أدب السجون نور بكري - عن عذابات سجن "جوّ" البحريني

من غوانتانامو الأميركية إلى عسقلان الإسرائيليَّة.. ومن الخيام في جنوب لبنان إلى بريتوريا في جنوب أفريقيا.. إلى قرية ساحلية تبعد 25 كيلومتراً من العاصمة المنامة، يقع فيها سجن "جو" البحريني، حيث رحابة الإسم تخطئ المعنى، فيغدو المكان مطبقاً على "سكّانه"، شديداً على أنفاسهم. يكفي أن يرتبط ذكره بتلك الأمكنة، أحداثها، ومآسيها، حتى يتبدّل المشهد.

ربما اعتدنا أن نقرأ لسجناء خرجوا إلى الحرية، وكتبوا فصولاً من معاناتهم، وربما ذكرياتهم، ولكن القصة هنا مختلفة. الراوي جهاد، هو سجين رأي سياسي، حوكم تحت قانون الإرهاب، بعد أن نُسبت إليه تهم جنائية، لممارسته نشاطاً سلمياً معارضاً في بلده البحرين. يعرّفنا جهاد بنفسه: "أنا شاب بحريني، أحببت وطني كما أحبّ أمي، وكنت أظنّهما أمراً واحداً، فالوطن هو حيث يكون المرء بخير كما يقال، وأنا أكون بخير طالما أنا في حضن أمي، لكني لم أكن كذلك في وطني، لم أكن بخير، ووطني أيضاً ليس بخير، فوطني مصاب بورمين قاتلين يفتكان بجسده: الفساد والاستبداد". هو واحد من مئات غيره، أدينوا بجرائم لم يقوموا بها، عقاباً لهم على مبادئهم الحقة ومطالبهم المشروعة.

من سجن "جو"، حيث لا يزال يقبع حتى الآن منذ سبع سنوات، ينقل لنا أحداث 10 مارس/ آذار 2015 في البحرين، ليظهر "حقيقة حاولوا دسّها في التراب بالتضليل الإعلامي والكذب والافتراءات". 84 يوماً كانت رحلة كتابة تلك الأحداث، بعشرة أقلام حصل عليها بشكل متقطع وبصعوبة كبيرة، وخمسة دفاتر انتظر من شهر إلى آخر للحصول عليها، وجرى تسريبها إلى خارج السجن بسريّة وحذر شديدين.

يروي جهاد ما حدث "كإفادة حقوقية بطابعٍ روائي، كي لا تندثر وتُطوى صفحاتها بالنسيان ومرور الزمان". كان هدفه أن تصل إلى كلّ العالم، ليطّلع على صفحة من صفحات المظالم التي وقعت على فئة مضطهدة، فكانت "جو" (مرآة البحرين، 2017). أراد لمذكّراته أن تكون "دعوة لباقي المعتقلين، ليأخذوا على عاتقهم نقل وتوثيق ما عايشوه، وما شاهدوه بأعينهم، لتكتمل الصورة بكل ألوانها، وتكون المسؤولية جماعية بحجم الحدث وارتداداته، التي ما زلنا نعاني منها نحن وعوائلنا يومياً حتى يومنا هذا"، وكلّ ما يرد هنا هو بعض من تلك الأحداث التي توثّقها الرواية.

نتعرَّف مع جهاد إلى سجن "جو"، يخبرنا أن "نزلاءه" مختلفون؛ ففيه محكومون لأسباب مدنية، ومسجونون بجرائم جزائية، وسجناء سياسيون. جميعهم يتشاركون السجن نفسه. يفوق عدد الحراس في السجن 400 حارس، ويشكّل الوافدون من اليمنيين والأردنيين والباكستانيين والبلوش الأغلبية الكاسحة منهم.

