أدب السجون نقوس طارق - العقاب والاصلاح بين الخطاب والممارسة..

تقديـــم :
الجريمة ظاهرة اجتماعية لازمت البشرية منذ فجر تاريخها وهي اعتداء صارخ على المجتمع محدثة في فرد من أفراده ضررا مقدرا ومعلوما وهي هجوم ضد السلطة الإجتماعية وضد قوانينها.
والجريمة مفهوم اجتماعي قبل أن يكون فقهيا تتناوله الشريعة والقانون. بمعنى أنها فعل يصدر عن فاعل يفيد منه بشكل من الأشكال على مفعول به يتضرر منه بأية صورة. فيكون له ولذويه رد فعل معين على الفعل الذي فعل والضرر الذي وقع. ورد الفعل هذا هو ما يعرف اجتماعيا وشرعا وقانونا بالعقوبة. وهكذا تكون الجريمة و العقوبة فعلا ورد فعل أو بالإصطلاح النفسعـضوي مثيرا واستجابة(*).
وقد ظهرت الحاجة الى العقوبة منذ القدم رغبة في استتباب الأمن وتحقيقا للعدالة وصدا لنهر الجريمة المتدفق. وتعتبر العقوبة في فلسفة أفلاطون على وجه خاص بأنها لا تلتفت الى الماضي بل تتجه نحو المستقبل ولها غايات ثلاث: جبر ما حدث من ضرر وإصلاح ما هو قابل للإصلاح وإقصاء من لا يرجى له الشفاء(**).
وأهمية العقوبة وجدواها تقتصر على مدى فعاليتها، فإذا لم تؤدي الى تحقيق غايتها فإنها بالضرورة تفقد أهميتها. والعقوبة العادلة هي العقوبة الضرورية التي تبتعد عن الإسراف في تسلط سوط العقوبة خاصة وأن هناك ظروفا اجتماعية متعددة تكمن وراء الجريمة وبذلك يتحمل المجتمع وزر ما قد يحدث من جرائم حيث أصبح من المعقول العمل على الوقاية من الجرائم المقبلة والإتجاه نحو المستقبل وتركيز العمل على البحث عن المجرم واصلاحه. وقد ساعد هذا على نشر وجهة النظر التي مفادها: إذا اريد اصلاح المجرمين فإنه يجب العناية بدراستهم وفهمهم ومساعدتهم أو حتى عزلهم لا مجرد انزال الألم بهم.
بفعل هذه الأفكار وغيرها بدأ صرح قانون العقوبات العتيق يهتز أمام محاولات جادة ومثابرة تمتد بمعول الهدم لكافة جنباته القاسية ومحاولات من كل مذهب إجتماعي, ديني, نفسي , إنساني فكانت النتيجة أن بدأ التحول المنشود من النظر الى الجريمة يتحول الى معالجة الموقف من المجرم وذلك بالوقوف على نفسيته وتربيته وظروف وعوامل بيئته, ومسؤولية المجتمع , أي الإنتقال من موضوعية العقوبة الى شخصية الإثم.
إنها ثورة قد حدثت في النظام العقابي برمته حيث وصل الحماس, بالبعض الى حد المناداة بوضع إنسانية الإنسان في المقام الأول إذا اصطدمت بمبادئ ونظم الدولة, وفي ضوء هذا التطور جاءت النظريات الحديثة لتساير من جانبها هذا التطور وتدعمه.
وإزاء كل هذه المعاني التي قيلت عن العقوبة, ترى هل حققت هذه الأخيرة أهدافها وما ترمي إليه من غايات ومقاصد في نطاق التطور الفكري و الحضاري و إنتصارا للمعاني الإنسانية, هل استطاعت إصلاح المجرم وإعادته الى طريق المجتمع السوي ؟
هل استطاعت السجون ببرامجها تقويم اعوجاج هذه الشريحة المجتمعية أم باتت وكرا لإنتاج الجانحيــن؟
ترى ما هي العوامل المتداخلة, سياسية, إقتصادية, إجتماعية... التي يعزى اليها فشل السياسة العقابية ؟


كل هذه الأسئلة سنحاول جاهدين الإجابة عنها في بحثنا هذا.



الفصل الأول :

البعد الاجتماعي والقانوني للعقوبة.

· المبحث الأول : تاريخ وفلسفة العقاب.
تقديــــــــــــم : يعتبر القانون الجنائي في مفهومه الواسع من أقدم القوانين , فهو قرين البشرية منذ وجودها, ذلك لأنه يتصل بالغرائز التي أودعها الله الإنسان , فالإنسان في مجتمعه تتنازعه قوتان متعارضتان . الفردية المتمثلة في أنانيته للإستئتار بكل شيء و إهدار حقوق الآخرين , و الغريزة الإجتماعية التي تنشد بقاء الجماعة والمحافظة عليها. الأمر الذي يقتضي ضبط الشهوات و النزعات. وكان من الطبيعي أن تقوم بين أفراد الجماعة الواحدة منافسة على الحياة تتبعها منازعات تؤدي بدورها الى الخلل و الإضطراب. ولكن بمرور الزمن أحل الإنسان السلم مكان الحرب و انتهت تجاربه إلى أنَّ تمتعه بحريته أوجب عليه التنازل عن شيء منها و السماح للآخرين بالتمتع بحرياتهم بالشروط ذاتها. وكان تحديد الحريات المختلفة في شكل قواعد بالتزام كل فرد بإتباعها في علاقته مع الآخرين ، ومن هذه القواعد تكون القانون .
لهذا فإن تطور الفكر العقابي و القانون الجنائي يتناول تطور الجماعات ذاتها، وكذلك الأفكار و الآراء و المعتقدات التي صاحبت ذلك التطور.

v المطلب الأول : تطور الفكر العقابي.
I: عصرالانتقام الفردي :
كانت القوة هي القانون في العصور القديمة، لذا فإن كل عمل يقع على الفرد يعتبره عدوانا عليه و يهب لدفعه أو للرد عليه، وكانت الغلبة للأقوى لا لمن كان الحق في جانبه. والفرد هو الذي يقرر ما إذا كان الفعل ماسا به من عدمه، ومقدار الرد الذي يواجه به المعتدي ومن الطبيعي أن لا يكون معنى الجريمة و العقاب معروفا و إنما كانت الغرائز هي المحركة لمختلف التصرفات. (1)
و الإنسان بطبعه كائن اجتماعي بحكم الغرائز القائمة فيه يميل الى الإتصال بغيره و الارتباط به ومن ثم نشأت الجماعات وكانت أصغر نواتها الأسرة. ودفعته غريزة حب البقاء الى المحافظة عليها. فأخضع الطبيعة لقوته وسلطانه ثم قادته غريزته الإجتماعية الى الإندماج مع غيره من الأفراد ، حيث تعذر عليه العيش بمفرده. وقد اقتضى واجب المحافظة على هذه الجماعة الصغيرة أن يقوم فيها رئيس يباشر شؤونها. فإن وقع اعتداء من أحد أفرادها على فرد آخر، أوقع المجني عليه تحت إشراف رئيس الأسرة اعتداء مماثلا. ومن هنا كانت القاعدة : " العين بالعين و السن بالسن " .
وفي سبيل حفظ النظام داخل الأسرة بدأ الرئيس في توقيع بعض العقوبات التي كانوا قد تراضوا عليها مثل: القتل و الضرب و الطرد من الأسرة الذي يترتب عليه تجريد الفرد من حمايتها وإهدار دمه. ولما انضمت الأسرة الى بعضها البعض وتكونت العشائر بقيت القواعد ذاتها مطبقة، وكان هذا الأمر مقصورا في البداية على الأفعال الخطيرة التي تهدد كيان العشيرة واعتبرت نوعا من الخيانة، أما الجرائم الصغيرة فكانت تخضع لمبدأ الإنتقام الفردي الذي أخذت تضيق دائرته بمرور الزمن فيحل محله القصاص وأحدثت بعض القيود التي تحرمه في مناسبات تتصل بالمعتقدات السائدة.

