أثبتنا بحجة العقل ودليل الوجدان أن التألق في الأسلوب أصل في طباع الناس، وسر في كيان اللغة، وركن من أساس البلاغة؛ وأن الجمال اللفظي المطبوع منية كل لسان ينطق، وبغية كل أذن تعي؛ فالناس خاصتهم وعامتهم يحبون أن يسمعوه، والكتاب قادتهم وساقتهم يتمنون أن يستطيعوه. وإذا كان في حملة القلم من يقدح فيه وينفر منه كان ذلك من باب الكذب على النفس مرده إلى أسباب يعرف بعضها ذلك الثعلب الفاضل الذي
رام عنقوداً فلما ... أبصر العنقودَ طالَه
قال: هذا حامضٌ لما ... رأى أن لا ينالَه!
فلندع ذلك الآن ولنسدد القول إلى الغرض المقصود من التلاؤم. فما التلاؤم في حقيقة معناه وطبيعة مداه؟ التلاؤم كلمة جامعة لكل وصف لابد منه في اللفظ ليكون الكلام خفيفاً على اللسان، مقبولاً في الأذن، موافقاً لحركات النفس، مطابقاً لطبيعة الفكرة أو الصورة أو العاطفة التي يعبر عنها الكاتب أو الشاعر
فالتلاؤم من حيث القبول في الآذان والخفة على اللسان، يكون في الكلمة بائتلاف الحروف وتوافق الأصوات وحلاوة الجرس. ويكون في الكلام بتناسق النظم وتناسب الفقر وحسن الإيقاع. ومن هنا تنشأ السلاسة والعذوبة والطلاوة والرخامة، وانسجام التراكيب، ومتانة الحبك، وكل صفة تنفي عن الكلام التنافر والنبو والقلق والتعسف والتعقيد والهلهلة والركاكة والغثاثة والحوشية والجفوة. ومدار ذلك على الذوق الفني السليم، والأذن الموسيقية المرهفة. ففي هاتين الحاستين وضع البارئ المصور البديع - جل وعلا - سر الفن كله. وبهاتين الحاستين هذبت الدهور اللغة، وصقلت العبارة، وتنخلت الألفاظ والتراكيب، فتخيرت منها. للأساليب الرفيعة لغة خاصة يعبرون عنها في تاريخ الأدب بالألفاظ الكتابية والتراكيب الشعرية
وإلى هاتين الحاستين يعزى التفاضل بين كاتب وكاتب، والتفاوت بين شاعر وشاعر، والتباين بين ناقد وناقد؛ وإليهما كذلك يرجع تقديم كلمة على كلمة، واختيار لفظة دون لفظة، وقصور الكلام عن مداه، أو بلوغه إياه، سواء أكان هذا البلوغ أو ذلك القصور من جه تأثير الكاتب أو الشاعر، أم كان من جهة تأثر القارئ أو السامع
وعلى هاتين الحاستين يجري نظم الكلام متسقاً كحبات العقد، مؤتلفاً كنغمات اللحن، منسجماً كسلاسل النهر، مصقولاً كمن السيف، مونقاً كأفواف الوشي؛ وتلك خصائص الطبع الموهوب لا حيلة فيها لمحتال، ولا قدرة عليها لمقلد. وتفاوت الفضل كما قال ابن الأثير (يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها؛ لأن التركيب أعسر وأشق)
وتمييز اللفظ الحسن من اللفظ القبيح يحصل بأدنى كلفة، لأن المرجع في ذلك إلى الحاكم المطلق وهو السمع، فما استخفه كان حسناً، وما استثقله كان قبيحاً. (وحسن الألفاظ وقبحها ليس إضافياً إلى زيد دون عمرو، وإلى عمرو دون زيد، لأنه وصف ذووي لا يتغير بالإضافة) فالقراح والنقاح وصفان مترادفان للماء ولكن حسن الأول وقبح الثاني لا يختلف فيهما أحد
وأما التلاؤم من حيث موافقة الكلام لحركات النفس، ومطابقته لصور الذهن، فيكون بتقطيعه فقراً وفواصل تقصر أو تطول تبعاً لحالات النفس والفكر. فلكل عاطفة درجتها من الإبطاء أو الإسراع، ولكل فكرة مداها من الضيق أو الاتساع، ولكل صورة طبيعتها من الظهور أو الضمور، ومن القوة أو الضعف. قد تكون أشعة الإلهام كومضات البرق تتعاقب على الذهن بسرعة؛ وقد تكون عواطف النفس فائرة تجيش بالألم أو تضطرم باللذة؛ وحينئذ تكون الفقر القصيرة أنسب الصور للتعبير عنها؛ كما ترى في السور المكية