فكل قراءة هي ترجمة وكل نقد هو بداية للترجمة، ولكن القراءة هي ترجمة داخل نفس اللغة، والنقد هو ترجمة حرة للقصيدة أو أكثر تدقيقا هو (عملية النقل) للناقد، فالقصيدة هي نقطة الانطلاق نحو نص آخر، نصه هو، بينما المترجم في لغة أخرى وبعلامات مخالفة، عليه أن ينظم قصيدة مشابهة للأصل.
إن تعلم الكلام يشبه الترجمة، فعندما يسأل الطفل أمه عن مدلول هذه الكلمة أو تلك، فهو في الحقيقة يطلب من أمه أن تترجم إلى لغته تلك الكلمة التي يجهلها، إن الترجمة ضمن لغة واحدة ليست ترجمة جوهرية، وعلى هذا الأساس فهي لا تختلف في هذا المعنى عن الترجمة بين لغتين، وتاريخ كل الشعوب يكرر التجربة الصبيانية، بل وحتى القبائل المعزولة عليها أن تواجه في وقت من الأوقات لغة شعب غريب عنها. إن الدهشة والغضب والرعب أو الحيرة المسلية التي نشعر بها أمام أصوات اللغة التي نجهلها، لا تلبث أن تتحول إلى شك حول اللغة التي نتحدثها، وعندئذ تفقد اللغة عالميتها وتنكشف لنا في تعددية اللغات، كلها غريبة وغامضة يصعب التعرف عليها كلها. في القديم كانت الترجمة تبدد هذا الارتياب ما دامت اللغة العالمية منعدمة، فاللغات جميعها تكون مجتمعا عالميا يصبح فيه الجميع بعد التغلب على بعض الصعوبات يتفاهمون ويستوعبون، ويدركون أن الناس يقولون دائما نفس الأشياء رغم تعدد اللغات. إن الجواب عن هذا الغموض والبلبلة هو عالمية المضمون.
هناك لغات كثيرة ولكن معنى واحد، إن باسكال وجد في تعدد الأديان دليلا قويا على صدق المسيحية، فالترجمة تتجاوب مع الفكر القائلة بسهولة العالمية على تعدد اللغات. وهكذا لم تكن الترجمة تجربة إضافية فحسب، بل ضمانة قوية على وحدة النفس. إن العصر الحديث حطم ذلك اليقين حين أعاد اكتشاف التنوع اللانهائي للأمزجة والميول، وأمام المنظر المتعدد للعادات والأنظمة بدا الإنسان الهمجي استثناء يجب إلغاؤه عن طريق اعتناقه للدين أو إبادته بالتنصير أو السيف، إن الهمجي الذي كان يظهر في صالونات القرن الثامن عشر هو مخلوق جديد حتى وإن تكلم بإتقان لغة مضيفه، يجسد استغرابا لا يمكن اختزاله، إنه ليس ذات لاعتناق الدين، وإنما هو ذاتية للجدل والنقد-أصالة رأيه، وبساطة عاداته وحتى عنف عواطفه هي دليل جنونه وزهوه، إذا لم يكن هناك عار التنصير واعتناقه المسيحية.
تغيير الاتجاه:
من خلال البحث الديني عن ذاتية عالمية، يليه فضول فكري مرهون باكتشاف اختلافات ليست أقل عالمية. إن الغرابة تتوقف عن كونها تضليلا لتصبح نموذجا، نموذجيتها المفارقة، والمكاشفة = الهمجي هو الحنين الذي يحس به المتحضر، الأنا الآخر، نصفه ضائع. والترجمة تعكس هذه التحولات، إنها لم تنزع إلى توضيح الهوية النهائية للإنسان. وإنما هي وسيلة اتصال لفرادته، وظيفتها كانت تقتضي الكشف عن التشابه الذي يعلو عن الاختلافات، ومن الآن فصاعدا يظهر أن تلك الاختلافات لا يمكن تجاوزها، سواء تعلق الأمر بغرابة الهمجي أو بجارنا القريب. هناك فكرة للدكتور "جونسون" من خلال حديثي معه في رحلة، إذ عبر جيدا عن الموقف الجديد قائلا "إن ورقة واحدة من العشب هي دائما ورقة العشب، كيف ما كانت البلاد التي توجد بها.. الرجال والنساء هما موضوع أبحاثي الدراسية = لنر كيف يختلفون عن أولئك الذين تركناهم وراءها".
إن عبارة الدكتور جونسون تحمل مدلولين من خلالهما يعطينا تصورا سابقا عن الطريق المضاعف الذي كان على العصر الحديث أن ينهجه.
الأول: يتعلق بالفصل بين الإنسان والطبيعة، الفصل الذي تحول إلى معارضة وصراع، فالمهمة الجديدة للإنسان ليست عي الإنقاذ وإنما السيطرة على الطبيعة.
والثاني: يتعلق بالفصل بين الإنسان وأخيه الإنسان. فالعالم لم يعد عالما واحدا إنه كلية غير قابلة للتقسيم. وينفصل في الطبيعة والثقافة، والثقافة نفسها توزعت إلى قطع ثقافات.
تعدد اللغات والمجتمعات:
إن كل لغة تمثل رؤية للعالم، وكل حضارة هي عالم مستقل بذاته، فالشمس التي يتغنى بها الشعر الأثتيكي (من أهالي المكسيك الأصليين) تختلف عن شمس النشيد المصري، رغم أن الكوكب هو نفسه.
خلال أكثر من قرنين من الزمن، أولا كان الفلاسفة والمؤرخون والآن الأنثروبولوجيون واللغويون قد جمعوا الحجج عن الاختلافات التي لا يمكن حصرها بين الأفراد والمجتمعات والعصور، إن الانقسام الكبير الأقل عمقا من ذلك القائم بين الطبيعة والثقافة هو الذي يفصل بين الأفراد البدائيين والمتحضرين، وبالتالي التعدد وعدم التجانس بين الحضارات. وبداخل كل حضارة تولدت الاختلافات = فاللغات التي تساعدنا على الاتصال ببعضنا تحجزنا كذلك في شبكة غير مرئية من الأصوات والمدلولات بشكل أصبحت معها الأمم سجينة اللغات التي تتكلمها. وبداخل كل لغة تتوالد الانقسامات = الحقب التاريخية، الطبقات الاجتماعية، الأجيال.
أما بالنسبة للعلاقات بين الأفراد المعزولين والذين ينتمون إلى نفس الجماعة، فإن كل واحد هو سجين حي في أناه.
كل هذا كان بإمكانه أن يفقد حماسة المترجمين، ولكن العكس، فعبر حركة متناقضة وإضافية يترجم أكثر وأكثر، وسبب هذه المفارقة التالية، من جهة فإن الترجمة تلغي التباين بين لغة وأخرى، ومن جهة أخرى تكشفها بالتمام. وبفضل الترجمة نتعرف على أن جيراننا يتكلمون ويفكرون بطريقة مختلفة عن طريقتنا. في طرف يبدو لنا العالم كأنه مجموعة من المختارات، وفي الطرف الآخر كأنه مواقع فوقية من نصوص، كل واحد منها مغاير بعض الشيء عن سابقه = ترجمات لترجمات. وكل نص هو وحيد ويقوم بنشاطين في نفس الوقت، إنه ترجمة لنص آخر، ولا يوجد نص أصيل في كليته، لأن اللغة نفسها في جوهرها ترجمة = أولا للعالم اللامنطوق وبعد ذلك لأن كل علاقة وكل جملة هي ترجمة علامة أخرى وجملة أخرى. ولكن هذا التعليل، يمكن استثماره دون أن يفقد صلاحيته. كل النصوص هي نصوص أصلية لأن كل ترجمة هي مغايرة لأخرى، وكل ترجمة هي بدرجة ما ابتكار وهكذا تكون النص الوحيد.