أما إذا وقع الاعتداء من فرد في أسرة أو عشيرة على آخر في أسرة أو عشيرة أخرى ولم تكن هناك سلطة عليا تخضع لها أفراد الأسرتين أو العشيرتين حتى نستطيع أن نجازي الفاعل على ما قدمت يداه. ويكون الأمر في هذه الحالة أن يستنصر المجني عليه أفراد عشيرته للثأر من الجاني وعشيرته. فتقوم الحرب الى درجة لا يعرف مداها. ولا شك في أن هذا الوضع بدوره أساسه الغرائز الموجودة في كل من أفراد الجماعة. وكما هو الحال بالنسبة الى الأفراد كانت الغلبة للقوي. و من تم لم يكن الحق في جانب المنتصر دائما. بل أن القوة هي الأساس في انتصاره.
من خلال ما سبق لا يمكن القول أن فكرة القانون الجنائي قد ظهرت خلال هذه الفترة، كما أنه لم يكن يتوفر مفهوم الجريمة أو العقاب و إنما قوة وسلطان.
ومن الواضح أنه في ذلك العصر الإنتقامي لم يكن يهدف من الجزاء مكافحة الجريمة سواء بما يحدثه من ردع خاص أو عام ولكنه كان نتيجة طبيعية لمجتمع المقاتلين حيث كانت القوة أمرا عاديا ولم تكن فكرة الخطيئة معروفة وكان للجزاء صفة آلية بل ان المسؤولية عن الفعل الخاطيء تقع على عاتق الجماعة من أقرباء الفاعل (2).


II : عصر الإنتقام الإلهي و الإنتقام العام.
انتهى العصر الأول بظهور الدولة. وكان هذا متماشيا مع ظهور الأديان ، وأخذ سلطان الدولة يقوى بمرور الزمن . وفي سبيل تثبيت وجودها واستمرارها أخذت على عاتقها مؤاخذة المجرم عن الجريمة التي يرتكبها منتزعة بهذا سلطان رؤساء القبائل . وقد استندت الدولة في هذا الى أن الجريمة تعد مخالفة لأوامر الله وفيها إزعاج للمجتمع . ففي العقاب تكفير من الجاني عن ارتكاب الجريمة وردع له من أن تساوره نفسه لإقتراف جرم آخر.
فضلا عما في هذا من ردع للغير. لقد كانت المعتقدات الدينية التي تؤمن بها المجتمعات الأولى من بين أسس الإرتباط بينها. الأسباب التي اعتمدت عليها في سبيل المحافظة على كيانها . لهذا فإنها نظرت الى الجريمة بإعتبارها فعلا يثير غضب الآلهة. وأن ما صدر عن الجاني هو بسبب الأرواح الشريرة التي تقمصته، وعملا على استجلاب رضى الآلهة يتعين تطهير الجاني من تلك الأرواح وذلك بإنزال أقصى العقوبات به. (3)
وكان من الطبيعي و الدولة في بدء نشأتها أن توجه كل قوتها وسلطاتها للإنتقام من الجاني الأمر الذي تمثل في عدم تحديد الجرائم و في قسوة العقوبات والتفرقة بين الأفراد في المعاملة. فلم تكن الجرائم محددة ولا معروفة مسبقا وإنما كان تحديد الفعل وما إذا كان يعد جريمة من عدمه متروكا لتقدير القاضي ، والعقوبات كذلك لم تكن معينة الأنواع أو مظبوطة الحدود و العقوبة الغالبة هي الإعدام وكان تنفيذ العقوبات يتسم بالقسوة و الشدة ، فعقوبة الإعدام تنفذ بعد تعذيب المحكوم عليه. وتتم بصورة علنية يقشعر منها البدن ، اما عقوبة السجن فكانت تنفذ في أماكن خالية من كل رعاية صحية بل كان المحكوم عليهم يساقون الى السجون تحت رحمة القائمين عليها دون طعام أو اشراف. وأسفر هذا عن تحويلها الى بؤرات للإجرام. فلم يعد السجن مكانا للإصلاح وإنما أداة لإفساده .

إن هذه الفترة من فترات القانون الجنائي كانت من أسوأ العصور في تطور العدالة . ولم يكن احترام القيود التي تفرض على حرية الأفراد نتيجة لذلك بالأمر الميسور لهم بعد الحرية المطلقة التي كانوا يتمتعون بها. فأول ما عنيت به الدولة في بدء نشأتها هو المحافظة على سيادتها وكيانها من العدوان. وذلك بمقاومة الجرائم الماسة بسلطانها. كالخيانة و التجسس و الهرب من الجندية وأخذت الدولة تزيد في قائمة الجرائم التي تعاقب عليها فامتدت الى كل ما يمس بالمصلحة العامة ولو بطريق غير مباشر، وفرضت لهم أشد العقوبات على أن الحكام استندو الى نظرية التفويض الإلهي وتوسيع نطاقها في سبيل تدعيم سلطانهم و التخلص من خصومهم السياسيين و المنافسين لحكمهم. (4)
ولما أصبحت الجريمة ظاهرة اجتماعية وفيها تهديد للنظام العام. لم يعد الهدف من العقاب مقصورا على الإنتقام من الجاني ولكن اتجه الى اتخاذ الوسائل الضرورية لمنع الجرائم في المستقبل فالأساس هو تطهير نفس الجاني الذي وقع منه خطأ بارتكاب الجريمة ويستوجب جزاء يوقعه الملك الذي يستمد سلطانه من تفويض إلهي . وكانت الغاية حماية النظام العام بإعتبار الجزاء حين توقعه الدولة من شأنه أن بمنع الجاني من معاودة إرتكاب الجريمة. ويمنع الغير من الإقدام عليها. فكان القانون الجنائي الفرنسي منذ ق 17 يقوم على أساس كلمتين التفكير و الردع. (5)
خلاصة القول أنه في هذه المرحلة تحولت فكرة القصاص و الدية الى العقوبة . فأخذت السلطة الحاكمة لنفسها حق العقاب العام الذي حل مكان العقاب الخاص وأصبحت هي وحدها المختصة بتوقيع الجزاء على الجاني نتيجة لما أحدثه فعله من مساس و اضطراب في أنظمة المجتمع ، كما أنها احتجزت لنفسها قدرا من الدية التي يحكم بها كمقابل لما شاركت به سلطاتها من اجراءات تحصيلها من الجاني ، ثم نشاة فكرة الغرامة الجنائية التي تطورت حتى أصبحت عقوبة مستقلة قد يحكم بها وحده عن الجريمة التي تقع من الجاني . وبقي حق المتضرر من الجريمة في التعويض الذي يقتضيه بإعتباره مجرد حق مدني له.


