أدب السجون عبد الحفيظ المختومي - الذّاكرة الموجوعة.. أدب السّجون

" أن تكون سجينًا ليستْ هنا المسألة، فالقضيّة هي ألاّ تسْتسْلمْ... / ناظم حكمت"..

وأن تكتبَ..
وبدءًا.. أن تكتب، أيّها السّجين،، هو أن تُقاوم أكْسدةَ الذّاكرة، وسعْيَ سجّانِكَ مُتعاونًا مع الزّمن لتترهّل قُواكَ طريقًا لنِْسيَانهِ ونسيان عذاباتكَ.. وأسباب سجْنِكَ...

❊ ❊ ❊

السّجن/الحَبْسُ/المعتقل/الدّهليزُ/القَبْوُ/قَعْرُ مُظلمةٍ على حدّ تعبير سجيننا الحُطيئة / السّردابُ: مُسمّياتٌ تلتقي ظلامًا وظُلمةً وغياهِبَ لإلغاءِ الآخر.
والآخر: حُريّة وحلمٌ بالأجمل نقيضًا للقبيح القائم الرافض لقبول الرأي المخالف وحقّ الاختلاف والتّسامح، والحريّة حبيبنَا حتى النّخاع ولن نحبّ غيرها وإنْ خُنّا الحرّية، أحيانًا، تغفر الأمّ لأبنائها.. شكرا أيّتها الأم.. ولا شُكر لأعدائك وأعداء أبنائك...

❊ ❊ ❊

القمع، التّعذيب، القهر، الإذلال، العسْفُ، التّحقير، التّجويع، المساومة، الملاحقة، قطع الأرزاق، الإكراه.. مشتقّات حقد الإنسان ضدّ نفسه، وقهر الآخر الذي أراد قول »لا« أمام الشّمس لا تحت عدوّها »الظّلام« و»الظّلم«.. هذا الآخر بكلّ جراحاته ودمائه وعذاباته وأغانيه وأحلامه المعزولة التي لم يسمع سمفونيّتها الذين سُجنَ من أجلهم... والتي أعني الأحلام مازالت تعزف وتنزف إلى الغد، وتتغنّى بربيع الإنسان...
أجمل ربيع قادم.
فالسّؤال: لِمَ لم يفكّر الإنسانٌ بدْءًا في إنسانيّته، وفكّر في سجن إنسانيّته، وفكّرَ في سجْن إنْسانِهِ؟
لِمَ.. أنْتَ أيّها الإنسانُ، تُعرّيني من إنسانيّتي وتدفعُني لأعْترفَ أنّني ضدّها؟؟
لِمَ؟؟ سؤال احتجاجيُّ بصوتٍ إنْسانيّ صارخٍ مجْروحٍ مشْرُوخٍ منْهوكٍ مبْحُوحٍ أخيرًا.. لِمَ؟؟؟
أعودُ إلى اللّغة، كم هي عارية كوجه والدتي وبراءة السّجين، وفضّاحة كوطني الذي لا حدود له، أمميّا،، إلى تخوم الفوضى،، اللّغة، هذه، إن أرادت أن تكون قمعيّةً استندتْ إلى النّسَبِ الصُّلْبيّ:
patrilinéaire، فكان المذكّر الذكوري المستذكر الذاكر القامع الفاجع المفجع: القمع، السّجن، الإلغاء، القتل،، وكم هي اللّغة الحنون الأمّ الرّؤوم الوسّادة البكّاءة إذا أرادت أن تكون حريريّة للتّكفير على أخطاء المذكّر فيها، اسْتردّتْ وعْيَهَا فتكلّمتْ ب Matrilinéaire لتَنْحتَ اسم »الحريّة« وكم هو ضئيل تافهٌ حقيرٌ: السّجن ومشتقاته أمام لا مُشْتقّ لها، عظيمة،، نخلة باسقة اسمها الحريّة.

❊ ❊ ❊

الصّراع بين السّجن والسّجّان وبين المسجون المنجوس:
صراع الحريّة ضدّ نقيضها، أقدم من تاريخ صراع الطبقات أصلاً، ولا نظنّ أنّه سوف ينتهي يوما طالما أنّ الإنسان عدو نفسه وضدّ حريّته ذاتها، وإن انتهى هذا الصّراع فلن يكون إلاّ بانتصار حلم الحريّة وراضعة حليبها الديمقراطية، لأنّ الحريّة وسلالتها ترفض الإستسلام للقيود وغياهب الزنازين المظلمة...
ولأنّ إنْسان الحريّة يبقى عاشقًا للحرية، عاريًا بين الذّئاب يخبّئ الحرية بين ضلوعه، ويدفع من حياته ووجوده ووجدانه ووفائه وصدق لحظته وجسده وأمانيه وأحلامه، ويَنسُجُ سمفونيّة انتصار الإرادة والانتصار على الجلاّد ومعلّميه، ليستمرَّ الحلم، قال أرْنيستْ هيمنغواي »تستطيع أن تحطّم الإنسان لكنّك لن تهْزمَهُ«.