يأخذنا في جولة في أطراف ذاك المكان. حلقات من الدروس يؤديها كلّ سجين بحسب اختصاصه. فقه المذاهب الإسلامية، الإسعافات الأولية، شرح المعادلات الرياضية، دورات حول تأسيس المشاريع الصغيرة والمتوسطة، تدريس الرياضيات وعلم النفس والشعر العربي والصرف والنحو واللغة الإنكليزية... "كنَّا ندرس بمتعة، رغم أنَّنا في سجن ولسنا في الجامعة"، يقول جهاد، ولكن كلّ ذلك جانب من الصورة، ففي "جو" أيضاً مخدّرات وحشيش وفسادٌ وانحراف.. قد لا تكون هذه الأشياء سوى تفاصيل أمام ما يشهده من اكتظاظ وتدهور في الخدمات والحقوق ومآسٍ وانتهاكات بحق المعتقلين.

نعرف أيضاً أن في السجن توجهات مختلفة؛ سجناء يتحيَّنون الفرصة للثورة، وآخرون يرون "استثمار الانفتاح في إقامة الدروس وبناء المجتمع". جهاد كان من الفئة الثانية. لعل الجامع المشترك بين أغلب السجناء كان التوجّس من مآلات بعض الأحداث الأخيرة في السجن. "الوضع يا أمّي هو قنبلة موقوتة قد تنفجر في أيّ وقت، وانفجارها سيكون مأساة لا تحمد عقباها!". تلك كانت هواجسه التي أسرَّ بها لوالدته في آخر زيارة لها إلى السجن قبل وقوع أحداث ذاك اليوم.

يومها، منع بعض أقرباء أحد السجناء من الدخول. أفضى هذا المنع إلى عراك وضرب السجين وإخراج أهله من قاعة الزيارة وتدافع امرأة من عائلته مع الشرطة النسائية، حتى علا صراخها وسمعه كل السجناء وعوائلهم. الحدث الَّذي لم يصل إلى المساجين بتفاصيله الدقيقة، كان "القنبلة". "هتكوا حرمة النساء في مبنى الزيارات"، انتشرت في المبنى، وأجّجت مشاعر السجناء، فكان "الانفجار". لم يتحققوا من الحادثة، فكانت النتيجة "ثورة". "لنرهم ماذا يحدث عندما تُنتهك أعراض نسائنا، أقفلوا الباب واحتلوا المبنى لِلمسّ بحرمة وشرف الحرائر!". كان ذلك في 10 مارس/ آذار 2015 الساعة 12:30 مساءً. وانفجرت القنبلة: "يجب أن لا نقف مكتوفي الأيدي، لا بُدَّ أن نقوم بشيءٍ ما". قالها أحد الشبان. كان مخبراً وعميلاً لدى الإدارة.

طاولة، أسياخ حديد، أريكة، مكتب، ثلاجة.. كان هذا شكل الباب الرئيس. لحظات وانفلت الوضع. "لقد ضربوا إحدى النساء في الزيارة وشقَّوا وجهها، وأنتم لا زلتم متقاعسين عن الدفاع عن حرمات الله، أين أنتم أيُّها المعتقلون السياسيون، يا من دخلتم السجن بسبب مطالبكم وحقوقكم، لماذا لا تثورون؟!". هذه المرة كان ذاك السجين أحد الذين تهافتوا على سرقة أقراص دواء الأعصاب، وبلع الحصَّة الأكبر منها.

10 مارس/ آذار 2015 الساعة الرابعة عصراً، تحول السجن إلى ساحة حرب. تقدَّم الشبان ورشقوا الشرطة بالحجارة والقناني البلاستيكية، فجاء الرد بإطلاق الغاز المسيّل للدموع، وطلقات من سلاح الرصاص الانشطاري (الشوزن) أصابت عدداً منها، ثم شهد السجن مطراً من عبوات الغاز المسيّل للدموع، تلاها دوي أصوات انفجارات القنابل الصوتية في الممرات. دقت ساعة الصفر. خفت صوت السجناء، ليعلو صوت السجانين. كان البعض يحمل هراوته، و"البعض الآخر يحمل عموداً من حديد، وآخر لوحاً خشبيّاً، والسجناء يركضون بين الصفّين، محاولين النفاد بجلدهم، والمرتزقة يشبعون السجناء ضرباً من باب العنبر حتى مخرج الساحة الخارجية، والركض والهرولة. هنا فخ وقع فيه الشباب بسبب الماء المسكوب على الأرضية، فسقطوا على الأرض، وتجمَّعت حولهم الوحوش والذئاب البشرية تنهش من لحمهم"، فكان مشهد الساحة الخارجية: عشرات المصابين الممددين في مقدمتها، باقي المساجين جالسون على الأرض، واضعين أيديهم على رؤوسهم، والبعض الآخر لا يزالون يتوافدون إليها بحالة مزرية.

