كأنت العجم تقيد مأثرها بالبنيان والمدن والحصون مثل بناء ازدشير وبناء اصطخر وبناء المدائن والسدير والمدن والحصون. ثم أن العرب شاركت العجم في البنيان وتفردت بالكتب والأخبار والأشعار والأثار فلها من البنيان غمدان وكعبه نجران وقصر مأرب وقصر مارد وقصر شعوب والابلق الفرد وغير ذلك من البنيان. وتصنيف الكتب اشد تقييداً للمأثر على ممر الأيام والدهور من البنيأن لأن البناء لا محالة يدرس وتعفى رسومه والكتاب باق يقع من قرن إلى قرن ومن امة إلى امة فهو ابدا جديد والناظر فيه مستفيد وهو ابلغ في تحصيل المأثر من البننيان والتصاوير. وكأنت العجم تجعل الكتاب في الصخور ونقشاً في الحجارة وخلقه مركبة في البنيأن فربما كان الكتاب هو الناتئ وربما كان هو المحفور إذا كأن ذلك تاريخياً لأمر جسيم او عهداً لأمر عظيم او موعظة يرتجى نفعها او احياء شرف يريدون تخليد ذكره كماكتبوا على قبة غمدان وعلى باب القيروان وعلى باب سمرقند وعلى عمود مأرب وعلى ركن المشقر وعلى الاطق الفرد وعلى باب الرها يعمدون إلى المواضع المشهورة والأماكن المذكورة فيضعون الخط في ابعد المواضع من الدثور وأمنعها من الدروس واجد ران يراه من مر به ولا ينسى على وجه الدهور.
ولولا الجكم المحفوظة والكتب المدونة لبطل أكثر العلم ولغلب سلطأن النسيان سلطأن الذكر ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها وخلدت من عجيب حكمتها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا وفتحنا بها كل مستغلق فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم وأدركنا مالم نكن ندركه الا بهم لقد بخس حظنا منه. وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر والعلماء بمخارج الملل وأرباب النحل وورثة الأنبياء واعوأن الخلفاء يكتبون كتب الظرفاء والصلحاء وكتب الملاهي وكتب اعوأن الصلحاء وكتب أصحاب المراء والخصومات وكتب السخفاء وحمية الجاهلية. ومنهم من يفرط في العلم أيام خموله وترك ذكره وحداثة سنه. ولولا جياد الكتب اوحسانها لما تتحركت ههمم هؤلاء الطلب العلم ونازعت إلى حب الكتب وانفت من حال الجهل وأن يكونوا في غمار الوحش ولدخل عليهم من الضرر والمشقة وسوء الحال ماعسى أن يكون لا يمكن الأخبار عن مقداره الا بالكلام الكثير.
وسمعت محمد بن الجهم يقول: إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تنأولت كتاباً فاجد اهتزازي للفوائدوالاريحية التي تعتريني من سرور الاستنباه وعز التبينت أشد ايقاظا من نهيق الحمار وهدة الهدم فإني إذا استحسنت كتاباً واستجدته ورجوت فائدته لم أوثر عليه عوضاً ولم ابغ به بدلاً فلا ازال انظر فيه ساعة كم بقي من ورقه مخافة استنفاذه وانقطاع المادة من قبله. وقال ابن داحة: كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس فنزل مقبرة من المقابر وكان لا يزال في يده كتاب يقرؤه فسئل عن ذلك فقال لم ار قط اوعظ من قبر ولا أنس من كتاب ولا اسلم من الوحدة.
واهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفتراً وكتب معه: هديتي أعزك الله تزكو على الانفاق وتربو على الكد لا تفسدها العواري ولا تخلقها كثرة التقليب وهي انس في الليل والنهار والسفر والحضر تصلح للدنيا والاخرة تؤنس في الخلوة وتمنع من الوحدة مسأمر مساعد ومحدث مطاوع ونديم صدق. وقال بعض الحكماء: الكتب بساتين العلماء. وقال آخر: الكتاب جليس لا مؤونه له. وقال آخر: ذهبت المكارم الأمن الكتب.
قال الجاحظ وانا احفظ وأقول: الكتاب نعم الذخر والعقدة والجليس والعمدة ونعم النشرة ونعم النزهة ونعم المشتغل والحرفة ونعم الانيس ساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة ونعم القرين والدخيل والزميل ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء مليء علماً وظرف حشي طرفا واناء شحن مزاجاً إن شئت كان أين ماقال وإن شئت كان ابلغ من سجبان وائل وإن شئت سرتك نوادره وشحك مواعظه ومن لك بواعظ مثله ويناسك فاتك وناطق اخرس ومن لك بطبيب اعرأبي ورومي هندي وفارسي يوناني ونديم مولد ونجيب ممتع ومن الك بشي يجمع لك الأول والاخر والناقص والوافر والشاهد والغائب والرفيع والوضيع والغث والسمين والشكل وخلافة والجنس وضده.
وبعد فما رأيت بستانا يحمل في ردن وروضة تنقل في حجر ينطق عن الموتى ويترجم عن الاحياء ومن لك بمؤنس لا ينام الا بنومك ولا ينطبق إلا بما تهوى آمن من الأرض واكتم السر من صاحب السر واحفظ للوديعة من أرباب الوديعة ولا اعلم جاراً آمن ولا خليطاً وانصف ولا رفيقا اطوع ولا معلماً أخضع ولا صاحبا اظهر كفاية وعناية ولا أقل املالا ولا ابراما ولا ابعد عن مراء ولا اترك لشغب ولا ازهد في مجال ولا اكف عن قتال من كتاب. ولا اعم بيانا والا أحسن مواتاة ولا اعجل مكافأة ولا شجر اطيب عمرا ولا اطيب ثمرا ولا اقرب مجتنى ولا اسرع إدراكا ولا اوجد في كل ابان من كتاب ولا اعلم انتاجاً في حداثة سنه وقرب ميلاده ورخص ثمنه وامكان وجوده يجمع من السير العجيبة والعلوم الغريبة وأثار العقول الصحيحة ومحمود الاذهأن اللطيفة ومن الحكم الرفيعة والمذاهب القديمة والتجارب الحكيمة والأخبار عن القرون الماضية والبلاد النازحة والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمعه كتاب.
