كان سيد البلغاء محمد بن عبد الله (ص) يكره أن يجاوز الكلام مقدار القصد به؛ فقد تكلم رجل عنده فأطال، فقال له: (كم دون لسانك من حجاب؟ قال: شفتاي وأسناني. فقال له الرسول: إن الله يكره الانبعاق في الكلام. فنضر الله وجه رجل أوجز في كلامه واقتصر على حاجته)
وقيل لإياس: (لا عيب فيك إلا أنك تطيل. قال: أخيراً تسمعون أم شراً؟ قالوا: خيراً. قال: فالزيادة في الخير خير. روى ذلك الجاحظ وعقب عليه بقوله: (وليس الأمر كما قال إياس؛ فإن للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية. وما فضل عن مقدار الاحتمال، ودعا إلى الاستثقال والملال، فذاك الفاضل هو الهذر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه)
وكان أمراء النثر العربي من أمثال جعفر بن يحيى وسهل ابن هرون يتوخون جانب القصد، ويؤثرون طريق الإيجاز، حتى قال جعفر للكتاب: (إن استطعتم أن تجعلوا كتبكم كلها توقيعات فافعلوا). والتوقيعات ما يعلقه الخليفة أو الوزير أو الرئيس على ما يقدم إليه من الكتب في شكوى حال أو طلب نوال. وهي تجري مجرى الأمثال في الجمع بين الإيجاز والجمال والقوة. مثل ذلك ما وقّع به المأمون إلى الرستمي في قضية من تظلم منه: (ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة وغريمك خاوٍ وجارك طاوٍ). وما وقع به جعفر في كتاب رجل شكا إليه بعض عماله: (قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت)
كذلك كان أقطاب النثر الفرنسي من أشباه (شاتبريان) و (فلوبير) يتشددون في الإيجاز، ولا يتسمحون في الإعادة، حتى حرموا على أنفسهم استعمال اللفظ مرتين في صفحة واحدة. وقد أخذ (فلوبير) في إحدى رسائله على (شاتبريان) أنه كرر لفظاً مرتين في وصفه قدوم (أودور) إلى روما في كتابه (الشهداء). ومن كلام (بوالو): يجب أن تعرف كيف توجز، لتعرف كيف تكتب. ونفور نوابغ الكتاب من الإسهاب منشؤه فيهم تلك القوة البلاغية الإلهية التي تحدد الغاية وتريد أن تبلغها من أخصر طريق. فهم لا يلغون لأنهم يعلمون المعنى الذي يدل، ولا يخبطون لأنهم يبصرون الأمد الذي يرام. أما الذين لا يقدرون ما يقولون، أو لا يدرون أين يقصدون، فهم كالماء الهائم على وجه المنحدر قصاراه زبدٌ وجرجرة، أو كاللسان المخبول نطقه لغطٌ وثرثرة. وثرثرة اللسان كقرقرة البطن أصوات تذهب مع الريح!
والإيجاز في بلاغة العربية كما قلنا أصل وروح وطبع، ولكنه في البلغاء قوة وروية وعمل. ونريد بالعمل الجهد، لأن الإيجاز غربلة ونخل، وتنقية وتصفية، وتصعيد وتركيز، وذلك لا يتهيأ لك إلا بدوام النظر وطول التعهد. ومهما قلبت المجلة على وجوه البيان فإنك لا محالة واجد فيها عوجاً يعدل، أو نتوءا يسوى، أو فضولاً يشذب. والنثر في رأي فلوبير لم ينته، وهو في رأينا لا يمكن أن ينتهي، لأن صور الجمال لا تنفد، وغاية الكمال لا تدرك.