❊ ❊ ❊

والسّوال القائمُ المُنهك القاتلُ حدّ ضلوع الجسد: أيّها الجلاّد لِمَ تعذّبُ من لا تعرف؟
هل افتكَّ منك مُلْكًا وأنت لا مُلك لك؟
هل سرق منك زمَنًا هُو لَهُ؟
هل أخذ بعض آمال القادمين منك إلى الوطن؟؟
فمنْ وظّفك لقتْلِ هذا الذّي دفعَتْهُ أحْلامُهُ للوقوع بين يديك؟؟

❊ ❊ ❊

السّجين حصريًّا وتحديدًا وتأكيدًا هو التّقدّمي وصُولاً إلى اليساريّة، دون مساومةٍ ومَضيعَةٍ للزّمان والتاريخ والوعي.
هذا السّجين الذي خرج بإرادة وعْيهِ ونُدُوب جسَدِهِ وجراحات ذاكرته، هو الآن حُرٌّ في ذاته وأبْيضَ في نَقَاءِ ضَميرهِ، لا ينتظرُ إشارة مُرورٍ من أحد للمرور إلى الوطن وما عدَاهُ.
تحرّر السّجينُ من قيْدهِ ولم يتحرّر الجلاّدُ /
السّجَّانُ من جلده وجلده
فأيّهما الحرُّ أيّتها الحريّة، وأيُّهُما الوطنيُّ أيُّها الوطنُ؟
يا داميّ القلب والعيْنَيْن
إنّ اللّيل زائل
لا غرفة التّعذيب باقية
لا زَرَدَ السّلاسلْ
نيرون مات ولم تمت روما
بعيْنيْها تُقَاتِلْ...
فمن يعوّض الحرية ومن يعوّض الحلم؟؟ الزّمن والتاريخ كفيلان وحدهما بالحقيقة... والوطن الرّابض هناك سوف يقول كلمته الوطنيّة الصّادقة...

❊ ❊ ❊

أسئلة إدانة:
أيّها العالم.. دخل سجونَك شبابٌ فخرجوا شهداء أحياءً أو موتى، لا عائل لهم ولا داعم ولا مساند إلاّ فكرة الحريّة، فهلاّ استعَدْتَ وعْيكَ أيّها العالم لتكون حرّا أخيرًا فتُنْصِفَهُمْ...
أيّها العالمُ؟؟
وَعشْ أنْتَ.. عذابات من عذّبتَ حتى تدرك بعد لأي ربّما حلاوة الحريّة في آهات من أراد تحريرك بجسَده، وتثورَ على من وظّفك لضرْبِ الحريّة...
وكلمة أقولها:
سوف نلتقي عند مفترقات التّاريخ:
جسد واعٍ بوَعْيه ووعْيٌ جسديّ عضليّ مقلوب مفْتُولٌ، سلطويّا، مصنوع لقتل الجسد الواعي والوعي المجسّد.
سنظلُّ نحفَرُ في الجدار
إمّا فتحنا ثغرة للنّور
أو مُتْنَا على وجه الجدار
❊ عبد العزيز المقالح

❊ ❊ ❊

هذه مقدّمة جارحة مجروحة تنزف جراحًا للإعتراف بجروح المجروحين:
نحن حبّات البذار
نحن لا ننجو جميعًا
حينَمَا يأتي الصّقيع
قد تدوسُ البعضُ منّا الأحذية
أو يمُوتُ البعض منّا
في ظلام الأقْبيَهْ
غير أنّا كُلُّنا
لسْنا نمُوتْ
نحنُ حبّاتُ البِذَارْ
❊ م. درويش
فيا أيّها النّهاريون الآن، الخارجون من أقبية الظّلام والخفافيش، لكم امتناني برؤيتي للشّمس، أنّى كُنتُم، ودُفنْتُم، وعُدتُمْ أحْياء في ضمائرِ الشّعوب وجسدِ الحرية،، ولكم الفضل في منحي رقصتي الزّورباويّة الفوضويّة الحرّة، واعتذاري باسم إنسانيّتي لعذاباتكم التي لولاها ما قرأت الذي كتبتُمْ وما كتبْتُ الذي أكتُب،،
وهذه شهادات الحريّة منكم لي، ولَنَا، ولَهُمْ، ولتعيشوا حتّى تعيش الحريّة.. فبفضلكم أنتم ودون سواكم ودون مزايدة سوف تحيا الحرية دائما وأبدًا.. باسمكم أيُّها المعذّبون في الحرية...