ومن لك بزائر إن شئت كانت زيارته غباً وورده خمساً وإن شئت لزمك لزوم ظلك وكان منك كبعضك. والكتاب هوالجليس الذي لا يطريك والصديق الذي لا يقليك والرفيق الذي لا يملك والمستمع الذي لا يستبطئك والصاحب الذي لايريد استخراج ما عندك بالملق ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق. والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال اممتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وجود بيانك وفخم ألفاظك وبخخ نفسك وعمر صدرك ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك يطيعك بالليل طاعته بالنهار وفي السفر طاعته في الحضر وهوالمعلم إن افتقرت إليه لم يحقرك وإن قطعت عنه بالمادة لم يقطع عنك الفائدة وإن عزلت لم يدع طاعتك وإن هبت ريح اعدائك لم ينقلب عليك ومتى كنت متعلقاً منه بادنى حبل لم تضطرب معه وحشية الوحدة إلى جليس السوء.
قال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري فالكتاب احب الي من الحفظ لأن الاعرأبي ينسى الكلمة قد سهر في طلبتها ليلته فيضع في موضعها كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام ولا اعلم جارا برا ولا خليطا انصف ولا رفيقا اطوع ولا معلما أخضع ولا صاحبا اظهر كفاية ولا أقل جناية ولا أقل ملالا وابراما ولا احفل أخلاقا ولا أقل خلافا واجراما ولا أقل غيبة ولا ابعد من عضيهة ولا أكثر اعجوبة وتصرفا ولا أقل تصلفا وتكلفا ولا ابعد من مراء ولااترك لشغب ولاازهد في جدال ولااكف عن قتال من كتاب.
ولا اعلم قرينا أحسن موافاة ولا اعجل مكافاة ولااحضر معونة ولااخف مؤونة ولاشجرة أطول عمرا ولا اجمع أمرا ولا اطيب ثمرة ولا اقرب مجتنى ولااسرع إدراكا ولا اوجد في كل ابان من كتاب ولااعلم نتاجا في حداثة سنه وقرب ميلاده ورخص ثمنه وامكان وجوده يجمع بين التدأبير العجيبة والعلوم الغريبة ومن أثار العقول الصحيحة ومحمود الاذهأن اللطيفة ومن الحكم الرفيعة والمذاهب القديمة والتجارب الحكيمة ومن الأخبار عن القرون الماضية والبلاد المتنازحة والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمع لك الكتاب.
والكتاب هو الذي يؤدي إلى الناس كتب الدين وحساب الدواوين مع خفة نقله وصغر حجمه صامت ما اسكته وبليغ ما استنطقته ومن لك بمسأمر لا يبتديك في حال شغلك ويدعوك في أوقات نشاطك ولايحوجك إلى التجمل له والتذمم منه. قال ابو عبيدة: يابني لا تقوموا في الأسواق الا على زراد او وراق. وحدثني صديق لي قال: قرأت على شيخ شامي كتابا فيه من مأثر غطفإن فقال: ذهبت المكارم الا من الكتب. وسمعت أبا الحسن اللؤلولي يقول: غبرت أربعون يوماً ما قلت ولا بت الا والكتاب موضوع على صدري. وذكر العتبي كتاباً لبعض القدماء فقال: لولا طوله وكثرة ورقه لنسخه فقال ابن الجهم: لكني ما رغبني فيه الا الذي زهدك فيه وما قرأت قط كتابا كبيرا فاخلاني من فائدة وما احصي كم قرأت من صغار الكتب فخرجت منهاكما دخلت.
وقال العتبي ذات يوم لابن الجهم الا تتعجب من فلان نظر في كتاب أقليدس مع جارية سلموية في يوم واحد وساعة واحدة فقد فرغت الجارية من الكتاب وهو يعد لم يحكم مقالة واحدة على أنه حر مخير وتلك امة مقصورة وهو احرص على قراءة الكتاب من سلمويه على تعليم جارية قال ابن الجهم: قد كنت اظن أنه لم يفهم منه شكلا واحدا واراك تزعم أنه قد فرع من مقالة. قال العتبي: وكيف ظننت به هذا الظن وهو رجل ذو لسان وأدب قال: لاني سمعته يقول لابنه: كم انفقت على كتاب كذا قال: أنفقت عليه كذا انما رغبني في العلم اني ظننت اني أنفق عليه قليلا واكتسب كثيراً فاما إذا صرت أنفق الكثير وليس في يدي الا المواعيد فإني لا اريد العلم بشيء فالإنسأن لا يعلم حتى يكثر سماعه ولا بد أن تكون كتبه أكثر من سماعه ولا يعلم ولا يجمع العلم ولا يختلف حتى يكون الانفاق عليه من ماله الذ من الانفاق من مال عدوه ومن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب الذ عنده من عشق القيان وانفاق المستهزئين بالبيأن لم يبلغ في العلم مبلغا رضيا وليس ينتفع بانفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب ايثار الاعرأبي فرسه باللبن على عياله وحتى يؤمل في العلم ما يؤهل الاعرأبي في فرسه.
