إن الحديث عن تيمور لا تخلق جِدته لمن نَعَم بصداقة تيمور الراحل، ومن قرأه في أشعاره وفي مسرحياته. وحديث اليوم حديث الوفاء لمن عمل إلى جانب تيمور للمسرح وللفن، واتفق وإياه في المبدأ والفكرة العاملة. وحديث اليوم أيضاً هو درس الشباب، الشباب الدارج الذي فاته أن يعرف تيمور أو أن يطالعه في كتبه الثلاثة
حينما لبى تيمور نداء ربه منذ عشرين عاماً، وريعت مصر بفقده، وانتظمت جنازته في شبه موكب قومي حافل - لم تشيع السرىَ ابن الجاه الواسع والحسب الأصيل، لم نشيع الشاعر الملهَم فحسب، وإنما شيعنا رجل المسرح المصري الحق، وكبير كتّابه، وأخلص نصرائه
على هذا الاعتبار الذي يطغى على أي اعتبار آخر، شيعنا محمد تيمور إلى مرقده الأخير، ولما يتجاوز العقد الثالث من عمره. وليس في ذلك إرخاص لشباب غض ذوى قبل أوانه، وخُلق رضي متواضع قلما تُلمح مخايله في شباب الأعيان وأبناء الأرستقراطية التي تحسب أن النعم وقف على أبنائها، ولا خفض لشأن البيان الذي كان تيمور من فرسانه؛ وإنما إعلاء لشأن تلك الموهبة الغنية الخصبة التي أمدت المسرح المصري، وهو يرقى أولى درجات نموه بكثير من مقومات كيانه بعد أن ركز فيه تيمور أعلاماً من العمل الباهر والجهاد الصادق وما اجتمعنا اليوم إلا بنفس الدافع الذي دفع الناس من قبل إلى تشييع جنازة تيمور. . .
اجتمعنا لنحيي ذكرى تيمور في جهاده للمسرح المصري ممثلاً وكاتباً وناقداً
وقد نجتمع غداً لنفس الدافع، ولعين الغرض، وسيحصل الجيل القادم شرف هذه الرسالة ليسلمها بدوره إلى الجيل الذي يليه. هذا أمر أعتقده وأؤمن به، لأننا، وقد شملتنا اليقظة القومية، لابد من أن نمجد ذكرى من عملوا لهذه القومية.
لأننا، وقد أخذنا بتدعيم أسباب مسرح مصري صحيح، لا مناص من أن نشيد بذكر من جاهدوا في سبيله، وأن ننتزع من النسيان تلك الوجوه الكريمة، التي شقت أفقاً، ومهدت طريقاً، وأهوت بيدها تنشئ في جدار!. . .
تيمور والمسرح
أتحدث الآن عن ذلك الجيل الذي عاش فيه تيمور، جيل الجهاد الأول من جانب الشباب المثقف لاستخلاص طابع مصري لفن التمثيل العربي، ولإعلاء شأنه، جيل الهواة الذين يرجع إليهم الفضل فيما انتهت إليه الحركة المسرحية اليوم
لئن قلت إن التمثيل كان قبلة تيمور في مختلف أدوار حياته، فإني لا أقرر غير الواقع الذي شهد به كل من اتصل بتيمور
فما كان تيمور المراهق الذي كان يتخذ من أبهاء قصور آبائه مسارح مرتجلة، ومن شقيقيه ومني ومن خلصائه ممثلين لفرقة مزعومة. . .
هذا الجواب الصغير لدور التمثيل في سن لا يُحسن فيها الذهاب إلى دور التمثيل، هذا المقلد (لسلامة حجازي) في إنشاده، ما كان تيمور هذا، إلا ذلك الشاب اليافع، الذي أعجب به الجمهور بعد ذلك ممثلاً في حلقات السمر، وفي حفلات الجمعيات التمثيلية، ثم حياه ناقداً جريئاً، ثم مجده مؤلفاً لمسرحيات مصرية طريفة هي الأولى من نوعها في العهد الذي عاش فيه تيمور
وإذا حاولنا أن نقيم صلة بين هوية تيمور بالمسرح وبين نشأته وبيئته وتقاليد أسرته لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، ولانتهينا إلى أن الإنسان حقاً لا يستقيم إلا على محتوم قضائه ومكتوب سيرته. (فتيمور) سليل بيت عريق في الغنى والمجد وفي التقاليد التي تعتبر التمثيل رِجساً من أعمال الشيطان. و (تيمور) ابن بيت عُرف بالاشتغال بالأدب، فعمته الشاعرة عائشة التيمورية، ووالده المؤرخ واللغوي المحقق أحمد تيمور باشا. و (تيمور) اجتاز مراحل الدراسة في مصر، وسافر إلى أوربا لدراسة الحقوق، ولم يكن بينه وبين نيل إجازته شيء، لولا أن قطعت عليه الحرب الأخيرة سير دراسته. . .
