أما قول إميل زولا: (وهل نستطيع أن نتبين الكمال الفني في أسلوب هوميروس وفرجيل ونحن نقرأهما مترجمين) فمرماه أن روائع اليونان والرومان لم تخلد على الدهر إلا بمعانيها المبتكرة، ووقائعها المشوقة، وعواطفها الصادقة، وشخوصها الحية، بدليل أننا نقرأها اليوم بمعانيها لا بمبانيها، وبفكرَها لا بصورها. فلو كان خلودها منوطاً بدقة الصياغة وجودة الصناعة لما عاشت بالترجمة. ثم يترتب على ذلك خطأ القول باتحاد الصور والأفكار في الأسلوب؛ لأننا حين نقرأ الإلياذة مثلاً في الفرنسية أو في العربية لا نقرأ منها غير الموضوع
والحق الذي تؤيده الدلائل أن جمال الأسلوب وحده هو الذي ضمن الخلود لهذه الروائع؛ فإن الثابت بالسند المتصل والخبر المتواتر أنها كانت آية عصرها في البلاغة، ولولا ذلك ما روتها الرواة ولا ترجمتها التراجم. واللفظ كما يقول الجاحظ: (إذا لم يكن رائعاً والمعنى بارعاً لم تصغ له الأسماع، ولم تحفظه النفوس، ولم تنطق به الأفواه، ولم يخلد في الكتب)
والترجمة الصحيحة لا تنقل أفكار الكاتب أو الشاعر وحدها عن الاصل؛ إنما تنقل مع ذلك إشراق روحه، وسمو إلهامه، ولطف شعوره، ونمط تفكيره، وخصائص أسلوبه. فلو أن ترجماناً ضعيف العربية من تراجم المحاكم حدثته نفسه أن يعرض لإحدى روائع شكسبير فنقلها نقلاً لفظياً بأسلوبه الذي يترجم به عُروض الأحوال أو أصول الاحكام، فهل تقول إذا استطعت أن تقرأ ما كتب إنك قرأت شكسبير، أم ترى أنك قرأت ألفاظاً كالعظام المعروقة المبعثرة لا تمثل من أي حيوان معنى من معانيه ولا صورة من صوره؟ إن بلاغة التوراة والإنجيل في العبرية لا مساغ للشك فيها، ولكنك تقرأهما في العربية فلا تجد أثراً لهذه البلاغة؛ ذلك لأن الذين ترجموها إلى لغة القرآن لم يكن لهم بآدابها علم، فوضعوا لفظاً مكان لفظ، ولم يضعوا أسلوباً مكان أسلوب؛ فجاءت الترجمة كما ترى موضوعية عجماء لا تشبه لغة من لغات الناس في لون ولا طعم ولا شكل
فأنت ترى أن الترجمة التي يسوقونها دليلاً على أن الروائع الأدبية تحيا بصدق موضوعها، وأن الأفكار تنفصل عن الصور وتنتقل بدونها، هي نفسها الدليل الناهض على أن الموضوع لا تتحرك الهمم لنقله، إلا إذا راع النفوس بشكله، وأن الترجمة لا تكون صحيحة إلا إذا نقل المترجم أسلوب الكاتب أو استبدل به مثله
إذا حَلِيَ في صدرك بعد ذلك أن تذهب إلى ما ذهبتُ إليه من أن تجويد الأسلوب يتضمن تجويد الفكرة ويضمن خلودها؛ فدعك من أولئك الذين عادَوا الكمال الفني بطبائعهم فآثروا جانب التسمح والتجوز والمجازفة والمعافاة: كزولا، وبلزاك، واستندال، وسائر الذين رآهم فُلتير يحاصرون (معبد الذوق) ثم لا يستطيعون أن يَظهَروه ولا أن ينقبوه ولا أن يمنعوه. ولا تبال أولئك الذين نزلوا بقصورهم عن طبقة البلغاء فتنطعوا بركيك الألفاظ، وتكثروا بسخيف التراكيب، كهذه الكثرة الكاثرة من كتاب العربية وشعرائها في هذا العصر، فإنهم كما قال ابن قتيبة في أهل زمانه: (قد استطابوا الدعة، واستوطأوا مركب العجز، وأعفوا أنفسهم من كد النظر، وقلوبهم من تعب الفكر، حين نالوا الدرك بغير سبب، وبلغوا البغية بغير آلة). دعك من هؤلاء وأولئك وانظر أنت في الأسلوب الذي ارتضيته لنفسك فتعهده بالتصحيح والتنقيح ما استطعت، ولا تحفل الزمن الذي تنفق فيه؛ فإنك تخلق الخلق ليعيش، وتبدع الأثر ليخلد. والزمن لا يُبقي على عملٍ يتم بدونه. وما العبقرية كما يقول بوفون إلا صبر طويل. ولا عليك أن يقال عنك إنك بطيء بكيء؛ فإن زهيراً لم يعبه أحد بحولياته، وابن المقفع لم يغض من عبقريته قلة مؤلفاته، وأبو نواس شهر بالتخير والتفكير، كما شهر أبو العتاهية بالارتجال والاقتضاب، فجاء شعره كله من حر الكلام ومختاره، كما جاء شعر الآخر على رأي الأصمعي (كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى). وللابرويير كتاب واحد، ولفلوبير كتابان؛ ولو كان لبلزاك كتاب من طراز (الشمائل)، أو كتابان على أسلوب (مدام بوفاري) و (سلامبو) لما قلت شهرته بهما عن شهرته بمجلداته الخمسين
والروية والعمل والتهذيب والتأنق تشف عنها العبقريات الخالدات للعباقرة الخالدين. فهنا تجد الفرزدق ومسلم بن الوليد وأبا تمام وأبا العلاء وسهل بن هرون وأحمد بن يوسف والجاحظ وابن العميد والحريري؛ وهناك تجد بوالو ولافونتين وتين ولابرويير وبسكال ومنتسكيو وفلوبير وشاتوبريان وإدمون رستان!
