اللغة ظاهرة تاريخية. وجدت في فترة زمنية معينة، هي فترة ظهور الإنسان على الأرض. ومرت، وتمر، بمراحل تطور مختلفة ترتبط بتطور الإنسان نفسه. أما الكتابة فوجدت في فترة زمنية متأخرة جداً عن ظهور اللغة، وهي الأخرى مرت وتمر بمراحل تطور مختلفة. يقول الأستاذ طه باقر، وهو يقصد الكتابة عموماً، لا الكتابة الألفبائية حصراً، إن أقدم كتابة بشرية وجدت في حضارة وادي الرافدين يعود تاريخها الى عام 3500 قبل الميلاد. أي أن عمر الكتابة هو حوالى 5500 سنة. علماً أن الكتابة مرت بمراحل قبل أن تظهر الكتابة الألفبائية التي أستعملها االآن. أي أن الكتابة الألفبائية أقصر عمراً من الكتابة على عمومها (التي تشمل، إضافة إلى الكتابة الألفبائية، الكتابة الصورية والمفهومية، والأشكال الكتابية الوسيطة في المراحل الانتقالية للكتابة).
لكن المطلع على القواميس العربية يلاحظ غياب هذه الحقيقة غياباً تاماً. والمؤسف أن هذا الغياب لا يبدو أنه يصدم أحداً من المشتغلين باللغة بوصفه ظاهرة شاذة وغريبة. فالكلمة العربية ليس لها ميلاد يشير الى زمن دخولها اللغة، أو زمن اكتسابها معنى جديداً لم يكن لها من قبل. وبالتالي، ليس أمام قارىء تلك القواميس سوى أن يستنتج أن الكلمة العربية وجدت منذ الأزل وستبقى الى الأبد كما هي عليه، بهذا المعنى وهذه المواصفات المثبتة لها في القواميس. أي أنها لن تكتسب معنى جديداً ولن تفقد معنى قديماً، ولن يطالها القدم، ولن تتغير مواصفاتها (كأن تصبح مؤنثة بعد أن كانت مذكرة، أو العكس)، ولن تخرج من الاستعمال مهما امتد بها الزمن.
ألا يناقض هذا كل ما نعرفه بتجربتنا اليومية؟
سأذكر أمثلة بسيطة مستقاة من تجربتي الشخصية منذ مغادرتي العراق، وحتى كتابتي هذه السطور.
حين عدت الى العراق بدأت أتعرف على كلمات لم تكن متداولة قبل خروجي. وأول كلمة سمعتها في الطائرة العراقية المتجهة من دبي الى البصرة، في أيار 2011 كانت كلمة "موبايل". فالـ "موبايل" هذا لم يكن متداولاً قبل مغادرتي العراق. ومن الطبيعي أن وجود الشيء أو الظاهرة أساس لوجود مفهوم له في الذهن، ومن ثم وجود اسم له على اللسان. ومن المفردات العديدة التي اكتسبت استعمالاً جديداً كلمة "ورقة" التي أصبحت تعني "مئة دولار"، وكلمة "شدة" التي أصبحت تعني "عشرة آلاف دولار". ولم يكن للكهرباء سوى اسم واحد، فأصبح لها اسمان هما كهرباء "وطنية" وكهرباء "أمبيرية". وكلمة "مُجّسَّـرات" لم تكن شائعة قبل خروجي. وكان هناك "كومبيوتر" اخترع له فقهاء اللغة العرب اسم "الحاسوب" بديلاً مُفَصَّحاً، فحلتْ محله "الحاسبة". وهذه المفردة الأخيرة كانت تستخدم لتسمية الجهاز الذي يؤدي العمليات الرياضية (الحسابية). ولم تكن كلمة "تدريسيّ" شائعة من قبل. كان هناك "المعيد" و"الأستاذ الجامعي" و"البروفسور". ومن المواقف المحرجة التي وقعت فيها أثناء زيارتي الأخيرة للبصرة هي سؤالي بائع تلفونات عن سعر "الطرطور". وكنت سمعت اسمه بالخطأ، فلكزني صديق هامساً "يسمونه الصرصور." ولا شك أن قارئي، وخصوصاً إذا كان من جيلي ومقيماً في العراق، لديه عشرات وربما مئات الأمثلة الأخرى.