وقال إبرأهيمبن السندي مرة: وددت أن الزنادقة لم يكونوا حرصى على المقالات بالورق النقي الأبيض وعلى تحلل الحبر الاسود المشرق البراق وعلى استجادة الخط والارغاب لمن يخط فإني لم ار كورق كتبهم ورقا ولا كالخطوط التي فيها خطا وإذا غرمت مالا عظيما مع حبي للمال وبغض الغرم كان سخاء النفس بالانفاق على الكتب دليلا على تعظيم العلم وتعظيم العلم دليل على شرف النفس وعلى السلامة ومن سكر الافات.
وقال بعضهم: كنت عند بعض العلماء فكنت اكتب عنه بعضا وادع بعضأفقال لي: اكتب كل ما تسمع فإن مكان ما تسمع اسود خير من مكان أبيض. وقال الخليل بن احمد: تكثر من العلم لتعرف وتقلل منه لتحفظ. وقال ابواسحق القليل والكثير للكتب والقليل وحده للصدر وأنشد قول ابن بشير
اما لو اعي كل ما اسمع ... واحفظ من ذاك ما اجمع
ولم استفد خبر ما قد جمع ... ت لقيل هو العالم المصقع
ولكن نفسي إلى كل نو ... ع من العلم تسمعه تنزع
فلا أنا احفظ ما قد جمع ... ت ولا أنا من جمعه اشبع
واحصر بالغي في مجلسي ... وعلمي في الكتب مستودع
فمن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقري يرجع
إذا لم تكن حافظا واعيا ... فجمعك للكتب لاينفع
وقال ابن اسحق: كلف ابن بشير الكتب ما ليس عليها أن الكتب لا تحيي الموتى ولا تحول الاحمق عأقلا ولا البليد ذكيا ولكن الطبيعة إذا كان فيها ادنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفي ومن أراد أن يعلم كل شي ينبغي لأهله أن يداووه فأن ذلك انما تصور له بشي اعتراه فمن كان ذكيا حافظا فليقصد إلى شيئين وإلى ثلاثة أشياء ولا ينزع الدرس والمطارحة ولا يدع أن يمر على سمعه وعلى بصره وعلى ذهنه ما قدر عليه سائر الاصناف فيكون عالما بالخواص ويكون غير غفل عن سائر ما يجري فيه الناس ويخوضون فيه ومن كان الأوله ثلاث نسخ. وقال ابو عمرو بن العلاء: ما دخلت على رجل قط ولا مررت ببابه فرأيته ينظر في دفتر وجليسه فارغ اليد الا اعتقدت أنه أفضل من واعقل. وقال ابو عمرو بن العلاء: قيل لنا يوما أن في دار فلان ناسا قد اجتمعوا على سوءة وهم جلوس على خيرة لهم وعندهم طنبور فتسورنا عليهم في جماعة من رجال الحي فإذا فتى جالس في وسط الدار أصحابه حوله وإذا هم بيض اللحى وإذا هو يقرأ عليهم دفترا فيه شعر فقال الذي سعى بهم: السوءة في ذلك البيت واندخلتموه عثرتم عليها فقلت: والله لا اكشف فتى أصحابه شيوخ وفي يده دفتر علم ولو كان في ثوبه دم يحيى بن زكريا وأنشد رجل يونس النحوي
استودع العلم قرطاساً فضيعه ... فبئس مستودع العلم القراطيس
قال فقال يونس: قاتله الله ما أشد ضنانته بالعلم وأحسن صيانته له أن علمك من روحك ومالك من بدنك فضعه منك بمكان الروح وضع مالك بمكان البدن. وقيل لابن داحة واخرج كتاب أبي الشمقمق وإذا هو في جلود كوفية دفتين طائفتين بخط عجيب فقيل له: لقد اضيع من تجود بشعر أبي الشمقمق فقال: لاجرم والله أن العلم ليعطيكم على حساب ما تعطونه ولو استطعت أن اودعه سويداء قلبي او اجعله محفوظا على ناظري لفعلت ولقد دخلت على اسحاق بن سليمأن في أمرته فرأيت السماطين والرجال مثولا كان على رؤوسهم الطير ورأيت فرشته وبزته ثم دخلت عليه وهو معزول وإذا هو في بيت كتبه وحوإليه الاسقاط والرقوق والقماطر والدفاتر والمساطر والمحابر فما رأيته قط افخم ولاانبل ولا اهيب ولا اجزل منه في ذلك اليوم لأنهجمع مع المهابة المحبة ومع الفخامة الحلاوة ومع السؤدد الحكمة. وقال بعضهم: كتب الحكماء وما دونت العلماء من صنوف البلاغات والصناعات والاداب والارفاق من القرون الوسطى والأمم الخالية ومن له بقية ابقى ذكرا وأرفع قدرا وأكثر ردءا لأن الحكمة انفع لمن ورثها من جهة الانتفاع بها وأحسن في الأحدوثة لمن احب الذكر الجميل والكتب بذلك أولى من بنيان الحجارة وحيطان المدر لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على أثار من قبلهم وأن يميتوا ذكر أعدائهم فقد هدموا بذلك السبب المدن وأكثر الحصون كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية وعلى ذلك في أيام الإسلام كما هدم عثمان صومعة غمدان وكما هدم الآطام التي كانت بالمدينة وكما هدم زياد كل قصر ومصنع كان لابن عأمر وكما هدم أصحابنا بناء مدن الشامات لبني مروان.
إن من شكر النعمة في معرفة مغاوي الناس ومراشدهم ومضارهم ومنافعهم أن تحتمل ثقل مؤونتهم في تقويمهم وأن تتوخى إرشادهم وإن جهلوا فضل ما يسدى إليهم فلن يصأن العلم بمثل بذله ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نشره على أن قراءة الكتب ابلغ في إرشادهم من تلاقيهم اذكان مع التلاقي يشتد التصنع ويكثر التظالم وتفرط العصبية وتقوى الحمية والأنفة من الخضوع وعن جميع ذلك تحدث الضغائن ويظهر التباين وإذا كأنت القلوب على هذه الصفة وعلى هذه الهيئة امتنعت من التعرف وعميت عن مواضع الدلالة وليست في الكتب علة تمنع من درك البغية وأصابة الحجة لأن المتوحد يدرسها والمتفرد يفهم معانيها لا يباهي نفسه ولا يغالب عقله وقد عدم من له يباهي ومن اجله يغالب.