إن الاكتشافات الأنتروبولوجية واللسانية لا تدين ولا تحكم على الترجمة، ولكن تدين الفكرة الساذجة عن الترجمة، أي الترجمة الحرفية التي نطلق عليها في اللغة الإسبانية (الخديم) [SERVIL]. لا أقول إن الترجمة الحرفية غير مستحيلة وإنما هي ليست ترجمة، بل هي جهاز يتكون غالبا من صف من الحروف ليساعدنا على قراءة النص في لغته الأصلية. إنه شيء أكثر قرابة إلى القاموس منه إلى الترجمة التي تعتبر دائما عملية أدبية، في كل الحالات، وبدون استثناء تلك النصوص التي تحتاج إلى ترجمة المعنى، كما هو الشأن في الأعمال العلمية، فالترجمة تقتضي تحويل الأصل، ذلك التحويل الذي لا يمكن أن يكون غير أدبي لأن كل الترجمات هي عمليات تخدم شكلين من التعبير حسب "رومان جاكسون" تختزل جميعها الإجراءات الأدبية = الكناية والمجاز.
إن النص الأصلي لا يظهر مرة ثانية أبدا (وسيكون مستحيلا) في لغة أخرى، ومع ذلك فهو حاضر دائما لأن الترجمة وبدون أن نقولها تذكره باستمرار أو تحوله إلى شيء شفاهي أو ناطق وإن كان مختلفا يعيد إنتاجه = الكناية والمجاز، وفي اختلافهما عن الترجمات التفسيرية وتكرار نفس الجمل، وهي أشكال صارمة وليست جملا بالضبط = الأولى هي عبارة عن وصف غير مباشر والثانية معادلة كلامية.
إن الحكم الكبير حول إمكانية الترجمة سقط على الشعر، وهو حكم فريد، وإذا تذكرنا بأن الكثير من الأشعار الممتازة في كل لغة من لغات الغرب هي ترجمات، وإن الكثير من تلك الترجمات هي أعمال لشعراء كبار. منذ سنوات حدد الناقد واللغوي الفرنسي (جورج مونان) في كتابه الذي عالج فيه قضية الترجمة أنه بصفة عامة، وإن كان ممكنا ترجمة المدلولات الدالة للنص، غير أنه يكاد يكون الإجماع حول الرأي الذي يحكم على استحالة ترجمة المدلولات التي تدل على أكثر من معنى.
إن واقع الأصداء والانعكاسات والعلاقات بين الصوت والمعنى، فالشعر هو نسيج من الدلالات، إذا فهو لا يترجم. أشمئز من هذا الرأي ليس فقط لأنه يتعارض مع الصورة التي رسمتها عن عالمية الشعر بل يتأسس ويقوم على مفهوم خاطئ عن ماهية الترجمة، الكثير لا يشاركني هذا الرأي، والكثير من الشعراء المعاصرين يؤكدون باستحالة ترجمة الشعر، أحيانا يهزهم حب غير معتدل للمادة الشفاهية أو لأنهم وقعوا في فخ الذاتية.
فتح قاتل كما ينذرنا (الشاعر الإسباني فرانسيسكو كيبيدو 1580-1645) قائلا: مياه الهاوية/حيث أعشق نفسي. ومثال آخر من هذا الولع اللفظي نجده عند شاعر إسباني آخر هو (ميغل دي أونامونو 1864-1939) في إحدى انطلاقاته الغنائية الوطنية يقول:
آبلة، مالقا، كاتيريس
شاطبة، ميريدا، سيبولبيدا
أوبيدا، أريبالو، فروميستا
توماراكا، سالمنكا،
تورنيكانو، سرقسطة،
ليريدا، تامرا مالا
إنكم أسماء جسم سليم،
أحرار، حقيقية من بيان،
الرمام التي لا تترجم
في لغتنا الإسبانية.
إن الرمام غير القابلة للترجمة في اللغة الإسبانية هي استعارة غريبة (الرمام، واللغة) ولكنها تترجم تماما وتلمح إلى ترجمة عامة. الكثير من الشعراء استخدموا نفس الأسلوب البلاغي، كما توجد في لغات أخرى لوائح من الكلمات المختلفة ولكن القرائن والتأثر والمعنى هي قياسية. إنه أمر عجيب بالنسبة للآخرين على عدم ترجمة ذات إسبانيا المتكونة من ميراث أسماء رومانية وعربية وسلنية إيبيرية وباسكية. ونفس الشيء فعله (أونامونو) حين ترجم إلى اللغة الفشتالية مدينة قطلانية (LIEIDA) إلى (LERIDA) والأكثر غرابة وبدون قصد فإنه يفند مزاعم عدم ترجمة هذه الأسماء = لنقرأ هذه الأبيات للشاعر الفرنسي (فيكتور هوجو) والتي نقتبسها من قصيدة له:
Et tout tremble, IRUN, coimbre
Santander, Almodovar,
Sitot qu'on entend le timbre
Des Cymbals de Bivar
في الإسبانية كما في الفرنسية المعنى والتأثر هما نفسهما كالأسماء الخاصة، غير قابلين للترجمة بدقة. إن "هوجو" يقتصر على تكرارهما بالإسبانية دون أن يحاول فرنستهما. هذا التكرار هو فعال لأن هذه الكلمات مجردة من كل مدلول دقيق وقابل للتحول إلى أصوات شفاهية حقيقية ترن في النص الفرنسي باستغرابأكثر لميعد حتى في اللغة الفشتالية (الإسبانية). فالترجمة صعبة جدا ولكنها ليست أقل صعوبة من كتابة النصوص تقريبا. ولكنها ليست مستحيلة.
إن أشعار "هوجو" و"أونامونو" توضح أن المدلولات التي تدل على أكثر من معنى يمكنها أن تحفظ كما هي، إذا حقق الشاعر المترجم تكرار الحالة الشفاهية للنص الشعري الذي رصعه. إن الشاعر (ولاس ستيفنس Wallace Stevens) قد منحنا حظا من الخيال المثالي في فقرة عجيبة حيث يقول:
The hart hidage
Lives in the mountainous character of is speech
And in that mountainous mirror spain acquires
The knowledge of spain of the hidalgo’s hat
A seeming of the spaniard, a style of lif,
The invention of a nation a frase…
إن اللغة تصير منظرا طبيعيا، وهذا المنظر هو ذاته ابتكار مجازي لأمة أو شخص الطبوغرافية الشفاهية حيث الكل يتواصل، كل هذا ترجمة = الجمل عبارة عن سلسلة جبلية وهذه الجبال عبارة عن علامات، إنها رموز لحضارة ما. ولكن لعبة الإصدار والمراسلات الشفاهية سريعة جدا تخف خطرا حقيقيا. إننا نحاط بالكلمات من جميع الجهات، وثمة لحظة نحس فيها بالمفاجآت = حرج الغرابة في العيش بين الأسماء وليس بين الأشياء أن تكون لنا أسماء.
بين الأسلة وحلول المساء..
يا للغرابة أن ينادوني فيديريكو
كذلك هذه التجربة هي عالمية = إن غارسيا لوركا كان سيحس بنفس الغرابة لو أنه كان يدعى (توم) أو (جان) أو (شوانكترو).