ومع كل هذا فقد اعتلى تيمور المسرح ممثلاً قبل عودته من أوربا وبعد عودته منها وعلى الرغم من تبرم أهله وعشيرته بفن التمثيل. . .
اعتلى المسرح وهو يشغل وظيفة التشريفي لدى عظمة السلطان حسين في قصر عابدين؛ فضرب بذلك المثل الحي على أن التمثيل هوية شريفة جديرة بأن يعمل فيها أكبر الناس حمولةً من العلم والجاه والمركز الاجتماعي الممتاز. وهذا المثل فيه ما فيه من دلالة على أن المسرح يجب أن يكون مما يُعنى به الشباب المتعلم والشباب الكريم المحتد. وأن المسرح ليس بالأرض التي قضى عليها بألا تحمل إلا الأغرار ومن تنكبت بهم سبل العيش ومن خلت مواهبهم إلا من الجرأة والصوت الجهير!. . .
تيمور الممثل
ترأس (تيمور) أكثر من هيئة تمثيلية، وعمل مخرجاً وممثلاً فيها. بيد أن حياته في فن الممثل ليست بالحياة الطويلة، ولكنها على قصرها رسمت فن الممثل في نسقه العالي، وأقامت مدرسة لفن الإلقاء والتجويد لم تكن معروفة في ذلك الوقت، لأنها مدرسة كانت تقوم على الاعتدال والاتزان وصدق التعبير وجمال التأثير. جمع تيمور في إلقائه قوة التصور والإدراك إلى قوة الأداء والتعبير في تلك البساطة الغنية والحذق الباهر الذي يعمل على إرخاص الحواشي وإعلاء جوهر الكلام، والذي يحمل التأثير إلى قلوب المستمعين، لا إلى آذانهم!
هكذا شق تيمور الفجر الأول لما يجب أن يكون عليه الإلقاء والتمثيل من جانب الممثل والملقي
إلا أن الحركة التمثيلية لم تستفد الإفادة كلها من مواهب تيمور الممثل؛ لأنه لم يكن في وسع تيمور - وظروف بيئته على ما أجملنا وصفه - أن يحترف التمثيل في الفرق العاملة
ويقيني أن تيمور لو احترف التمثيل لما أصاب فيه خيراً، ولا اقتصرت مواهبه على تأدية بعض الأدوار، ولا انصرف بذلك عما هو أهم وأجدى، ولتبرم في النهاية بالمسرح ومحترفيه
تيمور المؤرخ والناقد
إذا صح أن المسرح المصري فقد في إمساك تيمور عن احتراف التمثيل ممثلاً قديراً كان في وسعه أن يرقى بفن الممثل إلى الدرج المرغوب فيه، إذا صح هذا فإن المسرح لم يفقد في تيمور ناقداً له ومؤرخاً لعصر من عصوره
إن ما كتبه تيمور ناقداً ومؤرخاً للمسرح المصري متفرد في بابه بالدقة والصراحة، متفرد في ابتعاده عن التشيع وتلمس العيوب وحرق المباخر تحت ذقون زعماء المسرح المصري
كان تيمور لا يكتب لشهوة الكلام، أو للتظاهر بأنه حذق المسرح وفنونه، ولا لأي غرض من الأغراض التي تدفع بعض نقاد المسرح إلى امتشاق القلم وخوض معارك الجدل، وإنما كان يكتب لينزل الأشياء منازلها الصحيحة، وليخط للنقد المسرحي طريقاً، وليقيم له عرفاً، وليذيع اسم المسرح في كل مكان، ثم ليرسم للعاملين في المسرح الطرق والوسائل التي ترقى بهم وبفنهم نحو الكمال المنشود. ولعل تيمور أول من كتب منادياً بوجوب استقلال المسرح المصري عن المسرح الغربي برواياته وتصانيفه، وبوسائل تأدية ممثليه
لو قال تيمور هذا وسكت لقلنا إنه إنما يزف نظريات استلهمها من تاريخ المسرح الغربي وتطوره، وهو المسرح الذي نهل منه تيمور أعذب الموارد
تيمور المؤلف
ولكن تيمور قرن القول بالعمل والنظر بالتنفيذ، فألف للمسرح مسرحيات تمتاز بطابع مصري أصيل، هذبت حواشيه وصقلت صميمه مطالعات بعيدة وتأملات واسعة في نفائس الأدب المسرحي العام، امتزجت بوفرة الاستعداد وخصب الموهبة وروح الشاعر
كتب تيمور ثلاث مسرحيات (العصفور في القفص)، و (عبد الستار) و (الهاوية) كما وضع مسرحية (العشرة الطيبة)، والجديد في هذه الروايات أنها عالجت موضوعات منتزعة من صميم الحياة المصرية والشرقية في أسلوب أخذ نصيبه الوافر من طرافة الحوار، ووضوح الفكرة، وتغلغل هابطاً في أعماق النفس البشرية ليسجل منها أصدق الخلجات وأخلص المشاعر والجديد في هذه الروايات أيضاً، أنها كتبت باللغة العامية، وهذا موضع العجب، لأن تيمور كان يملك ناصية البيان العربي وله شعر رصين ينم عن تعمق في دراسة اللغة، والأخذ ببيان الأقدمين.
