علمت وأنا في مدينة الإسماعيلية بأن جماعة من رواد الجبال سبق لهم القيام برحلة إلى عين كبريتية في جبل من الجبال التي في جنوب مدينة السويس، وأنهم يعاودون التفكير في تكرار هذه الرحلة ويتهيئون لها، فهفت نفسي إلى الاشتراك معهم لهوى قديم بيني وبين تلك الجهات كان يدفعني منذ سنين إلى أن أقضي سحابة يوم الجمعة من كل أسبوع متقلباً بين ربوع جبال القاهرة وضواحيها.
وكانت تلك الجماعة تتألف من:
1 - أحد أعضاء مجلس النواب وشيخين من أقاربه.
2 - ومن تاجر من كبار تجار الإسماعيلية
3 - ومن تاجر آخر من عيون تجار القاهرة
4 - ثم من رجل أجنبي من رجال الأعمال إيطالي الجنسية له مزارع واسعة في حدود مدينة الإسماعيلية.
فأما عضو النواب وقريباه فكانوا يشكون الروماتزم، وكان هذا هو الذي يحفزهم إلى ارتياد تلك العين، فأن لها على ما يقول الناس خواص سحرية في شفاء الأمراض.
وأما تاجر القاهرة فقد سمع بحديث تلك العين من النائب فأغراه ذلك على أن يجرب سحرها في أوصاله.
وأما تاجر الإسماعيلية فكان على ما فهمت رجلاً لا يحتاج إلى الاستشفاء لا بالحار ولا بالبارد، وكل همه في الحياة أن يجلس في آخر النهار في بعض المقاهي ونرجيلته بين ركبتيه يمصها فتقهقه له حتى تنقطع أنفاسها فيخليها لصاحبها ويعود إلى داره راضياً مرضياً، وكانت الأسباب كلها منقطعة بينه وبين تلك الرحلة لولا أن له سيارة جميلة أحب صاحبنا النائب أن يضمها إلى القافلة فدعاه للاشتراك فلبى الدعوة.
وأما التاجر الإيطالي فكان هو عماد الرحلة وبطلها لأنه كان قائدها الذي يدلها على الطريق في وسط الأودية المهجورة والجبال المتشابهة، يعاونه على ذلك دليل بدوي ممن يعملون في مزارعه، ولم يكن له من حافز ظاهر إلى الاشتراك في الرحلة غير ميله إلى الرياضة، أ أن أمثال هذه الرحلة قد تساعده على تنمية معلوماته عن الصحاري المصرية وطرقاتها فهذا حديث آخر لا محل للخوض فيه الآن، وللقارئ أن يستنتج لنفسه ما يشاء. . .
هؤلاء هم أشخاص الجماعة
أما النبع نفسه فقد سمعت أنه نبع حار يخرج من الصخر، ويصب في مياه البحر الأحمر. وأنه نبع (مكبرت) كالنبع الذي في حلوان والفرق بين الاثنين أن هذا بارد. أما (حمام فرعون) فهو يخرج من بطن الجبل شديد الحرارة حتى لتلقى السمكة في مائه الدافق فتنضج في دقائق معدودات. وعلمت أيضاً أن كهفاً يقوم إلى جانب النبع. إذا دخله الإنسان فإنه لا يطيق البقاء فيه أكثر من ربع ساعة لفرط حرارته وشدة ما يعاني الإنسان وهو بداخله من الوهج الذي يتفصد له الجسم عرقاً. وقيل لي إن من دخل هذا الكهف وهو يشكو (الرطوبة) فإنه لا يلبث أن يخرج منه كما ولدته أُمه صحة وعافية. أما العين فإنها وإن خرجت من ينبوعها حارة شديدة الحرارة ألا أنها تجري على شاطئ البحر مسافة طويلة قبل أن تصب فيه. وأنها في مجراها هذا تتفاوت حرارتها. فهي تبدأ حارة لا تطاق ثم تتناقص حرارتها كلما ابتعدت عن أصل النبع، حتى إذا جاءت ماء البحر وصلت وهي فاترة يطيقها كل إنسان. وقال لي من كان يحدثني عنها: وإذا كانت مياه حلوان قد بلغت ما بلغت من الشهرة العالمية وهي باردة يرفعون حرارتها بأنابيب البخار، فلك أن تصور لنفسك مبلغ ما تمتاز به هذه العين وهي تخرج من بطن الأرض حارة حرارة طبيعية لم تتدخل فيها يد الإنسان. وناهيك بحمام من مائها تعقبه خلوة قصيرة في ذلك الكهف الذي يليها. . . إن الإنسان ليدخلها ثم يخرج من الكهف بعدها كما يدخل المنديل القذر في يد (الغسالة) ثم يخرج جافاً ناصعاً من عند (الكواء)!
وكان لي صاحب من ضباط البوليس أرتاح إلى صحبته فعرضت عليه رغبتي في الاشتراك في تلك الرحلة فتولى عني مفاوضة الجماعة في أمر انضمامنا إليهم. وعاد يبشرني بأنهم يرحبون بنا على شرط أن نكون ضيوفهم في الحل والترحال؛ وتذللت بذلك آخر عقبة كنت أتوهم أنها تعترضني في سبيل تحقيق رغبتي لأني لم تكن لي سيارة خاصة. وليست أمثال هذه الرحلة مما يهون فيه الحصول على سيارة بالأجرة. وتحدد موعد القيام بعد يومين من إبرام هذا الاتفاق على أن نجعل قيامنا بعد الفجر بقليل في اليوم المحدد. ولم يبق أمامي إلا أن أتولى إعداد توافه الأمور التي تركها لي مضيفي كالمناشف التي تلزم لتجفيف عرقي وأنا في داخل الكهف. والغطاء الذي أتدثر به عند مبيتي معهم على شاطئ البحر في العراء. على أني أبيت إلا أن أستصحب معي سراً بعض المرفهات التي أعلم أنها لم تكن لتخطر لزملائي على بال. فدسستها في حقيبتي بغية أن أفاجئهم بها هناك وسط الصخور والجبال. وكانت عندي (ترامس) ثلاثة يسع كل واحد منها لتراً من الماء. فملأتها جميعاً بالماء المثلوج - ونسيت أن أقول إن الوقت كان في بداية الصيف - وعطرتها بماء الزهر وأخفيتها في الحقيبة كما أخفيت معها آلة تصوير لألتقط بها بعض المناظر التي تخلد هذه الرحلة. وقد دلت كل الدلائل على أنها ستكون رحلة عامرة بالذكريات التي تستحق التخليد. ولست أحتاج أن أقول إن زملاءنا كانوا قد صارحونا بأنهم سيحملون عنا مئونة تزويدنا بالماء والطعام. فلما سألتهم عما إذا كانوا سيحملون هذا الزاد من الإسماعيلية أم من السويس قيل لي إن العرب الذين سنصادفهم في الوديان خلال الجبال كلهم رعاة أغنام. ونستطيع أن نحصل منهم على ما نشاء من ضأن وماعز. كما أن البحر هناك مرعى بكر يزخر بألوان السمك. والوديان لا ينقطع منها الماء الجاري. ورجال البدو لا يلبثوا أن يحتاطوا بنا ويتنافسون في خدمتنا. فكنت أستمع لهذا الحديث وأرسل أحلامي على سجيتها لتتم بألوانها الساحرة بقية تلك الصورة الخلابة التي لبثت يومين كاملين وأنا أسعد بالتقلب بين أعطاف خيالاتها!