وفقدان اسمنا يشبه فقدان ظلنا أو يختزلنا إلى ظل. إن غياب العلاقة بين الأشياء وأسمائها هي عدم الاحتمال المضاعف. إما أن المعنى تبخر وإما أن الأشياء تتلاشى. إن عالما من المعاني الصرفة هو عالم قاحل كعالم الأشياء بدون معنى.. بدون أسماء. فاللغة تعيد العالم قابلا للتعمير. وفي لحظة الحيرة أمام غرابة أن يدعى "فيديركو" و"شوبى" يحدث مباشرة ابتكار اسم آخر، الاسم الذي يترجم بطريقة ما الاسم القديم = مجازا أو كناية دون قوله. في السنوات الأخيرة ربما يرجع ذلك إلى أن الإمبريالية اللسانية تنزع أحيانا إلى تصغير الطبيعة الرفيعة الأدبية للترجمة. لا، ولن يكون هناك علم خاص بالترجمة، رغم أن هذه الأخيرة يمكن بل يجب دراستها علميا. كما أن الأدب نفسه بطريقة ما هو وظيفة متخصصة في اللغة، فالترجمة الحقيقية، سوف تنجز عملية أدبية، ولن نقوم بشيء مخالف لما يقوم به المترجمون.
الترجمة هي المهمة التي تطرح فيها العلوم اللغوية الضرورية، والحاسم فيها هو مبادرة المترجم، فليكن هذا آلة مبرمجة من طرف الإنسان، أو إنسان محاط بالقواميس/وحتى نقتنع لنستمع إلى (أرثور فاليي Arthur Walley): إنهم يختفون وراء النصوص، وإذا عرف قصدهم، يبدأون في الحديث عن أنفسهم باستثناء الحالة الغريبة للتعابير المحددة والمبسطة كهذه الجملة (القط يصطاد الفأر) وقليلة هي الجمل التي تملك المرادف الحرفي التام في لغة أخرى. إن المشكل يتجلى في الاختيار بين مختلف التقاربات. قد يكون من الصعب أن تضيف كلمة أكثر من هذا التصريح. نظريا، الشعراء يمكن لهم ترجمة الشعر، وفي الواقع إنها مرات قليلة فقط يكون فيها الشعراء مترجمين ممتازين، وليسوا كذلك لأنهم في كثير من الأحيان يستعملون قصيدة الغير كنقطة انطلاق لكتابة أشعارهم. إن المترجم الكفء يتحرك في اتجاه معاكس: نقطة وصوله هي القصيدة المشابهة ما دامت لا تطابق القصيدة الأصل، إنه لا يبتعد عن القصيدة وإنما يتابعها عن قرب أكثر. والمترجم الكفء للشعر هو مترجم زيادة على أنه شاعر مثل (أرثور فاليي)، فهو شاعر علاوة على أنه مترجم متضلع. وفي حالات أخرى قام (نبيريال) بمحاكاة تستحق الإعجاب، والحقيقة هي أنها قصائد أصلية للشاعر "غوته"، و(جان بول) وشعراء آخرين ألمان. إن المحاكاة هي أخت للترجمة: تتشابهان ويجب أن نميز بينهما. إن سبب عجز كثير من الشعراء عن ترجمة الشعر لا يترتب عن عملية نفسانية خالصة، رغم أن الذاتية لها دورها هنا إذا لم تتحرك: فالترجمة الشعرية حسب ما سأبين هي عملية مشابهة للإبداع الشعري، وتظهر فقط في معنى عكسي.
إن كل كلمة تتضمن تعددية المعاني المضمرة، وفي لحظة التداعي تشترك الكلمة مع الكلمات الأخرى لتكون جملة، فإن أحد هذه المعاني يصبح راهنا ويسيطر، أما في النثر فإن المعنى يصبح عاما بينما هو –وكما قيل مرارا- واحد من مميزات الشعر، ربما لأن الأصل هو الحفاظ على تعددية المعاني. في الحقيقة يتعلق الأمر بالخاصية العامة للغة، والشعر يبرزها ولكن بليونة، وتظهر كذلك في لغة التخاطب العادي وحتى في النثر. لقد وقف النقاد على هذه الخاصية المركبة للشعر، مع عدم تحديد المدلول الذي يناسب خاصية أخرى كذلك باهرة –عدم حركية العلامات. الشعر يحول اللغة جذريا وفي اتجاه معاكس لاتجاه النثر. إن حركة العلامات تقابلها النزعة لتثبيت المدلول الواحد، وفي حالة أخرى تتم مقابلة حركة تعدد المدلول الذي له تطابق مع تثبيت العلامات.
إن اللغة هي منظومة من العلامات الحركية. إنها تستطيع إلى حد ما أن تكون قابلة للمقايضة، والكلمة يمكن أن تعوض بأخرى، وكل جملة يمكن أن تكون منطوقة (مترجمة) بأخرى (الباروديا) عند "بيريس" Peirce ويمكن القول بأن مدلول أية كلمة هو دائما كلمة أخرى، وللتأكد من ذلك يكفي التذكير كما تساءلنا ما تعني هذه الجملة؟ فيكون الجواب بجملة أخرى. إذن فلا نكاد ندخل ميدان الشعر حتى نجد الكلمات تفقد حركيتها والتبادل الداخلي فيما بينها. إن معاني القصيدة متعددة ومتغيرة وكلمات نفس القصيدة هي وحيدة بها وغير قابلة لتعويضها بكلمات أخرى وتغييرها يعني هدم القصيدة.
فالشعر، دون أن يتخلى عن كونه لغة، شيء أكثر من اللغة، والشاعر الغارق في حركية اللغة متواصل ذهابا وإيابا بتعبيره الشفاهي، ينتقي بعض الكلمات، أو ينتقى من طرفها، وعند تنسيقها يكون قصيدته. الموضوع الشفاهي لمكون من العلامات لا يعوض وغير قابل للحركة. إن نقط انطلاق المترجم لا تكمن في حركية اللغة (المادة الأولية) للشاعر، وأغاني اللغة الثابتة للقصيدة. لغة مجهدة ومع ذلك فهي حية تامة، وعمليتها معاكسة للشاعر، ولا يتعلق الأمر ببناء نص غير قابل للحركة بعلامات حركية وإنما فك عناصر ذلك النص ووضعه من جديد في تداول العلامات وإرجاعه إلى لغة.
إلى هنا يبقى نشاط المترجم أشبه بنشاط القارئ والناقد، فكل قراءة هي ترجمة وكل نقد هو بداية للترجمة، ولكن القراءة هي ترجمة داخل نفس اللغة، والنقد هو ترجمة حرة للقصيدة أو أكثر تدقيقا هو (عملية النقل) للناقد، فالقصيدة هي نقطة الانطلاق نحو نص آخر، نصه هو، بينما المترجم في لغة أخرى وبعلامات مخالفة، عليه أن ينظم قصيدة مشابهة للأصل. هكذا في لحظته الثانية، فنشاط المترجم مواز لعمل الشاعر مع فارق رئيسي عند الكتابة، الشاعر لا يعرف كيف ستكون قصيدته عند الترجمة، والمترجم يعرف أن قصيدته يجب أن تنتج من جديد القصيدة التي بين يديه، وفي كلا لحظتي الترجمة هي عملية موازية وإن كانت في المعنى العكسي للإبداع الشعري، نتيجته هي أن الترجمة تعلم أن قصيدتها يجب أن تعيد إنتاج القصيدة، كما سبق القول إنها ليست نسخة مطابقة للأصل بهذا القدر. إن مثالية الترجمة حسب تعريف (فاليري) بطريقة غير قابلة للتجاوز تكمن في إنتاج مفعول شبيه بوسائل مختلفة.
الترجمة والإبداع عمليتان توأمتان:
فمن جهة كما توضح حالات (بودلير) و(باوند) الترجمة لا تختلف في كثير من الأحيان عن الإبداع، ومن جهة أخرى يكون هناك مد وجزر بينهما متواصل وتلقيح متبادل.