والمزية الظاهرة للإيجاز على الإطناب أنه يزيد في دلالة الكلام من طريق الإيحاء. ذلك لأنه يترك على أطراف المعاني ظلالاً خفيفة يشتغل بها الذهن، ويعمل فيها الخيال، حتى تبرز وتتلون وتتسع، ثم تتشعب إلى معان أخر يتحملها اللفظ بالتفسير أو بالتأويل، والقرآن الكريم معجزة الدهر في هذا الصدد
وليس بسبيل الإيجاز البلاغي من يقص أجنحة الخيال ويطفئ ألوان الحسن، ويترك أسلوبه كأسلوب التلغراف، شديد الاقتضاب والجفاف، على نحو ما يدعو إليه بعض أدبائنا المعاصرين؛ فإن الإيجاز، مهما قيل في جلالة خطره، صفةٌ من صفات البلاغة الثلاث لا يغني عنها ولا تغنى عنه
ولقد كان لإطناب الفرس مساغ في أذواق العرب أول ما قطرت به أقلام عبد الحميد وابن المقفع والحسن بن سهل ومن لف لفهم، لاقتصارهم منه على ما يصحح الازدواج ويقيم التوازن، كقول عبد الحميد: (واعلم أن كل أهوائك لك عدو يحاول هلكتك، ويفترض غفلتك، لأنها خدع إبليس، وخواتل مكره، ومصايد مكيدته، فاحذرها مجانباً لها، وتوقها محترساً منها. . . الخ). فلما اشتد خلاط العرب للفرس تداخلت اللغتان، وتمازجت العقليتان، واصبح تعاقب الجمل على المعنى الواحد سمة الأسلوب في ذلك العصر، حتى قال ابن قتيبة في قول يزيد لمروان وقد تلكأ في بيعته: (أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فاعتمد على أيهما شئت): (إن هذا لو قيل الآن لم يأت بالتأثير المطلوب. والصواب أن يطيل ويكرر، ويعيد ويبدئ، ويحذِّر وينذر)
وظل الفن الكتابي يتخبط في ذلك الفضول، ويتعثر في تلك الذيول، لا يسدده توجيه، ولا يهذبه نقد، حتى اتصل بالأدب الأوربي في هذا العصر، فتحدد لفظه، وتجدد أسلوبه، وانبعث شبابه الفتي الغض من القرائح الموهوبة، صافي الديباجة مشرق البيان، إلا عقابيل مما تركت عصور الضعف والجهالة بقيت على الأقلام المرضوضة تكريراً للفظ، وترديداً للمعنى، وتوليداً لنوع آخر من أنواع الاجترار الأدبي يعبر عنه الأديب زكريا إبراهيم فيما كتب إلى بقوله:
(شاع بين أدبائنا اليوم نوع جديد من الأدب، نستطيع أن نسميه بحق أدب (الدردشة). وهذا الأدب الجديد يصدر عن نزعات فنية حديثة، لأنه كلام يقال لمجرد الكلام،
أو الفن للفن كما يقولون! وعلى الرغم من أن عدوى هذا الأدب قد انتشرت بين كثير من الأدباء، فإنه لم يكتسب عندنا حق الوجود؛ لأن كل شئ لابد أن يقصد من ورائه إلى غاية، والكلام إذا لم يكن داع يدعو إليه كان لغواً وهذراً. أما أن يتخذ بعض الكتاب من عبارة (الحديث ذو شجون) ذريعة لأن يسامحوا أنفسهم في الكلام إذا عنّ، ولا يراعوا صحة دواعية، وإصابة معانيه، فهذا ما نأخذه عليهم، ولا نقبله منهم، مهما افتنوا في اختلاق المعاذير له. ونصيحتنا لهؤلاء هي قول الشاعر:
إذا لم تجد قولاً سديداً تقوله ... فصمتك عن غير السداد سداد)
ونظن الأديب الفاضل يعني فيمن يعني صاحب (النثر الفني)، ولولا أن صديقنا المبارك يحتكر زعامة الصناعتين، ويعتقد أن للسانه شعبتين ولقلمه سنين، لاستأنفنا له الحكم، وتولينا عنه الدفاع!