وأخيراً حل اليوم الموعود، وكنت على أتم أهبة للرحيل قبل بزوغ الشمس، وأقبلت السيارات تناديني بأبواقها، فنزلت فإذا سرب طويل منها يضم الصحاب جميعاً، فاستقللناها قاصدين إلى السويس؛ والطريق ما بين الإسماعيلية والسويس طريق جميل ممهد أعدته في السنوات الأخيرة شركة قنال السويس ليكون متمماً للطريق القديم الذي يوصل ما بين الإسماعيلية وبور سعيد؛ وهذا الطريق يسير إلى جانب القناة ويتمتع السائر فيه بمناظر بحيرة التمساح والبحيرات المرة الكبرى والصغرى التي تمتد على يساره، بينما تقوم الحقول الخضراء على يمينه وهي حافلة بالأكواخ الصغيرة الساذجة، وبألوان شتى من المواشي والأغنام، وكلها دائبة في رعي تلك المروج الناضرة البهيجة. ووصل الركب محطة (الكوبري) حوالي الساعة السابعة صباحاً. وهذه المحطة تقع في شمال السويس، وعلى بعد ثمانية كيلومترات منها. وعندها تقع (المعدية) التي ينتقل عليها المسافر من شاطئ القنال الغربي، إلى شاطئه الشرقي - أو من شاطئه الإفريقي إلى قرى شاطئه الآسيوي كما يقولون - فاضطررنا إلى الوقوف هنا ريثما يقوم عامل (الجمرك) بتفتيش أمتعتنا. وقد عجبت لهذا العمل ونحن إنما ننتقل من أرض مصرية إلى أرض مصرية. فلما استفسرت عن السبب علمت أن المنطقة التي نريد أن ندخلها خاضعة لمصلحة الحدود. والنظام الإداري في تلك المصلحة يكاد يكون مستقلاً عن إدارة الحكومة المصرية. وأنه محظور على من يريد دخول الصحراء في تلك الجهة أن يكون معه سلاح ناري تنفيذاً لأمر المصلحة الذي يقضي بعدم صيد الغزال مثلاً في تلك المنطقة. كما أنه من المحظور أيضاً أن يحمل المسافر معه آلة تصوير حتى لا يسجل بها مناظر ترى المصلحة أنه من الواجب المحافظه على سريتها. وكانت النتيجة الأولى لوقفتنا هذه في محطة الكوبري، أني خسرت آلة تصويري، لأني اضطررت إلى تسليمها من تلقاء نفسي، وبذلك ضاعت علي فرصة إحدى المفاجآت التي كنت دبرتها للإخوان. على أن هذه لم تكن خسارتي الوحيدة. فقد بدأ لبعضنا أن يتناول وجبة خفيفة في ذلك المكان تكون بمثابة الفطور لمن فاته الإفطار في منزله. وكنت أنا من هؤلاء. فأردت بعد لقيمات ازدردتها أن آخذ جرعة من الماء فهممت بتناول واحد من (ترامسي) ولكن سبقتني إليه يد أحد الزملاء الكرام يريد أن يبالغ في الحفاوة بي فلا يدعني أقوم بهذه الخدمة الهينة لنفسي فما راعني إلا أن أراه يملأ كوب الترموس من ماءه المعطر المثلوج ثم يهزه في يده هزات يريقه من بعدها على الأرض كما لو كنا نستقي من (زير) بجوار سوق في إحدى قرى الريف، فهو يريد أن يكفل نظافة (الكوز) مما يكون قد علقه به من الغبار! وأردت أن أعوض ما شربته الأرض من مائي العزيز فاقتصدت في الجرعة التي شربتها واكتفيت منها بمصتين لأني كنت أقدر ما نحن مقبلون عليه من الجفاف والجدب. ولكن حلا لبقية الصحب أن يستقوا فأدار الساقي عليهم من أكوابي، ودخلت الصحراء بنصف ما كنت تزودت لها به من الماء. وكانت هذه خسارتي الثانية في مستهل الطريق.
وحملتنا (المعدية) بسياراتنا فنقلتنا إلى الشاطئ الشرقي. وبدأنا عقب ذلك رحلتنا الشاقة في وسط الصحراء حيث لا شيء إلا الحصى والرمال في طريق متشابهة لا أثر فيها لأي نوع من أنواع الحياة. ولبثنا نضرب في تلك البيداء حتى أدركنا الظهر - ولكنا على كل حال كنا نسمر بمختلف الأحاديث - وكان الذين سبقونا إلى ارتياد هذا الطريق لا يضنون علينا بشرح ما يعرفونه من معالم، وأحياناً أيضاً بشرح ما لا يعرفون استجابة منهم لنداء تلك الغريزة العجيبة التي ركبت في كل نفس والتي تجعل صاحبها يلتذ أن يتظاهر بالعلم أمام من لا يعلم!
وكانت سيارة الإيطالي في مقدمة الركب. وقد قبع الدليل البدوي على مقدمها ليلجأ إليه صاحبه كلما أعوزته المشورة في أمر الطريق. وفي النهاية لاحت لنا أشجار (الطرفاء) التي تزين (وادي الغَرَنْدَل) وهو واد واسع يكثر فيه النخيل ولا ينقطع منه الماء طول العام. وبدأنا نرى الناس من جديد بعد أن كنا نظن أننا انقطعنا عن العالم - ولكن يا لهم من ناس!. . . لقد كانوا أشباحاً في أثمال. . . أجسام رقيقة مديدة ضمرها الجوع. وعيون فاترة غائرة أطفأها الفقر والجدب. كانوا يحيطون بنا ويعدون إلى جانبنا ويلاحقوننا كما كانت تفعل جنادب الوادي الذي يعيشون فيه. أما سياراتنا فكانت عند اجتيازها لهذا الوادي تجري فوق مياهه. إذ لم يكن أمامنا طريق أخرى غير بطنه، فكانت أشبه بالزوارق البخارية منها بالسيارات. ولقد عانينا كثيراً ونحن نجتاز هذه المرحلة من طريقنا لأن الماء كان يتسرب إلى داخل آلات السيارة كلما أدركنا مخاضة بعيدة الغور نوعاً ما. وكان الويل للسيارة التي يصيبها ذلك، لأن الركب ما كان ليقف لأمثال تلك الأحداث، فكانت السيارة المتخلفة تقاسي كثيراً قبل أن تلحق بالقافلة وتمسك معها بطرف الطريق. وتكررت حوادث فقد الطريق ونحن بالوادي، ذلك لأن الطرق فيه متشعبة فكان المتخلف عرضة لأن يتبع آثار عجلات غير عجلات سياراتنا كلما غابت عن نظره بقية القافلة. وكم وقفنا وأطلقنا أبواقنا ليهتدي على صوتها من نفتقده من الزملاء. وكم كررنا نحن راجعين في مسلك وعر كنا قد تشهدنا عندما اجتزناه، فلما فرغنا منه وجدنا أننا قد ضللنا الطريق.
وأخيراً خرجنا من هذا الوادي وعدنا إلى الصحراء من جديد ولكنها كانت في هذه المرة صحراء نافرة صخرية يكتنفها جبل عظيم أبيض اللون ناصعه تجوس في سفحه عربات صغيرة وتدب معها نمال بشرية تتراءى من بعيد كأنها بعض هوام الجبل أو زواحفه. وسألت فعلمت أن شركة إيطالية قد حصلت من الحكومة على امتياز لاستغلال هذا الجبل وأنها تحصل منه على نوع من الرخام النادر تصدر معظمه إلى باريس بالذات دون بلاد العالم لكثرة الحاجة إليه في مبانيها الأنيقة الحديثة. وأن هذه الشركة قد أثرت من وراء هذا العمل ثراءً طائلاً. فأحببت أن نقف قليلاً لنصل بعمال هذا الحجر ونتحدث إليهم فنسري عن أنفسنا ونسري عنهم. وفي أمثال تلك البقاع النائية يصدق قول القائل: وكل غريب للغريب نسيب!
وكانت حالة السيارات تقتضي هذه الوقفة أيضاً، فإنها كانت قد شربت كل ما معنا من الماء وكانت في حاجة أيضاً إلى الماء. فترجلنا لنملأ صهاريجها، واتجهت وبعض من معي إلى أولئك العمال فإذا هم جميعاً من أهل الصعيد - تلك الطائفة النبيلة التي شيد أجدادها مجد الفراعنة وخلدوا آثارهم في وادي الملوك وغير وادي الملوك، وها هو ذا الخلف اليوم لا يجد من يستنجد بكتفه وذراعه غير الأجنبي فيلبي دعوة القوت وسط تلك الأصقاع السحيقة القاحلة يقضي عمره ويفني حياته في قطع الرخام وحمله ليجد هو في آخر النهار ما يسد به رمقه. ولينعم حسان باريس بالرونق البهي والرواء الحسن. وليقف المقاول الإيطالي بين الطرفين يستغل جهد المصري وثراء الباريسي في آن واحد.