إن المراحل الكبيرة للإبداع الشعري في الغرب ومنذ فجره في (بروفانس) وإلى يومنا هذا كانت مسبوقة أو مصحوبة بتداخلات بين مختلفة التقاليد الشعرية، تلك التداخلات التي كانت تتبنى أحيانا شكل المحاكمات، وأحيانا أخرى طابع الترجمة.
وانطلاقا من وجهة نظر تاريخ الشعر الأوروبي، يمكن أن ننظر إليه كتاريخ الاقتران في مختلف التقاليد التي تشكل ما يسمى بالأدب الغربي، حتى لا نتحدث عن الحضور العربي في الشعر الغنائي البروفانسي أو عن تأثير الهايكو أو الشعر الصيني في الشعر الحديث.
يدرس النقاد هذه التأثيرات ولكن ذلك المعنى فيه التباس، وأكثر صحوة إذا اعتبرنا الأدب الغربي وحدة متكاملة، حيث أن الشخصيات المركزية ليست هي التقاليد القومية –الشعر الإنجليزي والفرنسي والبرتغالي والألماني- وإنما الأساليب والاتجاهات.
ليست هناك نزعة وليس هناك أسلوب بالقومية، وحتى ما يطلق عليه (بالقومية الفنية).
إن جميع الأساليب فوق اللغات. إن الشاعر دون Donne (1572-1631) أقرب للشاعر "كبيدو" منه إلى "وورد زووت" وبين كونغورا و مارينو يوجد تشابه واضح في كل شيء باستثناء اللغة. ويجمع بين "كونغورا" و"قسيس هينا" الذي يجعلنا في نفس الوقت نفكر لحظة في "شاوثير chaucer". إن الأساليب هي جماعة وتنتقل من لغة إلى أخرى، والآثار الإبداعية كلها متجذرة في أرضية شفاهية وحيدة، إنها وحيدة ولكنها ليست منعزلة، وكل واحدة منها تولد وتحيا في علاقة مع الأعمال الأدبية الأخرى وفي لغات مختلفة. وهكذا لا تعددية اللغات ولا فرادة الأعمال تدل على تناسق غير قابل للاختزال أو غموض، بل العكس عالم من العلاقات مصنوع من تناقضات وتجاوبات واتحادات وانفصالات.
في كل فترة يكتب الشعراء الأوروبيون –والآن كذلك حتى شعراء القارة الأمريكية في شطريها- نفس القصيدة بلغات متعددة، وكل واحدة من هذه القصائد هي في حد ذاتها قصيدة أصلية ومختلفة. حقا إن التزامن ليس تاما ولكن يكفي الابتعاد قليلا لنتبين أننا في حفل موسيقي يؤلف فيه الموسيقيون بآلاتهم المختلفة دون الامتثال لقائد الأوركسترا ودون تجسم للنغمات عملا موسيقيا جماعيا حيث يكون الارتجال هو الملازم للترجمة والابتكار في المحاكاة وفي بعض الأحيان يطلق أحد الموسيقيين إلهاما فيتبعه الآخرون بعده مباشرة دون تدخل المتغيرات فيصبح معها الحافز الأصلي غير معروف.
في نهاية القرن الماضي أدهش الشعر الفرنسي أوروبا وأثار استغرابها بذلك الذي بدأه فقط "بودلير" وختمه "ملارمي". وكان الشعراء المحدثون الأمريكيون الإسبانيون من الأوائل في إدراك هذه الموسيقى الجديدة، وعند محاكاتها تبنوها وغيروها وأرسلوهاإلى إسبانيا، التي في نفس الوقت أعادت إبداعها. وبعد ذلك بقليل حقق شعراء اللغة الإنجليزية شيئا مماثلا ولكن بأدوات مختلفة ومتنوعة النغمات والزمن. هناك تفسير مقنع ونقدي يحتل فيه لا فورغ La forgue وليس فيرلين Verlaine مركزا رئيسيا.
إن المكانة الفردية "للافورغ" في الحداثة الأنجلو أمريكية ساهم في شرح طابو تلك الحركة التي أصبحت تقوم بنشاطين في نفس الوقت الرمزية واللامرزية "باوند" و"اليوت" يتعافى هذا "لافورغ" أدخلا في الرمزية نقد الرمزية، إنه السخرية من الذي يسميه "باوند" نفسه Funy symobolist troppings.
هذا الموقف النقدي هيأهما بعد ذلك بقليل لكتابة قصيدة ليست حداثية بل عصرية. وهكذا بدأ مع "والاس ستيبن" Wallace ووليام كارلوس وليامس William carles William وآخرين عزف جديد. عزف الشعر الأنجلو أمريكي المعاصر.
إن حظ لافورغ في الشعر الإنجليزي وفي اللغة القشتالية هو نموذج التبعية الداخلية بين الإبداع والمحاكاة، الترجمة والنص الأصلي. فتأثير الشاعر الفرنسي في "اليوت" و"باوند" معروف جدا ولكن لا يكاد يعرف التأثير الذي مارسه على الشعراء الإسبان والأمريكيين.
وفي سنة 1905 نشر الشاعر الأرجنتيني "ليوبولدو لوكونيس" Leopoldo lugones مجلدا شعريا عنوانه "شفق الحديقة" وهو واحد من كبار شعراء لغتنا الإسبانية والأقل اهتماما من طرف الدارسين. وقد ظهر في شعره لأول مرة باللغة الإسبانية بعض ملامح "لافورنجية"، سخرية الاصطدام بين لغة الحديث اليومي واللغة الأدبية، الصور العنيفة التي تقابل العبثي الحضري إلى طبيعة محولة إلى سخرية القابلة الساخرة الخشنة. بعض قصائد هذا الكتاب ظهرت مكتوبة في واحدة من تلك "أيام الأحاد البورجوازية الإسبانو-الأمريكية لنهاية القرن. وفي سنة 1909 نشر "لوكونيس" يوميات قمرية عاطفية. وفضلا عن كونه محاكاة للافورغ، كان ذلك الكتاب واحدا من الإبداعات الأصلية في عصره وإلى حد الآن يمكن قراءته بإعجاب ولذة. إن أثر هذا الكتاب كان عظيما بين الشعراء الإسبان والأمريكيين ولم يكن في أي واحد منهم خيريا ومحقرا أكثر إلا في المكسيكي-لوبيب فيلاردي Lopez Velarde.
وفي سنة 1919 نشر هذا الأخير كتاب القلق ZOZOBRA وهو الكتاب الرئيسي لمرحلة ما بعد الحداثة الإسبانية الأمريكية بمعنى رمزيتها المضادة للرمزية. سنتان من قبل نشر اليوت كتابه Pufrock and other observations في بوسطون حيث كان التخرج من جامعة هارفرد، وهو لافروغ آخر بروتستاني في "تاكاتكاس Zacatecas المختفي في مدرسة إكليريكية. لافورغ الكاثوليكي العاشق، التدنيس، الفكاهة، وكما قال "لوبيت فيلاردي" حزن حيمي رجعي. الشاعر المكسيكي توفي بعد ذلك في سنة 1921م وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وعمله ينتهي من حيث يبدأ عمل اليوت بوسطون وتاكاتيكاس. الاتحاد بين شخصين يجعلنا نبتسم وكأن الأمر يتعلق بإحدى تداعيات الخواطر المغايرة والتي كان يجد فيها إحدى ملذاته. شاعران يكتبان في نفس السنوات تقريبا وبلغات مختلفة وبدون أن يعلم أحدهما بوجود الآخر على الأقل. كأنها نسخ مختلفة وأصيلة للقصائد كتبها شاعر ثالث في لغة أخرى سبقهم إلى ذلك منذ سنواتn
عن كتاب سلسلة:
Cuadernos Marginales n° 18 «La traduction : Literatura, Literatidad ».
