أدب السجون حليمة زين العابدين - المرأة والكتابة عن السجن والاعتقال بالمغرب

_ الكتابة الحرية
الحرية شرط الكتابة، والكتابة وعي بأن المرأة والرجل إنسان، مع اختلافات بيولوجية لا تبعد عن أي منهما، المهارات العقلية والذكاءات والقدرات على الخلق والإبداع والإبتكار...
إن امتلاك وعي الكتابة عند المرأة عموما والمرأة المغربية خصوصا، هو وعي بالذات، بالوجود وبالعالم.
المرأة، وهي تكتب لا تنتصر على الموت فقط، بل تعيش حياة مضاعفة، تعيشها حرية وانعثاقا من ثقافة ذكورية سادت لقرون طويلة، كانت تحصرها في خانة الناقص واللامتوازن، وإن تسامحت معها، فهي جسد محاصر بالصمت، دوره إغراء الرجل وشحن مخيلاته الإبداعية والفانتازماتية. جسد يوحي له بالكتابة وقول الشعر، وهو ممنوع من الكتابة محكوم عليه بالصمت. لقد تحدث الرجل عن المرأة في إبداعاته، تناولها جسدا، ووصف أدق تفاصيله وجزئياته، محكيا عن صاحبته ضميرا غائبا وليس مشاركا له في القول والفعل. كتابة المرأة حرية.
الكتابة النسائية في بلادنا لايتجاوز زمن إرهاصاتها الأولى أربعين سنة، عمر قصير جدا في تاريخ الكتابة وفي الكتابة المغربية. وقد كان اقتحام الكتابة من طرف النساء المغربيات مغامرة وتحديا، ذلك أن الكتابة ليست اشتغالا على الكلمات وحدها، وإنما هي أيضا اشتغال على الذات، هي رسم بالجسد وعلى الجسد، هي إعادة بناء كينونة ووجود آخر مغاير لما أريد له أن يكون في الواقع. كتابة النساء هي تحرير جسد من سجن ثقافة ذكورية سادت ، أباحت للرجل حق التصرف فيه قولا وفعلا، وجعلت محظورا وغير مباح مطلقا أن تكتب المرأة ، منعا لها من ان تطال كتابتها جسدا لا تمتلكه، وأن تخرج عبر الكتابة من دور الموضوع لتصبح فاعلا، فتهدم كل الموروثاث التي تجعل من وعيها ومن تفكيرها ومن جسدها ثالوثا محرما.
2_ المرأة في رواية السجن
إذا كانت مغامرة المرأة لمهاجمة الموت بالحكي، قد بدأت مع شهرزاد، وأخذت أبعاد الحرية أواسط القرن العشرين، فإن أكبر المغامرات هي كتابة المرأة عن واقع السجن.
الكتابة عن السجن هي تطاول على قلاع محصنة، استعصى على الرجل ذاته دخولها من غير تغليف الكلمة بالرمز والاستعارات، فلكي يكتب الرجل عن واقع السجن كان يُهرِب كلمته من خلف الأسوار، فتتبعها المطاردة والمحاصرة ومراقبة البوليس السري وتحاكم.. وإذا طبعت ونشرت تجمع من السوق وتحرق، علما أن كتابة الرجال عن السجن بالمغرب سواء من داخله أو من خارجه كانت بلغة مذكرة، وإن حضرت المرأة فيها، فهي أم تحمل قفة مؤونة لابنها القابع خلف الأسوار،أم تصرخ يوجه الجلاد مطالبة بابنها، وليس دافعها الى جانب عاطفة الام وعي اكتسبته بقضايا حقوق الإنسان، وهو حافزها لترافع عن كل المعتقلين وليس ابنها فقط، حقهم في الكرامة والحرية والحياة، ترافع أمام وزراء العدل وقادات الأحزاب، تعتصم بالبرلمان وبالمساجد وبمقر الأمم المتحدة وتتظاهر بالشوارع، وكان محضورا السير جماعيا بها، وتحرض الطلبة بحرم الجامعات على تبني قضية معتقلي الرأي، وكان الاتحاد الوطني لطلبة المغرب محضورا انذاك. لقد غاب من كتابة الرجال عن السجن دور المرأة كانت أما اوأختا أو زوجة في تشكيل أولى التنظيمات النسائية حاملة وعيا مبكرا بحقوق الإنسان، بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، كما غاب من الكتابة المذكرة عن السجن، أن المرأة زوجة المعتقل أو حبيبته لها جسد ورغبات أدخلتهما السجن اختيارا.
