رأيت معي أن تقطيع المنثور من الكلام جملاً أو فقراً أو فواصل عمل بلاغي تقتضيه حالة النفس وحركة الذهن وطبيعة التنفس. وهذا التقطيع - وإن نشأ في اللغة على مقتضى الطبع - له فلسفة وهندسة وموسيقى هن عناوين علم البلاغة، وبراهين فن البليغ. فأما الفلسفة فقد أشرت إليها في مقالي السابق إشارة توجه أو تنبه. وأما الهندسة والموسيقى فملاكهما التلاؤم بين أجزاء الفقر وفواصلها. فإن كانت الفواصل متعادلة فهو التوازن، وإن كانت متماثلة فهو السجع. مثال الأول: وآتيناهما الكتاب المستبين، وهديناهما الصراط المستقيم. ومثال الآخر: إن الأبرار لفي نعيم، وإن الفجار لفي جحيم. فبين المستبين والمستقيم تعادل، وبين نعيم وجحيم تماثل. بله التوازن بين آتيناهما وهديناهما، والكتاب والصراط، والأبرار والفجار
والتوازن ويسمى الازدواج موسقةٌ فطرية في نفوس العرب جعلوا بها النثر أشبه بالنظم في جمال الرصف الأسلوب لا تكاد تنفك عنه في جميع أغراضه ومختلف صوره. وهو في ذلك يخالف السجع فإن للسجع موضوعات ومواضع لا يطلب إلا لها، ولا يحسن إلا فيها: ولذلك يقبل في غرض دون غرض، ويجمل في صورة دون صورة. قال ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير: (كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة، ولا يقصدونه بتة، إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق من غير قصد ولا اكتساب، وإن كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، وفصولهم متقابلة. وتلك طريقة الإمام علي ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع وسهل بن هرون والجاحظ). وقال أبو هلال في الصناعتين: (لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجاً. ولا تكاد تجد لبليغ كلاماً يخلو من الازدواج. ولو استغنى كلام عن الازدواج كان القرآن؛ لأنه في نظمه خارج عن كلام الخلق. وقد كثر الازدواج فيه حتى حصل في أوساط الآيات فضلاً عما تزاوج في الفواصل منه). وقال في موضع آخر: (واعلم أن الذي يلزمك في تأليف الرسائل والخطب هو أن تجعلها مزدوجة فقط. ولا يلزمك فيها السجع. فإن جعلتها مسجوعة كان أحسن ما لم يكن في سجعك استكراه وتنافر وتعقيد).
فالازدواج على إطلاقه، والسجع على تقييده، يؤلفان الموسيقية في الأسلوب البليغ منذ كان للعرب ذوق وللعربية أدب. فليست الحال فيهما هي الحال في سائر الأنواع البديعية التي نشأت في الحضارة ونمت بالترف وسمجت بالفضول وفسدت بالتكلف. فالذين ينكرون على من يحسنون التأليف بين الأصوات، والمزاوجة بين الكلمات، والمجانسة بين الفواصل، إنما ينكرون جمال البلاغة وجميل البلغاء في دهر العروبة كله. وإذا أقررناهم على ذوق العصر لا يسيغ ذلك البديع الذي أولع به كتاب العصر الخامس ومن خلف من بعدهم، فذلك لأننا لا نقحم في ذلك البديع تلك الأنواع التي تحسب في عناصر الأسلوب وتنسب إلى خصائص اللغة؛ كصحة المقابلة، وحسن التقسيم، وائتلاف اللفظ مع المعنى، واتفاق الفقرة والفقرة في الوزن، واتحاد الفاصلة والفاصلة في الروي
وأقطع الحجج على أن الازدواج والسجع من لوازم الأسلوب العربي أن القرآن وهو (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) قد تجوز في بعض الألفاظ والصيغ محافظة عليهما. قال شمس الدين بن الصائغ في كتابه: إحكام الرأي في أحكام الآي: (وتتبعت الأحكام التي وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة فعثرت منها على نيف وأربعين حكما) نذكر نحن منها على سبيل المثال: تقديم ما هو مؤخر في الزمان نحو: ولله الآخرة والأولى. وتقديم الصفة الجملة على الصفة المفرد نحو: ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. وتقديم الضمير على ما يفسره نحو: فأوجس في نفسه خيفة موسى. وتذكر اسم الجنس مرة وتأنيثه أخرى نحو: أعجاز نخل متفعر، وأعجاز نخل خاوية. والإفراد في موضع التثنية نحو: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، بدلاً من (فتشقيان). وتغيير بنية الكلمة نحو: طور سينين، بدلاُ من طور سيناء. ووضع اسم المفعول موضع اسم الفاعل نحو: حجاباً مستوراً، بدلاً من ساتراً. . .