وأردت أن أعرف من أين يحصل هؤلاء العمال على الزاد والماء - ولعل الباعث الخفي لسؤالي كان حرصي على الاطمئنان على نفسي ومصيرها في هذا القفر قبل أن يكون إشباع حب الاستطلاع فيها عن حالة هؤلاء المساكين - فقيل لي بأن باخرة تقدم من السويس كل شهر تقريباً فتحمل إليهم الزاد والماء الذي يكفيهم حتى موعد الزورة التالية، فبدت عليَّ أنا وزملائي علائم الإشفاق والرثاء. ولكن جرنا الحديث إلى ذكر المنائر التي تقع على شاطئ البحر الأحمر والتي تضم كل واحدة منها ثلاثة من الموظفين المصريين في حالة عزلة تامة عن العالم لمدة تسعة شهور، إذ أن كل منارة من هذه المنائر يديرها أربعة من الموظفين يعمل كل واحد منهم تسعة شهور متتالية في العام ويحصل على إجازة سنوية تستغرق الثلاثة شهور الأخرى. ولذلك فإن ثلاثة منهم فقط يجتمعون في العمل ويكون الرابع في إجازته، حتى إذا عاد هو قام من يكون عليه الدور وهكذا. وأن الواحد من هؤلاء الموظفين متى استلم عمله في فنارة فإنه ينقطع عن العالم وأخباره حتى يحل موعد وصول الباخرة التي تأتيهم بالطعام والماء مرة في كل شهر. وهم من خلال هذا الشهر لا يقرءون الصحف ولا سبيل لهم إلى معرفة ما يكون قد مر على العالم من أحداث، وما يكون قد طرأ عليه من حروب. وعجبت من شأن الحكومة مع هؤلاء الناس ومن شأنهم هم مع أنفسهم، فإننا أصبحنا اليوم نسمع الراديو في السيارات الخاصة وهي تسير وسط الطرقات العامرة الزاخرة، ثم ها نحن أولاء نسمع من أمثال هذه المنائر التي تترك بغير جهاز ولا صفير من هذه الأجهزة الكفيلة بأن تنقل أهلها من عزلتهم فتضعهم في وسط العمران والحياة.
كان بيننا وبين (حمام فرعون) ونحن في ذلك المحجر بضع كيلومترات قد لا تزيد على خمسة أو ستة، ولكن ما كابدناه في قطع هذه المرحلة القصيرة فاق كل ما لاقيناه في طول الرحلة منذ بدايتها، ذلك بأن الطريق كان قد انقطع عند المحجر، وأصبح علينا بعد ذلك أن نسير في أرض بكر لا تطرقها السيارات إلا كلما حلا لأمثالنا أن يزور ذلك المكان، وهو نادر قليل، وكانت طبيعة الأرض في تلك الجهة جامحة نافرة، فبينا هي صلبة في بعض نواحيها إذا هي رخوة تغوص القدم في رمالها في نواحيها الأخرى وكان في انتقال السيارة من الصلب إلى الرخو ثم من الرخو إلى الصلب ما فيه من إجهاد للسائق وللراكب وللآلات نفسها، وذلك لما تستدعيه طبيعة كل ناحية من تغيير درجات السرعة وتحريك رافعات السيارة واحدة بعد أخرى بما يناسب حالة الطريق وقد حدث أننا خسرنا فعلاً إحدى سياراتنا فقد انكسرت بعض آلاتها في هذه التنقلات السريعة المفاجئة، واضطررنا إلى التخلي عنها وسط الطريق بعد أن توزعت حمولتها على بقية السيارات فزادت في عسر حركتها وتعريضها هي الأخرى للتلف، وليس يفوتني أن أقول هنا أن هذه السيارة بالذات كانت سيارة تاجر الإسماعيلية الذي لم يكن من سبب لإشراكه في هذه الرحلة غير سيارته، ولكن هكذا قدر الله في لوحه أن يأتي أجل هذه السيارة في تلك البقعة الموحشة. وصدق الله العظيم و (ما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت) وقديماً قيل:
إذا ما حِمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير
وقبل العصر بقليل ألقت القافلة عصاها في سفح جبل عال كان يواجهنا، وقيل لنا انزلوا: فهذا هو (حمام فرعون)
وثبتُ من سيارتي فرحاً وقد نسيت أمام بلوغ الهدف كل ما لاقيته خلال الرحلة من مشقة.
ولم أنتظر حتى يتقدمني من له علم بالمكان. لأني لم أكن رأيت في حياتي قط عينا حارة - ولكني كما هو الحال دائماً في أمثال هذه الشئون كنت قد صورتها لنفسي بعين خيالي. وكنت شديد الشغف الآن بأن أقابل بين الحقيقة وبين الخيال. فما كان أشد الفرق بين الصورتين!
كنت أتصور النبع على صورة (الفسقية) ينبثق من وسطها خرطوم عال من الماء له رشاش من حوله ثم يتجمع الماء في حوض حول العين ثم لا يلبث أن يفيض من الحوض إلى ذلك المجرى الطويل الذي حدثونا عنه. وكنت أتخيل هذا المجرى في صورة قناة جميلة وسط صخور صلدة ينساب الماء فيها رائقاً صافياً كتلك القناة الجميلة البيضاء التي ما تزال آثارها باقية في (وادي حوف) بحلوان والتي كنا نتناول فيها غداءنا كلما رحلنا إلى تلك الجهة. فأدرت عيني بسرعة فيما يحيط بي أبحث عن تلك الفسقية أو عن هذه القناة فلم أجد لإحداهما أثراً، فخاب ظني لأول وهلة وأحسست بقلبي يتراجع قليلاً في صدري شأن من يفاجأ بأمر لم يكن يتوقعه. ولكن سرعان ما استغرق بصري ذلك الجبل العظيم الذي كنا نقف في كنفه. فصوبت عيني فيه وصعدتها فأخذتني عظمته. ولمحت في صفحته ثغرة سوداء قريبة من سطح الأرض، فأدركت أنها لابد أن تكون مدخل الكهف الموعود. وكان هذا الجبل يقوم على شاطئ البحر ليس بينه وبين الماء في البقعة التي وقفنا فيها أكثر من خمسين متراً، ثم هو يمتد محاذياً للشاطئ مسافة مائتي متر أو ثلاثمائة متر، وبعد ذلك يتصل بالماء رأساً فيرتطم موج البحر بقدميه ويتحطم على صخوره السوداء. ولفت نظري في ذلك المثلث الرملي الضيق الذي كنا نقف على قاعدته أن قناة ضحلة تجري وسطه فتتبعتها ببصري مسرعاً فرأيتها تبدأ عند قاعدة الجبل ولكن لم أتبين من أين ينبثق ماؤها. فدلفت إليها حتى جئت المكان الذي ينبعث منه الماء فإذا هو ثلمة ضيقة بين صخرين يسيل منها الماء كما يسيل من صنبور متوسط الحجم فيجري على الصخور المجاورة حتى تتسلمه رمال الساحل فتبلع منه ما تبلعه وتترك الباقي ينداح على صدرها حتى يصب في البحر. وكانت رائحة الكبريت ساطعة تملأ الجو، ولكن الماء كان يجري كالبلور المذاب لا يعلوه بخار ولا يبدو عليه أنه حار. فأغراني ذلك بأن أمدّ إليه إصبعي ولكني ما كدت أفعل حتى سحبتها صارخاً كأنما اندق فيها مسمار. فأثلجت هذه اللسعة صدري. ومنيت نفسي بالحمام الساخن الذي قطعت من أجله كل تلك القفار، فلست أعرف في متع هذه الحياة ما هو أحب إلى نفسي من الحمام الساخن!
وكان إخواني قد أدركوني وحف بعضهم بالنبع وانطلق بعضهم يساير القناة. أما الإيطالي فإنه اشتغل بنصب الخيام.