من كتاب الله؛ فإنها لاشتمالها على أصول الدين تتصل بالعاطفة، فجاء لذلك أسلوبها قصير الآي كثير السجع رائع التشبيه قوي المجاز. وقد تكون المعاني رزينة بطبيعة موضوعها لتوخيها الإفادة أو الإقناع أو الشرح، فتقتضي الأسلوب المرسل أو المفصل، كما ترى في السور المدنية من القرآن الكريم؛ فإنها لاشتمالها على أصول الأحكام تتجه إلى العقل، فنزل أسلوبها هادئ البيان طويل الجمل مفصل الآيات واضح الغرض. أما إذا كانت الفكرة متشاجنة الأصول متشابكة الفروع فالابلغ أن تفصل بالاستدارة. والاستدارة صورة من صور التعبير في اللغات العليا، تحدث عنها أرسططاليس وترجمها مترجموه إلى العربية بهذا الاسم، ولكن البيانيين من علمائنا لم يحفلوا بهذا النوع ولم ينبهوا إليه في أساليب العربية على كثرة وروده في النثر والنظم، حتى وقع عليه بعض المتأخرين فسموه (القول بالنظم) أو (حسن النسق). والاستدارة جملة متوسطة الطول تشتمل على فاتحة وخاتمة، وتتألف من فواصل ترتبط بإحكام، وتتساوق في انتظام، وتحمل كل فاصلة من فواصل الفاتحة جزءاً من المعنى بحيث لا يتم المراد إلا بذكر الجملة الأخيرة وهي الخاتمة
مثالها من الشعر قول النابغة:
فما الفرات إذا هب الرياح له ... ترمي غوار بُه العِبْرين بالزَّبد
يمده كل وادٍ مترعِ لَحبِ ... فيه ركام من الينبوب والخضد
يظل من خوفه الملاح معتصماً ... بالخيزرانة بعد الابن والنَّجد
يوماً بأجود منه سيبَ نافلةٍ ... ولا يحول عطاء اليوم دون غد
ومثالها من النثر قول الجاحظ: (فإذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً، وكان صحيح الطبع بعيداً عن الاستكراه، وكان منزهاً عن الاختلال مصوناً عن التكلف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة)، والاستدارة كثيرة الدوران في طريقة ابن المقفع وطريقة الجاحظ
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
مجلة الرسالة - العدد 568
بتاريخ: 22 - 05 - 1944
رام عنقوداً فلما ... أبصر العنقودَ طالَه
قال: هذا حامضٌ لما ... رأى أن لا ينالَه!
فلندع ذلك الآن ولنسدد القول إلى الغرض المقصود من التلاؤم. فما التلاؤم في حقيقة معناه وطبيعة مداه؟ التلاؤم كلمة جامعة لكل وصف لابد منه في اللفظ ليكون الكلام خفيفاً على اللسان، مقبولاً في الأذن، موافقاً لحركات النفس، مطابقاً لطبيعة الفكرة أو الصورة أو العاطفة التي يعبر عنها الكاتب أو الشاعر
فالتلاؤم من حيث القبول في الآذان والخفة على اللسان، يكون في الكلمة بائتلاف الحروف وتوافق الأصوات وحلاوة الجرس. ويكون في الكلام بتناسق النظم وتناسب الفقر وحسن الإيقاع. ومن هنا تنشأ السلاسة والعذوبة والطلاوة والرخامة، وانسجام التراكيب، ومتانة الحبك، وكل صفة تنفي عن الكلام التنافر والنبو والقلق والتعسف والتعقيد والهلهلة والركاكة والغثاثة والحوشية والجفوة. ومدار ذلك على الذوق الفني السليم، والأذن الموسيقية المرهفة. ففي هاتين الحاستين وضع البارئ المصور البديع - جل وعلا - سر الفن كله. وبهاتين الحاستين هذبت الدهور اللغة، وصقلت العبارة، وتنخلت الألفاظ والتراكيب، فتخيرت منها. للأساليب الرفيعة لغة خاصة يعبرون عنها في تاريخ الأدب بالألفاظ الكتابية والتراكيب الشعرية
وإلى هاتين الحاستين يعزى التفاضل بين كاتب وكاتب، والتفاوت بين شاعر وشاعر، والتباين بين ناقد وناقد؛ وإليهما كذلك يرجع تقديم كلمة على كلمة، واختيار لفظة دون لفظة، وقصور الكلام عن مداه، أو بلوغه إياه، سواء أكان هذا البلوغ أو ذلك القصور من جه تأثير الكاتب أو الشاعر، أم كان من جهة تأثر القارئ أو السامع