3_ كتابة المرأة عن السجن
إذا كانت الكتابة النسائية عموما هي خروج شاق وصعب عن السائد والمألوف، فإن تأنيث اللغة وذاكرة السجن بالمغرب كان أصعبا. وإذا كان عموم النساء اللواتي كتبن بالعربية، يحتلن على اللغة وتقنيات السرد ليلبسنها جسد المرأة، فإن كتابة المرأة عن السجن تتطلب:
:أولا: الجرأة على تكسير الثوابت اللغوية والسردية بإضافة تاء التأنيث إلى الفواعل والأفعال التي جاءت سابقا على صيغة المذكر.
ثانيا: تتطلب جرأة أكبر على اقتحام مجاهيل السياسة، ليس تنظيرأ اوتفكيرا أوممارسة وإنما لكتابة المسكوت عنه ، وبالجسد، تلك الكتابة التي تمنح القلم إمكانية اختراق المحضورات والممنوعات، وترتفع بالكلمة ما فوق التشريعات والخطوط الحمراء، ليصبح القلم ذاته جسدا منعثقا، من لبوس كلمات لايمنع تحليقها أسوار أوقضبان أو عيون عسس أو نظم ثقافية وسياسية، حيث يصبح للجسد لغته الخاصة، يفجرها صورا ورموزا مشحونة بالأحاسيس والانفعالات والرغبات الإنسانية الموءودة.
لهذا كانت الكتابة النسائية عن السجن; في حكم الناذر، مقارنة مع حجم تجربة الاعتقال السياسي بالمغرب وطول زمنه وهول ماعانته النساء داخل السجن وخارجه من قمع وسأقف هنا عند أربعة نماذج من أعمال سردية متقارب زمن صدورها، نشرت جميعها في السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين. ظهرت مرتبة كالتالي رواية لحليمة زين العابدين، رواية لخديجة مروازي، رواية لفاطنة البيه، رواية لخديجة المنبهي. وهي وإن كان السجن مادتها الفنية، و كان لها نفس زمن القصة ونفس زمن السرد، فإن زاوية الرؤية فيها غير متماثلة كما لم تتماثل فيها العوالم التخييلة ، ولم تتشابه طرائق السرد فيها وأساليبها الفنية، فلكل منها خصوصيات خاصة ومنفردة.
حديث العتمة، هي سيرواية لفاطنة البيه، عن السجن من داخله، تحكي عبرها عن معاناة المرأة تحت الإعتقال، ومعاناتها مع انتزاع الهوية، فهي كمعتقلة رأي تتعرض لمختلف أنواع التعذيب التي يتعرض لها رفيقها ولا يتحملها جسد امرأة، جلد بالسوط والفلقة الطيارة بلغة الجلادين وغطس الرأس في الماء الآسن حد الاختناق، وصعق بالكهرباء.... لانتزاع اعتراف منها، من غير اعتبار جنسها وخصوصياته وحساسياته، وحيث إنها امرأة مارست التفكير وهو خاصية ذكورية في منطق الجلاد الذكر، تغتصب منها هويتها، ينتزع منها اسمها ويطلق عليها اسم ذكر. حديث العتمة كتابة مشرعة على معاناة انتزاع الهوية. هوية المرأة التي تجرأت على قول لا .. لا للقهر الإنساني، لا للظلم والاعتداء ، ونعم لمجتمع مشيد على الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية
سيرة الرماد رواية لخديجة المروازي، هي كتابة سردية عن داخل السجن من خارجه، من منظور امرأة تفاعلت مع عوالم السجن وجدانيا ، فعملت على نسج وقائعها وخلق شخوصها بطريقة تخييلية فنية، تعيد بناء حياة كما يفترض أنها جرت في الواقع، في محاولة لتكسير الصمت عن المسكوت عنه في المعيش اليومي داخل المعتقل، وفي العلاقات بين سجناء الرأي.