وشاءت المصادفات أن يكون الهواء في ذلك اليوم قوياً ثقيلاً فكان يسفي علينا التراب ونحن لا نجد ما نحتمي فيه حتى قامت خيام الإيطالي فآوينا إليها وقد نال منا الجوع، ونشر الخادم بين يدينا علبه ولفائفه وأدار علينا الخبز فالتهمناه بما أصابت أيدينا من جبن وزيتون وقديد وما إلى ذلك مما كان قد أعد لتتبيل أغنام الرعاة المنتظرة وسمك الصيادين الموعود، فأبت علينا المقادير إلا أن نأكله هو متبلاً بالتراب ومحشواً بصغار الحصا، ومع ذلك فقد كنا نتخاطفه ونتنافس في التطويح بما نصيبه منه إلى أفواهنا قيل أن ننفخ فيه ونذروا عنه ما علق به من الرمال، فيا سبحان الله! أهكذا يحلو المر أحياناً في هذه الحياة! وماذا بقي لنا من الحقائق المطلقة في دنيانا وكل شيء فيها اعتباري كما نرى؟ إلا أن الحسن إنما يكون حسناً في ظل رضا النفس، والقبيح إنما يقبح بزوال هذه الحالة عن النفس! والسعادة مهما اختلف الناس في أسبابها فهي من الكثير الغالب من صنع أيدينا وفي القليل النادر من صنع المقادير.
ولم نهجع عقب الطعام بل انتشرنا في المكان نرتاده ونتسلق الجبل وندخل الغار بأطراف رءوسنا ثم نخرجها سراعاً لكثرة ما ألقى في روعنا من أنه شديد الحرارة يذيب نخاع الرءوس. وقضينا على ذلك ساعة وبعض ساعة حتى أوشك النهار أن ينقضي فتأهبنا لأخذ الحمام المرتجى، وانصرف كل واحد منا إلى صخرة توارى خلفها فخلع ملابسه. وارتدى قميص البحر، ولم تكن إلا هنيهة حتى استحال المكان إلى (بلاج) أنيق صغير بأولئك الفراعنة الصغار الذين جاءوا من أقصى الأرض ليحققوا للمكان اسمه ويؤيدوا له لقبه. وكان الأعرابي الذي مع الإيطالي قد احتمل فأساً وقصد إلى أوسع مكان في القناة فعمقه وأبعد غوره كما يتسع لأجسامنا ويصلح للاضطجاع. فنزلناه واحداً بعد واحد وساعدنا ذلك على رفع مستوى الماء قليلاً فما زلنا نتقلب فيه ونتلبط. وهواء المساء البارد يصفع أجسادنا الحارة ونحن نصر على أن نوهم أنفسنا بأننا نأخذ حماماً ساخناً حتى أدركنا أن إصرارنا سيكون وخيم العاقبة إذا نحن تمادينا في تحدي الطبيعة إلى أبعد من هذا الحد، فخرجنا نتواثب من حفرتنا كجماعة الضفدع دهمها داهم وهي ترتل في مخابئها أناشيد المساء!
ولما نزل بنا الليل كان الهواء الثائر قد سكن، والتراب السافي قد استقر، ولاحت النجوم في السماء زاهية زاهرة. وأشهد أني لم أر السماء طول حياتي كما رأيتها في تلك الليلة. فلقد اعتدنا أن نراها ونحن في المدن من خلال المباني الضاربة في الفضاء، ومن خلال النوافذ الضيقة، فكنا لا نرى إلا قطعاً منها تذهب التجزئة فيها بجمال المجموع. أما في تلك الليلة فقد راقنا أن ننام في العراء فبسطنا فراشنا فوق الرمل وألقينا عليه وسائدنا ثم انطرحنا على ظهرنا واتجهنا بأبصارنا في السماء فراعتنا، وبدت لنا النجوم كما لو كنا لم نرها قط قبل تلك اللحظة. وإني لأذكر الآن كيف أننا جميعاً أصابنا وجوم مشترك أمام عظمة هذا المشهد حتى لقد بقينا فترة لم ينبس فيها واحد منا بحرف. فلما نطق أول متكلم فينا وتحدث بما راعه من منظر السماء اندفعنا جميعاً نكرر معنى واحداً في عبارات مختلفة، وأدركنا أننا في سكوننا كنا تحت تأثير واحد، وأن أحداً منا لم يستطع أن يفلت من جاذبيته!
وفي غداة اليوم التالي تنفسنا مع الصبح جميعاً. ومنا من كانت قد انقضت عليه أعوام وأعوام وهو لا يرى الشمس كل صبح إلا بعد أن ترقى حدود الأفق بزمان طويل. وهببنا من مضاجعنا خفافاً تفيض حركاتنا بالقوة والنشاط، وكانت مفاجأة الصباح التي أعدتها لنا طبيعة المكان أننا أردنا أن نحلق لحانا فامتنعت عن الصابون مياه النبع؛ وعبثاً حاولنا إحداث الرغوة المطلوبة على الرغم من إسرافنا في الدعك والفرك؛ ولم نشأ أن نضحي ببقية مائنا العذب في شؤون زينتنا، فطال ركوعنا على حافة القناة حيث اجتمعنا في شبه (صالون) خشن حقير! وكنا قد أحسسنا في المساء أن ذخيرتنا من الماء كادت أن تنفد، فاحتلنا في الحصول على مدد فلم نجد إلا صفيحتين فارغتين من صفائح البنزين فبعثنا بهما مع خادم ليملأهما من ماء الوادي فعاد بهما إلينا ونحن نتناول طعام الفطور، فكرعنا من مائهما ما كنا في حاجة إليه، فإذا هو في مذاقه أشد نكراً من ماء النبع فهذا فيه طعم الكبريت. أما ذاك فإنه عبق برائحة البنزين والبترول.
وكنت أزمع العودة مع بعض الصحاب في ظهر ذلك اليوم فرأينا أن نقضي الساعة التي بقيت لنا في جوف الكهف حتى لا يكون قد فاتنا شيء من (متع) المكان قبل أن نبرحه. فعدنا إلى قمصان البحر فارتديناها ونشرنا شيئاً من الفراش في أرض الغار ثم دخلنا فرقدنا فوقها ولكنا لم نلبث أن اعتدنا حرارة المكان الذي استلقينا فيه، فأوغلنا قليلاً فوجدنا فارقاً محسوساً في الحرارة فسرنا ذلك، وبقينا فيه أيضاً حتى ألفناه ثم أوغلنا ثانية، وهكذا حتى أصبحنا في قرار الكهف حيث الظلام الشامل. فما كان أروع منظرنا ونحن نزحف في نواحي المكان كالخفافيش والعالم من خلفنا على باب الكهف ساطع بهيج! وكنا قد احتملنا معنا مناشفنا فلم تكن ترى فينا إلا شبحاً يستوي قاعداً فيأخذ في تدليك جسمه بمناشفه حتى يجفف عرقه فلا يكاد يرقد حتى يقوم إلى جانبه شبح آخر يظل يهزج ويحك ذراعه بذراعه فلا ينتهي حتى يسلم هذه المهمة لسواه، وهكذا حتى أحسسنا بحلوقنا آخر الأمر تكاد تجف من فرط ما عرقنا وأفرزنا من ماء جسومنا فعولنا على الانسحاب. وكان حتماً علينا أن ننسحب متدرجين كما أوغلنا متدرجين حتى لا تقتلنا الطفرة أو يؤذينا الانتقال السريع. فقضينا في هذا الانسحاب زمناً ليس بالقليل ولم نستطع أن نركب سياراتنا إلا بعد أن انتصف النهار. ونسيت أن أقول إننا أتينا بعد خروجنا على ماء الصفيحتين فشربناه وظللنا من بعده يومين ونحن نتجشأ بنزيناً قويا يكاد ريحه يضيء ولو لم تمسسه نار!
انقضت بعد عودتنا أيام رأيت في خلالها بعض الصحاب فكان حديثهم ترديداً لما لاقيناه من وعثاء الطريق، وما قاسينا من سعار الكهف. ثم قابلت صاحبنا الإيطالي فكان حديثه أنه يفكر في الحصول من الحكومة على امتياز لاستغلال النبع وإقامة فندق صغير بجواره وتهيئة بواخر خفيفة تصل بينه وبين السويس حتى تنقلب الرحلة إلى متعة ينعم بها المستشفي بدل أن تبقى كما هي الآن مشقة ينوء بها الرياضي. فهتف في نفسي هاتف: (يعيش الدوتشي!) وقلت لمحدثي: لمثل هذا فليعمل العاملون.