كان لافونتين ينظم المثل ثم ينظر فيه عشر مرات، وفي كل مرة يحرر ويغيِّر، ويحذف ويضيف. وكان شاتوبريان يبديء الصفحة ثم يعيدها على نحو ما كان يفعل لافونتين. ويقول بسكال إنه حرر بعض فصول (البروفنسيات) خمس عشرة مرة. ولو كشف أفذاذ الكتاب عن عاداتهم في الكتابة لما وجدت فيهم من يرسل الكلام كما يجيء، ويقيد الفكر كما يَعِن
ومعاذ الله أن تحمل هذا الكلام الواضح على محمل العجزة الكسالى من مفاليك الأدب وصعاليك الصحافة، فتفهم من الروية التكلف، ومن العمل الجهد، ومن التهذيب الصنعة المكشوفة، ومن التأنق الزخرف الكاذب. تلك عيوب سيجيئك الحديث عنها فيما يجيء. ولسنا اليوم بصدد الإفاضة في تحليل الصفات الفنية التي تميز كلاماً من كلام، وتقضي لأسلوب على أسلوب. ذلك موضوع الحديث المقبل، وإنما كان ما ذكرناه من ضرورة المعالجة والمراجعة والتخير، تذييلاً لابد منه لمناقشة الخلاف بين أنصار الجمع بين الفكرة والصورة، وبين أنصار التفريق بينهما على الوجه الذي رأيت؛ فإن من لوازم الجمع التروية والتجويد والعناية، ومن لوازم التفريق التساهل والإهمال والارتجال ومجافاة القواعد؛ وكلها من أعراض السرعة التي جعلناها في حديثنا الأول إحدى البلايا الثلاث التي تكابدها البلاغة في هذا العصر.
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
مجلة الرسالة - العدد 520
بتاريخ: 21 - 06 - 1943
والحق الذي تؤيده الدلائل أن جمال الأسلوب وحده هو الذي ضمن الخلود لهذه الروائع؛ فإن الثابت بالسند المتصل والخبر المتواتر أنها كانت آية عصرها في البلاغة، ولولا ذلك ما روتها الرواة ولا ترجمتها التراجم. واللفظ كما يقول الجاحظ: (إذا لم يكن رائعاً والمعنى بارعاً لم تصغ له الأسماع، ولم تحفظه النفوس، ولم تنطق به الأفواه، ولم يخلد في الكتب)
والترجمة الصحيحة لا تنقل أفكار الكاتب أو الشاعر وحدها عن الاصل؛ إنما تنقل مع ذلك إشراق روحه، وسمو إلهامه، ولطف شعوره، ونمط تفكيره، وخصائص أسلوبه. فلو أن ترجماناً ضعيف العربية من تراجم المحاكم حدثته نفسه أن يعرض لإحدى روائع شكسبير فنقلها نقلاً لفظياً بأسلوبه الذي يترجم به عُروض الأحوال أو أصول الاحكام، فهل تقول إذا استطعت أن تقرأ ما كتب إنك قرأت شكسبير، أم ترى أنك قرأت ألفاظاً كالعظام المعروقة المبعثرة لا تمثل من أي حيوان معنى من معانيه ولا صورة من صوره؟ إن بلاغة التوراة والإنجيل في العبرية لا مساغ للشك فيها، ولكنك تقرأهما في العربية فلا تجد أثراً لهذه البلاغة؛ ذلك لأن الذين ترجموها إلى لغة القرآن لم يكن لهم بآدابها علم، فوضعوا لفظاً مكان لفظ، ولم يضعوا أسلوباً مكان أسلوب؛ فجاءت الترجمة كما ترى موضوعية عجماء لا تشبه لغة من لغات الناس في لون ولا طعم ولا شكل
فأنت ترى أن الترجمة التي يسوقونها دليلاً على أن الروائع الأدبية تحيا بصدق موضوعها، وأن الأفكار تنفصل عن الصور وتنتقل بدونها، هي نفسها الدليل الناهض على أن الموضوع لا تتحرك الهمم لنقله، إلا إذا راع النفوس بشكله، وأن الترجمة لا تكون صحيحة إلا إذا نقل المترجم أسلوب الكاتب أو استبدل به مثله
