في نهاية خريف سنة 1949، حينما كنت موظفا ً صغيرا ً مستجدا ً في محاكم بعقوبة المدينة، وصلتني برقية مدهشة صباح احد أيام الخميس، لم تحتو إلا على كلمات قليلة؟
" سنجيء صباح الغد الجمعة .." وكانت موقعة بتوقيع عبد الملك نوري. كنت قد التقيت به قبل أسبوع أو أكثر بقليل في مقهى "سويس" حين كنت امضي يومين أو ثلاثة في بغداد لقضاء بعض الحاجيات. كان اللقاء بواسطة صديقنا المشترك ساطع عبد الرزاق وبطلب من عبد الملك. امتد بيننا، حال التقينا. نوع من الألفة، والتفاهم الصافين.
كان عبد الملك آنذاك كاتب قصة معروف، فازت أقصوصته "فطومة" في السنة الماضية بجائزة مجلة "الأديب" البيروتية لأحسن أقصوصة عربية، وكنت شابا ً صغيرا ً لم انشر شيئا ً، إلا أني كتبت بعض الأقاصيص التي لم اقتنع بها وأعطيتها ـ كما أتذكر ـ إلى صديقي نزار سليم للاطلاع عليها فأعطاها بدوره إلى ساطع ليعيدها إلي ّ فوصلت ليد عبد الملك فاطلع عليها، ومن هناك كان طلبه من ساطع ان يلتقي بي.
* ولكن ماذا عن أدب عبد الملك نوري واتجاهه في فن كتابة القصة ؟
ـ مبدئياً كان عبد الملك شديد الإيمان بالواقعية وبوجوب استيحاء محيطه العراقي، إلا انه كان يضع الصناعة الفنية في الأدب القصصي وجودة الكتابة فوق ما يمكن ان يسمى بالمضمون الاجتماعي ولكن ليس على حسابه. كان منحازا ً إلى الأدب القصصي الغربي الجيد ضد أي ادعاءات أو مباديء أخرى لا تنتج غير أدب رديء فنيا ً. وعلى هذا المستوى لم يساوم عبد الملك أحدا ً ولم يجامل، وكان حادا ً في نقده، عصبيا ً، لا يطيق ان يسمع دفاعا ً عن قصة يعتقد أنها سيئة. وفي اعتقادي انه كان يعيش تناقضا ً بين أفكاره عن الإنسانية والاشتراكية وبين الأدب الذي يجب ان ينتج لخدمتها والذي يرى انه لا يمكن تقنينه بهذه السهولة. نشر عبد الملك مجموعته القصصية الأولى "رسل الإنسانية" سنة 1946 تطبيقا ً لنهجه الواقعي، ولكنه لم يرض عنها كما هو متوقع، فانقلب أواخر الأربعينيات يجرب ـ مع ارتباطه بالواقعية ـ أساليب أخرى للتعبير عن أفكاره القصصية. وهكذا كانت "السياج الرمادي" ثم "جيف معطرة" المنشورة في مجلة "الأديب" البيروتية في عدد شباط 1949. كتبها عبد الملك أواخر سنة 1048، وطبق فيها محاولة التعبير عن مجرى الشعور لدى شخصيات متعددة خلال فترة زمنية معلومة. نعم، إنها استعارة لما ابتكره "جويس"، إلا ان الملفت للنظر ان يحاول ذلك شاب عراقي وان تكون المحاولة بعد قراءة "يوليسيس" وبعد تأمل وإمعان فكر. وجاءت الأقصوصة غريبة تبعث على الدهشة كثيرا ً؛ ففي ذلك الجو الأدبي، خلال الأربعينات، حين كان ذو النون أيوب ورفاقه منكبين على قرع طبول الأقاصيص "الاجتماعية" الساذجة، تبدو محاولة عبد الملك نوري هذه كأنها نيزك أضاء بشدة سماءنا السوداء. ولم يلتفت إليها احد ولم يهتم عبد الملك بذلك وبدأت محاولات أخرى كان يريدها هذه المرة ان تلتقط انفعالات "الوهلة الأولى".
* ماذا كان يبغي، حقيقة، من كل تلك المحاولات؟
ـ في اعتقادي، ان عبد الملك لم يكن مدعيا ً ولا كان يريد إدهاش القراء بكل ثمن، لكنه ـ مدفوعا ً بإعجابه الشديد بالأعمال القصصية العالمية ـ كان بوده ان يسلك كل الطرق الممكنة التي قد تؤدي به إلى تخطي الأساليب القصصية المستهلكة، من اجل الإمساك بعد ذلك بهدفه الفني.
ويخّيل إلي ّ ان عبد الملك نوري لم يفشل قط، فلقد لاحق بطاقاته وعيه الفني إلى اللحظة الأخيرة ولم ينكص، ولا يزال لم ينكص، ويجدر بنا جميعا ً ان نفهم معنى ذلك.