إن تعلم الكلام يشبه الترجمة، فعندما يسأل الطفل أمه عن مدلول هذه الكلمة أو تلك، فهو في الحقيقة يطلب من أمه أن تترجم إلى لغته تلك الكلمة التي يجهلها، إن الترجمة ضمن لغة واحدة ليست ترجمة جوهرية، وعلى هذا الأساس فهي لا تختلف في هذا المعنى عن الترجمة بين لغتين، وتاريخ كل الشعوب يكرر التجربة الصبيانية، بل وحتى القبائل المعزولة عليها أن تواجه في وقت من الأوقات لغة شعب غريب عنها. إن الدهشة والغضب والرعب أو الحيرة المسلية التي نشعر بها أمام أصوات اللغة التي نجهلها، لا تلبث أن تتحول إلى شك حول اللغة التي نتحدثها، وعندئذ تفقد اللغة عالميتها وتنكشف لنا في تعددية اللغات، كلها غريبة وغامضة يصعب التعرف عليها كلها. في القديم كانت الترجمة تبدد هذا الارتياب ما دامت اللغة العالمية منعدمة، فاللغات جميعها تكون مجتمعا عالميا يصبح فيه الجميع بعد التغلب على بعض الصعوبات يتفاهمون ويستوعبون، ويدركون أن الناس يقولون دائما نفس الأشياء رغم تعدد اللغات. إن الجواب عن هذا الغموض والبلبلة هو عالمية المضمون.
هناك لغات كثيرة ولكن معنى واحد، إن باسكال وجد في تعدد الأديان دليلا قويا على صدق المسيحية، فالترجمة تتجاوب مع الفكر القائلة بسهولة العالمية على تعدد اللغات. وهكذا لم تكن الترجمة تجربة إضافية فحسب، بل ضمانة قوية على وحدة النفس. إن العصر الحديث حطم ذلك اليقين حين أعاد اكتشاف التنوع اللانهائي للأمزجة والميول، وأمام المنظر المتعدد للعادات والأنظمة بدا الإنسان الهمجي استثناء يجب إلغاؤه عن طريق اعتناقه للدين أو إبادته بالتنصير أو السيف، إن الهمجي الذي كان يظهر في صالونات القرن الثامن عشر هو مخلوق جديد حتى وإن تكلم بإتقان لغة مضيفه، يجسد استغرابا لا يمكن اختزاله، إنه ليس ذات لاعتناق الدين، وإنما هو ذاتية للجدل والنقد-أصالة رأيه، وبساطة عاداته وحتى عنف عواطفه هي دليل جنونه وزهوه، إذا لم يكن هناك عار التنصير واعتناقه المسيحية.
تغيير الاتجاه:
من خلال البحث الديني عن ذاتية عالمية، يليه فضول فكري مرهون باكتشاف اختلافات ليست أقل عالمية. إن الغرابة تتوقف عن كونها تضليلا لتصبح نموذجا، نموذجيتها المفارقة، والمكاشفة = الهمجي هو الحنين الذي يحس به المتحضر، الأنا الآخر، نصفه ضائع. والترجمة تعكس هذه التحولات، إنها لم تنزع إلى توضيح الهوية النهائية للإنسان. وإنما هي وسيلة اتصال لفرادته، وظيفتها كانت تقتضي الكشف عن التشابه الذي يعلو عن الاختلافات، ومن الآن فصاعدا يظهر أن تلك الاختلافات لا يمكن تجاوزها، سواء تعلق الأمر بغرابة الهمجي أو بجارنا القريب. هناك فكرة للدكتور "جونسون" من خلال حديثي معه في رحلة، إذ عبر جيدا عن الموقف الجديد قائلا "إن ورقة واحدة من العشب هي دائما ورقة العشب، كيف ما كانت البلاد التي توجد بها.. الرجال والنساء هما موضوع أبحاثي الدراسية = لنر كيف يختلفون عن أولئك الذين تركناهم وراءها".
إن عبارة الدكتور جونسون تحمل مدلولين من خلالهما يعطينا تصورا سابقا عن الطريق المضاعف الذي كان على العصر الحديث أن ينهجه.
الأول: يتعلق بالفصل بين الإنسان والطبيعة، الفصل الذي تحول إلى معارضة وصراع، فالمهمة الجديدة للإنسان ليست عي الإنقاذ وإنما السيطرة على الطبيعة.
والثاني: يتعلق بالفصل بين الإنسان وأخيه الإنسان. فالعالم لم يعد عالما واحدا إنه كلية غير قابلة للتقسيم. وينفصل في الطبيعة والثقافة، والثقافة نفسها توزعت إلى قطع ثقافات.
تعدد اللغات والمجتمعات:
إن كل لغة تمثل رؤية للعالم، وكل حضارة هي عالم مستقل بذاته، فالشمس التي يتغنى بها الشعر الأثتيكي (من أهالي المكسيك الأصليين) تختلف عن شمس النشيد المصري، رغم أن الكوكب هو نفسه.
خلال أكثر من قرنين من الزمن، أولا كان الفلاسفة والمؤرخون والآن الأنثروبولوجيون واللغويون قد جمعوا الحجج عن الاختلافات التي لا يمكن حصرها بين الأفراد والمجتمعات والعصور، إن الانقسام الكبير الأقل عمقا من ذلك القائم بين الطبيعة والثقافة هو الذي يفصل بين الأفراد البدائيين والمتحضرين، وبالتالي التعدد وعدم التجانس بين الحضارات. وبداخل كل حضارة تولدت الاختلافات = فاللغات التي تساعدنا على الاتصال ببعضنا تحجزنا كذلك في شبكة غير مرئية من الأصوات والمدلولات بشكل أصبحت معها الأمم سجينة اللغات التي تتكلمها. وبداخل كل لغة تتوالد الانقسامات = الحقب التاريخية، الطبقات الاجتماعية، الأجيال.
أما بالنسبة للعلاقات بين الأفراد المعزولين والذين ينتمون إلى نفس الجماعة، فإن كل واحد هو سجين حي في أناه.
كل هذا كان بإمكانه أن يفقد حماسة المترجمين، ولكن العكس، فعبر حركة متناقضة وإضافية يترجم أكثر وأكثر، وسبب هذه المفارقة التالية، من جهة فإن الترجمة تلغي التباين بين لغة وأخرى، ومن جهة أخرى تكشفها بالتمام. وبفضل الترجمة نتعرف على أن جيراننا يتكلمون ويفكرون بطريقة مختلفة عن طريقتنا. في طرف يبدو لنا العالم كأنه مجموعة من المختارات، وفي الطرف الآخر كأنه مواقع فوقية من نصوص، كل واحد منها مغاير بعض الشيء عن سابقه = ترجمات لترجمات. وكل نص هو وحيد ويقوم بنشاطين في نفس الوقت، إنه ترجمة لنص آخر، ولا يوجد نص أصيل في كليته، لأن اللغة نفسها في جوهرها ترجمة = أولا للعالم اللامنطوق وبعد ذلك لأن كل علاقة وكل جملة هي ترجمة علامة أخرى وجملة أخرى. ولكن هذا التعليل، يمكن استثماره دون أن يفقد صلاحيته. كل النصوص هي نصوص أصلية لأن كل ترجمة هي مغايرة لأخرى، وكل ترجمة هي بدرجة ما ابتكار وهكذا تكون النص الوحيد.