وعلى هاتين الحاستين يجري نظم الكلام متسقاً كحبات العقد، مؤتلفاً كنغمات اللحن، منسجماً كسلاسل النهر، مصقولاً كمن السيف، مونقاً كأفواف الوشي؛ وتلك خصائص الطبع الموهوب لا حيلة فيها لمحتال، ولا قدرة عليها لمقلد. وتفاوت الفضل كما قال ابن الأثير (يقع في تركيب الألفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها؛ لأن التركيب أعسر وأشق)
وتمييز اللفظ الحسن من اللفظ القبيح يحصل بأدنى كلفة، لأن المرجع في ذلك إلى الحاكم المطلق وهو السمع، فما استخفه كان حسناً، وما استثقله كان قبيحاً. (وحسن الألفاظ وقبحها ليس إضافياً إلى زيد دون عمرو، وإلى عمرو دون زيد، لأنه وصف ذووي لا يتغير بالإضافة) فالقراح والنقاح وصفان مترادفان للماء ولكن حسن الأول وقبح الثاني لا يختلف فيهما أحد
وأما التلاؤم من حيث موافقة الكلام لحركات النفس، ومطابقته لصور الذهن، فيكون بتقطيعه فقراً وفواصل تقصر أو تطول تبعاً لحالات النفس والفكر. فلكل عاطفة درجتها من الإبطاء أو الإسراع، ولكل فكرة مداها من الضيق أو الاتساع، ولكل صورة طبيعتها من الظهور أو الضمور، ومن القوة أو الضعف. قد تكون أشعة الإلهام كومضات البرق تتعاقب على الذهن بسرعة؛ وقد تكون عواطف النفس فائرة تجيش بالألم أو تضطرم باللذة؛ وحينئذ تكون الفقر القصيرة أنسب الصور للتعبير عنها؛ كما ترى في السور المكية من كتاب الله؛ فإنها لاشتمالها على أصول الدين تتصل بالعاطفة، فجاء لذلك أسلوبها قصير الآي كثير السجع رائع التشبيه قوي المجاز. وقد تكون المعاني رزينة بطبيعة موضوعها لتوخيها الإفادة أو الإقناع أو الشرح، فتقتضي الأسلوب المرسل أو المفصل، كما ترى في السور المدنية من القرآن الكريم؛ فإنها لاشتمالها على أصول الأحكام تتجه إلى العقل، فنزل أسلوبها هادئ البيان طويل الجمل مفصل الآيات واضح الغرض. أما إذا كانت الفكرة متشاجنة الأصول متشابكة الفروع فالابلغ أن تفصل بالاستدارة. والاستدارة صورة من صور التعبير في اللغات العليا، تحدث عنها أرسططاليس وترجمها مترجموه إلى العربية بهذا الاسم، ولكن البيانيين من علمائنا لم يحفلوا بهذا النوع ولم ينبهوا إليه في أساليب العربية على كثرة وروده في النثر والنظم، حتى وقع عليه بعض المتأخرين فسموه (القول بالنظم) أو (حسن النسق). والاستدارة جملة متوسطة الطول تشتمل على فاتحة وخاتمة، وتتألف من فواصل ترتبط بإحكام، وتتساوق في انتظام، وتحمل كل فاصلة من فواصل الفاتحة جزءاً من المعنى بحيث لا يتم المراد إلا بذكر الجملة الأخيرة وهي الخاتمة
مثالها من الشعر قول النابغة:
فما الفرات إذا هب الرياح له ... ترمي غوار بُه العِبْرين بالزَّبد
يمده كل وادٍ مترعِ لَحبِ ... فيه ركام من الينبوب والخضد
يظل من خوفه الملاح معتصماً ... بالخيزرانة بعد الابن والنَّجد
يوماً بأجود منه سيبَ نافلةٍ ... ولا يحول عطاء اليوم دون غد
ومثالها من النثر قول الجاحظ: (فإذا كان المعنى شريفاً واللفظ بليغاً، وكان صحيح الطبع بعيداً عن الاستكراه، وكان منزهاً عن الاختلال مصوناً عن التكلف، صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة)، والاستدارة كثيرة الدوران في طريقة ابن المقفع وطريقة الجاحظ
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
مجلة الرسالة - العدد 568
بتاريخ: 22 - 05 - 1944