" سنجيء صباح الغد الجمعة .." وكانت موقعة بتوقيع عبد الملك نوري. كنت قد التقيت به قبل أسبوع أو أكثر بقليل في مقهى "سويس" حين كنت امضي يومين أو ثلاثة في بغداد لقضاء بعض الحاجيات. كان اللقاء بواسطة صديقنا المشترك ساطع عبد الرزاق وبطلب من عبد الملك. امتد بيننا، حال التقينا. نوع من الألفة، والتفاهم الصافين.
كان عبد الملك آنذاك كاتب قصة معروف، فازت أقصوصته "فطومة" في السنة الماضية بجائزة مجلة "الأديب" البيروتية لأحسن أقصوصة عربية، وكنت شابا ً صغيرا ً لم انشر شيئا ً، إلا أني كتبت بعض الأقاصيص التي لم اقتنع بها وأعطيتها ـ كما أتذكر ـ إلى صديقي نزار سليم للاطلاع عليها فأعطاها بدوره إلى ساطع ليعيدها إلي ّ فوصلت ليد عبد الملك فاطلع عليها، ومن هناك كان طلبه من ساطع ان يلتقي بي.
* ولكن ماذا عن أدب عبد الملك نوري واتجاهه في فن كتابة القصة ؟
ـ مبدئياً كان عبد الملك شديد الإيمان بالواقعية وبوجوب استيحاء محيطه العراقي، إلا انه كان يضع الصناعة الفنية في الأدب القصصي وجودة الكتابة فوق ما يمكن ان يسمى بالمضمون الاجتماعي ولكن ليس على حسابه. كان منحازا ً إلى الأدب القصصي الغربي الجيد ضد أي ادعاءات أو مباديء أخرى لا تنتج غير أدب رديء فنيا ً. وعلى هذا المستوى لم يساوم عبد الملك أحدا ً ولم يجامل، وكان حادا ً في نقده، عصبيا ً، لا يطيق ان يسمع دفاعا ً عن قصة يعتقد أنها سيئة. وفي اعتقادي انه كان يعيش تناقضا ً بين أفكاره عن الإنسانية والاشتراكية وبين الأدب الذي يجب ان ينتج لخدمتها والذي يرى انه لا يمكن تقنينه بهذه السهولة. نشر عبد الملك مجموعته القصصية الأولى "رسل الإنسانية" سنة 1946 تطبيقا ً لنهجه الواقعي، ولكنه لم يرض عنها كما هو متوقع، فانقلب أواخر الأربعينيات يجرب ـ مع ارتباطه بالواقعية ـ أساليب أخرى للتعبير عن أفكاره القصصية. وهكذا كانت "السياج الرمادي" ثم "جيف معطرة" المنشورة في مجلة "الأديب" البيروتية في عدد شباط 1949. كتبها عبد الملك أواخر سنة 1048، وطبق فيها محاولة التعبير عن مجرى الشعور لدى شخصيات متعددة خلال فترة زمنية معلومة. نعم، إنها استعارة لما ابتكره "جويس"، إلا ان الملفت للنظر ان يحاول ذلك شاب عراقي وان تكون المحاولة بعد قراءة "يوليسيس" وبعد تأمل وإمعان فكر. وجاءت الأقصوصة غريبة تبعث على الدهشة كثيرا ً؛ ففي ذلك الجو الأدبي، خلال الأربعينات، حين كان ذو النون أيوب ورفاقه منكبين على قرع طبول الأقاصيص "الاجتماعية" الساذجة، تبدو محاولة عبد الملك نوري هذه كأنها نيزك أضاء بشدة سماءنا السوداء. ولم يلتفت إليها احد ولم يهتم عبد الملك بذلك وبدأت محاولات أخرى كان يريدها هذه المرة ان تلتقط انفعالات "الوهلة الأولى".
* ماذا كان يبغي، حقيقة، من كل تلك المحاولات؟
ـ في اعتقادي، ان عبد الملك لم يكن مدعيا ً ولا كان يريد إدهاش القراء بكل ثمن، لكنه ـ مدفوعا ً بإعجابه الشديد بالأعمال القصصية العالمية ـ كان بوده ان يسلك كل الطرق الممكنة التي قد تؤدي به إلى تخطي الأساليب القصصية المستهلكة، من اجل الإمساك بعد ذلك بهدفه الفني.
ويخّيل إلي ّ ان عبد الملك نوري لم يفشل قط، فلقد لاحق بطاقاته وعيه الفني إلى اللحظة الأخيرة ولم ينكص، ولا يزال لم ينكص، ويجدر بنا جميعا ً ان نفهم معنى ذلك.