إن الاكتشافات الأنتروبولوجية واللسانية لا تدين ولا تحكم على الترجمة، ولكن تدين الفكرة الساذجة عن الترجمة، أي الترجمة الحرفية التي نطلق عليها في اللغة الإسبانية (الخديم) [SERVIL]. لا أقول إن الترجمة الحرفية غير مستحيلة وإنما هي ليست ترجمة، بل هي جهاز يتكون غالبا من صف من الحروف ليساعدنا على قراءة النص في لغته الأصلية. إنه شيء أكثر قرابة إلى القاموس منه إلى الترجمة التي تعتبر دائما عملية أدبية، في كل الحالات، وبدون استثناء تلك النصوص التي تحتاج إلى ترجمة المعنى، كما هو الشأن في الأعمال العلمية، فالترجمة تقتضي تحويل الأصل، ذلك التحويل الذي لا يمكن أن يكون غير أدبي لأن كل الترجمات هي عمليات تخدم شكلين من التعبير حسب "رومان جاكسون" تختزل جميعها الإجراءات الأدبية = الكناية والمجاز.
إن النص الأصلي لا يظهر مرة ثانية أبدا (وسيكون مستحيلا) في لغة أخرى، ومع ذلك فهو حاضر دائما لأن الترجمة وبدون أن نقولها تذكره باستمرار أو تحوله إلى شيء شفاهي أو ناطق وإن كان مختلفا يعيد إنتاجه = الكناية والمجاز، وفي اختلافهما عن الترجمات التفسيرية وتكرار نفس الجمل، وهي أشكال صارمة وليست جملا بالضبط = الأولى هي عبارة عن وصف غير مباشر والثانية معادلة كلامية.
إن الحكم الكبير حول إمكانية الترجمة سقط على الشعر، وهو حكم فريد، وإذا تذكرنا بأن الكثير من الأشعار الممتازة في كل لغة من لغات الغرب هي ترجمات، وإن الكثير من تلك الترجمات هي أعمال لشعراء كبار. منذ سنوات حدد الناقد واللغوي الفرنسي (جورج مونان) في كتابه الذي عالج فيه قضية الترجمة أنه بصفة عامة، وإن كان ممكنا ترجمة المدلولات الدالة للنص، غير أنه يكاد يكون الإجماع حول الرأي الذي يحكم على استحالة ترجمة المدلولات التي تدل على أكثر من معنى.
إن واقع الأصداء والانعكاسات والعلاقات بين الصوت والمعنى، فالشعر هو نسيج من الدلالات، إذا فهو لا يترجم. أشمئز من هذا الرأي ليس فقط لأنه يتعارض مع الصورة التي رسمتها عن عالمية الشعر بل يتأسس ويقوم على مفهوم خاطئ عن ماهية الترجمة، الكثير لا يشاركني هذا الرأي، والكثير من الشعراء المعاصرين يؤكدون باستحالة ترجمة الشعر، أحيانا يهزهم حب غير معتدل للمادة الشفاهية أو لأنهم وقعوا في فخ الذاتية.
فتح قاتل كما ينذرنا (الشاعر الإسباني فرانسيسكو كيبيدو 1580-1645) قائلا: مياه الهاوية/حيث أعشق نفسي. ومثال آخر من هذا الولع اللفظي نجده عند شاعر إسباني آخر هو (ميغل دي أونامونو 1864-1939) في إحدى انطلاقاته الغنائية الوطنية يقول:
آبلة، مالقا، كاتيريس
شاطبة، ميريدا، سيبولبيدا
أوبيدا، أريبالو، فروميستا
توماراكا، سالمنكا،
تورنيكانو، سرقسطة،
ليريدا، تامرا مالا
إنكم أسماء جسم سليم،
أحرار، حقيقية من بيان،
الرمام التي لا تترجم
في لغتنا الإسبانية.
إن الرمام غير القابلة للترجمة في اللغة الإسبانية هي استعارة غريبة (الرمام، واللغة) ولكنها تترجم تماما وتلمح إلى ترجمة عامة. الكثير من الشعراء استخدموا نفس الأسلوب البلاغي، كما توجد في لغات أخرى لوائح من الكلمات المختلفة ولكن القرائن والتأثر والمعنى هي قياسية. إنه أمر عجيب بالنسبة للآخرين على عدم ترجمة ذات إسبانيا المتكونة من ميراث أسماء رومانية وعربية وسلنية إيبيرية وباسكية. ونفس الشيء فعله (أونامونو) حين ترجم إلى اللغة الفشتالية مدينة قطلانية (LIEIDA) إلى (LERIDA) والأكثر غرابة وبدون قصد فإنه يفند مزاعم عدم ترجمة هذه الأسماء = لنقرأ هذه الأبيات للشاعر الفرنسي (فيكتور هوجو) والتي نقتبسها من قصيدة له:
Et tout tremble, IRUN, coimbre
Santander, Almodovar,
Sitot qu'on entend le timbre
Des Cymbals de Bivar
في الإسبانية كما في الفرنسية المعنى والتأثر هما نفسهما كالأسماء الخاصة، غير قابلين للترجمة بدقة. إن "هوجو" يقتصر على تكرارهما بالإسبانية دون أن يحاول فرنستهما. هذا التكرار هو فعال لأن هذه الكلمات مجردة من كل مدلول دقيق وقابل للتحول إلى أصوات شفاهية حقيقية ترن في النص الفرنسي باستغرابأكثر لميعد حتى في اللغة الفشتالية (الإسبانية). فالترجمة صعبة جدا ولكنها ليست أقل صعوبة من كتابة النصوص تقريبا. ولكنها ليست مستحيلة.
إن أشعار "هوجو" و"أونامونو" توضح أن المدلولات التي تدل على أكثر من معنى يمكنها أن تحفظ كما هي، إذا حقق الشاعر المترجم تكرار الحالة الشفاهية للنص الشعري الذي رصعه. إن الشاعر (ولاس ستيفنس Wallace Stevens) قد منحنا حظا من الخيال المثالي في فقرة عجيبة حيث يقول:
The hart hidage
Lives in the mountainous character of is speech
And in that mountainous mirror spain acquires
The knowledge of spain of the hidalgo’s hat
A seeming of the spaniard, a style of lif,
The invention of a nation a frase…
إن اللغة تصير منظرا طبيعيا، وهذا المنظر هو ذاته ابتكار مجازي لأمة أو شخص الطبوغرافية الشفاهية حيث الكل يتواصل، كل هذا ترجمة = الجمل عبارة عن سلسلة جبلية وهذه الجبال عبارة عن علامات، إنها رموز لحضارة ما. ولكن لعبة الإصدار والمراسلات الشفاهية سريعة جدا تخف خطرا حقيقيا. إننا نحاط بالكلمات من جميع الجهات، وثمة لحظة نحس فيها بالمفاجآت = حرج الغرابة في العيش بين الأسماء وليس بين الأشياء أن تكون لنا أسماء.
بين الأسلة وحلول المساء..
يا للغرابة أن ينادوني فيديريكو
كذلك هذه التجربة هي عالمية = إن غارسيا لوركا كان سيحس بنفس الغرابة لو أنه كان يدعى (توم) أو (جان) أو (شوانكترو).