10 مارس/ آذار 2015 منتصف الليل. "لا صلاة.. لا ماء.. لا نوم". تفاصيل ذلك اليوم يرسمها جهاد بتفاصيلها: "إنه ليل مظلم بائس، لم ترحم برودته أجسادنا، حملني إلى الاشتياق لدفء أحضان أُمِّي الحبيبة وحنانها، ورسم الابتسامة على ثغري، لم يكن تذكّرها يحزنني ويكسرني، بل يقويني ويسعدني، وسط هذا البحر الهائج من العذاب الذي غرق الكثير فيه بحزنه ونفاد صبره".

مع كل الضرب والإهانات، كانت طريقة عدّ السجناء فصلاً إضافياً من فصول المعاناة. كانوا يُجبرون على الوقوف في الساحة للعد فرداً فرداً مطأطئي الرأس، بينما يمرّ الوكيل ويقوم بضربهم على أعناقهم خلال العد إلى أن يتعب أو يستطيع ضبط العدد الصحيح. ينتهي العد حتى يبدأ فصل جديد من فصول الإمعان في الإذلال والإهانة، فلا ماء يروي عشطهم، ولا عين تغطّ للنوم، ولا يد تنزل عن الرأس. "كنَّا نترنّح تعباً من الألم الناتج من وضع أيدينا على رؤوسنا، ما أفقدنا الإحساس بفقرات ظهورنا، وصرنا نلتهب من فرط حرارة سوط لهيب الشمس الحارقة على الإسفلت الذي كان بمثابة المقلاة التي تشوي أجسادنا". هكذا كان حال الجميع. نهار ذلك اليوم كان صورة عن ليله، وذلك أيضاً كان وجه أيامهم للآتي من الأيام.

11 مارس/ آذار 2015. كانت أول وجبة طعام تقدم إليهم، قابلها معظم السجناء بالرفض: "هل هو عذاب آخر؟! نأكل ثم ماذا؟ ونحن نعلم أنَّهم لن يسمحوا لنا بالذهاب إلى الحمام!"، فمع كل الإذلال والتعذيب الذي تعرضوا له، كانت هذه المعاناة التي "لم يسلم منها أحد: التبوّل. من لم يحتمل قمع حاجته، ولم يجد مفرّاً إلَّا أن يتبول مكانه في ثيابه، قام بذلك منكِّساً رأسه خجلاً لعظم المذلَّة والإهانة... كانت قوات المرتزقة تسمح للسجناء بقضاء الحاجة في الجزء الخلفي من الساحة، وأمام أعين الكل. لكن لم يكن ذلك سوى إمعان في الإذلال، نقلنا من معاناة إلى معاناة أخرى، فقد تكوَّن في الجزء الخلفي من الساحة مستنقع من البول والغائط". كان هذا أيضاً فرصة للمزيد من الإذلال. أحد السجناء جعلوه يتدحرج في المستنقع الذي تكوَّن في الجزء الخلفي للساحة من البول! وأحدهم، للمفارقة، هرب منهم إليه، وجلس فيه وهو يضرب بيديه على الإسفلت والبول. ظلَّ جالساً هناك حتى مطلع الفجر ليأمن من سطوتهم.