III : العصـــر الإنسانـي.
من المنطقي أن يتحمل الإنسان نتائج تصرفاته الضارة سواء ما يتعلق منها بمعاملاته أو بما يحرمه القانون ويوصف بأنه جريمة.
وقد تناول الفلاسفة دراسة الأساس الذي تبنى عليه مسؤولية الفرد جنائيا وانقسموا الى فريقين أساسيين : (6)
1. الفريق الأول : يرى أن الإنسان متى اكتملت مداركه العقلية أصبح حرا في تصرفاته يوجه إرادته حيث يشاء ويكون مسؤولا عن كل أفعاله، فأمامه طريقا الخير و الشر، وحسبما يوجه إرادته يتحمل مسؤولية تصرفه. وعلى هذا فالجريمة وليدة إرادة الفرد الحرة. وحيث تنعدم الإرادة و الإختيار تنتفي المسؤولية، أي أن أساس المسؤولية الجنائية هو المسؤولية الأدبية أو الأخلاقية.
2. الفريق الثاني : نظر الى المسألة من وجهة مغايرة مقرر أن تصرفات الإنسان مقدرة عليه ليس لإرادته فيها دخل كبير. وإنما هي نتيجة العوامل و الظروف المختلفة : طبيعية وشخصية وعائلية تضافرت جميعا فدفعت به الى طريق الجريمة . ومن تم فلم يكم له قبلها أية قوة أو مقاومة.
وكان من نتيجة الرأي الأول أن أصبحت العقوبة جزاء على تصرفات الشخص ضد المجتمع ويتوافر لها معنى تحقيق العدالة بين أفراده.
أما الرأي الثاني فيعتبر الجريمة أولا إرادة للفرد فيها وأن أساس العقوبة هي دفاع المجتمع على نفسه ضد الأفعال الضارة التي تؤثر في كيانه.
وقد كانت النظرة الأولى ( حرية الإختيار و الجبرية ) محورا للفلسفة الجنائية منذ أواخر القرن 17 م . ذلك أن أخذت الدولة لنفسها حق العقاب وعملا منها على استقرار الأمن فيها قد أدى إلى تلك القسوة في العقوبات، مما أبعد السياسة الجنائية عن العدالة ، وبدأت الأذهان تنتبه الى ما بالعقوبات من ظلم وقسوة في التنفيذ لا مبرر لها. مما حمل رجال الكنيسة على مناهضتها و الفلاسفة على مهاجمتها ومحاولة تأصيلها إبتغاء وضع الضوابط لها. فمن ناحية لعبت محاكم الكنيسة في العصور الوسطى دورا هاما ، وكان تسلطها واضحا على دول أوربا في الجانب الأكبر من تلك العصور . فأدخلت في اختصاصها كل الأفعال التي تمس من قريب أو بعيد مصالح الكنيسة كالجرائم ضد الأماكن المقدسة و أموال الكنيسة و السحر و الزنا ... وجعل النظام الكنيسي فكرة العقاب متمشية مع فكرة الخطيئة و المجازاة عليها.
وسارت الكنيسة في طريقها لتحقيق هدف أكثر واقعية و أكبر فائدة، فالعقوبة لها قيمة إصلاحية فهي وسيلة لتقويم المذنب . ولأول مرة الأخذ بعين الإعتبار مستقبل الجاني ومحاولة إعادته الى الحياة الإجتماعية . وكان هذا أكبر تجديد في تاريخ الأفكار العقابية، فقد كان للكنيسة وتعاليمها أثر بالغ في تعديل النظم العقابية. إذ أخذت تشيع مبادئ الرحمة و المغفرة و الأخوة وتحاول مساعدة المجرم على النهوض من عثرته. ولهذا ألغيت عقوبة الإعدام وخففت العقوبات الأخرى وطبق نظام الكفارات الدينية وكان أهم حدث هو إصلاح السجون حتى يعامل فيها المسجونون معاملة تتسم بالإنسانية وتهدف الى إصلاح حاله . وقد كان لهذا التطور أثر بالغ في إصلاح السجون في أوربا لاسيما بعد حملة الإصلاح التي حمل لواءها اللورد الإنجليزي.(7)
لكن بالرغم من تعاليم المسيحية التي تنطوي على جوانب إنسانية فإنه لم يكن لها أثر كبير بسبب الإعتبارات السياسة التي كانت تسيطر على الحكام ابتغاء تتبيث دعائم سلطانهم.
ولقد قام الفلاسفة من ناحية ثانية بحملة ينكرون فيها قسوة العقوبات التي لا مبرر لها راسمين بذلك الأساس في توقيعها و الهدف الذي يرجى تحقيقه منها حماية للجماعة ، ومن هؤلاء الفلاسفة ( مونتيسكو) الذي أخرج كتابه ( روح القوانين ) وحمل فيه على قسوة العقوبات لاسيما ما كان منها مهينا ، وإستبعد نظريات العقاب التي تقوم على فكرة التكفير و الردع، موضحا أن القانون الجنائي يختلف بإختلاف الوقت و الإقليم و المناخ فهو نسبي في أعماله الى جانب ذلك ظهرت كتابات هوبز ولوك وروسو التي بنيت على أساس العقد الإجتماعي . (8).
بينما ذهب هوبز الى أن عقدا أبرم بين الأفراد جميعا نقل الحق الطبيعي المطلق الذي كان يملكه كل فرد الى شخص ليس طرفا في العقد، وبالتالي فإرادة هذا الأخير تحل محل ارادة الجميع وتمثلهم .
أما لوك فقد قرر ان جميع أطراف الجماعة طرف في العقد بما في ذلك من يتولى السلطة العامة وهم لا يتنازلون بمقتضاه على حقوقهم كلها، وإنما عن الجزء اللازم منها لخلق تلك السلطة التي لا يجوز أن تمس ما احتفظوا به من هذه الحقوق .
و أخيرا بدأ جان جاك روسو كتابه العقد الإجتماعي بعبارة: « يولد الإنسان حرا ولكنه يكبل بالأغلال في كل مكان فكيف حدث هذا التغيير ». وبموجب عقده الإجتماعي، نزل كل مشترك نزولا كليا من غير تحفظ كلما كان الإتحاد أكمل . وإذا يعطي كل واحد نفسه للكل لا يعطيها في الواقع لأحد. وتلك هي صيغة الميثاق الجماعي: « يضع كل واحد منا نفسه وكل ما أوتي من قوة مشتركة تحت الإدارة العليا للإرادة العامة، ونلتقي بهيئتنا كل عضو كجزء من كل لا يتجزأ » .

v المطــلب الثاني : أهم النظريات الحديثة في العقوبة.
كان لكتابة الفلاسفة أثر بالغ في رجال الفكر الجنائي الذين استوحوا أفكارهم من فلسفة العقد الإجتماعي وأخذوا في دراسة علاقة الدولة بالفرد وأساس حقها في العقاب محاولين بذلك إيجاد ضوابط واضحة تحمي حريات الأفراد واضعين بذلك حجر الأساس للقانون الجنائي الحديث ، وقد استمر تطور القانون الجنائي وسادته نظريات مختلفة اتخذت كل منها إسم مدرسة على الشكل التالي :
I : المدرسة التقليدية الأولى: يطلق عليها كذلك إسم المدرسة الكلاسيكية في القانون الجنائي ومن أهم أقطابها سيزار بيكاريا Beccaria (1738 – 1794 ) فقد كان لكتابه الذي أخرجه عن الجرائم و العقوبات عام 1764 م وقع كبير حيث تصدى البعض لأفكاره بالدفاع عنها في حين صدمت الأوساط القضائية و الجامعية بآراءه الجديدة . ومن رواد هذه المدرسة أيضا بنتام Bentham ( 1778 – 1832 ) وكتابه عن العقوبات و المكافآت عام 1818م . وفيورباخ Fuerbach ( 1775 – 1833 ) وكتابه الذي نشره عام 1801م عن شرح قانون العقوبات الألماني .
وقد كانت لآراء فقهاء هذه المدرسة رد الفعل الطبيعي للحالة التي كانت قائمة من قبل. فأقرت مبدأ شرعية الجرائم و العقوبات و الذي يقضي بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني وبهذا يأمن الناس على حرياتهم إذ أن النتيجة الطبيعية لهذا هي القضاء على السلطة الواسعة التي كانت للقضاء في التجريم والعقاب .(9)
يرى بيكاريا أنه " لا يجوز أن تكون العقوبة عمل عنف يصدر من فرد أو أكثر ضد فرد آخر من أفراد المجتمع ولكن ينبغي أن تكون في أقل قدر ممكن بالنسبة الى الحالة التي توقع فيها، وينبغي أن تكون متناسبة مع الجريمة و محددة بناء على القانون" . (10)