كذلك تجد في كلام أفصح العرب وسيد البلغاء مثل ذلك. فقد كان صلى الله عليه وسلم يغير الكلمة لتلائم أختها في مثل قوله: (أعيذه من الهامة والسامة وكل عين لامة) وإنما أراد ملمة. أو في قوله: (ارجعن مأزورات غير مأجورات)، وإنما أراد موزورات من الوزر. فلو كان الازدواج نافلة والسجع فضلة لما كان لهما هذه المنزلة من كتاب الله وحديث رسوله. ولقد زهقت صناعة الحريري زهوق الباطل، وذهبت بضاعة الحموي ذهاب الزبد، فلم يبق حياً قوياً على فشو العجمة وشيوع الجهالة غير هذين النوعين الأصيلين، يجريان على الأقلام الموهوبة مجرى الطبع، ويفعلان بالنفوس الشاعرة فعل السلاف، ويحفظان للأسلوب العربي روحه الذي عاش عليه وفنه الذي خلد به. والناس لا يكرهون السجع لأنه سجع، ولا البديع لأنه بديع، وإنما يكرهون التكلف والتمويه والبهرج وتنميق الألفاظ على المعنى التافه، وترصيع الأسجاع في الكلام الغث، كل يكرهون الزخرف المنمنم على الجدار المنهار، والحلة الموشاة على الجسد المسلول. لكنك إذا تدبرت ما كتبناه في حد البلاغة وتعريف الأسلوب، ووعيت ما قلناه في معنى الأصالة ومدلول الوجازة، وكان لك الطبع الذي صقله الأدب، وجلته الفطنة، وأسعفته الملكة، أمنت الكلمة التي لا تقع في موضعها من الجملة، والصناعة التي لا يقوم على أساس من الطبع والذوق، والحلية التي لا تساعد الأسلوب على التأثير والإبانة. وإذن يكون ما تنتج هو الجمال، وما تنتج هو الفن.
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
مجلة الرسالة - العدد 570
بتاريخ: 05 - 06 - 1944
والتوازن ويسمى الازدواج موسقةٌ فطرية في نفوس العرب جعلوا بها النثر أشبه بالنظم في جمال الرصف الأسلوب لا تكاد تنفك عنه في جميع أغراضه ومختلف صوره. وهو في ذلك يخالف السجع فإن للسجع موضوعات ومواضع لا يطلب إلا لها، ولا يحسن إلا فيها: ولذلك يقبل في غرض دون غرض، ويجمل في صورة دون صورة. قال ابن أبي الأصبع في تحرير التحبير: (كان المتقدمون لا يحفلون بالسجع جملة، ولا يقصدونه بتة، إلا ما أتت به الفصاحة في أثناء الكلام، واتفق من غير قصد ولا اكتساب، وإن كانت كلماتهم متوازنة، وألفاظهم متناسبة، وفصولهم متقابلة. وتلك طريقة الإمام علي ومن اقتفى أثره من فرسان الكلام كابن المقفع وسهل بن هرون والجاحظ). وقال أبو هلال في الصناعتين: (لا يحسن منثور الكلام ولا يحلو حتى يكون مزدوجاً. ولا تكاد تجد لبليغ كلاماً يخلو من الازدواج. ولو استغنى كلام عن الازدواج كان القرآن؛ لأنه في نظمه خارج عن كلام الخلق. وقد كثر الازدواج فيه حتى حصل في أوساط الآيات فضلاً عما تزاوج في الفواصل منه). وقال في موضع آخر: (واعلم أن الذي يلزمك في تأليف الرسائل والخطب هو أن تجعلها مزدوجة فقط. ولا يلزمك فيها السجع. فإن جعلتها مسجوعة كان أحسن ما لم يكن في سجعك استكراه وتنافر وتعقيد).
