سمع ابن هرمة أديباً ينشد قوله:
بالله ربك إن دخلت فقل لها ... هذا ابن هرمة (قائماً) بالباب
فقال له: لم أقل (قائماً). أكنت أتصدق؟ قال: قاعداً؟ فقال: أكنت أبول؟ قال: فماذا؟ قال: واقفاً. وليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى!
ذلك مثال من أمثلة كثيرة تريك كيف يميز الفنان اللفظ ويختاره. وتمييز اللفظ واختياره شديدان على من لم يؤته الله العلم بمعاني الألفاظ، والبصر بفروق المعاني. ولم يقع صاغة الكلام في الهرج والزيف إلا بمجافاة الذوق ومخالفة اللغة. فإن اللفظة الحوشية أو السوقية أو الطفيلية أو النابية أو الركيكة أو المبهمة أو العليلة لا تسقط في الكلام إلا إذا كان العلم الذي يميز قد فقد، والذوق الذي يختار قد فسد. إذاً تكون الكلمة التي انتخبت بذوق، واستعملت بحذق، هي الكلمة الضرورية الطبيعية التي تتحقق بها خصوصية اللفظ وهي الركن الأول لأصالة الأسلوب. أما الركن الآخر وهو طرافة العبارة فأسه الابتكار في حكاية الخبر وتصوير الفكر وتقويم الموضوع. وهيهات أن تجد الجملة المبتكرة التي تثير الإعجاب، وتحدث الأثر، وتحرك الفتنة، إلا إذا وجدت الكلمة الخاصة التي تحدد الفروق، وتجد العلاقة، وتبعث الحركة. والأسلوب كما قلت من قبل خلق مستمر: خلق للفكر بطرافته، وخلق للترتيب بتنسيقه وتشويقه، وخلق للأداء بألفاظه ولهجاته وصوره. وعلى قدر ما يتضح الخلق في الكتابة، تتضح العظمة في الكاتب. أما القوالب الموضوعة والرواسم المصنوعة فقد كانت في ما مضى قطعاً من أعصاب الذين صاغوها، ثم قطعت بهم وبها أسباب الحياة فضمنتهم القبور وضمنتها الكتب. فكما لا ينفعك أن تستعير أعضاءهم لجسدك، لا ينفعك أن تستعير تراكيبهم لأسلوبك. ولكن أدعياء الكتابة يعيشون على هذه الرواسم كما يعيش أدعياء التصوير على نقل الروائع الفنية باليد، أو تصويرها بالآلة. وكثيراً ما يسرفون على أنفسهم فينتحلون القصيدة بنصها أو المقالة بلفظها. ولا أزال أذكر صعقة الأستاذ إبراهيم. . . وقد دعي ذات ليلة إلى حفلة زفاف. وأبى ولاؤه للعريس ووفاؤه للفن إلا أن يسجل اسمه بين خطباء العرس. وذهب إلى كتاب (أبدع الأساليب، في إنشاء الخطب والمكاتيب) فحفظ منه خطبة رنانة فيها السجع المرصع، وفيها الشعر البديع. ثم أخذ مكانه المرموق فوق المنصة. وتعاقب الخطباء والشعراء على المنبر المزدان بالرايات والثريات والرياحين. حتى إذا لم يبقى بينه وبين الكلام غير خطيب واحد، تبحبح وتنحنح، ثم تجهز وتحفز؛ ولكنه لم يكد يصغي إلى الخطيب الذي قام قبله حتى حملق إليه وقد انتسف لونه، وانفغر فمه، وارفض عرقه، وتمنى لو ساخت به الأرض! لقد كان الخطيب السباق قد اقتنى الكتاب نفسه، وانتقى الخطبة عينها، ثم سبق الأستاذ إبراهيم إلى القول فانطلق يلقيها عن ظهر الغيب لا يتلعثم ولا يتوقف ولا يخرم منها حرفاً! وبينما كان المنبر يهدر بالأسجاع، والسرادق يدوي بالتصفيق، والبيت يلعلع بالزغاريد، كان الأستاذ إبراهيم قد أخذ بطنه بيديه، ومشى مشية الشيخ الأحدب، يتأوه ويتلوى ويسأل الذين فجئهم بهذه الوعكة الغريبة عن بيت (الأدب)!