ويرى بنتام أن تكون العقوبة من الجسامة بحيث يجد الشخص في الموازنة بين الإقدام على الجريمة واحتمال العقوبة وبين الاحجام عنها و الإفلات من العقاب ، ويجد مصلحته وفائدته في اختيار الأحجام ويقرر فيورباخ أن الدافع النفسي الى الجريمة هي اللذة التي يستشعرها الشخص لإرضاء إحدى شهواته بإرتكابها، وأنه بالإمكان القضاء على هذا المصدر إذا علم كل إنسان سلفا بأن فعله سوف يجلب عليه حتما أذى جديد مما يجلبه له عذم ارضاء شهوته من حرمان من الإحساس باللذة .(11 )
وقد حمل بيكاريا على الوسائل العقابية السائدة في عصره ، مبينا أن الغاية من العقوبة هي النفع الذي يتوصل اليه عن طريقها، وهو يتمثل في منع المجرم من العودة الى ارتكاب الجريمة وردع غيره من محاولة الإقتداء به وبين هذين الحدين فقط يتقرر العقاب. ومتى تحققت تلك الغاية فلا محل لتعذيب المجرم أو التنكيل به ، والعقوبة الرادعة في نظره ليست العقوبة الشديدة في قدرها بل العقوبة الموثوق في أعمالها ، فتطبيق القانون هو الذي يتمثل فيه عامل الردع ومن تم لا محل للعقوبات الشديدة التي ينبغي أن يحددها القانون فلا يترك أمرها لأهواء القضاة وتحكمهم.
بالرغم من أن بنتام وفيورباخ اعتنقا مبدأ المنفعة الذي نادى به بيكاريا ، إلا أنهما إستندا الى نظرية المصلحة الإجتماعية في تبرير العقوبة ، فهي وسيلة ضرورية لتحقيق مصلحة مشروعة للمجتمع في مكافحة الإجرام ومن تم يجب أن تكون العقوبة رادعة ويتحقق الردع بأن يكون الضرر الذي يلحق بالمجرم نتيجة لها ، أكبر من النفع الذي يحصل عليه من الجريمة ، فهما يناصران سياسة الردع و الإرهاب و القسوة في العقاب خلاف لآراء بيكاريا الذي يرى بأن يكون العقاب بالقدر الضروري متأثرا بفكرة العقد الإجتماعي . (12)
وقد اعتنقت المدرسة التقليدية الأولى مبدأ حرية الإختيار كأساس للمسؤولية الجنائية وهي القدرة المجردة على الإختيار بين طريقي الخير و الشر ، فلا يسأل عن الأشخاص جنائيا إلا من توفرت لديه الملكات الذهنية و النفسية التي تكفل له تمييز الخير و الشر وبالتالي إدراك ما في تصرفاته من احترام أو مخالفة لمبادئ الأخلاق.

وقد افترضت هذه المدرسة أن حرية الإختيار متساوية لدى كل الأفراد ما دام لا يقوم لدى أحدهم مانع من موانع المسؤولية كالجنون وكانت النتيجة المنطقية لهذا لم تعترف بالمسؤولية المخففة بالنسبة لبعض المجرمين كالشواذ .
كما اعتنقت مبدأ الشرعية حيث حددت كل جريمة والعقوبة المقررة لها و التي تطبق على كل مرتكب لها . فتخلصت من تحكم القضاة وتوصلت الى التخفيف من العقوبات تحت فكرة العقد الإجتماعي . ( 13 )
II : المدرسة التقليدية الثانية أو الجديدة : قامت هذه المدرسة على أنقاض الإنتقادات التي وجهت الى المدرسة التقليدية الأولى حيث حاولت إصلاح أفكار المدرسة الأولى و التوفيق بينهما وبين مفاهيم العدالة و الآراء العلمية التي ظهرت في النصف الأول من القرن 19م وتفتخر هذه المدرسة بأسماء لامعة من العلماء الذين أسسوها مثل : روسي Rossi و كرسون Garçon، كارو Garraud وكوزو Guzot وأرطولان Ortelon وكرارا Carrara وميترمير من ألمانيا.
ويرى أصحاب هذه المدرسة أن العقوبة تقوم على مفهوم العدالة المطلقة التي نادى بها الفيلسوف الألماني كانط Kant وهذا ما بينه في كتابه Elements métaphysiques de la doctrine de droit الصادر عام 1796م . وهو أساس جديد للعقوبة يرتكز على اعتبارات أخلاقية مفادها أن العدالة المطلقة النفعية الإجتماعية هي الأساس الذي ترتكز عليه الجماعة لتوقيع العقاب على المجرم ، ويرى كانط أن العقاب يجب أن ينزل بالمجرم الذي ينتهك أخلاقية الجماعة وأن غاية العقوبة ووظيفتها قبل كل شيء إرضاء شعور العدالة وتدعيم قوانينها وذلك بإصلاح الأذى الذي أعقبته الجريمة أي بالتكفير عنها . (14)
وقد ذكر كانط مثلا خياليا مشهورا يعرف بفرض الجزيرة المهجورة مقتضاه أنه إذا فرض أن جماعة تقيم في جزيرة وقررت أن تهجر الجزيرة وتتشتت، فلا بد لها قبل أن تقدم على ذلك أن لا تغفل تنفيذ حكم الإعدام في آخر من يحكم عليه بهذه العقوبة من مجرميها ومن الواضح أن هذه الفكرة تقوم على أساس من قواعد القانون الأخلاقي ومبادئ المسؤولية الإنسانية .(15)
وإذا كانت المدرسة التقليدية الأولى تأخذ بمبدأ المنفعة كأساس للعقاب. وكان مذهب كانط مبنيا على العدالة المطلقة فإنه من المنطقي أن يوجد من يحاول التوفيق بين النظريتين ، فوجد من أنصار المدرسة التقليدية من يتمسك بمبدأ المنفعة مع محاولة الإفادة من قاعدة العدالة .
فالمدرسة التقليدية الثانية تأخذ بقاعدة حرية الإختيار فالإنسان العادي هو الذي يسلك أحد الطريقين ، طريق الخير أو طريق الشر فإن سلك هذا الأخير وجب عليه أن يتحمل مسؤولية تصرفه فهو مسؤول أخلاقيا . وهي بهذا تأخذ بالمذهب النفعي الذي يحقق الردع العام وذلك بتهديد المجرم من معاودة إرتكاب الجريمة وتهديد غير من محاولة الإقتداء به، على أنها من ناحية أخرى تأخذ بمبدأ العدالة .(16)
ولقد اهتمت المدرسة التقليدية الثانية بوظيفة المنع الخاص للعقاب حتى لا يعود المجرم الى الإجرام . كما أوصلتها فكرة العدالة الى الإهتمام بشخص المجرم حيث تقضي النظر في شخصية المجرم من كافة نواحيها الشخصية و النفسية و الإجتماعية وأدى هذا الى توسعها في موانع المسؤولية .
و أثرت المدرسة التقليدية الثانية تأثيرا واضحا في كثير من التشريعات لاسيما في قانون العقوبات الفرنسي عن تعديله سنة 1832م . فقد خفف العقوبات وتوسع في نظام الظروف المخففة واستبعد وسائل التنكيل كقطع يد قاتل أبيه أو أحد أصوله قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه و إلغاء عقوبة الوصم بالحديد المحمي و التشهير بالأجساد.(17)
وعلى الرغم من تأثير تلك المدرسة في الكثير من التشريعات فقد لوحظت زيادة مضطردة في الإجرام مما جعلها هدفا للنقد، بيد أن أنصارها ذهبوا الى أن الخطأ ليس في النظرية ذاتها وإنما يرجع الى فساد أنظمة السجون، فوجهت العناية إليها لتحقيق الغاية منها في سبيل إصلاح المجرم، واقترح أنصارها نظام الحبس الإنفرادي في السجون تفاديا لمخاطر الإختلاط على أن خطورة العزلة في حياة المساجين ونفسياتهم أسفرت قيام النظام التدريجي ومن بعده نظام التصنيف على ما هو معروف في تطور أنظمة السجون.