والكتاب قد يفضل صاحبه ويتقدم مؤلفه ويرجح قلمه على لسانه بأمورمنها أن الكتاب يقرأ بكل مكان ويظهر ما فيه على كل لسان ويوجد مع كل زمان على تفاوت ما بين الاعصار وتباعد ما بين الأمصار وذلك أمر مستحيل في واضع الكتاب والمتنازع في المسألة والجواب. ومنأقلة اللسان وهدايته لا تجوز أن مجلس صاحبه ومبلغ صوته وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه ويذهب العقل ويبقى أثره ولولا ما اودعت لنا الأوائل في كتبها وخلدت من عجيب حكمتها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم وأدركنا مالم نكن ندركه الا بهم لما حسن حظنا من الحكمة ولضعف سببنا إلى معرفة ولو لجأنا إلى قدر قوتنا ومبلغ خواطرنا ومنتهى تجاربنا لما تدركه حواسنا وتشاهده نفوسنا لقلت المعرفة وسقطت الهمة وارتفعت العزيمة وعاد الرأي عقيما والخاطر فاسدا ولكل الحد وتبلد. وأكثر من كتبهم نفعا وأشرف منها خطرا وأحسن موقعا كتب الله تعالى التي فيها الهدى والرحمة والأخبار عن كل حكمة وتعريف كل سيئة وحسنة ومازالت كتب الله تعالى في الالواح والصحف والمحار والمصاحف وقال الله عز وجل: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه) وقال: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ويقال لأهل التوارة والانجيل أهل الكتاب. وينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا على أنا قد وجدنا من العبرة أكثر مما وجدوا كما أن من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا فما ينتظر العالم بإظهار ما عنده وما يمنع الناصر للحق من القيام بما يلزمه وقد امكن القول وصلح الدهر وخوى نجم التقليد وهبت ريح العلماء وكسد العي والجهل وقامت سوق البيان والعلم وليس يجد الإنسأن في كل حين إنسانا ومقوما يثقفه والصبر على افهام الريض شديد وصرف النفس عن مغالبة العالم أشد منه. والمتعلم يجد في كل مكان الكتاب عتيدا وبما يحتاج إليه قائما وما أكثر من فرط في التعليم أيام خمول ذكره وأيام حداثة سنه.
ولولا جياد الكتب وحسنها ومبينها ومختصرها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم ونزعت إلى حب الأدب وانفت من حال الجهل وإن تكون في غمار الحشو ولدخل على هؤلاء من الخلل والمضرة من الجهل وسوء الحال ما عسى أن لا يمكن الأخبار عن مقداره الا بالكلام الكثير ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا. وقد نجد الرجل بطلب الأثار وتأويل القرآن ويجالس الفقهاء خمسين عاماً وهو لا يعد فقيها ولا يجعل قاضيا فما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حينفة وأشباه أبي حنيفة ويجفظ كتب الشروط في مقدار سنة او سنتين حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال وبالحري أن لا يمر عليه من الأيام الا اليسير حتى يصير حاكما على مصر من الأمصار او بلد من البلدان. قال ابن بشير في صفة الكتب في كلمة له.
اقبلت اهرب لا آلو مباعدة ... في الأرض منهم فلم يحصني الهرب
فقصروا اوس فما والت خنادقه ... ولا النواويس فالماخور فالحرب
فايما موئل منها اعتصمت به ... فمن ورائي حثيثاً منهم الطلب
لما رأيت باني لست معجزهم ... فوتا ولا هربا قربت احتجب
فسرت في البيت مسروراً به جذلا ... جاراً لبوأة لا شكوى ولا شغب
فرداً يحدثني الموتى وتنطق لي ... عن علم ما غاب عني منهم الكتب
هم مؤنسون وألاف غنيت بهم ... فليس لي في انيس غيرهم ارب
لله من جلساء لا جليسهمو ... ولا عشيرهمو للسوء مرتقب
لا بادرات الاذى يخشى رفيقهم ... ولا يلاقيه منهم منطق ذرب
ابقوا لنا حكماً تبقى منافعها ... أخرى الليالي على الأيام والشعب
فايما آداب منهم مددت يدي ... إليه فهو قريب من يدي كثيب
ان شئت من محكم الأثار يرفعها ... إلى النبي ثقات خيرة نجب
او شئت من عرب علما بأولهم ... في الجاهلية انبتني بها العرب
او شئت من سبر الأملاك من عجم ... تنبي وتخبر كيف الرآي والأدب
حتى كاني قد شاهدت عصرهمو ... وقد مضت دونهم من عمرهم حقب
يا قائلا قصرت في العلم نهيته ... امسى إلى الجهل فيما قال ينسب
أن الأوائل فد بانوا بمعليهم ... خلاف قولك ما بانوا ولا ذهبوا
ما مات مثل أمري ابقى لنا أدبا ... نكون منه إذا ما مات نكتسب
قال الجاحظ: ومما يدل على نفع الكتاب أنه لولا الكتاب لم يجز أن يعلم أهل الرقة والموصل وبغداد وواسط ما كان بالبصرة وما يحدث بالكوفة في بياض يوم حتى تكون الحادثة بالكوفة غدوة فتعلم بها أهل البصرة قبل المساء
مجلة المقتبس - العدد 23
بتاريخ: 15 - 12 - 1907
ولولا الجكم المحفوظة والكتب المدونة لبطل أكثر العلم ولغلب سلطأن النسيان سلطأن الذكر ولما كان للناس مفزع إلى موضع استذكار ولو لم يتم ذلك لحرمنا أكثر النفع ولولا ما رسمت لنا الأوائل في كتبها وخلدت من عجيب حكمتها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا وفتحنا بها كل مستغلق فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم وأدركنا مالم نكن ندركه الا بهم لقد بخس حظنا منه. وأهل العلم والنظر وأصحاب الفكر والعبر والعلماء بمخارج الملل وأرباب النحل وورثة الأنبياء واعوأن الخلفاء يكتبون كتب الظرفاء والصلحاء وكتب الملاهي وكتب اعوأن الصلحاء وكتب أصحاب المراء والخصومات وكتب السخفاء وحمية الجاهلية. ومنهم من يفرط في العلم أيام خموله وترك ذكره وحداثة سنه. ولولا جياد الكتب اوحسانها لما تتحركت ههمم هؤلاء الطلب العلم ونازعت إلى حب الكتب وانفت من حال الجهل وأن يكونوا في غمار الوحش ولدخل عليهم من الضرر والمشقة وسوء الحال ماعسى أن يكون لا يمكن الأخبار عن مقداره الا بالكلام الكثير.