جزء من حياة سيرة ذاتية لخديجة المنبهي، كتابة من نوع آخر ،سيرة للسجن بهوية امرأة عاشت الاعتقال يوما بيوم داخل سجن بلا أسوار أو قضبان لأنها زوجة معتقل.
في كتابتها تحررت خديجة المنبهي من كل القيود التي تفرضها الحمولة الثقافية للغة العربية، ذلك أنها كتبت باللغة الفرنسية وحررت بذلك الكتابة عن الجسد وآلامه ومعاناته من حرمان قسري ثقافي، مفروض بقوة سلطة القمع السياسي والتمييز المجتمعي، وإن كانت مسرودا بضمير المتكلم عن ذات مفردة، فكل زوجة معتقل تجد تعبيرات جسدها في مروي ووصف خديجة المنبهي.
هاجس العودة لحليمة زين العابدين، سأتحول هنا من كاتبة إلى قارئة ضمنية، وإن كان في عملية التحول هاته اغتيال للرهانات الثاوية خلف اللغة، واغتصاب لشحناتها الدلالية التي أردتها أن تمد كل قارئ فعلي بطوفان للقول، ذاك الذي تفاعل بداخلي وأنا أعيش احداث هاجس العودة في الواقع، ثم وأنا أعيد إنتاجها على مستوى المتخيل.
هاجس العودة صوت جماعي لشخوص تتناوب على الحكي.
بداخل أم المعتقل أو أخته أو ابنته أو زوجته قصة طويلة، عشنها في ظل السجن أو بمحاذاته، وكلهن بارعات في الحكي وفي التصوير ، ولكنهن ممنوعات من البوح، تمنعهن معيقات ذاتية كما منعهن الواقع السياسي وقد كن ضحايا قهره، فلم يسجلن مايحكينه كتابة.

هاجس العودة هي محكي أم معتقل لم تعرف القراءة أو الكتابة، وقد أجبرها واقع القهر والاغتصاب لحق الإنسان في مجرد الحلم أن تحطم أسوار الخوف والصمت وتخرج لتصارع غيلان الظلام ، سلاحها حبها لابنها وعاطفة الأمومة، ثم يقترن حبها بالوعي بضرورة النضال المنظم والمهيكل ضد كل واجهات القمع والتمييز. نضالها كأم جعلها تدرك أنها امرأة إنسان، فكان نضالها مقدمة تاريخ نسائي جديد. هي رواية زوجة مناضل لم تكن قد بلغت العشرين سنة من عمرها، ينتزع زوجها من بين ذراعيها، وفي خروجها سعيا لإطلاق سراحه تكتسب وعيا بذاتها ووجودها، تدرك معنى أن تكون إنسانا حرا.

خلاصة
إن السياق الموضوعي لكل الروايات التي كتبتها نساء عن السجن، هو سياق دامي ومؤلم محاصر بالإرهاب والخوف، مشرع على الأمل والحلم والحب، كما أنها كتابة في المحظور والممنوع وكتابة عن متعدد متداخل، فهي التزام بقضايا الإنسان وحقه في الحياة الكريمة، وهي تعبير عن أحزان وأفراح وهموم نسائية فردية أوجماعية ثم هي تعبير عن حاجة تحقيق متعة الولادة عبر الكلمة المرسومة جسدا

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
1,446
آخر تحديث
أعلى