ثم نعود فنقول إن الأصالة هي الكلمة الخاصة والعبارة الجديدة. وبخصوصية الكلمة وجدة العبارة تتحقق الطبيعة في الأسلوب. وليست الطبيعة أن ترسل الكلام على سجيتك من غير روية ولا تنقيح، إنما الطبيعة نتيجة النظر الطويل والجهد المتصل. فهي على الرغم من اسمها تكسب ولا توهب وشرطها الذي لابد منه أن يختفي فيها الفن كما تختفي دودة القز في الشرنقة فإن من الفن ألا يظهر الفن، كما قال شيشرون. ومن اختفاء الجهد البالغ في سراح الطبع، وكمون الصنع الدقيق في سهولة العبارة ينشأ ما يسمونه بالسهل الممتنع والأصل فيه قول ابن المقفع لمن سأله عن البلاغة: (هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها، فإذا حاول عجز)
ومن كلام بسكال أنك (تقرأ الأسلوب المطبوع فتعجب منه وتعجب به، لأنك تتوقع أن تجد فيه الفنان، فإذا بك لا تجد إلا الإنسان)
ومن الطبيعة بمعناها الفني تكون الدقة. وما الدقة إلا ترك فضول الكلمة وتوخي صواب اللفظ. وهي تختلف في أسلوب الشاعر والخطيب عنها في أسلوب الفيلسوف والمؤرخ. ولكن القدر المشترك منها في أساليب هؤلاء هو أن يعرف كل منهم كيف يمضي قدماً إلى الغاية. وكل ما يجعل الفكرة نيرة مؤثرة، والصورة حية قوية، والعاطفة أخاذة نفاذة، هو في الحقيقة داخل في القدر المشترك لكل كاتب والدقة المشتقة من الطبع سبيل الوضوح. لأن غموض الكلمة ينشأ من غرابتها أو اشتراكها، وغموض الكلام ينشأ من تعقده أو فساده. والغرابة والاشتراك والتعقد والفساد هي الأضداد الطبيعية لمعاني الأصالة
ومن بدئه العقل أنك تفهم لتكتب، وتكتب لتُفهم. ولكن من الكتاب من ينسج قبل فرز الخيوط، ويكتب قبل درس الفكرة، فيلتاث عليه الأمر. وإن منهم من يحسب أن الوضوح ينافي العمق، والبساطة تجافي الدقة، فيغرب ولا يعرب، ويجمجم ولا يترجم؛ ثم يسمي هذا الغموض فنا وذلك العجز رمزاً. على أننا لا نقصد بالوضوح أن يسفر لك الكلام عن معناه كله لأول وهلة؛ إنما نقصد به الوضوح الفني الذي يتراءى خلال النقاب الشفاف والظلام المضيء والعمق الصافي؛ وهو بالطبع أكثر دلالة وأشرق بياناً وأروع جمالاً وأطول وحياً من ذلك الوضوح الساذج الذي يعرفه الكاتب الجاهل، ويطلبه القارئ الغبي.
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات
بتاريخ: 19 - 07 - 1943
مجلة الرسالة - العدد 524
بالله ربك إن دخلت فقل لها ... هذا ابن هرمة (قائماً) بالباب
فقال له: لم أقل (قائماً). أكنت أتصدق؟ قال: قاعداً؟ فقال: أكنت أبول؟ قال: فماذا؟ قال: واقفاً. وليتك علمت ما بين هذين من قدر اللفظ والمعنى!
ذلك مثال من أمثلة كثيرة تريك كيف يميز الفنان اللفظ ويختاره. وتمييز اللفظ واختياره شديدان على من لم يؤته الله العلم بمعاني الألفاظ، والبصر بفروق المعاني. ولم يقع صاغة الكلام في الهرج والزيف إلا بمجافاة الذوق ومخالفة اللغة. فإن اللفظة الحوشية أو السوقية أو الطفيلية أو النابية أو الركيكة أو المبهمة أو العليلة لا تسقط في الكلام إلا إذا كان العلم الذي يميز قد فقد، والذوق الذي يختار قد فسد. إذاً تكون الكلمة التي انتخبت بذوق، واستعملت بحذق، هي الكلمة الضرورية الطبيعية التي تتحقق بها خصوصية اللفظ وهي الركن الأول لأصالة الأسلوب. أما الركن الآخر وهو طرافة العبارة فأسه الابتكار في حكاية الخبر وتصوير الفكر وتقويم الموضوع. وهيهات أن تجد الجملة المبتكرة التي تثير الإعجاب، وتحدث الأثر، وتحرك الفتنة، إلا إذا وجدت الكلمة الخاصة التي تحدد الفروق، وتجد العلاقة، وتبعث الحركة. والأسلوب كما قلت من قبل خلق مستمر: خلق للفكر بطرافته، وخلق للترتيب بتنسيقه وتشويقه، وخلق للأداء بألفاظه ولهجاته وصوره. وعلى قدر ما يتضح الخلق في الكتابة، تتضح العظمة في الكاتب. أما القوالب الموضوعة والرواسم المصنوعة فقد كانت في ما مضى قطعاً من أعصاب الذين صاغوها، ثم