وسمعت محمد بن الجهم يقول: إذا غشيني النعاس في غير وقت النوم تنأولت كتاباً فاجد اهتزازي للفوائدوالاريحية التي تعتريني من سرور الاستنباه وعز التبينت أشد ايقاظا من نهيق الحمار وهدة الهدم فإني إذا استحسنت كتاباً واستجدته ورجوت فائدته لم أوثر عليه عوضاً ولم ابغ به بدلاً فلا ازال انظر فيه ساعة كم بقي من ورقه مخافة استنفاذه وانقطاع المادة من قبله. وقال ابن داحة: كان عبد الله بن عبد العزيز بن عبد الله بن عمر بن الخطاب لا يجالس الناس فنزل مقبرة من المقابر وكان لا يزال في يده كتاب يقرؤه فسئل عن ذلك فقال لم ار قط اوعظ من قبر ولا أنس من كتاب ولا اسلم من الوحدة.
واهدى بعض الكتاب إلى صديق له دفتراً وكتب معه: هديتي أعزك الله تزكو على الانفاق وتربو على الكد لا تفسدها العواري ولا تخلقها كثرة التقليب وهي انس في الليل والنهار والسفر والحضر تصلح للدنيا والاخرة تؤنس في الخلوة وتمنع من الوحدة مسأمر مساعد ومحدث مطاوع ونديم صدق. وقال بعض الحكماء: الكتب بساتين العلماء. وقال آخر: الكتاب جليس لا مؤونه له. وقال آخر: ذهبت المكارم الأمن الكتب.
قال الجاحظ وانا احفظ وأقول: الكتاب نعم الذخر والعقدة والجليس والعمدة ونعم النشرة ونعم النزهة ونعم المشتغل والحرفة ونعم الانيس ساعة الوحدة ونعم المعرفة ببلاد الغربة ونعم القرين والدخيل والزميل ونعم الوزير والنزيل. والكتاب وعاء مليء علماً وظرف حشي طرفا واناء شحن مزاجاً إن شئت كان أين ماقال وإن شئت كان ابلغ من سجبان وائل وإن شئت سرتك نوادره وشحك مواعظه ومن لك بواعظ مثله ويناسك فاتك وناطق اخرس ومن لك بطبيب اعرأبي ورومي هندي وفارسي يوناني ونديم مولد ونجيب ممتع ومن الك بشي يجمع لك الأول والاخر والناقص والوافر والشاهد والغائب والرفيع والوضيع والغث والسمين والشكل وخلافة والجنس وضده.
وبعد فما رأيت بستانا يحمل في ردن وروضة تنقل في حجر ينطق عن الموتى ويترجم عن الاحياء ومن لك بمؤنس لا ينام الا بنومك ولا ينطبق إلا بما تهوى آمن من الأرض واكتم السر من صاحب السر واحفظ للوديعة من أرباب الوديعة ولا اعلم جاراً آمن ولا خليطاً وانصف ولا رفيقا اطوع ولا معلماً أخضع ولا صاحبا اظهر كفاية وعناية ولا أقل املالا ولا ابراما ولا ابعد عن مراء ولا اترك لشغب ولا ازهد في مجال ولا اكف عن قتال من كتاب. ولا اعم بيانا والا أحسن مواتاة ولا اعجل مكافأة ولا شجر اطيب عمرا ولا اطيب ثمرا ولا اقرب مجتنى ولا اسرع إدراكا ولا اوجد في كل ابان من كتاب ولا اعلم انتاجاً في حداثة سنه وقرب ميلاده ورخص ثمنه وامكان وجوده يجمع من السير العجيبة والعلوم الغريبة وأثار العقول الصحيحة ومحمود الاذهأن اللطيفة ومن الحكم الرفيعة والمذاهب القديمة والتجارب الحكيمة والأخبار عن القرون الماضية والبلاد النازحة والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمعه كتاب.
ومن لك بزائر إن شئت كانت زيارته غباً وورده خمساً وإن شئت لزمك لزوم ظلك وكان منك كبعضك. والكتاب هوالجليس الذي لا يطريك والصديق الذي لا يقليك والرفيق الذي لا يملك والمستمع الذي لا يستبطئك والصاحب الذي لايريد استخراج ما عندك بالملق ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق. والكتاب هو الذي إن نظرت فيه أطال اممتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك وجود بيانك وفخم ألفاظك وبخخ نفسك وعمر صدرك ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك يطيعك بالليل طاعته بالنهار وفي السفر طاعته في الحضر وهوالمعلم إن افتقرت إليه لم يحقرك وإن قطعت عنه بالمادة لم يقطع عنك الفائدة وإن عزلت لم يدع طاعتك وإن هبت ريح اعدائك لم ينقلب عليك ومتى كنت متعلقاً منه بادنى حبل لم تضطرب معه وحشية الوحدة إلى جليس السوء.