إن هذه ظاهرة طبيعية، طبعاً، وتشمل كل اللغات وكل الحضارات. لكن ما هو غير طبيعي هو أن هذه الأشياء والمفاهيم تاتي وتذهب وتتغير وكأنها غير موجودة بالنسبة للغتنا. ولا تدخل قواميسنا، ولا يوجد من يرصدها حتى. وأنا، حين أقول هذا، لست غافلاً عن الإشكالات التي تعترض إدخال المفردات والاستعمالات اللغوية الجديدة في قواميسنا، وخصوصاً في أذهان المشتغلين باللغة العربية من صانعي القواميس ومؤلفي الكتب اللغوية ومدرسي العربية، الذين اعتادوا أن ينظروا الى اللغة المحكية نظرة دونية، ويأنفوا من تدوينها لاعتبارات سياسية (دينية أو قومية، تحديداً).
لكن التغير يشمل اللغة المكتوبة أيضاً، وإنْ بشكل أبطأ وأخفى. والحاجر الذي يحول دون رؤية هذا التغير هو الاعتياد، الناجم بدوره من النظر الى الظاهرة من داخلها. فالقرب الشديد من الظاهرة يجعل رؤيتها إما متعذرة أو عسيرة.
مرة أخرى أستشهد بتجربتي الشخصية. فعند مغادرتي العراق لم تكن عبارة (في "العام") متبوعة برقم العام المعنيّ شائعة، مثل (في "العام" 1974). بل كنا نقول "في عام 1974". وأتمنى على من لا يوافقني أن يستشهد بأمثلة موثقة. ولم تكن عبارة ("هكذا" + اسم) شائعة. مثل "كيف تتعامل مع "هكذا فنانين؟" بل كانت العبارة المألوفة في هذه الحالة هي "كيف تتعامل مع فنانين كهولاء؟" ولم تكن عبارة "أشتاقك" مألوفة، أي تعدية الفعل "أشتاق" بلا حرف جر. بل كانت "أشتاق إليك". ولا "صباحكم" باعتبارها جملة كاملة، بل "صباحكم خير" مثلاً. وغرضي هنا هو ذكر أمثلة معدودة، لا تأليف قاموس في المستجدات اللغوية.
هذا كله أمر طبيعي، طبعاً. العكس هو غير الطبيعي. فاللغة تتغير سواء أغمضنا عيوننا أو فتحناها. لكن إغماض العينين عن الظاهرة هو اختبار لمصداقية أدعياء الحرص على اللغة العربية. وبالمناسبة، لا يوجد بين كل ما ذكرته من أمثلة خطأ واحد. فما يستعمله الناس ليس خطأً (ولا صواباً أيضاً). الخطأ والصواب يتعلقان بالأفراد حين يخالفون الناس (عموماً) أو يسايرونهم.
* منقول عن جدار حيدر الكعبي بالفيسبوك
Haider Al-Kabi
لكن المطلع على القواميس العربية يلاحظ غياب هذه الحقيقة غياباً تاماً. والمؤسف أن هذا الغياب لا يبدو أنه يصدم أحداً من المشتغلين باللغة بوصفه ظاهرة شاذة وغريبة. فالكلمة العربية ليس لها ميلاد يشير الى زمن دخولها اللغة، أو زمن اكتسابها معنى جديداً لم يكن لها من قبل. وبالتالي، ليس أمام قارىء تلك القواميس سوى أن يستنتج أن الكلمة العربية وجدت منذ الأزل وستبقى الى الأبد كما هي عليه، بهذا المعنى وهذه المواصفات المثبتة لها في القواميس. أي أنها لن تكتسب معنى جديداً ولن تفقد معنى قديماً، ولن يطالها القدم، ولن تتغير مواصفاتها (كأن تصبح مؤنثة بعد أن كانت مذكرة، أو العكس)، ولن تخرج من الاستعمال مهما امتد بها الزمن.
ألا يناقض هذا كل ما نعرفه بتجربتنا اليومية؟
سأذكر أمثلة بسيطة مستقاة من تجربتي الشخصية منذ مغادرتي العراق، وحتى كتابتي هذه السطور.