حسن جلال
مجلة الرسالة/العدد 194
بتاريخ: 22 - 03 - 1937
وكانت تلك الجماعة تتألف من:
1 - أحد أعضاء مجلس النواب وشيخين من أقاربه.
2 - ومن تاجر من كبار تجار الإسماعيلية
3 - ومن تاجر آخر من عيون تجار القاهرة
4 - ثم من رجل أجنبي من رجال الأعمال إيطالي الجنسية له مزارع واسعة في حدود مدينة الإسماعيلية.
فأما عضو النواب وقريباه فكانوا يشكون الروماتزم، وكان هذا هو الذي يحفزهم إلى ارتياد تلك العين، فأن لها على ما يقول الناس خواص سحرية في شفاء الأمراض.
وأما تاجر القاهرة فقد سمع بحديث تلك العين من النائب فأغراه ذلك على أن يجرب سحرها في أوصاله.
وأما تاجر الإسماعيلية فكان على ما فهمت رجلاً لا يحتاج إلى الاستشفاء لا بالحار ولا بالبارد، وكل همه في الحياة أن يجلس في آخر النهار في بعض المقاهي ونرجيلته بين ركبتيه يمصها فتقهقه له حتى تنقطع أنفاسها فيخليها لصاحبها ويعود إلى داره راضياً مرضياً، وكانت الأسباب كلها منقطعة بينه وبين تلك الرحلة لولا أن له سيارة جميلة أحب صاحبنا النائب أن يضمها إلى القافلة فدعاه للاشتراك فلبى الدعوة.
وأما التاجر الإيطالي فكان هو عماد الرحلة وبطلها لأنه كان قائدها الذي يدلها على الطريق في وسط الأودية المهجورة والجبال المتشابهة، يعاونه على ذلك دليل بدوي ممن يعملون في مزارعه، ولم يكن له من حافز ظاهر إلى الاشتراك في الرحلة غير ميله إلى الرياضة، أ أن أمثال هذه الرحلة قد تساعده على تنمية معلوماته عن الصحاري المصرية وطرقاتها فهذا حديث آخر لا محل للخوض فيه الآن، وللقارئ أن يستنتج لنفسه ما يشاء. . .
هؤلاء هم أشخاص الجماعة
أما النبع نفسه فقد سمعت أنه نبع حار يخرج من الصخر، ويصب في مياه البحر الأحمر. وأنه نبع (مكبرت) كالنبع الذي في حلوان والفرق بين الاثنين أن هذا بارد. أما (حمام فرعون) فهو يخرج من بطن الجبل شديد الحرارة حتى لتلقى السمكة في مائه الدافق فتنضج في دقائق معدودات. وعلمت أيضاً أن كهفاً يقوم إلى جانب النبع. إذا دخله الإنسان فإنه لا يطيق البقاء فيه أكثر من ربع ساعة لفرط حرارته وشدة ما يعاني الإنسان وهو بداخله من الوهج الذي يتفصد له الجسم عرقاً. وقيل لي إن من دخل هذا الكهف وهو يشكو (الرطوبة) فإنه لا يلبث أن يخرج منه كما ولدته أُمه صحة وعافية. أما العين فإنها وإن خرجت من ينبوعها حارة شديدة الحرارة ألا أنها تجري على شاطئ البحر مسافة طويلة قبل أن تصب فيه. وأنها في مجراها هذا تتفاوت حرارتها. فهي تبدأ حارة لا تطاق ثم تتناقص حرارتها كلما ابتعدت عن أصل النبع، حتى إذا جاءت ماء البحر وصلت وهي فاترة يطيقها كل إنسان. وقال لي من كان يحدثني عنها: وإذا كانت مياه حلوان قد بلغت ما بلغت من الشهرة العالمية وهي باردة يرفعون حرارتها بأنابيب البخار، فلك أن تصور لنفسك مبلغ ما تمتاز به هذه العين وهي تخرج من بطن الأرض حارة حرارة طبيعية لم تتدخل فيها يد الإنسان. وناهيك بحمام من مائها تعقبه خلوة قصيرة في ذلك الكهف الذي يليها. . . إن الإنسان ليدخلها ثم يخرج من الكهف بعدها كما يدخل المنديل القذر في يد (الغسالة) ثم يخرج جافاً ناصعاً من عند (الكواء)!
وكان لي صاحب من ضباط البوليس أرتاح إلى صحبته فعرضت عليه رغبتي في الاشتراك في تلك الرحلة فتولى عني مفاوضة الجماعة في أمر انضمامنا إليهم. وعاد يبشرني بأنهم يرحبون بنا على شرط أن نكون ضيوفهم في الحل والترحال؛ وتذللت بذلك آخر عقبة كنت أتوهم أنها تعترضني في سبيل تحقيق رغبتي لأني لم تكن لي سيارة خاصة. وليست أمثال هذه الرحلة مما يهون فيه الحصول على سيارة بالأجرة. وتحدد موعد القيام بعد يومين من إبرام هذا الاتفاق على أن نجعل قيامنا بعد الفجر بقليل في اليوم المحدد. ولم يبق أمامي إلا أن أتولى إعداد توافه الأمور التي تركها لي مضيفي كالمناشف التي تلزم لتجفيف عرقي وأنا في داخل الكهف. والغطاء الذي أتدثر به عند مبيتي معهم على شاطئ البحر في العراء. على أني أبيت إلا أن أستصحب معي سراً بعض المرفهات التي أعلم أنها لم تكن لتخطر لزملائي على بال. فدسستها في حقيبتي بغية أن أفاجئهم بها هناك وسط الصخور والجبال. وكانت عندي (ترامس) ثلاثة يسع كل واحد منها لتراً من الماء. فملأتها جميعاً بالماء المثلوج - ونسيت أن أقول إن الوقت كان في بداية الصيف - وعطرتها بماء الزهر وأخفيتها في الحقيبة كما أخفيت معها آلة تصوير لألتقط بها بعض المناظر التي تخلد هذه الرحلة. وقد دلت كل الدلائل على أنها ستكون رحلة عامرة بالذكريات التي تستحق التخليد. ولست أحتاج أن أقول إن زملاءنا كانوا قد صارحونا بأنهم سيحملون عنا مئونة تزويدنا بالماء والطعام. فلما سألتهم عما إذا كانوا سيحملون هذا الزاد من الإسماعيلية أم من السويس قيل لي إن العرب الذين سنصادفهم في الوديان خلال الجبال كلهم رعاة أغنام. ونستطيع أن نحصل منهم على ما نشاء من ضأن وماعز. كما أن البحر هناك مرعى بكر يزخر بألوان السمك. والوديان لا ينقطع منها الماء الجاري. ورجال البدو لا يلبثوا أن يحتاطوا بنا ويتنافسون في خدمتنا. فكنت أستمع لهذا الحديث وأرسل أحلامي على سجيتها لتتم بألوانها الساحرة بقية تلك الصورة الخلابة التي لبثت يومين كاملين وأنا أسعد بالتقلب بين أعطاف خيالاتها!