III : المدرسة الوضعية :
نشأت المدرسة الوضعية خلال الثلث الأخير من القرن 19م وتسمى أيضا المدرسة الإيطالية بسبب نشأتها ووجود أقطابها في إيطاليا ، وأقطاب هذه المدرسة : سيزار لومبروزو Lombrozo الذي أصدر كتابه ( الإنسان المجرم ) L'homme Criminel سنة 1876م وأنريكو فيري Enrico Ferri الذي أصدر كتابه (علم الإجرام) La Criminologie ولقد أنكرت هذه المدرسة الأساس الذي قامت عليه المدرسة التقليدية في صورتها الأولى و الثانية ( مبدأ حرية الإختيار) . كما انتقدت تركيز الإهتمام في الجانب الموضوعي أو المادي ( الجريمة ) و اعتبارها وحدها مقياس الخطأ في حين أغفلت الجانب الشخصي ( المجرم ) .(18)
وبنت المدرسة الوضعية مبادئها على أساس دراسة الوقائع ثم استقرار النتائج التي تسفر عنها تلك الدراسة الواقعية، ووجهت إهتمامها الى شخص المجرم دون الفعل المسند إليه. وذلك أن الجريمة بمجرد وقوعها ينتهي أمرها ويبقى شخص الجاني وآثار الجريمة ، ولهذا فالعناية يجب أن توجه الى المجرم.
كما أخذت هذه المدرسة بمبدأ الجبرية، فالمجرم لا يرتكب الجريمة مختارا بل ينساق اليها تحت تأثير عدة دوافع تعدم حريته و اختياره . ومع ذلك فمسؤولية المجرم مسألة حتمية لأنها ضرب من المسؤولية الإجتماعية ليحمي المجتمع نفسه ضد الجريمة ، فالمجرم يعيش في المجتمع و بإرتكابه الجريمة فقد أفصح بصفة مؤكدة عن حالته الخطرة .(19)

ولقد حصرت هذه المدرسة أسباب الإجرام في نوعين :
§ النـــــوع الأول : الأسباب الداخلية التي تتصل بشخص المجرم من ناحيته الجسمية و العقلية و النفسية والميول و الطابع .
§ النــــوع الثاني : الأسباب الخارجية التي تتصل بالوسط و البيئة التي يعيش فيها وما بها من ظروف إجتماعية وسياسية واقتصادية.
وعلى هذا قسمت المجرمين الى خمسة طوائف واقترحت الإجراء المناسب لهم : (20)

1. المجرم بالفطرة أو بالطبيعة : Criminel né وهو الشخص الذي ولد مجرما ويعرف بعلامات ظاهرة فيه كصغر جمجمته وبروز ذقنه الى الأمام ، ومثل هذا الشخص لا يرجى إصلاحه ، ولهذا يجب أن يتخلص منه المجتمع إما بإعدامه أو بنفيه الى مستعمرة زراعية تأمينا للمجتمع من شره.

2. المجرم المختل العقل أو المجنون : Criminel aliéné وهو من يرجع إجرامه الى مرض في عقله سواء بسبب طبيعي خلقي فيه أو بسبب مكتسب وهذا الشخص يعتبر مريضا ويودع بإحدى المصحات لعلاجه إذا أمكن .

3. المجرم بالعاطفة : Criminel passionnel وهو الشخص العصبي شديد الحساسية الذي يقترف الجريمة متأثرا بعاطفة جامحة كالغيرة أو الحقد ثم يندم عليها بعد ذلك ، وهو شخص لاداعي لعقابه وإنما يبعد مؤقتا عن مكان الجريمة ، على أن يلتزم بتعويض الضرر الناشئ عن فعله.

4. المجرم بالصدفة : Criminel d’occasion وهو الشخص الذي يقترف الجريمة متأثرا بالوسط الذي يعيش قيه وبالظروف التي تحيط به كالحاجة الملحة و الإغراء الشديد وهو شخص يخشى دائما من معاودته للإجرام ويتعين إبعاده عن وسطه ووضعه في مستعمرة زراعية أو صناعية لمدة غير محددة مع إلزامه بتعويض الأضرار الناشئة عن فعله.

5. المجرم المعتاد : Criminel d’habitude وهو الشخص الذي ارتكب الجريمة تحت تأثير البيئة ثم أفسدته السجون فإحترف الإجرام ولا أمل في إصلاحه ومن تم وجب إبعاده عن المجتمع كما هو الشأن بالنسبة الى المجرم بالفطرة.

وكان للمدرسة الوضعية فضل توجيه العناية الى شخص الجاني ، وأوجدت بعض المبادئ و النظم الحديثة في القانون الجنائي فوضعت التدابير الإحترازية و الإفراج الشرطي ووقف العقوبة حيث يرجى إصلاح الجاني و العقوبة غير محددة المدة و إبعاد المجرمين العائدين و أهمها فكرة تفريد العقوبة فتكون الجزاءات و التدابير ملائمة من حيث نوعها ومقدارها لكل مجرم على حدة.


IV : المدارس الوسيطية أو مذاهب التوفيق :
برغم النظريات المختلفة حول المسؤولية والجريمة فإن الإجرام لم يتوقف عن الإزدياد و الإنتشار مما دعا الكثير من الباحثين الى معاودة النظر في الأفكار السابقة لهذا قامت بعض الإتجاهات الفكرية بالتوفيق بين المدارس السابقة وقد أطلق على هذه الإتجاهات إسم المدارس الوسيطية أو مذاهب التوفيق ونخص بالذكر منها : المدرسة الثالثة والجمعية الدولية لقانون العقوبات التي حلت محل الإتحاد الدولي لقانون العقوبات.
1) المدرسة الثالثة أو المدرسة الوضعية الإنتقائية : قامت هذه المدرسة على أساس مبدأ عام وذلك بجمع نقط الصواب في المدارس المختلفة السابقة لها وقد كان أساسها هو المذهب الوضعي الذي لم يتخل عنه ، ولهذا سايرت في إستنادها الى مبدأ الحتمية وأن الجريمة ظاهرة ناشئة عن عوامل شخصية وعوامل خارجية (21).
وبدا هذا أيضا في إهتمامها بالجانب التجريبي وبعلم الإجرام وتخلت عن فكرة المجرم بطبيعته التي أخذت بها المدرسة الوضعية، كما خالفتها في إقرارها بفائدة العقوبة في الردع العام (22).
واعترفت هذه المدارس بالتدابير الإحترازية الى جانب العقوبات ، وجعلت مجال العقوبة عندما تكون لدى المجرم أهلية كاملة للمسؤولية الجنائية أما مجال التدابير الإحترازية فإنه يكون حيث لا تتوفر هذه الأهلية .
2) الإتحاد الدولي لقانون العقوبات : لاحظ فريق من العلماء زيادة في الإجرام دفعت بهم الى وجوب مواجهة المشكلات العلمية ، واتخذو لهم سياسة تمثل التوفيق بين السياسة الجنائية القائمة على العناية بشخص المجرم ونظرية تفريد العقوبة وبين تلك التي تقوم على أن قياس العقوبة وتحديد وظائفها يقتضي العناية بالجانب المادي للجريمة ومقدار جسامتها تحقيقا لمعاني الردع وتهدئة شعور السخط العام (23).
وفي عام 1880م أنشأ ثلاثة من العلماء الإتحاد الدولي لقانون العقوبات وهم : فون ليست Von list الأستاذ بجامعة برلين ، وفان هامل Van hamel الأستاذ بجامع أمستردام ، وأدولف برنس Adolphe Brins الأستاذ بجامعة بروكسيل ، وعقدت بإسم هذا الإتحاد عدة مؤتمرات منذ 1889م حتى نشوب الحرب العالمية الأولى ، ومن أهمها المؤتمر الدولي المنعقد ببروكسيل سنة 1910م والذي أوصى بالجمع بين العقوبات و التدابير الإحترازية في سياسة العقاب ومكافحة الإجرام بالنسبة الى طوائف معينة من المجرمين كالأحداث و المتشردين ومعتادي الإجرام و الشواذ (24).