12 مارس/ آذار 2015. إنها "مجزرة الحلاقة". "بأمر من الإدارة الكل على الصفر"، قال السجّان. والنتيجة "صرخات وآهات مرعبة تخترق القلوب بصدى مرتفع. جدرانه (السجن) ملطخة ببقع الدماء، رائحته أشبه برائحة المسلخ". لجهاد في ذلك اليوم معاناة يستذكرها بتفاصيلها وآلامها: "طلب مني مرتزق الدرك الأردني الذي سحبني إلى الممر الاستلقاء على بطني، فلم أستجب له، إلَّا أنَّه ركلني بقوة على رجلي، فسقطت أرضاً على وجهي، أتبعها بركلات على مؤخرتي وهو يصرخ: ازحف يا لعين، ازحف يا كلب. زحفت مكرهاً من عذاب ركلاته لعذاب الكلاب الأخرى التي أمامي، فواحد رفع هراوته كمن رفع فأساً لتقطيع الخشب، وأنزلها عليَّ وآخر كان واقفاً كمن يستعدّ لركل كرة في ضربة ترجيحية راكلاً وجهي بحذائه الخشن، وهو يقول: خذ يا خائن، خذ يا إرهابي. وثالث يمشي على ظهري. رأيت الموت بعيني ولم أمت".

ذاق العشرات من السجناء الويل نفسه، بل تجرَّع البعض ما هو أقسى من ذلك، يضيف. أحد السّجناء مزقت يده بشكل مروع بعد أن استقرت إحدى ضربات المرتزقة بين أصابع يده أثناء زحفه في الممر. "أسميناها مجزرة لهول المشاهد التي عاينَّاها. يدخل السجين إلى ذلك الممر، ولا يخرج إلَّا وهو ملطخ بدمائه، أو مكسرة أعضاؤه. مشاهد بثَّت الرعب في قلوبنا"، يقول جهاد. يومها، لم تنتهِ "مجزرة الحلاق" رأفةً بالسجناء، بل توقفت بسبب تعب "المرتزقة" من عملية التعذيب والإرهاب، ولكنها لم تكن الأخيرة. ولفترة ثلاثة أشهر متتالية، كانت طوابير من الحلاقة يصطف فيها السجناء لينالوا العذاب نفسه.

وسط تلك الأحداث، ظلَّ السجناء يتساءلون: متى سوف نتخلّص من هذا العذاب، ونعود إلى داخل المبنى؟! لتأتي الإجابة بانتظار نصب الخيام. في ذلك اليوم، أمر ضابط أردنيّ جميع السجناء بالنوم، "فتنفّسوا الصعداء، كم كان النوم حينها لذيذاً، رغم أنَّ كل ثلاثة أشخاص كانوا ينامون تحت بطانية واحدة، ويتوسدون نعالهم بدلاً من الوسائد، لكن ليس جميعهم، بل المحظوظ منهم فقط الذي استطاع الخروج بنعليه وسط كل ما حدث. أما الفراش فكان الإسفلت البارد، إلَّا أنَّ ذلك لم يمنع الأجساد المتهالكة من التعب والتعذيب من الاستسلام للنوم"، يقول جهاد واصفاً حالهم.

الوضع داخل الخيم لم يكن أفضل حالاً من الساحة الخارجية. مساحة الخيمة الواحدة لم تستوعب أكثر من 30 من السجناء، وبقي الآخرون خارجها يستظلّون بظلها. في الداخل، كانت الخيم خانقة لشدة الحرارة، وفي الخارج تعذيب وضرب وإذلال، وطوابير للحمّام وأخرى للحلاقة. كان قوات السجن تأمر كل من فيها بأداء حركات مهينة، كالمشي مثل البطة أو تقليد أصوات الحيوانات أو الغناء والرقص، وتقبيل أحذية الضباط، والركض حول الخيمة، مع ضربات مهلكة عند الانتهاء من كل دورة للإسراع في الركض.

