل في الشطر الاول، واستعمال الألفاظ الضخمة الخشنة في الشطر الثاني يمثلان توثب الجواد وسرعة انطلاقه وارتداده ومفاجآت حركاته تمثيلا جيداً يصرف النظر عن تشبيه بانحطاط الصخر من شاهق. وفي قول المتنبي:
أتوك مجرون الحديد كأنما ... سروا بجياد مالهن قوائم
خميس بشرق الارض والغرب زحفه ... وفي إذن الجوزاء منه زمام
نرى وصفا رائعا لجيش كثيف وئيد الزحف لكثافته، وليس في البيتين معنى كبير، وليس فيهما سوى مبالغة غير معقولة ولكنه البحر الطويل يمثل هذه الحركة البطيئة أتم تمثيل، هذا فضلا عن فخامة الألفاظ التي تخيرها الشاعر؛ ونرى البحر الطويل يؤدي مثل هذا الغرض ويرسم صورة أخرى رائعة في قول جميل
ولما قضينا من منى كل حاجة ... ومسح بالاركان من هو ماسح
أخذنا بأطراف الاحاديث بيننا ... وسالت بأعناق المطى الأباطح
فهنا حركة الابل البطيئة واضحة ماثلة، وقد كان جميل ملهما حيث ذكر اسم كلمة أعناق في البيت الثاني فانها وحدها ترسم الصورة التي اراد: فان ذكر الجزء الأهم من الصورة، كثيراً ما يبعث إلى المخيلة باقي الاجزاء ويبرز الصورة جليلة كاملة، ويترك البحر الطويل مثل هذا الأثر أيضاً قول البارودي الذي اشار إليه الدكتور صبري في كتابه عن الشاعر:
- ونبهنا وقع الندى في خميلة -
فإذا قرئ هذا الشطر بتأن وجدنا الوزن يمثل تساقط قطرات الندى متتابعة، أما الحركة السريعة فيمثلها البحر الكامل، ومن ذلك قول المتنبي:
اقبلت تبسم والجياد عوابس ... يخببن بالحلق المضاعف والقنا
عقدت سنابكها عليها عثيراً ... لو تبتغي عنقا عليه لأمكنا
ففي البيت الثاني نرى مبالغة أخرى من مبالغات المتنبي، وهي لا تكاد تؤدي معنى، ولكن البحر الذي صيغت فيه القصيدة يؤدي خبب الجياد خير أداء، حتى ليكاد يريك توثب الفرسان فوق ظهورها، ولو حاول الشاعر وصف الخبب في البحر الطويل لما استقامت صورته.
ولتكرار الألفاظ أو التعبيرات أحيانا اثر بليغ في ابراز الصور وبعث الاخيلة. ففي قول ابن هانئ الاندلسي:
وفوارس لا الهضب يوم مغارها ... هضب ولا الوعر الحزون حزون
يوحى تكرار كلمتي هضب وحزون إلى المخيلة تتابع الهضاب والربى أثناء عدو الفرس، فكأنه يعرض أمام العين شريطا سينمائيا متحركا، أضف إلى ذلك صوغ البيت في البحر الكامل واختيار الكلمات الفخمة، وفي قول الأستاذ المازني:
لغط اليم إذا طما ... والتقت فيه هضاب بهضاب
ترى صورة رائعة لجيشان اليم، ولا يرجع هذا إلى معنى البيت وحده، ولكن إلى وزنه وألفاظه كذاك: فبحر الرمل يمثل الحركة المتضاربة أدق تمثيل. وتكرار كلمتي اليم وهضاب يوحي إلى المخيلة تتابع اللجج، وتكرار حرف الهاء ثلاث مرات في الشطر الثاني يزيد الركة تصويراً وبروزاً.
كان ذلك في الغالب كما ذكرت محض اتفاق أو الهام، ولم يقم في العربية فرد أو مدرسة تتوفر على هذا الضرب من النظم والتصوير وإنما حين اتجه نظر الشعراء إلى اللفظ صادف ذلك عصر انحلال الأدب فلم يسخروا اللفظ لابراز المعنى، بل صرفوا كل همهم إلى اللفظ دون المعنى، وولعوا بالألاعيب اللفظية التي سموها محسنات، وأوغلوا هذه الغثاثات على اجل فنون الشعر خطرا كالرثاء والنسيب فأسفت وانعدم فيها الحس والشعور؛ فرأينا شاعرا ينسب فيقول
ناظراه فيما جنى ناظراه ... أو دعاني أمت بما أودعاني
وآخر يتوجع فيقول:
لي مهجة في النازعات وعبرة ... في المرسلات وفكرة في هل أتى
وثالثاً يمدح فيقول:
وان أقر على رق أنامله ... أقر بالرق كتاب الأنام له
وليس في كل هذا التعبير عن شعور أو أداء غرض، وما هو إلا عبث بالألفاظ واقتناص للجناس والطباق والسجع، والتورية، وإنما أكثرت من هذه الامثلة الغثة لأوضح كم كان الشعر العربي يربح لو أن المجهودات التي صرفت في مثل هذا التحايل العقيم وجهت إلى تسخير اللفظ للمعنى، والاستعانة بهما معا على ابراز الوصف المقصود كما يصنع شعراء الغرب.
وليس في طبيعة اللغة العربية قصور يحول بينها وبين مجاراة اللغات الأخرى في هذا الباب، بل لها من الميزات ما يقدمها على غيرها: فهي كثيرة البحور التي تؤدي كل منها غرضا مختلفا، غزيرة الألفاظ الوعرة الضخمة والرقيقة اللطيفة التي توحي بخشونتها أو رقتها مختلف الصفات، غنية بالحروف السلسة اللينة والحروف الخشنة الجافية التي تطاوع الناظم القدير. ليس يعوز العربية شئ من ذلك وإنما يعوزها الجرأة من الناظمين بها والعزم والجلد.
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 44
بتاريخ: 07 - 05 - 1934