V : الدفاع الاجتماعي .
ظهرت مدرسة الدفاع الإجتماعي كآخر مرحلة في تطور القانون الجنائي الحديث وهي تعتبر بحق الثورة الثالثة في مسيرة هذا الأخير ، ويرجع الفقهاء ظهور هذه المدرسة الى عاملين مهمين :
1. الإعتبار الإجتماعي في السياسة الجنائية نتيجة المدرسة الإجتماعية الحديثة ذات الإتجاه الإشتراكي .
2. الإعتبار الإنساني ويتمثل في آثار الحرب العالمية الثانية وما آل اليه الإنسان من استغلال وعبودية نتيجة الفقر و اعادة البناء.
وهناك اتجاهان رئيسيان في هذه المدرسة :

- الإتجاه الأول : مدارس جنوا للدفاع الإجتماعي :
وهي المدرسة التي أنشأها الأستاذ كرامتيكا Gramatica وحدد اتجاهها في كتابه «مبادئ الدفاع الإجتماعي» ففي سنة 1945م أنشأ كرامتيكا في جنو المركز الدولي لدراسات الدفاع الإجتماعي الذي عقد عدة إجتماعات سرعان ما تبلور عنها أهداف هذه المدرسة وتتميز سياسة الدفاع الإجتماعي بكونها تبدأ قبل إرتكاب الجريمة ولا تسمح بالإتجاه الى العقوبة التي تحطم الإنسان وتذهب بآدميته .
ويمكن تلخيص أفكار كرامتيكا فيما يلي :
· يهدف الدفاع الإجتماعي الى إبدال قانون العقوبات المرتكز على معايير موضوعية : الفعل ، الجريمة ، الضرر ، المسؤولية الجنائية ، العقوبة . بطريقة جديدة لمكافحة الجريمة.
· إن هذا الإستبداد يأخذ قاعدة عدم إئتلاف الشخص مع المجتمع كأساس يفرض التدابير الوقائية التي تتماشى وفكرة الدفاع الإجتماعي .
· ينفي الدفاع الإجتماعي الصفة الجرمية عن الفعل الذي يخرق به الإنسان النظام الإجتماعي أي الجريمة ويعتبره عملا «إجتماعيا» يوجب معاملة تختلف عن أفكار القانون الجنائي المعروفة ولهذا فالمعيار هنا هو درجة «لاإجتماعيا» الفعل المرتكب أو درجة خطورة الشخص على المجتمع.

- الإتجاه الثاني : مدرسة باريس للدفاع الإجتماعي :
إذا كان كرامتيكا قد أخرج بتطرفه ودعوته الإنسانية ظاهرة الإجرام من مجال القانون الجنائي فإن مارك أنسل إستفاد من الإنتقادات التي وجهت لكرامتيكا ، وأرجع الظاهرة الإجرامية الى بيئتها القانونية ، فهو ينطلق من مبدأ المشروعية أو القانونية في مواجهة الجريمة ويأخذ بفكرة حرية الإختيار كأساس لتحديد المسؤولية الجنائية التي يحاول أن يظهرها لنا من المفترضات ومن الحيل المعروفة في القانون الجنائي، فافتراض العلم بالقانون وعدم الإعتداء بالباعث على الجريمة وإستعارة المساهم إجرامه من الفاعل الأصلي وعدم مساءلة مرتكب الجريمة المستحيلة كلها مستويات يجب تقييمها على ضوء شخصية المنحرف أو المجرم للوقوف على مافيها من سلوك لاإجتماعي وبإختصار فإن نظرية الدفاع الإجتماعي عند أنسل ترمي الى حماية المجتمع من الجريمة وذلك عن طريق مناهضة الظروف الإجتماعية الدافعة اليها وحماية المجرم بإصلاحه وتأهيله لأن يصبح عضوا طبيعيا في المجتمع (25) .
وقد دعى أنسل الى الإستعانة بكل العلوم لدراسة شخصية المجرم حتى يقوم الجزاء بوظيفة الحماية الإجتماعية كما دعى الى توحيد العقوبة والتدابير الوقائية أو العلاجية في نظام موحد لأن العبرة عنده لا تمكن في التسمية بل في الهدف الذي يتوخاه الجزاء عقوبة كان أو تدبيرا علاجيا.

· المبحث الثاني العقوبة في المنهج التشريعي المغربي ومدى تحقيقها للأهداف المتوخاة منها .
تعتبر العقوبة أهم أثر من الآثار الجنائية التي تترتب عن إرتكاب جريمة ما وهي تعبر عن مدى الإرتباط بين الجريمة و الجزاء الجنائي ، لكن هل تتصف بأنها جزاء تقويمي تمس اعتبار الشخص وشرفه لذلك فهي تتدرج من حيث الجسامة حسب خطورة المجرم من الناحية النفسية وتبعا لدرجة خطيئته ، وهدف التقويم للعقوبة يتحقق عن طريق الأشغال الشاقة .
والسجن أو الحبس أو الإعتقال و الغرامة في التشريع المغربي . ولذلك فإن العقوبة ليس من طبيعتها أن تعيد نوعا من التوازن الى المصالح التي أخل بها السلوك الإجرامي و إنما تتولى إصلاح المجرم وتأهيله بهدف حماية المجتع ، فهي بهذه الوظيفة تختلف عن إجراءات الأمن وتدابير الوقاية و التعويض المدني و العقوبات المدنية أو الإدارية.

v المطلب الأول : العقوبة في التشريع الجنائي المغربي

I : تعريف العقوبة وخصائصها :
أ : تعريف العقوبة :
العقوبة هي في حقيقتها وكنهها جزاء قانوني يطبق على الجاني بسبب ارتكابه للجريمة وقيام مسؤوليته عنها ويلمسه في احدى جوانب حياته الهامة أو في أكثر منها وذلك كالجانب الجسماني له أو في حريته أو حقوقه أو ماله (26).
وتعرف العقوبة كذلك بأنها إيلام يصيب المجرم بإسم المجتمع في جسمه أو حريته أو حقوقه و الألم الذي ستحدثه العقوبة لا يقصد في حد ذاته وإنما هو وسيلة لتحقيق أهداف وأغراض أخرى أهمها إصلاح المجرم وتأهيله عن طريق تنفيذ العقوبة عليه وعنصر الإيلام الذي ينزل بالمجرم هو بمثابة الجزاء الذي يختاره المجتمع ضد الجرائم المرتكبة وكذلك فالعقوبة تضمن عنصر الإنتقاص من شخصية المجرم والمس بمركزه بمركزه الإجتماعي ، وعنصر الإنتقام هو عنصر يشمل الى جانب الإيلام النفسي حرمان الشخص المحكوم عليه من تولى الوظائف العامة أو حرمانه من أن يكون ناخبا أو منتخبا أو حرمانه بصفة عامة من سائر الحقوق الوطنية و السياسية ( ف 26 ق ج ) وحتى تقوم العقوبة بوظائفها الإجتماعية فلا بد وأن تتوفر لها صفات تجعل منها جزاء يوقعه المجتمع على الشخص المجرم ، كما يجب على المشرع أن ينص عليها دفعا لكل تحكم واعتباط ويجعل الجميع متساويا أمام تحمل العقوبات التي لا يمكن توقيعها على أحد إلا باللجوء الى القضاء.