وفقدان اسمنا يشبه فقدان ظلنا أو يختزلنا إلى ظل. إن غياب العلاقة بين الأشياء وأسمائها هي عدم الاحتمال المضاعف. إما أن المعنى تبخر وإما أن الأشياء تتلاشى. إن عالما من المعاني الصرفة هو عالم قاحل كعالم الأشياء بدون معنى.. بدون أسماء. فاللغة تعيد العالم قابلا للتعمير. وفي لحظة الحيرة أمام غرابة أن يدعى "فيديركو" و"شوبى" يحدث مباشرة ابتكار اسم آخر، الاسم الذي يترجم بطريقة ما الاسم القديم = مجازا أو كناية دون قوله. في السنوات الأخيرة ربما يرجع ذلك إلى أن الإمبريالية اللسانية تنزع أحيانا إلى تصغير الطبيعة الرفيعة الأدبية للترجمة. لا، ولن يكون هناك علم خاص بالترجمة، رغم أن هذه الأخيرة يمكن بل يجب دراستها علميا. كما أن الأدب نفسه بطريقة ما هو وظيفة متخصصة في اللغة، فالترجمة الحقيقية، سوف تنجز عملية أدبية، ولن نقوم بشيء مخالف لما يقوم به المترجمون.
الترجمة هي المهمة التي تطرح فيها العلوم اللغوية الضرورية، والحاسم فيها هو مبادرة المترجم، فليكن هذا آلة مبرمجة من طرف الإنسان، أو إنسان محاط بالقواميس/وحتى نقتنع لنستمع إلى (أرثور فاليي Arthur Walley): إنهم يختفون وراء النصوص، وإذا عرف قصدهم، يبدأون في الحديث عن أنفسهم باستثناء الحالة الغريبة للتعابير المحددة والمبسطة كهذه الجملة (القط يصطاد الفأر) وقليلة هي الجمل التي تملك المرادف الحرفي التام في لغة أخرى. إن المشكل يتجلى في الاختيار بين مختلف التقاربات. قد يكون من الصعب أن تضيف كلمة أكثر من هذا التصريح. نظريا، الشعراء يمكن لهم ترجمة الشعر، وفي الواقع إنها مرات قليلة فقط يكون فيها الشعراء مترجمين ممتازين، وليسوا كذلك لأنهم في كثير من الأحيان يستعملون قصيدة الغير كنقطة انطلاق لكتابة أشعارهم. إن المترجم الكفء يتحرك في اتجاه معاكس: نقطة وصوله هي القصيدة المشابهة ما دامت لا تطابق القصيدة الأصل، إنه لا يبتعد عن القصيدة وإنما يتابعها عن قرب أكثر. والمترجم الكفء للشعر هو مترجم زيادة على أنه شاعر مثل (أرثور فاليي)، فهو شاعر علاوة على أنه مترجم متضلع. وفي حالات أخرى قام (نبيريال) بمحاكاة تستحق الإعجاب، والحقيقة هي أنها قصائد أصلية للشاعر "غوته"، و(جان بول) وشعراء آخرين ألمان. إن المحاكاة هي أخت للترجمة: تتشابهان ويجب أن نميز بينهما. إن سبب عجز كثير من الشعراء عن ترجمة الشعر لا يترتب عن عملية نفسانية خالصة، رغم أن الذاتية لها دورها هنا إذا لم تتحرك: فالترجمة الشعرية حسب ما سأبين هي عملية مشابهة للإبداع الشعري، وتظهر فقط في معنى عكسي.
إن كل كلمة تتضمن تعددية المعاني المضمرة، وفي لحظة التداعي تشترك الكلمة مع الكلمات الأخرى لتكون جملة، فإن أحد هذه المعاني يصبح راهنا ويسيطر، أما في النثر فإن المعنى يصبح عاما بينما هو –وكما قيل مرارا- واحد من مميزات الشعر، ربما لأن الأصل هو الحفاظ على تعددية المعاني. في الحقيقة يتعلق الأمر بالخاصية العامة للغة، والشعر يبرزها ولكن بليونة، وتظهر كذلك في لغة التخاطب العادي وحتى في النثر. لقد وقف النقاد على هذه الخاصية المركبة للشعر، مع عدم تحديد المدلول الذي يناسب خاصية أخرى كذلك باهرة –عدم حركية العلامات. الشعر يحول اللغة جذريا وفي اتجاه معاكس لاتجاه النثر. إن حركة العلامات تقابلها النزعة لتثبيت المدلول الواحد، وفي حالة أخرى تتم مقابلة حركة تعدد المدلول الذي له تطابق مع تثبيت العلامات.
إن اللغة هي منظومة من العلامات الحركية. إنها تستطيع إلى حد ما أن تكون قابلة للمقايضة، والكلمة يمكن أن تعوض بأخرى، وكل جملة يمكن أن تكون منطوقة (مترجمة) بأخرى (الباروديا) عند "بيريس" Peirce ويمكن القول بأن مدلول أية كلمة هو دائما كلمة أخرى، وللتأكد من ذلك يكفي التذكير كما تساءلنا ما تعني هذه الجملة؟ فيكون الجواب بجملة أخرى. إذن فلا نكاد ندخل ميدان الشعر حتى نجد الكلمات تفقد حركيتها والتبادل الداخلي فيما بينها. إن معاني القصيدة متعددة ومتغيرة وكلمات نفس القصيدة هي وحيدة بها وغير قابلة لتعويضها بكلمات أخرى وتغييرها يعني هدم القصيدة.
فالشعر، دون أن يتخلى عن كونه لغة، شيء أكثر من اللغة، والشاعر الغارق في حركية اللغة متواصل ذهابا وإيابا بتعبيره الشفاهي، ينتقي بعض الكلمات، أو ينتقى من طرفها، وعند تنسيقها يكون قصيدته. الموضوع الشفاهي لمكون من العلامات لا يعوض وغير قابل للحركة. إن نقط انطلاق المترجم لا تكمن في حركية اللغة (المادة الأولية) للشاعر، وأغاني اللغة الثابتة للقصيدة. لغة مجهدة ومع ذلك فهي حية تامة، وعمليتها معاكسة للشاعر، ولا يتعلق الأمر ببناء نص غير قابل للحركة بعلامات حركية وإنما فك عناصر ذلك النص ووضعه من جديد في تداول العلامات وإرجاعه إلى لغة.
إلى هنا يبقى نشاط المترجم أشبه بنشاط القارئ والناقد، فكل قراءة هي ترجمة وكل نقد هو بداية للترجمة، ولكن القراءة هي ترجمة داخل نفس اللغة، والنقد هو ترجمة حرة للقصيدة أو أكثر تدقيقا هو (عملية النقل) للناقد، فالقصيدة هي نقطة الانطلاق نحو نص آخر، نصه هو، بينما المترجم في لغة أخرى وبعلامات مخالفة، عليه أن ينظم قصيدة مشابهة للأصل. هكذا في لحظته الثانية، فنشاط المترجم مواز لعمل الشاعر مع فارق رئيسي عند الكتابة، الشاعر لا يعرف كيف ستكون قصيدته عند الترجمة، والمترجم يعرف أن قصيدته يجب أن تنتج من جديد القصيدة التي بين يديه، وفي كلا لحظتي الترجمة هي عملية موازية وإن كانت في المعنى العكسي للإبداع الشعري، نتيجته هي أن الترجمة تعلم أن قصيدتها يجب أن تعيد إنتاج القصيدة، كما سبق القول إنها ليست نسخة مطابقة للأصل بهذا القدر. إن مثالية الترجمة حسب تعريف (فاليري) بطريقة غير قابلة للتجاوز تكمن في إنتاج مفعول شبيه بوسائل مختلفة.
الترجمة والإبداع عمليتان توأمتان:
فمن جهة كما توضح حالات (بودلير) و(باوند) الترجمة لا تختلف في كثير من الأحيان عن الإبداع، ومن جهة أخرى يكون هناك مد وجزر بينهما متواصل وتلقيح متبادل.