وأخيراً حل اليوم الموعود، وكنت على أتم أهبة للرحيل قبل بزوغ الشمس، وأقبلت السيارات تناديني بأبواقها، فنزلت فإذا سرب طويل منها يضم الصحاب جميعاً، فاستقللناها قاصدين إلى السويس؛ والطريق ما بين الإسماعيلية والسويس طريق جميل ممهد أعدته في السنوات الأخيرة شركة قنال السويس ليكون متمماً للطريق القديم الذي يوصل ما بين الإسماعيلية وبور سعيد؛ وهذا الطريق يسير إلى جانب القناة ويتمتع السائر فيه بمناظر بحيرة التمساح والبحيرات المرة الكبرى والصغرى التي تمتد على يساره، بينما تقوم الحقول الخضراء على يمينه وهي حافلة بالأكواخ الصغيرة الساذجة، وبألوان شتى من المواشي والأغنام، وكلها دائبة في رعي تلك المروج الناضرة البهيجة. ووصل الركب محطة (الكوبري) حوالي الساعة السابعة صباحاً. وهذه المحطة تقع في شمال السويس، وعلى بعد ثمانية كيلومترات منها. وعندها تقع (المعدية) التي ينتقل عليها المسافر من شاطئ القنال الغربي، إلى شاطئه الشرقي - أو من شاطئه الإفريقي إلى قرى شاطئه الآسيوي كما يقولون - فاضطررنا إلى الوقوف هنا ريثما يقوم عامل (الجمرك) بتفتيش أمتعتنا. وقد عجبت لهذا العمل ونحن إنما ننتقل من أرض مصرية إلى أرض مصرية. فلما استفسرت عن السبب علمت أن المنطقة التي نريد أن ندخلها خاضعة لمصلحة الحدود. والنظام الإداري في تلك المصلحة يكاد يكون مستقلاً عن إدارة الحكومة المصرية. وأنه محظور على من يريد دخول الصحراء في تلك الجهة أن يكون معه سلاح ناري تنفيذاً لأمر المصلحة الذي يقضي بعدم صيد الغزال مثلاً في تلك المنطقة. كما أنه من المحظور أيضاً أن يحمل المسافر معه آلة تصوير حتى لا يسجل بها مناظر ترى المصلحة أنه من الواجب المحافظه على سريتها. وكانت النتيجة الأولى لوقفتنا هذه في محطة الكوبري، أني خسرت آلة تصويري، لأني اضطررت إلى تسليمها من تلقاء نفسي، وبذلك ضاعت علي فرصة إحدى المفاجآت التي كنت دبرتها للإخوان. على أن هذه لم تكن خسارتي الوحيدة. فقد بدأ لبعضنا أن يتناول وجبة خفيفة في ذلك المكان تكون بمثابة الفطور لمن فاته الإفطار في منزله. وكنت أنا من هؤلاء. فأردت بعد لقيمات ازدردتها أن آخذ جرعة من الماء فهممت بتناول واحد من (ترامسي) ولكن سبقتني إليه يد أحد الزملاء الكرام يريد أن يبالغ في الحفاوة بي فلا يدعني أقوم بهذه الخدمة الهينة لنفسي فما راعني إلا أن أراه يملأ كوب الترموس من ماءه المعطر المثلوج ثم يهزه في يده هزات يريقه من بعدها على الأرض كما لو كنا نستقي من (زير) بجوار سوق في إحدى قرى الريف، فهو يريد أن يكفل نظافة (الكوز) مما يكون قد علقه به من الغبار! وأردت أن أعوض ما شربته الأرض من مائي العزيز فاقتصدت في الجرعة التي شربتها واكتفيت منها بمصتين لأني كنت أقدر ما نحن مقبلون عليه من الجفاف والجدب. ولكن حلا لبقية الصحب أن يستقوا فأدار الساقي عليهم من أكوابي، ودخلت الصحراء بنصف ما كنت تزودت لها به من الماء. وكانت هذه خسارتي الثانية في مستهل الطريق.
وحملتنا (المعدية) بسياراتنا فنقلتنا إلى الشاطئ الشرقي. وبدأنا عقب ذلك رحلتنا الشاقة في وسط الصحراء حيث لا شيء إلا الحصى والرمال في طريق متشابهة لا أثر فيها لأي نوع من أنواع الحياة. ولبثنا نضرب في تلك البيداء حتى أدركنا الظهر - ولكنا على كل حال كنا نسمر بمختلف الأحاديث - وكان الذين سبقونا إلى ارتياد هذا الطريق لا يضنون علينا بشرح ما يعرفونه من معالم، وأحياناً أيضاً بشرح ما لا يعرفون استجابة منهم لنداء تلك الغريزة العجيبة التي ركبت في كل نفس والتي تجعل صاحبها يلتذ أن يتظاهر بالعلم أمام من لا يعلم!
وكانت سيارة الإيطالي في مقدمة الركب. وقد قبع الدليل البدوي على مقدمها ليلجأ إليه صاحبه كلما أعوزته المشورة في أمر الطريق. وفي النهاية لاحت لنا أشجار (الطرفاء) التي تزين (وادي الغَرَنْدَل) وهو واد واسع يكثر فيه النخيل ولا ينقطع منه الماء طول العام. وبدأنا نرى الناس من جديد بعد أن كنا نظن أننا انقطعنا عن العالم - ولكن يا لهم من ناس!. . . لقد كانوا أشباحاً في أثمال. . . أجسام رقيقة مديدة ضمرها الجوع. وعيون فاترة غائرة أطفأها الفقر والجدب. كانوا يحيطون بنا ويعدون إلى جانبنا ويلاحقوننا كما كانت تفعل جنادب الوادي الذي يعيشون فيه. أما سياراتنا فكانت عند اجتيازها لهذا الوادي تجري فوق مياهه. إذ لم يكن أمامنا طريق أخرى غير بطنه، فكانت أشبه بالزوارق البخارية منها بالسيارات. ولقد عانينا كثيراً ونحن نجتاز هذه المرحلة من طريقنا لأن الماء كان يتسرب إلى داخل آلات السيارة كلما أدركنا مخاضة بعيدة الغور نوعاً ما. وكان الويل للسيارة التي يصيبها ذلك، لأن الركب ما كان ليقف لأمثال تلك الأحداث، فكانت السيارة المتخلفة تقاسي كثيراً قبل أن تلحق بالقافلة وتمسك معها بطرف الطريق. وتكررت حوادث فقد الطريق ونحن بالوادي، ذلك لأن الطرق فيه متشعبة فكان المتخلف عرضة لأن يتبع آثار عجلات غير عجلات سياراتنا كلما غابت عن نظره بقية القافلة. وكم وقفنا وأطلقنا أبواقنا ليهتدي على صوتها من نفتقده من الزملاء. وكم كررنا نحن راجعين في مسلك وعر كنا قد تشهدنا عندما اجتزناه، فلما فرغنا منه وجدنا أننا قد ضللنا الطريق.
وأخيراً خرجنا من هذا الوادي وعدنا إلى الصحراء من جديد ولكنها كانت في هذه المرة صحراء نافرة صخرية يكتنفها جبل عظيم أبيض اللون ناصعه تجوس في سفحه عربات صغيرة وتدب معها نمال بشرية تتراءى من بعيد كأنها بعض هوام الجبل أو زواحفه. وسألت فعلمت أن شركة إيطالية قد حصلت من الحكومة على امتياز لاستغلال هذا الجبل وأنها تحصل منه على نوع من الرخام النادر تصدر معظمه إلى باريس بالذات دون بلاد العالم لكثرة الحاجة إليه في مبانيها الأنيقة الحديثة. وأن هذه الشركة قد أثرت من وراء هذا العمل ثراءً طائلاً. فأحببت أن نقف قليلاً لنصل بعمال هذا الحجر ونتحدث إليهم فنسري عن أنفسنا ونسري عنهم. وفي أمثال تلك البقاع النائية يصدق قول القائل: وكل غريب للغريب نسيب!
وكانت حالة السيارات تقتضي هذه الوقفة أيضاً، فإنها كانت قد شربت كل ما معنا من الماء وكانت في حاجة أيضاً إلى الماء. فترجلنا لنملأ صهاريجها، واتجهت وبعض من معي إلى أولئك العمال فإذا هم جميعاً من أهل الصعيد - تلك الطائفة النبيلة التي شيد أجدادها مجد الفراعنة وخلدوا آثارهم في وادي الملوك وغير وادي الملوك، وها هو ذا الخلف اليوم لا يجد من يستنجد بكتفه وذراعه غير الأجنبي فيلبي دعوة القوت وسط تلك الأصقاع السحيقة القاحلة يقضي عمره ويفني حياته في قطع الرخام وحمله ليجد هو في آخر النهار ما يسد به رمقه. ولينعم حسان باريس بالرونق البهي والرواء الحسن. وليقف المقاول الإيطالي بين الطرفين يستغل جهد المصري وثراء الباريسي في آن واحد.