قال ذو الرمة لعيسى بن عمر: اكتب شعري فالكتاب احب الي من الحفظ لأن الاعرأبي ينسى الكلمة قد سهر في طلبتها ليلته فيضع في موضعها كلمة في وزنها ثم ينشدها الناس والكتاب لا ينسى ولا يبدل كلاماً بكلام ولا اعلم جارا برا ولا خليطا انصف ولا رفيقا اطوع ولا معلما أخضع ولا صاحبا اظهر كفاية ولا أقل جناية ولا أقل ملالا وابراما ولا احفل أخلاقا ولا أقل خلافا واجراما ولا أقل غيبة ولا ابعد من عضيهة ولا أكثر اعجوبة وتصرفا ولا أقل تصلفا وتكلفا ولا ابعد من مراء ولااترك لشغب ولاازهد في جدال ولااكف عن قتال من كتاب.
ولا اعلم قرينا أحسن موافاة ولا اعجل مكافاة ولااحضر معونة ولااخف مؤونة ولاشجرة أطول عمرا ولا اجمع أمرا ولا اطيب ثمرة ولا اقرب مجتنى ولااسرع إدراكا ولا اوجد في كل ابان من كتاب ولااعلم نتاجا في حداثة سنه وقرب ميلاده ورخص ثمنه وامكان وجوده يجمع بين التدأبير العجيبة والعلوم الغريبة ومن أثار العقول الصحيحة ومحمود الاذهأن اللطيفة ومن الحكم الرفيعة والمذاهب القديمة والتجارب الحكيمة ومن الأخبار عن القرون الماضية والبلاد المتنازحة والأمثال السائرة والأمم البائدة ما يجمع لك الكتاب.
والكتاب هو الذي يؤدي إلى الناس كتب الدين وحساب الدواوين مع خفة نقله وصغر حجمه صامت ما اسكته وبليغ ما استنطقته ومن لك بمسأمر لا يبتديك في حال شغلك ويدعوك في أوقات نشاطك ولايحوجك إلى التجمل له والتذمم منه. قال ابو عبيدة: يابني لا تقوموا في الأسواق الا على زراد او وراق. وحدثني صديق لي قال: قرأت على شيخ شامي كتابا فيه من مأثر غطفإن فقال: ذهبت المكارم الا من الكتب. وسمعت أبا الحسن اللؤلولي يقول: غبرت أربعون يوماً ما قلت ولا بت الا والكتاب موضوع على صدري. وذكر العتبي كتاباً لبعض القدماء فقال: لولا طوله وكثرة ورقه لنسخه فقال ابن الجهم: لكني ما رغبني فيه الا الذي زهدك فيه وما قرأت قط كتابا كبيرا فاخلاني من فائدة وما احصي كم قرأت من صغار الكتب فخرجت منهاكما دخلت.
وقال العتبي ذات يوم لابن الجهم الا تتعجب من فلان نظر في كتاب أقليدس مع جارية سلموية في يوم واحد وساعة واحدة فقد فرغت الجارية من الكتاب وهو يعد لم يحكم مقالة واحدة على أنه حر مخير وتلك امة مقصورة وهو احرص على قراءة الكتاب من سلمويه على تعليم جارية قال ابن الجهم: قد كنت اظن أنه لم يفهم منه شكلا واحدا واراك تزعم أنه قد فرع من مقالة. قال العتبي: وكيف ظننت به هذا الظن وهو رجل ذو لسان وأدب قال: لاني سمعته يقول لابنه: كم انفقت على كتاب كذا قال: أنفقت عليه كذا انما رغبني في العلم اني ظننت اني أنفق عليه قليلا واكتسب كثيراً فاما إذا صرت أنفق الكثير وليس في يدي الا المواعيد فإني لا اريد العلم بشيء فالإنسأن لا يعلم حتى يكثر سماعه ولا بد أن تكون كتبه أكثر من سماعه ولا يعلم ولا يجمع العلم ولا يختلف حتى يكون الانفاق عليه من ماله الذ من الانفاق من مال عدوه ومن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب الذ عنده من عشق القيان وانفاق المستهزئين بالبيأن لم يبلغ في العلم مبلغا رضيا وليس ينتفع بانفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب ايثار الاعرأبي فرسه باللبن على عياله وحتى يؤمل في العلم ما يؤهل الاعرأبي في فرسه.
وقال إبرأهيمبن السندي مرة: وددت أن الزنادقة لم يكونوا حرصى على المقالات بالورق النقي الأبيض وعلى تحلل الحبر الاسود المشرق البراق وعلى استجادة الخط والارغاب لمن يخط فإني لم ار كورق كتبهم ورقا ولا كالخطوط التي فيها خطا وإذا غرمت مالا عظيما مع حبي للمال وبغض الغرم كان سخاء النفس بالانفاق على الكتب دليلا على تعظيم العلم وتعظيم العلم دليل على شرف النفس وعلى السلامة ومن سكر الافات.