ب : خصائص العقوبة :
إذن العقوبة بهذا المعنى نجد لها صفات معينة وهي تنحصر على العموم في أربعة :
§ صفة الشرعية : من أهم خصائص العقوبة أنها قانونية أي يشترط فيها أن تكون محددة سلفا بنص قانوني يتولى تحديدها من حيث الكيف والنوع وتصبح معلومة من طرف الجمهور وملزمة للجميع وهذا هو ما يعبر عنه بشرعية التجريم و العقاب أو بمبدأ لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص قانوني ، وشرعية العقوبة تفيد أن أنواع العقوبات يحددها المشرع على سبيل الحصر ولا تملك المحكمة أن تضيف عقوبة لم ينص عليها القانون.
§ صفة الشخصية: كون العقوبة تنصب على شخص المجرم الذي إرتكب الفعل الجرمي فالقانون الجنائي يعاقي المذنب الذي إرتكب الجريمة أو الشخص الذي يشارك فيها ولا يعاقب غيره من الأقارب أو الجيران. وهذه الرابطة بين الجاني والعقوبة هي التي تجعل من هذه الأخيرة وسيلة لتحقيق هدف التأهيل والعلاج نظرا لما تنطوي عليه من نيل وانتقاص قي الحقوق وباستثناء حالات المسؤولية الجنائية عن فعل الغير.. فإن مبدأ شخصية العقوبة هو السائد في القانون الجنائي المغربي.
§ صفة المساواة: هذه الصفة تفيد في بعدها ومرماها أن الجميع سواسية أمام أحكام القانون وأمام جهة القضاء وبصرف النظر عن الفارق الإجتماعي أو غيره الذي يميز بين هذا وذاك، وهذا لا يمنع وبحسب الأحوال والظروف مراعاة جانب السن والحالة الإجتماعية و الصحية وغيرها من العوامل التي تحتم اختلاف العقاب رغم تشابه الجريمة و المسؤولية.
§ صفة القضائية : القانون الجنائي ذو طبيعة قضائية بحيث لا يمكن العقاب على الجرائم إلا بواسطة القضاء أو تدخل القضاء يعتبر ضمانة للحريات الفردية والجماعية الى جانب الضمانات الأخرى كالشرعية في العقوبات ومبدأ الشخصية والمساوات ، ومبدأ قضائية العقوبة يجد سنده في أن الجريمة هي واقعة جنائية ينشيء حق الدولة في العقاب وتخلق رابطة قانونية لا بين الجاني والضحية وإنما بين بين الدولة كشخص معنوي وبين الجاني ولذلك وجب تدخل القضاء لفض النزاع بين الدولة والمتهم.
والمشرع المغربي ينص على مبدأ قضائية العقوبة في الفصل الأول من قانون المسطرة الجنائية حينما أكد أنه «يترتب عن كل جريمة الحق في إقامة دعوى عمومية لتطبيق العقوبات »(27).

II : أنواع العقوبات
تتعدد تقسيمات العقوبة بتعدد وجهات النظر إليها، والتقسيم المهم هو الذي يرجع الى الناحية العملية وهو تقسيمها حسب خطورتها وحسب العلاقات الموجودة بينها.
o تنقسم العقوبة من حيث أهميتها الى : عقوبة أصلية وعقوبة إضافية :
فتكون أصلية عندما يسوغ الحكم بها وحدها أو عندما تكون ناتجة عن الحكم بعقوبة أصلية.
وتكون إضافية عندما لا يسوغ الحكم بها وحدها أو عندما لا تكون ناتجة عن الحكم بعقوبة أصلية.

- ف 1م. ج
o تنقسم العقوبة من حيث جسامتها الى: عقوبات مقررة للجنايات وأخرى للجنح وثالثة للمخالفات.
- العقوبات الجنائية الأصلية :
فالعقوبات المقررة للجنايات في التشريع الجنائي المغربي نص عليها الفصل 16 من ق.ج.م وهي مرتبة كالآتي: الإعدام – السجن المؤبد – السجن المؤقت لخمس سنوات الى ثلاثين سنة – الإقامة الجبرية – التجريد من الحقوق الوطنية .

- العقوبات الجنحية الأصلية :
العقوبات المقررة للجنح في التشريع المغربي الجنائي نص عليها الفصل 17 من ق. ج. م وهي: الحبس من شهر الى خمس سنوات بإستثناء حالات العود أو غيرها التي يحدد فيها القانون مددا أخرى ثم الغرامة التي تتجاوز 200 درهم
ü العقوبات الضبطية الأخرى :
وقد حددها الفصل 18 من ق. ج. م في عقوبتين هما الإعتقال لمدة تقل عن شهر والغرامة من 120 درهم الى 200 درهم.

v المطلب الثاني: ما مدى تحقيق العقاب للأهداف المتوخاة منه:
منذ البدء والتاريخ الإنساني يتأرجح بين السواد والإختلال، وتتنازعه قوى متناقضة توازي معايير عقله الجمعي تارة وتخرج عليه تارة أخرى وبين المسايرة والإمتثال، والإنحراف، والجنوح، تلوح المظاهر المرضية التي تستوجب الإصلاح والتقويم، وفي إطار عملية الضبط الإجتماعي ومقاومة الإختلال والجنوح سيظهر العقاب كرد فعل ضد ارتكاب مخالفة أو جنحة أو جناية بالمفهوم القانوني. فالعقاب في حقيقته وكنهه جزاء قانوني ينطبق على الجاني بسبب ارتكابه للجريمة وقيام مسؤوليته عنها ويمسه في إحدى جوانب حياته العامة، أو في أكثر منها وذلك كالجانب الجسماني له أو حريته أو حقوقه أو ماله فالعقاب كجزاء تقويمي وضعه المشرع لمرتكب الجريمة إذا كان أهلا لتحمل المسؤولية الجنائية، ينطوي على إهدار أو إنقاص لحق أو مصلحة من حقوق مرتكب الجريمة أو مصالحه ويتولى القضاء توقيعه (28). ولقد اختلف النظر الى العقاب بإختلاف التوجهات الفكرية للمنشغلين به، فهناك من يعتبر أن غايته هي الإنتقام من المجرم في حين يرى آخرون بأن الهدف منه هو جزر وردع المجرم، وبالمقابل يرى فريق آخر بأن غاية العقاب هي إصلاح المجرم وهذه الغايات الثلاث للعقاب تعبر عما أسماه البعض بإسم على الترتيب : الإنتقام Retalition والقمع Repression والإصلاح Reformation .
I : الردع الخاص ( الإنتقام )
II : الردع العام (القمع)
III : الإصلاح