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
مجلة الرسالة - العدد 558
بتاريخ: 13 - 03 - 1944
وقيل لإياس: (لا عيب فيك إلا أنك تطيل. قال: أخيراً تسمعون أم شراً؟ قالوا: خيراً. قال: فالزيادة في الخير خير. روى ذلك الجاحظ وعقب عليه بقوله: (وليس الأمر كما قال إياس؛ فإن للكلام غاية، ولنشاط السامعين نهاية. وما فضل عن مقدار الاحتمال، ودعا إلى الاستثقال والملال، فذاك الفاضل هو الهذر، وهو الخطل، وهو الإسهاب الذي سمعت الحكماء يعيبونه)
وكان أمراء النثر العربي من أمثال جعفر بن يحيى وسهل ابن هرون يتوخون جانب القصد، ويؤثرون طريق الإيجاز، حتى قال جعفر للكتاب: (إن استطعتم أن تجعلوا كتبكم كلها توقيعات فافعلوا). والتوقيعات ما يعلقه الخليفة أو الوزير أو الرئيس على ما يقدم إليه من الكتب في شكوى حال أو طلب نوال. وهي تجري مجرى الأمثال في الجمع بين الإيجاز والجمال والقوة. مثل ذلك ما وقّع به المأمون إلى الرستمي في قضية من تظلم منه: (ليس من المروءة أن تكون آنيتك من ذهب وفضة وغريمك خاوٍ وجارك طاوٍ). وما وقع به جعفر في كتاب رجل شكا إليه بعض عماله: (قد كثر شاكوك، وقل شاكروك، فإما اعتدلت، وإما اعتزلت)
كذلك كان أقطاب النثر الفرنسي من أشباه (شاتبريان) و (فلوبير) يتشددون في الإيجاز، ولا يتسمحون في الإعادة، حتى حرموا على أنفسهم استعمال اللفظ مرتين في صفحة واحدة. وقد أخذ (فلوبير) في إحدى رسائله على (شاتبريان) أنه كرر لفظاً مرتين في وصفه قدوم (أودور) إلى روما في كتابه (الشهداء). ومن كلام (بوالو): يجب أن تعرف كيف توجز، لتعرف كيف تكتب. ونفور نوابغ الكتاب من الإسهاب منشؤه فيهم تلك القوة البلاغية الإلهية التي تحدد الغاية وتريد أن تبلغها من أخصر طريق. فهم لا يلغون لأنهم يعلمون المعنى الذي يدل، ولا يخبطون لأنهم يبصرون الأمد الذي يرام. أما الذين لا يقدرون ما يقولون، أو لا يدرون أين يقصدون، فهم كالماء الهائم على وجه المنحدر قصاراه زبدٌ وجرجرة، أو كاللسان المخبول نطقه لغطٌ وثرثرة. وثرثرة اللسان كقرقرة البطن أصوات تذهب مع الريح!
والإيجاز في بلاغة العربية كما قلنا أصل وروح وطبع، ولكنه في البلغاء قوة وروية وعمل. ونريد بالعمل الجهد، لأن الإيجاز غربلة ونخل، وتنقية وتصفية، وتصعيد وتركيز، وذلك لا يتهيأ لك إلا بدوام النظر وطول التعهد. ومهما قلبت المجلة على وجوه البيان فإنك لا محالة واجد فيها عوجاً يعدل، أو نتوءا يسوى، أو فضولاً يشذب. والنثر في رأي فلوبير لم ينته، وهو في رأينا لا يمكن أن ينتهي، لأن صور الجمال لا تنفد، وغاية الكمال لا تدرك.