وقال بعضهم: كنت عند بعض العلماء فكنت اكتب عنه بعضا وادع بعضأفقال لي: اكتب كل ما تسمع فإن مكان ما تسمع اسود خير من مكان أبيض. وقال الخليل بن احمد: تكثر من العلم لتعرف وتقلل منه لتحفظ. وقال ابواسحق القليل والكثير للكتب والقليل وحده للصدر وأنشد قول ابن بشير
اما لو اعي كل ما اسمع ... واحفظ من ذاك ما اجمع
ولم استفد خبر ما قد جمع ... ت لقيل هو العالم المصقع
ولكن نفسي إلى كل نو ... ع من العلم تسمعه تنزع
فلا أنا احفظ ما قد جمع ... ت ولا أنا من جمعه اشبع
واحصر بالغي في مجلسي ... وعلمي في الكتب مستودع
فمن يك في علمه هكذا ... يكن دهره القهقري يرجع
إذا لم تكن حافظا واعيا ... فجمعك للكتب لاينفع
وقال ابن اسحق: كلف ابن بشير الكتب ما ليس عليها أن الكتب لا تحيي الموتى ولا تحول الاحمق عأقلا ولا البليد ذكيا ولكن الطبيعة إذا كان فيها ادنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفي ومن أراد أن يعلم كل شي ينبغي لأهله أن يداووه فأن ذلك انما تصور له بشي اعتراه فمن كان ذكيا حافظا فليقصد إلى شيئين وإلى ثلاثة أشياء ولا ينزع الدرس والمطارحة ولا يدع أن يمر على سمعه وعلى بصره وعلى ذهنه ما قدر عليه سائر الاصناف فيكون عالما بالخواص ويكون غير غفل عن سائر ما يجري فيه الناس ويخوضون فيه ومن كان الأوله ثلاث نسخ. وقال ابو عمرو بن العلاء: ما دخلت على رجل قط ولا مررت ببابه فرأيته ينظر في دفتر وجليسه فارغ اليد الا اعتقدت أنه أفضل من واعقل. وقال ابو عمرو بن العلاء: قيل لنا يوما أن في دار فلان ناسا قد اجتمعوا على سوءة وهم جلوس على خيرة لهم وعندهم طنبور فتسورنا عليهم في جماعة من رجال الحي فإذا فتى جالس في وسط الدار أصحابه حوله وإذا هم بيض اللحى وإذا هو يقرأ عليهم دفترا فيه شعر فقال الذي سعى بهم: السوءة في ذلك البيت واندخلتموه عثرتم عليها فقلت: والله لا اكشف فتى أصحابه شيوخ وفي يده دفتر علم ولو كان في ثوبه دم يحيى بن زكريا وأنشد رجل يونس النحوي
استودع العلم قرطاساً فضيعه ... فبئس مستودع العلم القراطيس
قال فقال يونس: قاتله الله ما أشد ضنانته بالعلم وأحسن صيانته له أن علمك من روحك ومالك من بدنك فضعه منك بمكان الروح وضع مالك بمكان البدن. وقيل لابن داحة واخرج كتاب أبي الشمقمق وإذا هو في جلود كوفية دفتين طائفتين بخط عجيب فقيل له: لقد اضيع من تجود بشعر أبي الشمقمق فقال: لاجرم والله أن العلم ليعطيكم على حساب ما تعطونه ولو استطعت أن اودعه سويداء قلبي او اجعله محفوظا على ناظري لفعلت ولقد دخلت على اسحاق بن سليمأن في أمرته فرأيت السماطين والرجال مثولا كان على رؤوسهم الطير ورأيت فرشته وبزته ثم دخلت عليه وهو معزول وإذا هو في بيت كتبه وحوإليه الاسقاط والرقوق والقماطر والدفاتر والمساطر والمحابر فما رأيته قط افخم ولاانبل ولا اهيب ولا اجزل منه في ذلك اليوم لأنهجمع مع المهابة المحبة ومع الفخامة الحلاوة ومع السؤدد الحكمة. وقال بعضهم: كتب الحكماء وما دونت العلماء من صنوف البلاغات والصناعات والاداب والارفاق من القرون الوسطى والأمم الخالية ومن له بقية ابقى ذكرا وأرفع قدرا وأكثر ردءا لأن الحكمة انفع لمن ورثها من جهة الانتفاع بها وأحسن في الأحدوثة لمن احب الذكر الجميل والكتب بذلك أولى من بنيان الحجارة وحيطان المدر لأن من شأن الملوك أن يطمسوا على أثار من قبلهم وأن يميتوا ذكر أعدائهم فقد هدموا بذلك السبب المدن وأكثر الحصون كذلك كانوا أيام العجم وأيام الجاهلية وعلى ذلك في أيام الإسلام كما هدم عثمان صومعة غمدان وكما هدم الآطام التي كانت بالمدينة وكما هدم زياد كل قصر ومصنع كان لابن عأمر وكما هدم أصحابنا بناء مدن الشامات لبني مروان.
إن من شكر النعمة في معرفة مغاوي الناس ومراشدهم ومضارهم ومنافعهم أن تحتمل ثقل مؤونتهم في تقويمهم وأن تتوخى إرشادهم وإن جهلوا فضل ما يسدى إليهم فلن يصأن العلم بمثل بذله ولن تستبقى النعمة فيه بمثل نشره على أن قراءة الكتب ابلغ في إرشادهم من تلاقيهم اذكان مع التلاقي يشتد التصنع ويكثر التظالم وتفرط العصبية وتقوى الحمية والأنفة من الخضوع وعن جميع ذلك تحدث الضغائن ويظهر التباين وإذا كأنت القلوب على هذه الصفة وعلى هذه الهيئة امتنعت من التعرف وعميت عن مواضع الدلالة وليست في الكتب علة تمنع من درك البغية وأصابة الحجة لأن المتوحد يدرسها والمتفرد يفهم معانيها لا يباهي نفسه ولا يغالب عقله وقد عدم من له يباهي ومن اجله يغالب.