فالازدواج على إطلاقه، والسجع على تقييده، يؤلفان الموسيقية في الأسلوب البليغ منذ كان للعرب ذوق وللعربية أدب. فليست الحال فيهما هي الحال في سائر الأنواع البديعية التي نشأت في الحضارة ونمت بالترف وسمجت بالفضول وفسدت بالتكلف. فالذين ينكرون على من يحسنون التأليف بين الأصوات، والمزاوجة بين الكلمات، والمجانسة بين الفواصل، إنما ينكرون جمال البلاغة وجميل البلغاء في دهر العروبة كله. وإذا أقررناهم على ذوق العصر لا يسيغ ذلك البديع الذي أولع به كتاب العصر الخامس ومن خلف من بعدهم، فذلك لأننا لا نقحم في ذلك البديع تلك الأنواع التي تحسب في عناصر الأسلوب وتنسب إلى خصائص اللغة؛ كصحة المقابلة، وحسن التقسيم، وائتلاف اللفظ مع المعنى، واتفاق الفقرة والفقرة في الوزن، واتحاد الفاصلة والفاصلة في الروي
وأقطع الحجج على أن الازدواج والسجع من لوازم الأسلوب العربي أن القرآن وهو (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) قد تجوز في بعض الألفاظ والصيغ محافظة عليهما. قال شمس الدين بن الصائغ في كتابه: إحكام الرأي في أحكام الآي: (وتتبعت الأحكام التي وقعت في آخر الآي مراعاة للمناسبة فعثرت منها على نيف وأربعين حكما) نذكر نحن منها على سبيل المثال: تقديم ما هو مؤخر في الزمان نحو: ولله الآخرة والأولى. وتقديم الصفة الجملة على الصفة المفرد نحو: ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً. وتقديم الضمير على ما يفسره نحو: فأوجس في نفسه خيفة موسى. وتذكر اسم الجنس مرة وتأنيثه أخرى نحو: أعجاز نخل متفعر، وأعجاز نخل خاوية. والإفراد في موضع التثنية نحو: فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى، بدلاً من (فتشقيان). وتغيير بنية الكلمة نحو: طور سينين، بدلاُ من طور سيناء. ووضع اسم المفعول موضع اسم الفاعل نحو: حجاباً مستوراً، بدلاً من ساتراً. . .
كذلك تجد في كلام أفصح العرب وسيد البلغاء مثل ذلك. فقد كان صلى الله عليه وسلم يغير الكلمة لتلائم أختها في مثل قوله: (أعيذه من الهامة والسامة وكل عين لامة) وإنما أراد ملمة. أو في قوله: (ارجعن مأزورات غير مأجورات)، وإنما أراد موزورات من الوزر. فلو كان الازدواج نافلة والسجع فضلة لما كان لهما هذه المنزلة من كتاب الله وحديث رسوله. ولقد زهقت صناعة الحريري زهوق الباطل، وذهبت بضاعة الحموي ذهاب الزبد، فلم يبق حياً قوياً على فشو العجمة وشيوع الجهالة غير هذين النوعين الأصيلين، يجريان على الأقلام الموهوبة مجرى الطبع، ويفعلان بالنفوس الشاعرة فعل السلاف، ويحفظان للأسلوب العربي روحه الذي عاش عليه وفنه الذي خلد به. والناس لا يكرهون السجع لأنه سجع، ولا البديع لأنه بديع، وإنما يكرهون التكلف والتمويه والبهرج وتنميق الألفاظ على المعنى التافه، وترصيع الأسجاع في الكلام الغث، كل يكرهون الزخرف المنمنم على الجدار المنهار، والحلة الموشاة على الجسد المسلول. لكنك إذا تدبرت ما كتبناه في حد البلاغة وتعريف الأسلوب، ووعيت ما قلناه في معنى الأصالة ومدلول الوجازة، وكان لك الطبع الذي صقله الأدب، وجلته الفطنة، وأسعفته الملكة، أمنت الكلمة التي لا تقع في موضعها من الجملة، والصناعة التي لا يقوم على أساس من الطبع والذوق، والحلية التي لا تساعد الأسلوب على التأثير والإبانة. وإذن يكون ما تنتج هو الجمال، وما تنتج هو الفن.
(للكلام بقية)
أحمد حسن الزيات
مجلة الرسالة - العدد 570
بتاريخ: 05 - 06 - 1944