إذا حَلِيَ في صدرك بعد ذلك أن تذهب إلى ما ذهبتُ إليه من أن تجويد الأسلوب يتضمن تجويد الفكرة ويضمن خلودها؛ فدعك من أولئك الذين عادَوا الكمال الفني بطبائعهم فآثروا جانب التسمح والتجوز والمجازفة والمعافاة: كزولا، وبلزاك، واستندال، وسائر الذين رآهم فُلتير يحاصرون (معبد الذوق) ثم لا يستطيعون أن يَظهَروه ولا أن ينقبوه ولا أن يمنعوه. ولا تبال أولئك الذين نزلوا بقصورهم عن طبقة البلغاء فتنطعوا بركيك الألفاظ، وتكثروا بسخيف التراكيب، كهذه الكثرة الكاثرة من كتاب العربية وشعرائها في هذا العصر، فإنهم كما قال ابن قتيبة في أهل زمانه: (قد استطابوا الدعة، واستوطأوا مركب العجز، وأعفوا أنفسهم من كد النظر، وقلوبهم من تعب الفكر، حين نالوا الدرك بغير سبب، وبلغوا البغية بغير آلة). دعك من هؤلاء وأولئك وانظر أنت في الأسلوب الذي ارتضيته لنفسك فتعهده بالتصحيح والتنقيح ما استطعت، ولا تحفل الزمن الذي تنفق فيه؛ فإنك تخلق الخلق ليعيش، وتبدع الأثر ليخلد. والزمن لا يُبقي على عملٍ يتم بدونه. وما العبقرية كما يقول بوفون إلا صبر طويل. ولا عليك أن يقال عنك إنك بطيء بكيء؛ فإن زهيراً لم يعبه أحد بحولياته، وابن المقفع لم يغض من عبقريته قلة مؤلفاته، وأبو نواس شهر بالتخير والتفكير، كما شهر أبو العتاهية بالارتجال والاقتضاب، فجاء شعره كله من حر الكلام ومختاره، كما جاء شعر الآخر على رأي الأصمعي (كساحة الملوك يقع فيها الجوهر والذهب والتراب والخزف والنوى). وللابرويير كتاب واحد، ولفلوبير كتابان؛ ولو كان لبلزاك كتاب من طراز (الشمائل)، أو كتابان على أسلوب (مدام بوفاري) و (سلامبو) لما قلت شهرته بهما عن شهرته بمجلداته الخمسين
والروية والعمل والتهذيب والتأنق تشف عنها العبقريات الخالدات للعباقرة الخالدين. فهنا تجد الفرزدق ومسلم بن الوليد وأبا تمام وأبا العلاء وسهل بن هرون وأحمد بن يوسف والجاحظ وابن العميد والحريري؛ وهناك تجد بوالو ولافونتين وتين ولابرويير وبسكال ومنتسكيو وفلوبير وشاتوبريان وإدمون رستان!
كان لافونتين ينظم المثل ثم ينظر فيه عشر مرات، وفي كل مرة يحرر ويغيِّر، ويحذف ويضيف. وكان شاتوبريان يبديء الصفحة ثم يعيدها على نحو ما كان يفعل لافونتين. ويقول بسكال إنه حرر بعض فصول (البروفنسيات) خمس عشرة مرة. ولو كشف أفذاذ الكتاب عن عاداتهم في الكتابة لما وجدت فيهم من يرسل الكلام كما يجيء، ويقيد الفكر كما يَعِن
ومعاذ الله أن تحمل هذا الكلام الواضح على محمل العجزة الكسالى من مفاليك الأدب وصعاليك الصحافة، فتفهم من الروية التكلف، ومن العمل الجهد، ومن التهذيب الصنعة المكشوفة، ومن التأنق الزخرف الكاذب. تلك عيوب سيجيئك الحديث عنها فيما يجيء. ولسنا اليوم بصدد الإفاضة في تحليل الصفات الفنية التي تميز كلاماً من كلام، وتقضي لأسلوب على أسلوب. ذلك موضوع الحديث المقبل، وإنما كان ما ذكرناه من ضرورة المعالجة والمراجعة والتخير، تذييلاً لابد منه لمناقشة الخلاف بين أنصار الجمع بين الفكرة والصورة، وبين أنصار التفريق بينهما على الوجه الذي رأيت؛ فإن من لوازم الجمع التروية والتجويد والعناية، ومن لوازم التفريق التساهل والإهمال والارتجال ومجافاة القواعد؛ وكلها من أعراض السرعة التي جعلناها في حديثنا الأول إحدى البلايا الثلاث التي تكابدها البلاغة في هذا العصر.
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
مجلة الرسالة - العدد 520
بتاريخ: 21 - 06 - 1943