وأردت أن أعرف من أين يحصل هؤلاء العمال على الزاد والماء - ولعل الباعث الخفي لسؤالي كان حرصي على الاطمئنان على نفسي ومصيرها في هذا القفر قبل أن يكون إشباع حب الاستطلاع فيها عن حالة هؤلاء المساكين - فقيل لي بأن باخرة تقدم من السويس كل شهر تقريباً فتحمل إليهم الزاد والماء الذي يكفيهم حتى موعد الزورة التالية، فبدت عليَّ أنا وزملائي علائم الإشفاق والرثاء. ولكن جرنا الحديث إلى ذكر المنائر التي تقع على شاطئ البحر الأحمر والتي تضم كل واحدة منها ثلاثة من الموظفين المصريين في حالة عزلة تامة عن العالم لمدة تسعة شهور، إذ أن كل منارة من هذه المنائر يديرها أربعة من الموظفين يعمل كل واحد منهم تسعة شهور متتالية في العام ويحصل على إجازة سنوية تستغرق الثلاثة شهور الأخرى. ولذلك فإن ثلاثة منهم فقط يجتمعون في العمل ويكون الرابع في إجازته، حتى إذا عاد هو قام من يكون عليه الدور وهكذا. وأن الواحد من هؤلاء الموظفين متى استلم عمله في فنارة فإنه ينقطع عن العالم وأخباره حتى يحل موعد وصول الباخرة التي تأتيهم بالطعام والماء مرة في كل شهر. وهم من خلال هذا الشهر لا يقرءون الصحف ولا سبيل لهم إلى معرفة ما يكون قد مر على العالم من أحداث، وما يكون قد طرأ عليه من حروب. وعجبت من شأن الحكومة مع هؤلاء الناس ومن شأنهم هم مع أنفسهم، فإننا أصبحنا اليوم نسمع الراديو في السيارات الخاصة وهي تسير وسط الطرقات العامرة الزاخرة، ثم ها نحن أولاء نسمع من أمثال هذه المنائر التي تترك بغير جهاز ولا صفير من هذه الأجهزة الكفيلة بأن تنقل أهلها من عزلتهم فتضعهم في وسط العمران والحياة.
كان بيننا وبين (حمام فرعون) ونحن في ذلك المحجر بضع كيلومترات قد لا تزيد على خمسة أو ستة، ولكن ما كابدناه في قطع هذه المرحلة القصيرة فاق كل ما لاقيناه في طول الرحلة منذ بدايتها، ذلك بأن الطريق كان قد انقطع عند المحجر، وأصبح علينا بعد ذلك أن نسير في أرض بكر لا تطرقها السيارات إلا كلما حلا لأمثالنا أن يزور ذلك المكان، وهو نادر قليل، وكانت طبيعة الأرض في تلك الجهة جامحة نافرة، فبينا هي صلبة في بعض نواحيها إذا هي رخوة تغوص القدم في رمالها في نواحيها الأخرى وكان في انتقال السيارة من الصلب إلى الرخو ثم من الرخو إلى الصلب ما فيه من إجهاد للسائق وللراكب وللآلات نفسها، وذلك لما تستدعيه طبيعة كل ناحية من تغيير درجات السرعة وتحريك رافعات السيارة واحدة بعد أخرى بما يناسب حالة الطريق وقد حدث أننا خسرنا فعلاً إحدى سياراتنا فقد انكسرت بعض آلاتها في هذه التنقلات السريعة المفاجئة، واضطررنا إلى التخلي عنها وسط الطريق بعد أن توزعت حمولتها على بقية السيارات فزادت في عسر حركتها وتعريضها هي الأخرى للتلف، وليس يفوتني أن أقول هنا أن هذه السيارة بالذات كانت سيارة تاجر الإسماعيلية الذي لم يكن من سبب لإشراكه في هذه الرحلة غير سيارته، ولكن هكذا قدر الله في لوحه أن يأتي أجل هذه السيارة في تلك البقعة الموحشة. وصدق الله العظيم و (ما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت) وقديماً قيل:
إذا ما حِمام المرء كان ببلدة ... دعته إليها حاجة فيطير
وقبل العصر بقليل ألقت القافلة عصاها في سفح جبل عال كان يواجهنا، وقيل لنا انزلوا: فهذا هو (حمام فرعون)
وثبتُ من سيارتي فرحاً وقد نسيت أمام بلوغ الهدف كل ما لاقيته خلال الرحلة من مشقة.
ولم أنتظر حتى يتقدمني من له علم بالمكان. لأني لم أكن رأيت في حياتي قط عينا حارة - ولكني كما هو الحال دائماً في أمثال هذه الشئون كنت قد صورتها لنفسي بعين خيالي. وكنت شديد الشغف الآن بأن أقابل بين الحقيقة وبين الخيال. فما كان أشد الفرق بين الصورتين!
كنت أتصور النبع على صورة (الفسقية) ينبثق من وسطها خرطوم عال من الماء له رشاش من حوله ثم يتجمع الماء في حوض حول العين ثم لا يلبث أن يفيض من الحوض إلى ذلك المجرى الطويل الذي حدثونا عنه. وكنت أتخيل هذا المجرى في صورة قناة جميلة وسط صخور صلدة ينساب الماء فيها رائقاً صافياً كتلك القناة الجميلة البيضاء التي ما تزال آثارها باقية في (وادي حوف) بحلوان والتي كنا نتناول فيها غداءنا كلما رحلنا إلى تلك الجهة. فأدرت عيني بسرعة فيما يحيط بي أبحث عن تلك الفسقية أو عن هذه القناة فلم أجد لإحداهما أثراً، فخاب ظني لأول وهلة وأحسست بقلبي يتراجع قليلاً في صدري شأن من يفاجأ بأمر لم يكن يتوقعه. ولكن سرعان ما استغرق بصري ذلك الجبل العظيم الذي كنا نقف في كنفه. فصوبت عيني فيه وصعدتها فأخذتني عظمته. ولمحت في صفحته ثغرة سوداء قريبة من سطح الأرض، فأدركت أنها لابد أن تكون مدخل الكهف الموعود. وكان هذا الجبل يقوم على شاطئ البحر ليس بينه وبين الماء في البقعة التي وقفنا فيها أكثر من خمسين متراً، ثم هو يمتد محاذياً للشاطئ مسافة مائتي متر أو ثلاثمائة متر، وبعد ذلك يتصل بالماء رأساً فيرتطم موج البحر بقدميه ويتحطم على صخوره السوداء. ولفت نظري في ذلك المثلث الرملي الضيق الذي كنا نقف على قاعدته أن قناة ضحلة تجري وسطه فتتبعتها ببصري مسرعاً فرأيتها تبدأ عند قاعدة الجبل ولكن لم أتبين من أين ينبثق ماؤها. فدلفت إليها حتى جئت المكان الذي ينبعث منه الماء فإذا هو ثلمة ضيقة بين صخرين يسيل منها الماء كما يسيل من صنبور متوسط الحجم فيجري على الصخور المجاورة حتى تتسلمه رمال الساحل فتبلع منه ما تبلعه وتترك الباقي ينداح على صدرها حتى يصب في البحر. وكانت رائحة الكبريت ساطعة تملأ الجو، ولكن الماء كان يجري كالبلور المذاب لا يعلوه بخار ولا يبدو عليه أنه حار. فأغراني ذلك بأن أمدّ إليه إصبعي ولكني ما كدت أفعل حتى سحبتها صارخاً كأنما اندق فيها مسمار. فأثلجت هذه اللسعة صدري. ومنيت نفسي بالحمام الساخن الذي قطعت من أجله كل تلك القفار، فلست أعرف في متع هذه الحياة ما هو أحب إلى نفسي من الحمام الساخن!
وكان إخواني قد أدركوني وحف بعضهم بالنبع وانطلق بعضهم يساير القناة. أما الإيطالي فإنه اشتغل بنصب الخيام.