كان بعض الشّباب يسحبون خارج الخيمة خلسة، والذين يذهبون إلى الحمام يختفون أيضاً، لينالوا المصير نفسه؛ المزيد من الضرب والتعذيب. في صباح يوم السبت 14 مارس/ آذار 2015، ثار السجناء على الضرب. "أنا عن نفسي أعلن عن إضرابي عن الطعام حتى تعاملونا كبشر وليس كحيوانات!"، قال أحد المعتقلين منسحباً من الساحة، وصرخ الجميع وراءه: كلنا مضربون أيضاً. في الظهيرة، كان معظم السجناء يجلسون داخل الخيمة، يترقَّبون عملية العد، لكن المفارقة، يضيف جهاد، كان غياب "قوات المرتزقة عن المشهد، وكان ذلك وحده انتصاراً لإرادة السجناء التي عجز الجلَّاد عن كسرها".

15 و16 مارس/ آذار 2015. إنَّها معركة الأمعاء الخاوية. حقَّق الإضراب خلال يومين الكثير من المكاسب للسجناء، رغم أنَّه لم يكن إلَّا في الخيمة الجنوبية!. أما المكسب الأكبر، فكان انسحاب "قوات المرتزقة من الساحة، لكنَّها لا تزال تمعن في إذلال كل من يتوجّه إلى الحمام وضربه، ويقتادونه إلى صالة الطعام الكبيرة للتحقيق والتعذيب"، فكانوا يختارون واحداً من السجناء ويرغمونه على سكب الماء على باقي المعتقلين من دون إعطائه أي فرصة للرفض، وإلَّا سيصبح أيضاً ضحية للماء البارد. ولم يكن يوم يمر أفضل من سابقاته. الطوابير اليومية كانت وسيلة للإهانة والإذلال والاعتداء والتعذيب والسخرية، مع التهديد بنقل السجناء إلى مبنى 10 الذي لا يذوقون فيه لذة الطعام والشراب والنوم؛ ذاك "المكان الذي يأكلون فيه التراب".

وسط تلك الظروف القاسية، يتحدّث جهاد عن التدخين الذي أوقع بعض السجناء في إذلال اختياري، إذ كانوا ينظفون الأرض من بقايا السجائر المسحوقة بأحذية المرتزقة، لكي يجمعوها ويضعوها في مخروط بلاستيكي من صنعهم. ولكن أيضاً لم يكن ذاك الإذلال كافياً. "من لديه موهبة فليتقدَّم وسيحصل على سيجارة"، يصرخ أحد الوكلاء، ليتقدم البعض ويقوم بحركات بهلوانية، أو يقلّد أصوات الحيوانات، من أجل الحصول على سيجارة!.

23 مارس/ آذار 2015. "دقيقة لتطمئن أهلك أنَّك بخير". كان التساؤل آنذاك عما إذا كانت الدقيقة كافية لطمأنة الأهل، ولكن الأمر بالنسبة إلى جهاد كان محسوماً: "أُمِّي الحبيبة قادرة على تحمُّل ما سأقوله لها، لأنَّ مجرد سماع صوتي سيدخل الفرحة إلى قلبها، ويشعرها بطعم الحياة، ويرسم على شفاهها الابتسامة... وكما توقعت، أحسست أنَّها طارت من الفرحة بعد سماعها نبرة صوتي فقط. قالت لي إنَّ هناك شرطياً واقفاً بجانبي كأنَّها واقفة أمامي، ولا عجب في ذلك فإنَّ قلبها سكن في جوفي".

أيام قليلة وكانت "مجزرة ماء". "الجرم" كان وجود "نعارات" (سكاكين) وهواتف، على حدّ زعم قوات السجن. "على بطنك"، صرخ وكيل السجن بأحد السجناء، ثم قام بسكب دلو ماء بارد على جسده العاري. بعد ذلك، أمره بالتدحرج على الإسفلت والوحل مسافة عشرة أمتار تقريباً إلى زاوية الخيمة. كرر الأمر نفسه مع كل من كانوا في الصف الأول في الطوابير، وبدأ بالصف الآخر، إلَّا أنَّه أمر أول سجين سكب الماء عليه بسكب الماء على زملائه السجناء، جاعلاً أحد أفراد الدرك الأردني حرساً على رأسه.