حين عدت الى العراق بدأت أتعرف على كلمات لم تكن متداولة قبل خروجي. وأول كلمة سمعتها في الطائرة العراقية المتجهة من دبي الى البصرة، في أيار 2011 كانت كلمة "موبايل". فالـ "موبايل" هذا لم يكن متداولاً قبل مغادرتي العراق. ومن الطبيعي أن وجود الشيء أو الظاهرة أساس لوجود مفهوم له في الذهن، ومن ثم وجود اسم له على اللسان. ومن المفردات العديدة التي اكتسبت استعمالاً جديداً كلمة "ورقة" التي أصبحت تعني "مئة دولار"، وكلمة "شدة" التي أصبحت تعني "عشرة آلاف دولار". ولم يكن للكهرباء سوى اسم واحد، فأصبح لها اسمان هما كهرباء "وطنية" وكهرباء "أمبيرية". وكلمة "مُجّسَّـرات" لم تكن شائعة قبل خروجي. وكان هناك "كومبيوتر" اخترع له فقهاء اللغة العرب اسم "الحاسوب" بديلاً مُفَصَّحاً، فحلتْ محله "الحاسبة". وهذه المفردة الأخيرة كانت تستخدم لتسمية الجهاز الذي يؤدي العمليات الرياضية (الحسابية). ولم تكن كلمة "تدريسيّ" شائعة من قبل. كان هناك "المعيد" و"الأستاذ الجامعي" و"البروفسور". ومن المواقف المحرجة التي وقعت فيها أثناء زيارتي الأخيرة للبصرة هي سؤالي بائع تلفونات عن سعر "الطرطور". وكنت سمعت اسمه بالخطأ، فلكزني صديق هامساً "يسمونه الصرصور." ولا شك أن قارئي، وخصوصاً إذا كان من جيلي ومقيماً في العراق، لديه عشرات وربما مئات الأمثلة الأخرى.
إن هذه ظاهرة طبيعية، طبعاً، وتشمل كل اللغات وكل الحضارات. لكن ما هو غير طبيعي هو أن هذه الأشياء والمفاهيم تاتي وتذهب وتتغير وكأنها غير موجودة بالنسبة للغتنا. ولا تدخل قواميسنا، ولا يوجد من يرصدها حتى. وأنا، حين أقول هذا، لست غافلاً عن الإشكالات التي تعترض إدخال المفردات والاستعمالات اللغوية الجديدة في قواميسنا، وخصوصاً في أذهان المشتغلين باللغة العربية من صانعي القواميس ومؤلفي الكتب اللغوية ومدرسي العربية، الذين اعتادوا أن ينظروا الى اللغة المحكية نظرة دونية، ويأنفوا من تدوينها لاعتبارات سياسية (دينية أو قومية، تحديداً).
لكن التغير يشمل اللغة المكتوبة أيضاً، وإنْ بشكل أبطأ وأخفى. والحاجر الذي يحول دون رؤية هذا التغير هو الاعتياد، الناجم بدوره من النظر الى الظاهرة من داخلها. فالقرب الشديد من الظاهرة يجعل رؤيتها إما متعذرة أو عسيرة.
مرة أخرى أستشهد بتجربتي الشخصية. فعند مغادرتي العراق لم تكن عبارة (في "العام") متبوعة برقم العام المعنيّ شائعة، مثل (في "العام" 1974). بل كنا نقول "في عام 1974". وأتمنى على من لا يوافقني أن يستشهد بأمثلة موثقة. ولم تكن عبارة ("هكذا" + اسم) شائعة. مثل "كيف تتعامل مع "هكذا فنانين؟" بل كانت العبارة المألوفة في هذه الحالة هي "كيف تتعامل مع فنانين كهولاء؟" ولم تكن عبارة "أشتاقك" مألوفة، أي تعدية الفعل "أشتاق" بلا حرف جر. بل كانت "أشتاق إليك". ولا "صباحكم" باعتبارها جملة كاملة، بل "صباحكم خير" مثلاً. وغرضي هنا هو ذكر أمثلة معدودة، لا تأليف قاموس في المستجدات اللغوية.
هذا كله أمر طبيعي، طبعاً. العكس هو غير الطبيعي. فاللغة تتغير سواء أغمضنا عيوننا أو فتحناها. لكن إغماض العينين عن الظاهرة هو اختبار لمصداقية أدعياء الحرص على اللغة العربية. وبالمناسبة، لا يوجد بين كل ما ذكرته من أمثلة خطأ واحد. فما يستعمله الناس ليس خطأً (ولا صواباً أيضاً). الخطأ والصواب يتعلقان بالأفراد حين يخالفون الناس (عموماً) أو يسايرونهم.
* منقول عن جدار حيدر الكعبي بالفيسبوك
Haider Al-Kabi