إن المراحل الكبيرة للإبداع الشعري في الغرب ومنذ فجره في (بروفانس) وإلى يومنا هذا كانت مسبوقة أو مصحوبة بتداخلات بين مختلفة التقاليد الشعرية، تلك التداخلات التي كانت تتبنى أحيانا شكل المحاكمات، وأحيانا أخرى طابع الترجمة.
وانطلاقا من وجهة نظر تاريخ الشعر الأوروبي، يمكن أن ننظر إليه كتاريخ الاقتران في مختلف التقاليد التي تشكل ما يسمى بالأدب الغربي، حتى لا نتحدث عن الحضور العربي في الشعر الغنائي البروفانسي أو عن تأثير الهايكو أو الشعر الصيني في الشعر الحديث.
يدرس النقاد هذه التأثيرات ولكن ذلك المعنى فيه التباس، وأكثر صحوة إذا اعتبرنا الأدب الغربي وحدة متكاملة، حيث أن الشخصيات المركزية ليست هي التقاليد القومية –الشعر الإنجليزي والفرنسي والبرتغالي والألماني- وإنما الأساليب والاتجاهات.
ليست هناك نزعة وليس هناك أسلوب بالقومية، وحتى ما يطلق عليه (بالقومية الفنية).
إن جميع الأساليب فوق اللغات. إن الشاعر دون Donne (1572-1631) أقرب للشاعر "كبيدو" منه إلى "وورد زووت" وبين كونغورا و مارينو يوجد تشابه واضح في كل شيء باستثناء اللغة. ويجمع بين "كونغورا" و"قسيس هينا" الذي يجعلنا في نفس الوقت نفكر لحظة في "شاوثير chaucer". إن الأساليب هي جماعة وتنتقل من لغة إلى أخرى، والآثار الإبداعية كلها متجذرة في أرضية شفاهية وحيدة، إنها وحيدة ولكنها ليست منعزلة، وكل واحدة منها تولد وتحيا في علاقة مع الأعمال الأدبية الأخرى وفي لغات مختلفة. وهكذا لا تعددية اللغات ولا فرادة الأعمال تدل على تناسق غير قابل للاختزال أو غموض، بل العكس عالم من العلاقات مصنوع من تناقضات وتجاوبات واتحادات وانفصالات.
في كل فترة يكتب الشعراء الأوروبيون –والآن كذلك حتى شعراء القارة الأمريكية في شطريها- نفس القصيدة بلغات متعددة، وكل واحدة من هذه القصائد هي في حد ذاتها قصيدة أصلية ومختلفة. حقا إن التزامن ليس تاما ولكن يكفي الابتعاد قليلا لنتبين أننا في حفل موسيقي يؤلف فيه الموسيقيون بآلاتهم المختلفة دون الامتثال لقائد الأوركسترا ودون تجسم للنغمات عملا موسيقيا جماعيا حيث يكون الارتجال هو الملازم للترجمة والابتكار في المحاكاة وفي بعض الأحيان يطلق أحد الموسيقيين إلهاما فيتبعه الآخرون بعده مباشرة دون تدخل المتغيرات فيصبح معها الحافز الأصلي غير معروف.
في نهاية القرن الماضي أدهش الشعر الفرنسي أوروبا وأثار استغرابها بذلك الذي بدأه فقط "بودلير" وختمه "ملارمي". وكان الشعراء المحدثون الأمريكيون الإسبانيون من الأوائل في إدراك هذه الموسيقى الجديدة، وعند محاكاتها تبنوها وغيروها وأرسلوهاإلى إسبانيا، التي في نفس الوقت أعادت إبداعها. وبعد ذلك بقليل حقق شعراء اللغة الإنجليزية شيئا مماثلا ولكن بأدوات مختلفة ومتنوعة النغمات والزمن. هناك تفسير مقنع ونقدي يحتل فيه لا فورغ La forgue وليس فيرلين Verlaine مركزا رئيسيا.
إن المكانة الفردية "للافورغ" في الحداثة الأنجلو أمريكية ساهم في شرح طابو تلك الحركة التي أصبحت تقوم بنشاطين في نفس الوقت الرمزية واللامرزية "باوند" و"اليوت" يتعافى هذا "لافورغ" أدخلا في الرمزية نقد الرمزية، إنه السخرية من الذي يسميه "باوند" نفسه Funy symobolist troppings.
هذا الموقف النقدي هيأهما بعد ذلك بقليل لكتابة قصيدة ليست حداثية بل عصرية. وهكذا بدأ مع "والاس ستيبن" Wallace ووليام كارلوس وليامس William carles William وآخرين عزف جديد. عزف الشعر الأنجلو أمريكي المعاصر.
إن حظ لافورغ في الشعر الإنجليزي وفي اللغة القشتالية هو نموذج التبعية الداخلية بين الإبداع والمحاكاة، الترجمة والنص الأصلي. فتأثير الشاعر الفرنسي في "اليوت" و"باوند" معروف جدا ولكن لا يكاد يعرف التأثير الذي مارسه على الشعراء الإسبان والأمريكيين.
وفي سنة 1905 نشر الشاعر الأرجنتيني "ليوبولدو لوكونيس" Leopoldo lugones مجلدا شعريا عنوانه "شفق الحديقة" وهو واحد من كبار شعراء لغتنا الإسبانية والأقل اهتماما من طرف الدارسين. وقد ظهر في شعره لأول مرة باللغة الإسبانية بعض ملامح "لافورنجية"، سخرية الاصطدام بين لغة الحديث اليومي واللغة الأدبية، الصور العنيفة التي تقابل العبثي الحضري إلى طبيعة محولة إلى سخرية القابلة الساخرة الخشنة. بعض قصائد هذا الكتاب ظهرت مكتوبة في واحدة من تلك "أيام الأحاد البورجوازية الإسبانو-الأمريكية لنهاية القرن. وفي سنة 1909 نشر "لوكونيس" يوميات قمرية عاطفية. وفضلا عن كونه محاكاة للافورغ، كان ذلك الكتاب واحدا من الإبداعات الأصلية في عصره وإلى حد الآن يمكن قراءته بإعجاب ولذة. إن أثر هذا الكتاب كان عظيما بين الشعراء الإسبان والأمريكيين ولم يكن في أي واحد منهم خيريا ومحقرا أكثر إلا في المكسيكي-لوبيب فيلاردي Lopez Velarde.
وفي سنة 1919 نشر هذا الأخير كتاب القلق ZOZOBRA وهو الكتاب الرئيسي لمرحلة ما بعد الحداثة الإسبانية الأمريكية بمعنى رمزيتها المضادة للرمزية. سنتان من قبل نشر اليوت كتابه Pufrock and other observations في بوسطون حيث كان التخرج من جامعة هارفرد، وهو لافروغ آخر بروتستاني في "تاكاتكاس Zacatecas المختفي في مدرسة إكليريكية. لافورغ الكاثوليكي العاشق، التدنيس، الفكاهة، وكما قال "لوبيت فيلاردي" حزن حيمي رجعي. الشاعر المكسيكي توفي بعد ذلك في سنة 1921م وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وعمله ينتهي من حيث يبدأ عمل اليوت بوسطون وتاكاتيكاس. الاتحاد بين شخصين يجعلنا نبتسم وكأن الأمر يتعلق بإحدى تداعيات الخواطر المغايرة والتي كان يجد فيها إحدى ملذاته. شاعران يكتبان في نفس السنوات تقريبا وبلغات مختلفة وبدون أن يعلم أحدهما بوجود الآخر على الأقل. كأنها نسخ مختلفة وأصيلة للقصائد كتبها شاعر ثالث في لغة أخرى سبقهم إلى ذلك منذ سنواتn
عن كتاب سلسلة:
Cuadernos Marginales n° 18 «La traduction : Literatura, Literatidad ».