كان جهاد يحدث نفسه: "لماذا نستجيب له؟ لماذا لا نعصي أوامره؟ لماذا القنوط؟ لماذا الاستسلام لهذا الطغيان؟! كنت أتمنى أن أرى بصيص أمل لعصيان أمره ولو صغيراً ليكبر، ويقف أمام هذا الإرهاب، ولكن كيف يستطيع مجرد مستضعف أن يقف أمام جيش جرارٍ مدجج محتشد؟!". كان حالهم مزرياً ذاك اليوم: "كنَّا نصطك ببعضنا بعضاً لتنال أجسادنا بعض الدفء، إلَّا أنَّ ذلك لم يجدِ، فما إن يجف الماء عن أجسادنا العارية، حتى يقوم الوكيل برشنا به مرة أخرى، حتى إن بعض السجناء تبولوا على أنفسهم من فرط البرودة. لقد اجتمع علينا كل شيء: الماء البارد، المطر، الهواء، البحر القريب، الرياح التي فتكت بنا. عرفنا ماذا يعني أن يتجمّد الدم في العروق، ماذا يعني أن يموت أحد متجمّداً من البرد".

بعد يومين، اجتاحت موجة من "الحكّ" عدداً كبيراً من السجناء، وصلت إلى ذروتها حتى صار السجناء يخدشون أجسادهم بأظافرهم بقوة، إلى أن تنبعث الدماء منها. تفشَّى مرض الجرب المعدي بكثافة نتيجة إرغام المرتزقة السجناء على السباحة في مياه المجاري القذرة، فمن الضرب وسكب الشاي الحار على الأجساد تارة، والماء البارد عليهم تارة أخرى، إلى "التدحرج على الإسفلت، والإغراق الوهمي في مياه المجاري العفنة، حيث كانت توجد لدينا بركة تجمعت فيها كل أنواع الأوساخ والقاذورات، من شعر رؤوسنا التي تحلق كل أسبوع، والماء الذي نغسل به أيدينا بعد كل وجبة، بل حتى بعض البول.. في مثل هذه البركة العفنة، كانوا يجبروننا على الاستحمام والغطس برؤوسنا فيها!". في ظل كلِّ ذلك، لا علاج ولا دواء. وحدها منظفات الحمامات، ومطهرات البلاط، ومنظفات أواني المطابخ، تصرفها إدارة السجن للسجناء.

بعد مرور شهر على وجود السجناء في الخيام، تمّ فتح باب الزيارات، وكان لقاء جهاد بوالدته: "امتزجتُ بدموع أُمِّي الغالية، حزناً على شكلي الذي تغيَّر، وجسمي الذي نحل، ودموع أخرى فرحة للقائي بعد طول اشتياق". يومها، التقى عباس السميع (أعدمته السلطات البحرينية في عام 2017 على خلفية اتهامه ومعارضين آخرين بقتل الضابط الإماراتي طارق الشحصي في اشتباكات مع محتجين غرب العاصمة المنامة)، وكانت شهادته حاضرة في الرواية: "أخبرني بأنَّه بعد نقله من المبنى إلى الإدارة تعرَّض لتعذيبٍ شديد، ولم ينتهِ تعذيبه بعد نقله إلى عزل الإعدام في مبنى رقم (1)، حيث أدخلوا عليه عدداً من أفراد عائلة الشحّي الإماراتية بزيّ عسكري، وأبرحوه ضرباً موجعاً، وهو يقول لهم: إنَّ الله يعلم أنِّي لم أقتل أحدًا، بل حتى حكومة البحرين نفسها تعلم ذلك، ولكن لُفقت لي هذه التهمة. رغم حالته المأساوية كان شامخًا لا تغيب عن وجهه الابتسامة أبدًا، يتحدَّى ولا يبالي بأوامر المرتزقة وصراخهم".