❊ ❊ ❊

شهادات في جبين التّاريخ ذاهبة نحو الحرية:
»تتْرُكُ الأكل.. لتغسَلَ يديك بالماء فقط في صفيحة التبرّز وتتمشّى في هذه العتمة حتى منتصف اللّيل، تحاول أن تنام، تمنعك رائحة اللّحاف النتنة.. وصراخ المعذّبين في الزنازين المجاورة.. تترقّب دورك في التّعذيب حتى تغفو عينيك من التّعب...
❊ ذاكرة الوطن / ص 102
»سيعتقلون والدتي، كرهينة، وفي الغد يعتقلون أخي، ويطوقون على كلّ منازل معارفنا وليس فقط أقاربنا...
❊ رحلة عذاب / ص 39
»الشَّبَحُ يصرخ ويضحك في آن واحد: لقد قضيتُ اللّيلة في قصر قرطاج مع الحبيب بورڤيبة وأبي بكر الصديق وفرانسوا ميتران والنبي صلّى اللّه عليه وسلّم.. اسمعوني.. لقد تكلّمت لهم عن أوضاعنا فتأسّفوا جميعًا لذلك.. اسمعوني.. أنا امبراطور مصر... هذيان محموم يدلّ على أنّ البائس فاقد لعقله...،،
❊ سجن تازما مارت / ص 47
»وفي الصّباح شعرت بأجسام غريبة تتحرّك على عنقي. مددت أصابعي وإذا بالقمل يسرح ويمرح فوق جسدي بأرتال عديدة وأحجام وألوان مختلفة...
❊ البدايات / ص 53
»إنّ المناضلة الجزائرية »جميلة بوحيرد« قد عذّبها الفرنسيّون وهي عارية وأطفأوا السّجائر في جسدها...
كما أنّ المناضلة الفلسطينية »رسميّة عودة« من الجبهة الشعبيّة لتحرير فلسطين قد أقحم فيها المحقّقون الإسرائيليون العصا، فهل معنى ذلك أنّ »جميلة بوحيرد« غير شريفة؟ وهل معنى ذلك أنّ رسميّة عودة ستكون »عارًا« على أهلها؟

❊ ملحمة القيد / ص 97
»شعرت بحرارة شديدة في رأسي بينما كانت برودة ثلجيّة تغزو أقدامي وفي الوقت الذي أخذت فيه حرارة رأسي وبرودة أقدامي بالإزدياد انطلقت أجراس ونواقيس ونباح كلاب شديدة من الخلف بشكل تحطّم الأعصاب...

❊ شهاب طان / في زنزانات إسرائيل / ص 16
كم كان عقابك يا لوقا؟
خمسمائة جلدة يا صديقي العزيز
حقّا يا رفاق.. لقد أوشكوا أن يقتلوني وحين جلدوني هذه الجلدات الخمسمائة.. احتفلوا احتفالاً كبيرًا...
❊ فيدور دوستوفسكي: ذكريات من منزل الأموات

❊ ❊ ❊

ودائمًا.. »الذّكريات حلوها حلو ومرّها حلو كذلك« والتاريخ لن يترنّح مطلقا... سوف يقول كلمته التّاريخيّة الأولى...



الإحالات:
ابراهيم السّيد علي كمال الدين / البحرين
ذاكرة الوطن ط 1. 2006 جمعية العمل الديمقراطي البحرين
د. يعقوب زيادين: البدايات / دار ابن خلدون ط 1 / 1980
هنتنغتون / برادة / دريدا: الإفلات من العقاب / ترجمة وتقديم: غفور دهشور الأفق الديمقراطي ط 1. أفريل 2004.


أسعد عبد الرحمان:
أوراق سجين: م.ت.ف./ مركز الأبحاث جانفي 1969
سعيد الرحباني: رحلة عذاب.. تقديم: حسن الصّعيب ط 1. فبراير 2007
محمد الصّعيب: عقود الرصاص بالمغرب. الأفق الديمقراطي ط 1. فبراير 2007
عدنان جابر: ملحمة القيد والحرية دار الطليعة بيروت ط 1. أبريل 1979
نزيه أبو نضال: أدب السّجون. دار الحداثة بيروت . ط1 1981.
Gérard Streiff: Guy Maquet

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
772
آخر تحديث
أعلى