وشاءت المصادفات أن يكون الهواء في ذلك اليوم قوياً ثقيلاً فكان يسفي علينا التراب ونحن لا نجد ما نحتمي فيه حتى قامت خيام الإيطالي فآوينا إليها وقد نال منا الجوع، ونشر الخادم بين يدينا علبه ولفائفه وأدار علينا الخبز فالتهمناه بما أصابت أيدينا من جبن وزيتون وقديد وما إلى ذلك مما كان قد أعد لتتبيل أغنام الرعاة المنتظرة وسمك الصيادين الموعود، فأبت علينا المقادير إلا أن نأكله هو متبلاً بالتراب ومحشواً بصغار الحصا، ومع ذلك فقد كنا نتخاطفه ونتنافس في التطويح بما نصيبه منه إلى أفواهنا قيل أن ننفخ فيه ونذروا عنه ما علق به من الرمال، فيا سبحان الله! أهكذا يحلو المر أحياناً في هذه الحياة! وماذا بقي لنا من الحقائق المطلقة في دنيانا وكل شيء فيها اعتباري كما نرى؟ إلا أن الحسن إنما يكون حسناً في ظل رضا النفس، والقبيح إنما يقبح بزوال هذه الحالة عن النفس! والسعادة مهما اختلف الناس في أسبابها فهي من الكثير الغالب من صنع أيدينا وفي القليل النادر من صنع المقادير.
ولم نهجع عقب الطعام بل انتشرنا في المكان نرتاده ونتسلق الجبل وندخل الغار بأطراف رءوسنا ثم نخرجها سراعاً لكثرة ما ألقى في روعنا من أنه شديد الحرارة يذيب نخاع الرءوس. وقضينا على ذلك ساعة وبعض ساعة حتى أوشك النهار أن ينقضي فتأهبنا لأخذ الحمام المرتجى، وانصرف كل واحد منا إلى صخرة توارى خلفها فخلع ملابسه. وارتدى قميص البحر، ولم تكن إلا هنيهة حتى استحال المكان إلى (بلاج) أنيق صغير بأولئك الفراعنة الصغار الذين جاءوا من أقصى الأرض ليحققوا للمكان اسمه ويؤيدوا له لقبه. وكان الأعرابي الذي مع الإيطالي قد احتمل فأساً وقصد إلى أوسع مكان في القناة فعمقه وأبعد غوره كما يتسع لأجسامنا ويصلح للاضطجاع. فنزلناه واحداً بعد واحد وساعدنا ذلك على رفع مستوى الماء قليلاً فما زلنا نتقلب فيه ونتلبط. وهواء المساء البارد يصفع أجسادنا الحارة ونحن نصر على أن نوهم أنفسنا بأننا نأخذ حماماً ساخناً حتى أدركنا أن إصرارنا سيكون وخيم العاقبة إذا نحن تمادينا في تحدي الطبيعة إلى أبعد من هذا الحد، فخرجنا نتواثب من حفرتنا كجماعة الضفدع دهمها داهم وهي ترتل في مخابئها أناشيد المساء!
ولما نزل بنا الليل كان الهواء الثائر قد سكن، والتراب السافي قد استقر، ولاحت النجوم في السماء زاهية زاهرة. وأشهد أني لم أر السماء طول حياتي كما رأيتها في تلك الليلة. فلقد اعتدنا أن نراها ونحن في المدن من خلال المباني الضاربة في الفضاء، ومن خلال النوافذ الضيقة، فكنا لا نرى إلا قطعاً منها تذهب التجزئة فيها بجمال المجموع. أما في تلك الليلة فقد راقنا أن ننام في العراء فبسطنا فراشنا فوق الرمل وألقينا عليه وسائدنا ثم انطرحنا على ظهرنا واتجهنا بأبصارنا في السماء فراعتنا، وبدت لنا النجوم كما لو كنا لم نرها قط قبل تلك اللحظة. وإني لأذكر الآن كيف أننا جميعاً أصابنا وجوم مشترك أمام عظمة هذا المشهد حتى لقد بقينا فترة لم ينبس فيها واحد منا بحرف. فلما نطق أول متكلم فينا وتحدث بما راعه من منظر السماء اندفعنا جميعاً نكرر معنى واحداً في عبارات مختلفة، وأدركنا أننا في سكوننا كنا تحت تأثير واحد، وأن أحداً منا لم يستطع أن يفلت من جاذبيته!
وفي غداة اليوم التالي تنفسنا مع الصبح جميعاً. ومنا من كانت قد انقضت عليه أعوام وأعوام وهو لا يرى الشمس كل صبح إلا بعد أن ترقى حدود الأفق بزمان طويل. وهببنا من مضاجعنا خفافاً تفيض حركاتنا بالقوة والنشاط، وكانت مفاجأة الصباح التي أعدتها لنا طبيعة المكان أننا أردنا أن نحلق لحانا فامتنعت عن الصابون مياه النبع؛ وعبثاً حاولنا إحداث الرغوة المطلوبة على الرغم من إسرافنا في الدعك والفرك؛ ولم نشأ أن نضحي ببقية مائنا العذب في شؤون زينتنا، فطال ركوعنا على حافة القناة حيث اجتمعنا في شبه (صالون) خشن حقير! وكنا قد أحسسنا في المساء أن ذخيرتنا من الماء كادت أن تنفد، فاحتلنا في الحصول على مدد فلم نجد إلا صفيحتين فارغتين من صفائح البنزين فبعثنا بهما مع خادم ليملأهما من ماء الوادي فعاد بهما إلينا ونحن نتناول طعام الفطور، فكرعنا من مائهما ما كنا في حاجة إليه، فإذا هو في مذاقه أشد نكراً من ماء النبع فهذا فيه طعم الكبريت. أما ذاك فإنه عبق برائحة البنزين والبترول.
وكنت أزمع العودة مع بعض الصحاب في ظهر ذلك اليوم فرأينا أن نقضي الساعة التي بقيت لنا في جوف الكهف حتى لا يكون قد فاتنا شيء من (متع) المكان قبل أن نبرحه. فعدنا إلى قمصان البحر فارتديناها ونشرنا شيئاً من الفراش في أرض الغار ثم دخلنا فرقدنا فوقها ولكنا لم نلبث أن اعتدنا حرارة المكان الذي استلقينا فيه، فأوغلنا قليلاً فوجدنا فارقاً محسوساً في الحرارة فسرنا ذلك، وبقينا فيه أيضاً حتى ألفناه ثم أوغلنا ثانية، وهكذا حتى أصبحنا في قرار الكهف حيث الظلام الشامل. فما كان أروع منظرنا ونحن نزحف في نواحي المكان كالخفافيش والعالم من خلفنا على باب الكهف ساطع بهيج! وكنا قد احتملنا معنا مناشفنا فلم تكن ترى فينا إلا شبحاً يستوي قاعداً فيأخذ في تدليك جسمه بمناشفه حتى يجفف عرقه فلا يكاد يرقد حتى يقوم إلى جانبه شبح آخر يظل يهزج ويحك ذراعه بذراعه فلا ينتهي حتى يسلم هذه المهمة لسواه، وهكذا حتى أحسسنا بحلوقنا آخر الأمر تكاد تجف من فرط ما عرقنا وأفرزنا من ماء جسومنا فعولنا على الانسحاب. وكان حتماً علينا أن ننسحب متدرجين كما أوغلنا متدرجين حتى لا تقتلنا الطفرة أو يؤذينا الانتقال السريع. فقضينا في هذا الانسحاب زمناً ليس بالقليل ولم نستطع أن نركب سياراتنا إلا بعد أن انتصف النهار. ونسيت أن أقول إننا أتينا بعد خروجنا على ماء الصفيحتين فشربناه وظللنا من بعده يومين ونحن نتجشأ بنزيناً قويا يكاد ريحه يضيء ولو لم تمسسه نار!
انقضت بعد عودتنا أيام رأيت في خلالها بعض الصحاب فكان حديثهم ترديداً لما لاقيناه من وعثاء الطريق، وما قاسينا من سعار الكهف. ثم قابلت صاحبنا الإيطالي فكان حديثه أنه يفكر في الحصول من الحكومة على امتياز لاستغلال النبع وإقامة فندق صغير بجواره وتهيئة بواخر خفيفة تصل بينه وبين السويس حتى تنقلب الرحلة إلى متعة ينعم بها المستشفي بدل أن تبقى كما هي الآن مشقة ينوء بها الرياضي. فهتف في نفسي هاتف: (يعيش الدوتشي!) وقلت لمحدثي: لمثل هذا فليعمل العاملون.
حسن جلال
مجلة الرسالة/العدد 194
بتاريخ: 22 - 03 - 1937