بتاريخ 21 مارس/ آذار 2015، أُدخل جزء من السجناء إلى أحد مباني السجن من جديد. "لكن هل تخلَّصنا نحن الذين تمّ إدخالنا إلى المبنى من هذا العذاب لأكثر من شهر!؟ لا، لقد بدأ فصل جديد"، يوضح. "لا جفن يغمض لنا في ليلٍ، ولا عمل يشغلنا في نهار، كنت أنظر إلى نفسي ومستقبلي ومصيري. صحيح أنَّ القضبان والجدران تحول بيننا وبين العالم الخارجي، لكنَّها لا تمنعنا من أن نجول بأفكارنا وآمالنا إلى خارج هذه الأسوار العالية، رغم أنَّنا لا نملك داخل هذه الزنزانة سوى بطانية، فشرطة الإدارة سلبت منَّا كلّ شيء بحجة التفتيش حتى المصحف الشريف وملابسنا، لكن بقي هناك شيء واحد لم ولن يستطيعوا سلبه منِّي، كان ولا يزال معي، أحمله في قلبي، وكان ولا يزال حاضراً في داخلي، ولم يغب عنِّي أبداً، إنَّها أُمِّي الحنونة الحبيبة التي كانت معي دائماً في أحلك الظروف، أعيش بها ومعها، وأنام في حضنها وكنفها حتى وأنا هنا، فأستمع إلى صوتها وحكاياتها تنبعث من داخلي لأنام على صوتها". ذلك كان عزاؤه دوماً في ظلّ كل المآسي التي حلّت به.

أيام أخرى مضت على تلك الحال، ثم غادر السجناء جميعهم الخيام. في تلك الفترة، شهد السجن إضرابات عدة عن الطعام، بهدف وقف جميع أشكال التعذيب والإهانات وسوء المعاملة، وزيادة مدة الاتصال، والخروج للتشمس ساعتين في الصباح... بدأ السجناء أول إضراب لهم بحذرٍ قبيل شهر رمضان، وكان بمثابة حجر زاوية للإضراب الثاني بعد شهر رمضان، وامتدّ إلى أربعة أيام. عندها أُجبرت الإدارة على التفاوض مع المضربين، وتحقق الكثير من مطالب السجناء.

هكذا كان الوضع الجديد بعد الانتقال إلى المباني. رحلة جديدة للمطالبة بالحقوق، يقرّ جهاد بأنها "تتطلب منَّا السعي الحثيث ليلاً ونهاراً من دون كلل أو ملل أينما كنَّا، هنا أو في المباني الجديدة أو في الخارج". وكان عهده الأخير مع السجناء، رغم كل ما مروا به، أن يكونوا "العناصر المؤثرة في أيِّ مكان، من أجل نقل الحقائق، ليس لشعب البحرين فقط، بل للعالم بأسره، لكي يعرف الناس حقيقة هذا النظام، ومدى إمعانه في سحق الإنسانية بكُلِّ معانيها، لتكون هذه الحقيقة رافداً ودافعاً للمناضلين في كيفية انتزاع الحقوق من هذه الأنظمة الدكتاتورية التي تسلّطت على العباد من دون حق، وسلبت الشعوب كل حقوقها ومقدّراتها، وسخَّرتها لأجل نزواتها المريضة، فإن طال الزمان لهذا الشعب المظلوم، فإنَّ بزوغ شمس الحرية والانتصار آتٍ لا محالة".

كانت تجربة سجن "جو" نوعاً من الانتصار على القضبان والسجَّان، ومقاومة لئلا نُصبح أمواتاً، يقول جهاد. وكانت أيضاً وصية صديقه محمد سهوان (استُشهد في العام 2017 بعد قضائه 5 سنوات في سجن جو بعد منع العلاج عنه) من خلف القضبان في إحدى ليالي السجن القاتمة بكسر طغيان السجّان: "السجن وسيلة يستخدمها النظام لقتلنا، لكننا يجب أن نستغلّه لتنميتنا داخلياً لننتصر على الظلام والجدران والسجَّان، فكِّر كيف تكسر طغيانهم بدلاً من التفكير فيما فعله طغيانهم".

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
569
آخر تحديث
أعلى