والكتاب قد يفضل صاحبه ويتقدم مؤلفه ويرجح قلمه على لسانه بأمورمنها أن الكتاب يقرأ بكل مكان ويظهر ما فيه على كل لسان ويوجد مع كل زمان على تفاوت ما بين الاعصار وتباعد ما بين الأمصار وذلك أمر مستحيل في واضع الكتاب والمتنازع في المسألة والجواب. ومنأقلة اللسان وهدايته لا تجوز أن مجلس صاحبه ومبلغ صوته وقد يذهب الحكيم وتبقى كتبه ويذهب العقل ويبقى أثره ولولا ما اودعت لنا الأوائل في كتبها وخلدت من عجيب حكمتها ودونت من أنواع سيرها حتى شاهدنا بها ما غاب عنا وفتحنا بها كل مستغلق كان علينا فجمعنا إلى قليلنا كثيرهم وأدركنا مالم نكن ندركه الا بهم لما حسن حظنا من الحكمة ولضعف سببنا إلى معرفة ولو لجأنا إلى قدر قوتنا ومبلغ خواطرنا ومنتهى تجاربنا لما تدركه حواسنا وتشاهده نفوسنا لقلت المعرفة وسقطت الهمة وارتفعت العزيمة وعاد الرأي عقيما والخاطر فاسدا ولكل الحد وتبلد. وأكثر من كتبهم نفعا وأشرف منها خطرا وأحسن موقعا كتب الله تعالى التي فيها الهدى والرحمة والأخبار عن كل حكمة وتعريف كل سيئة وحسنة ومازالت كتب الله تعالى في الالواح والصحف والمحار والمصاحف وقال الله عز وجل: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه) وقال: (ما فرطنا في الكتاب من شيء) ويقال لأهل التوارة والانجيل أهل الكتاب. وينبغي أن يكون سبيلنا لمن بعدنا كسبيل من كان قبلنا فينا على أنا قد وجدنا من العبرة أكثر مما وجدوا كما أن من بعدنا يجد من العبرة أكثر مما وجدنا فما ينتظر العالم بإظهار ما عنده وما يمنع الناصر للحق من القيام بما يلزمه وقد امكن القول وصلح الدهر وخوى نجم التقليد وهبت ريح العلماء وكسد العي والجهل وقامت سوق البيان والعلم وليس يجد الإنسأن في كل حين إنسانا ومقوما يثقفه والصبر على افهام الريض شديد وصرف النفس عن مغالبة العالم أشد منه. والمتعلم يجد في كل مكان الكتاب عتيدا وبما يحتاج إليه قائما وما أكثر من فرط في التعليم أيام خمول ذكره وأيام حداثة سنه.
ولولا جياد الكتب وحسنها ومبينها ومختصرها لما تحركت همم هؤلاء لطلب العلم ونزعت إلى حب الأدب وانفت من حال الجهل وإن تكون في غمار الحشو ولدخل على هؤلاء من الخلل والمضرة من الجهل وسوء الحال ما عسى أن لا يمكن الأخبار عن مقداره الا بالكلام الكثير ولذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه: تفقهوا قبل أن تسودوا. وقد نجد الرجل بطلب الأثار وتأويل القرآن ويجالس الفقهاء خمسين عاماً وهو لا يعد فقيها ولا يجعل قاضيا فما هو إلا أن ينظر في كتب أبي حينفة وأشباه أبي حنيفة ويجفظ كتب الشروط في مقدار سنة او سنتين حتى تمر ببابه فتظن أنه من بعض العمال وبالحري أن لا يمر عليه من الأيام الا اليسير حتى يصير حاكما على مصر من الأمصار او بلد من البلدان. قال ابن بشير في صفة الكتب في كلمة له.
اقبلت اهرب لا آلو مباعدة ... في الأرض منهم فلم يحصني الهرب
فقصروا اوس فما والت خنادقه ... ولا النواويس فالماخور فالحرب
فايما موئل منها اعتصمت به ... فمن ورائي حثيثاً منهم الطلب
لما رأيت باني لست معجزهم ... فوتا ولا هربا قربت احتجب
فسرت في البيت مسروراً به جذلا ... جاراً لبوأة لا شكوى ولا شغب
فرداً يحدثني الموتى وتنطق لي ... عن علم ما غاب عني منهم الكتب
هم مؤنسون وألاف غنيت بهم ... فليس لي في انيس غيرهم ارب
لله من جلساء لا جليسهمو ... ولا عشيرهمو للسوء مرتقب
لا بادرات الاذى يخشى رفيقهم ... ولا يلاقيه منهم منطق ذرب
ابقوا لنا حكماً تبقى منافعها ... أخرى الليالي على الأيام والشعب
فايما آداب منهم مددت يدي ... إليه فهو قريب من يدي كثيب
ان شئت من محكم الأثار يرفعها ... إلى النبي ثقات خيرة نجب
او شئت من عرب علما بأولهم ... في الجاهلية انبتني بها العرب
او شئت من سبر الأملاك من عجم ... تنبي وتخبر كيف الرآي والأدب
حتى كاني قد شاهدت عصرهمو ... وقد مضت دونهم من عمرهم حقب
يا قائلا قصرت في العلم نهيته ... امسى إلى الجهل فيما قال ينسب
أن الأوائل فد بانوا بمعليهم ... خلاف قولك ما بانوا ولا ذهبوا
ما مات مثل أمري ابقى لنا أدبا ... نكون منه إذا ما مات نكتسب
قال الجاحظ: ومما يدل على نفع الكتاب أنه لولا الكتاب لم يجز أن يعلم أهل الرقة والموصل وبغداد وواسط ما كان بالبصرة وما يحدث بالكوفة في بياض يوم حتى تكون الحادثة بالكوفة غدوة فتعلم بها أهل البصرة قبل المساء
مجلة المقتبس - العدد 23
بتاريخ: 15 - 12 - 1907