قطعت بهم وبها أسباب الحياة فضمنتهم القبور وضمنتها الكتب. فكما لا ينفعك أن تستعير أعضاءهم لجسدك، لا ينفعك أن تستعير تراكيبهم لأسلوبك. ولكن أدعياء الكتابة يعيشون على هذه الرواسم كما يعيش أدعياء التصوير على نقل الروائع الفنية باليد، أو تصويرها بالآلة. وكثيراً ما يسرفون على أنفسهم فينتحلون القصيدة بنصها أو المقالة بلفظها. ولا أزال أذكر صعقة الأستاذ إبراهيم. . . وقد دعي ذات ليلة إلى حفلة زفاف. وأبى ولاؤه للعريس ووفاؤه للفن إلا أن يسجل اسمه بين خطباء العرس. وذهب إلى كتاب (أبدع الأساليب، في إنشاء الخطب والمكاتيب) فحفظ منه خطبة رنانة فيها السجع المرصع، وفيها الشعر البديع. ثم أخذ مكانه المرموق فوق المنصة. وتعاقب الخطباء والشعراء على المنبر المزدان بالرايات والثريات والرياحين. حتى إذا لم يبقى بينه وبين الكلام غير خطيب واحد، تبحبح وتنحنح، ثم تجهز وتحفز؛ ولكنه لم يكد يصغي إلى الخطيب الذي قام قبله حتى حملق إليه وقد انتسف لونه، وانفغر فمه، وارفض عرقه، وتمنى لو ساخت به الأرض! لقد كان الخطيب السباق قد اقتنى الكتاب نفسه، وانتقى الخطبة عينها، ثم سبق الأستاذ إبراهيم إلى القول فانطلق يلقيها عن ظهر الغيب لا يتلعثم ولا يتوقف ولا يخرم منها حرفاً! وبينما كان المنبر يهدر بالأسجاع، والسرادق يدوي بالتصفيق، والبيت يلعلع بالزغاريد، كان الأستاذ إبراهيم قد أخذ بطنه بيديه، ومشى مشية الشيخ الأحدب، يتأوه ويتلوى ويسأل الذين فجئهم بهذه الوعكة الغريبة عن بيت (الأدب)!
ثم نعود فنقول إن الأصالة هي الكلمة الخاصة والعبارة الجديدة. وبخصوصية الكلمة وجدة العبارة تتحقق الطبيعة في الأسلوب. وليست الطبيعة أن ترسل الكلام على سجيتك من غير روية ولا تنقيح، إنما الطبيعة نتيجة النظر الطويل والجهد المتصل. فهي على الرغم من اسمها تكسب ولا توهب وشرطها الذي لابد منه أن يختفي فيها الفن كما تختفي دودة القز في الشرنقة فإن من الفن ألا يظهر الفن، كما قال شيشرون. ومن اختفاء الجهد البالغ في سراح الطبع، وكمون الصنع الدقيق في سهولة العبارة ينشأ ما يسمونه بالسهل الممتنع والأصل فيه قول ابن المقفع لمن سأله عن البلاغة: (هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يحسن مثلها، فإذا حاول عجز)
ومن كلام بسكال أنك (تقرأ الأسلوب المطبوع فتعجب منه وتعجب به، لأنك تتوقع أن تجد فيه الفنان، فإذا بك لا تجد إلا الإنسان)
ومن الطبيعة بمعناها الفني تكون الدقة. وما الدقة إلا ترك فضول الكلمة وتوخي صواب اللفظ. وهي تختلف في أسلوب الشاعر والخطيب عنها في أسلوب الفيلسوف والمؤرخ. ولكن القدر المشترك منها في أساليب هؤلاء هو أن يعرف كل منهم كيف يمضي قدماً إلى الغاية. وكل ما يجعل الفكرة نيرة مؤثرة، والصورة حية قوية، والعاطفة أخاذة نفاذة، هو في الحقيقة داخل في القدر المشترك لكل كاتب والدقة المشتقة من الطبع سبيل الوضوح. لأن غموض الكلمة ينشأ من غرابتها أو اشتراكها، وغموض الكلام ينشأ من تعقده أو فساده. والغرابة والاشتراك والتعقد والفساد هي الأضداد الطبيعية لمعاني الأصالة
ومن بدئه العقل أنك تفهم لتكتب، وتكتب لتُفهم. ولكن من الكتاب من ينسج قبل فرز الخيوط، ويكتب قبل درس الفكرة، فيلتاث عليه الأمر. وإن منهم من يحسب أن الوضوح ينافي العمق، والبساطة تجافي الدقة، فيغرب ولا يعرب، ويجمجم ولا يترجم؛ ثم يسمي هذا الغموض فنا وذلك العجز رمزاً. على أننا لا نقصد بالوضوح أن يسفر لك الكلام عن معناه كله لأول وهلة؛ إنما نقصد به الوضوح الفني الذي يتراءى خلال النقاب الشفاف والظلام المضيء والعمق الصافي؛ وهو بالطبع أكثر دلالة وأشرق بياناً وأروع جمالاً وأطول وحياً من ذلك الوضوح الساذج الذي يعرفه الكاتب الجاهل، ويطلبه القارئ الغبي.
(للكلام بقية)
احمد حسن الزيات
بتاريخ: 19 - 07 - 1943
مجلة الرسالة - العدد 524