والمزية الظاهرة للإيجاز على الإطناب أنه يزيد في دلالة الكلام من طريق الإيحاء. ذلك لأنه يترك على أطراف المعاني ظلالاً خفيفة يشتغل بها الذهن، ويعمل فيها الخيال، حتى تبرز وتتلون وتتسع، ثم تتشعب إلى معان أخر يتحملها اللفظ بالتفسير أو بالتأويل، والقرآن الكريم معجزة الدهر في هذا الصدد
وليس بسبيل الإيجاز البلاغي من يقص أجنحة الخيال ويطفئ ألوان الحسن، ويترك أسلوبه كأسلوب التلغراف، شديد الاقتضاب والجفاف، على نحو ما يدعو إليه بعض أدبائنا المعاصرين؛ فإن الإيجاز، مهما قيل في جلالة خطره، صفةٌ من صفات البلاغة الثلاث لا يغني عنها ولا تغنى عنه
ولقد كان لإطناب الفرس مساغ في أذواق العرب أول ما قطرت به أقلام عبد الحميد وابن المقفع والحسن بن سهل ومن لف لفهم، لاقتصارهم منه على ما يصحح الازدواج ويقيم التوازن، كقول عبد الحميد: (واعلم أن كل أهوائك لك عدو يحاول هلكتك، ويفترض غفلتك، لأنها خدع إبليس، وخواتل مكره، ومصايد مكيدته، فاحذرها مجانباً لها، وتوقها محترساً منها. . . الخ). فلما اشتد خلاط العرب للفرس تداخلت اللغتان، وتمازجت العقليتان، واصبح تعاقب الجمل على المعنى الواحد سمة الأسلوب في ذلك العصر، حتى قال ابن قتيبة في قول يزيد لمروان وقد تلكأ في بيعته: (أراك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى فاعتمد على أيهما شئت): (إن هذا لو قيل الآن لم يأت بالتأثير المطلوب. والصواب أن يطيل ويكرر، ويعيد ويبدئ، ويحذِّر وينذر)
وظل الفن الكتابي يتخبط في ذلك الفضول، ويتعثر في تلك الذيول، لا يسدده توجيه، ولا يهذبه نقد، حتى اتصل بالأدب الأوربي في هذا العصر، فتحدد لفظه، وتجدد أسلوبه، وانبعث شبابه الفتي الغض من القرائح الموهوبة، صافي الديباجة مشرق البيان، إلا عقابيل مما تركت عصور الضعف والجهالة بقيت على الأقلام المرضوضة تكريراً للفظ، وترديداً للمعنى، وتوليداً لنوع آخر من أنواع الاجترار الأدبي يعبر عنه الأديب زكريا إبراهيم فيما كتب إلى بقوله:
(شاع بين أدبائنا اليوم نوع جديد من الأدب، نستطيع أن نسميه بحق أدب (الدردشة). وهذا الأدب الجديد يصدر عن نزعات فنية حديثة، لأنه كلام يقال لمجرد الكلام،
أو الفن للفن كما يقولون! وعلى الرغم من أن عدوى هذا الأدب قد انتشرت بين كثير من الأدباء، فإنه لم يكتسب عندنا حق الوجود؛ لأن كل شئ لابد أن يقصد من ورائه إلى غاية، والكلام إذا لم يكن داع يدعو إليه كان لغواً وهذراً. أما أن يتخذ بعض الكتاب من عبارة (الحديث ذو شجون) ذريعة لأن يسامحوا أنفسهم في الكلام إذا عنّ، ولا يراعوا صحة دواعية، وإصابة معانيه، فهذا ما نأخذه عليهم، ولا نقبله منهم، مهما افتنوا في اختلاق المعاذير له. ونصيحتنا لهؤلاء هي قول الشاعر:
إذا لم تجد قولاً سديداً تقوله ... فصمتك عن غير السداد سداد)
ونظن الأديب الفاضل يعني فيمن يعني صاحب (النثر الفني)، ولولا أن صديقنا المبارك يحتكر زعامة الصناعتين، ويعتقد أن للسانه شعبتين ولقلمه سنين، لاستأنفنا له الحكم، وتولينا عنه الدفاع!
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
مجلة الرسالة - العدد 558
بتاريخ: 13 - 03 - 1944