I : الردع الخاص .
الردع الخاص هو الإيلام أو الإنتقاص الذي يصيب الجاني فيضيق من نشاطه المادي أو المعنوي أي أن الردع الخاص هو الأثر المباشر للعقوبة عندما يحكم بها على شخص فتصيب بدنه أو حريته أو ماله ، ولم يتفق رجال القانون حول الوسائل المنظمة لتحقيق الردع الخاص: فرجال الإتحاد الدولي لقانون العقوبات يرون أنه يجب توفر ثلاثة وسائل لتحقيق الردع الخاص: الإستبعاد، الإصلاح ، الإنذار، ويرى محمد فاضل أن هذه هي أبسط الوسائل، فإستبعاد الجاني من المجتمع ينجم عنه عدم تصور تحقق الخطورة التي يخشى منها المجتمع وتوصف العقوبات التي تحقق الردع الخاص عن طريق الإستبعاد " بعقوبات الإستئصال " مثل عقوبة الإعدام والعقوبات المؤبدة.
وتتحقق وسيلة الردع لأنها تجرد الجاني من شخصيته الخطرة وتكسبه شخصية أخرى غير أنها لا تحقق الهدف المتوخى منها إلا إذا سلك طريق الإصلاح والتأهيل لا طريق القسوة والإذلال.
فإذا كانت العقوبة هي الإيلام و الإنتقاص الذي يصيب الجاني فيضيق من نشاطه المادي أو المعنوي داخل المجتمع فإن هذا الإيلام إذا تجاوز الحد المناسب له انقلب الى تحقق العكس بحيث يؤدي هذا الإيلام المبالغ فيه الى رد فعل عكسي يتمثل في الإصرار على ارتكاب الجرائم سخطا واحتجاجا. لأن الهدف من العقوبة هو منع المجرم من الحاق أضرار أخرى بالآخرين وبذلك تصبح العقوبة عديمة الجدوى.
فثمرة الردع الخاص هي التأهيل والإصلاح و العلاج، ولتحقيق هذا الهدف لابد من الملائمة بين العقوبة وبين الظروف الشخصية للجاني دون إغفال الأخذ بعين الإعتبار الأسباب والدوافع الإجتماعية والإقتصادية وكذلك عامل التربية والوسط العائلي وتأثير هذا العوامل على شخصية الجاني، فالردع الخاص لا يتحقق بالعقوبات القاسية فقط وإنما يتحقق بوضع المحكوم عليه في مؤسسة عقابية إجتماعية يقرها القانون وإمداد هذه المؤسسة بالإمكانيات اللازمة والضرورية لمعالجة وإصلاح الجاني وتأهيله لأن إمتناع الشخص عن ارتكاب الجرائم لا يتوقف على قسوة العقوبات وشدتها بقدر ما يتوقف على إقناع الشخص الجاني بسوء الأفعال التي يرتكبها والتي تعتبر في نظر القانون جرائم. لذلك نجد بعض التشريعات سلكت نهجا مغايرا للنهج السابق في تنفيذ العقوبات، فألغت من قوانينها عقوبات الإعدام كالنمسا وإيطاليا وكندا وهولندا، وبعض التشريعات أبقتها لكن في حدود ضيقة.
ورغم أن القسوة في العقوبات لا تحقق الردع الخاص فإن بعض التشريعات اعتبرت الردع الخاص مبدأ دستوريا، كالدستور الإيطالى لسنة 1947م والذي نص في المادة 28 على أنه " لا يجوز أن تكون العقوبة معاملة مناقضة للشعور الإنساني ويتعين أن تتجه الى إعادة تهذيب المحكوم عليه " وتنص المادة 768 من قانون الإجراءات الفرنسي على أنه " يوضع نظام السجون بحيث يتجه الى إصلاح المحكوم عليه وتمهيد تأهيله الإجتماعي، اما هيئة الأمم المتحدة لمكافحة الإجرام ومعاملة المجرمين فإنها اعتبرت في المؤتمر الأول المنعقد في جنيف عام 1955 أن العقوبة لا تحقق هذا الردع الجماعي إلا إذا كانت قاسية بحيث ترهب الأفراد، إذ أن التجربة قد أثبتت أن العقوبة التي تحقق هذا الردع على أكمل وجه هي العقوبة العادلة لأن العقوبة القاسية تحمل على القضاء على التردد في توقيعها وعلى إلتماس الأسباب لتبرئة المتهم ومثل هذا التردد ينشأ الأمل في ارتكاب الجريمة و التخلص من عقابها (29). فإذا كان الردع الخاص هو منع الجاني من العودة الى الإجرام مرة ثانية، فإذا تحقق ذالك تكون هذه ميزة من إيجابياته، أما إذا لم يتحقق ذلك فإن هذا يدخل الردع الخاص في ذوامة من الإنتقادات والسلبيات وقد توجد دلائل ملموسة ونماذج حية تثبت سلبيات الردع الخاص إولى هذه الدلائل تكاثر الجرائم بشكل يلفث النظر وثانيها إرتفاع حالات العود بشكل مهول (30).
وهذا ما يدل على أن الردع الخاص بثقله وإيلامه وإنتقاصه لم يفلح في منع الجاني من العودة الى الإجرام لأن هناك عوامل ودوافع أقوى من إرادة الجاني تجعله يفضل إيلام العقوبة وانتقاصها على الإنصياع الى تلك الظروف و العوامل الأخرى.

II : الردع العام
إذا كان الردع الخاص يتحقق من خلال الإيلام و الإنتقاص الذي يصيب الجاني فيضيق من نشاطه المادي و المعنوي داخل المجتمع ، فإن الردع العام يتحقق عندما يكون هذا الإيلام أو الإنتقاص الذي أصاب الجاني هو السبب المانع للجمهور من الإقتداء بالشخص الجاني أي عندما يكون ذلك الإيلام أو الإنتقاص هو الذي جعل الناس يحتاطون من سوء عاقبة الإجرام.
فالهدف الذي يتوخاه المشرع من وراء الردع العام هو توجيه إنذار الى كافة الناس من خلال إنزال العقوبات وجزر الجناة، فيصرفهم بذلك عن ارتكاب الجرائم . وقد استعملت أسلوب الردع العام أغلب التشريعات منذ القدم حيث كانت الحاجة داعية الى استعماله طبيعية وضرورية لكل المجتمعات الإنسانية حتى لا تتحول النوايا الإجرامية الكامنة في نفوس الأفراد الى إجرام فعلي .
وقد أثبتت التجارب أن الردع العام لم يحقق الهدف المتوخى منه، كما أنه لا يجوز إيلام إنسان من أجل التأثير على غيره وهو لا علاقة له به .
وإذا كانت عقوبة الإعدام هي أشد العقوبات إيلاما ، ويمكن أن تخلف في نفوس العامة أكبر تخويف ورهبة . فإنها لم تؤدي الى التقليل من ارتكاب الجرائم ولم تكن سببا من الأسباب المساهمة في القضاء عليها أي أنها لم تحقق الردع العام.
فإذا كانت عقوبة الإعدام لم تحقق الردع العام ولم تدخل الخوف و الرهبة في نفوس العامة فكيف يمكن لعقوبة أخرى مهما بلغت قسوتها أن تدخل الخوف في نفوس الآخرين أو تحقق الردع العام ؟
وبذلك تفقد نظرية الردع العام أهميتها ومشروعيتها طالما فقدت أهم مبرر لوجودها وهو القضاء على الجريمة أو على الأقل التقليل منها أم منع الباقية من ارتكاب جرائم جديدة.

III : الإصلاح
يعتبر العقاب من أجل الإصلاح ثالثة الأثافي في الأفكار الفلسفية التي تناولته بالدرس و التحليل ، وهو في النهاية يعد محصلة لمجموع النقاشات التي أثيرت بصدده منذ زمن بعيد . إذ تتحدد الغاية من معاقبة الجاني في إصلاحه وضمان إعادة إدماجه من جديد في دائرة السواء الإجتماعي. وذلك بإعتماد تدابير إصلاحية وتأهيلية خلال فترة العقوبة وعبر أنظمة مؤسسة العقاب.
إن مواجهة الجريمة ينبغي أن تكون مسبوقة بروح الإصلاح لا الردع والإنتقام ، لأن المجتمع مسؤول عن الجريمة بمقدار مسؤولية الفرد، وربما يتجاوزها، وقد أمست هذه الحقيقة من أولى البديهيات في علوم الإجرام والعقاب والإجتماع والسياسة الجنائية والطب النفسي... وأي تطرف من المجتمع في مساءلة الفرد هو عبارة عن إساءة من المجتمع الى الفرد، لاتقل أضرارها عن إساءة الفرد الى المجتمع وهذا التطرف في مساءلة الفرد قاست منه الإنسانية طويلا وفي جميع أرجاء العالم ولا يمكن أن تبرره وظيفة الردع العام، لأنه من الضروري عدم المغالاة في تقدير وظيفة الردع، وضرورة عدم تنصل المجتمع من واجباته إزاء الفرد بحجة تحقيق هذه الوظيفة.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الفصل الاول من دراسة اكاديمية في الموضوع من انجاز نقوس طارق
** تم حذف قائمة المراجع لطولها
*** يمنع الاقتباس دون ذكر إسم المصدر والكاتب

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
1,383
آخر تحديث
أعلى