وكان التأليف للمسرح من جانب من هم على شاكلة تيمور في ثقافته وأدبه إنما يجري باللغة العربية الفصحى
تيمور واللغة العامية
يفسر هذا أن تيمور كان يعتقد - كما سبق أن جاهر بذلك في مقالات عديدة - بأن لغة المسرح يجب أن تكون غير لغة المقال والأدب، وأنه يجب مخاطبة الجمهور المستمع باللغة التي يفهمها ويحذقها، أيّاً كانت لهجة هذه اللغة ونصيبها من البيان، وأنه في سبيل ذلك لا ضير على المؤلف للمسرح أن يكتب باللغة العامية مادامت هذه اللغة في متناول كل الأذهان ومختلف الطبقات، وأن لا ضير من إهمال جانب العربية في الكتابة للمسرح حتى يجتاز التمثيل المصري المرحلة الأولى من مراحل تكوينه، وهي مرحلة نشره وإذاعته بين الجماهير
كان تيمور أول من سن هذه الشرعة الفنية في وقت كانت تصدر فيه أغلب المسرحيات في أسلوب عربي لو اهتم كاتبه بمقتضيات الفن في نسج الرواية اهتمامه بتنميق اللفظ وإشراق البيان، لكان للمسرح المصري اليوم روايات عربية مقطوع بصحتها الأدبية والفنية معاً
تيمور والمصرية
وفوق هذا فقد كانت تعمر قلب تيمور فكرة (المصرية) وهي فكرة ترمي إلى أن يكون الأدب المصري مستقلاً عن الأدب العربي، لا في مناحي التفكير فحسب، ولكن في العبارة وأسلوبها إذا لزم الأمر
وهذه (المصرية) تجلت في كل ما كتبه تيمور قصاصاً وشاعراً.
والمصرية اليوم فكرة قد لا تلقى ترحيباً لدى بعض الرؤوس المفكرة، ولها ما لها عند البعض، وعليها ما عليها عند البعض الآخر، إلا أنني أقول - وقد أخذت عن تيمور الكثير من ثقافتي الفنية والأدبية - إنه ستكون للمصرية، ولاشك، دولة في القريب العاجل مادمنا قد استكملنا مظاهر استقلالنا السياسي، وما دمنا قد استشعرنا العزة القومية، وأخذنا بأسباب نهضة ترمي في الصميم إلى استقلال الفكر والأسلوب في جميع نواحي الحياة الاجتماعية
ولم يك غريباً بعد أن أصدر تيمور مسرحياته باللغة العامية وهي تعالج موضوعات مصرية، لم يك غريباً أن يقيم مدرسة جديدة في الأدب المصري، والأدب العربي المستحدث، اجتذبت نحوها مريدين وأنصاراً
وقد ننسى أن تيمور كان ممثلاً فذاً، وكان ناقداً جريئاً، وأنه أضاف جديداً إلى دولة الشعر والبيان، وأنه دبّج للإصلاح الاجتماعي مقالات عديدة. قد ننسى كل هذا، ولكننا لا نستطيع أن ننسى أن تيمور عمل للقومية المصرية الحقة بتأليف مسرحيات جديرة بالخلود لوفائها بشرائط الفن الرفيع، مسرحيات تعتبر بحق من أحسن ما أخرجته الأقلام المصرية الدائبة على أن تجعل المسرح شقة من الأدب العربي المستحدث
كذلك لا نستطيع نسيان شيء آخر، وهو نزول شاب عريق في الحسب والجاه، إلى العمل في حقل جديد، في فن وافد حديث العهد بفنون هذه البلاد وتقاليدها، ترمقه الأكثرية الغالبة من الناس بعين ملؤها الشك والازدراء. . .
لا ننسى أن تيمور كان سبباً في أن أخذ الناس يحسنون الظن بهذا الفن. وشد ما يحتاج هذا الفن إلى حسن ظن الناس به! وأنه عمل له مجاهداً فدائياً بقدر ما وسعته بيئته وزمانه، وأنه لم يلق قلم الجهاد حتى الساعة الأخيرة، ويا لها من ساعة سقطت فيها زهرة ندية بقطر الشباب، تتنفس عن عطر فاغم، بعد أن جادت بروائها وبنورها وبعطرها لتبقي منابت الورد وموارد الإلهام وحصاد الخيال ومباعث الحنان. . .
أيها السادة:
إن الذي نحتفل اليوم بتمجيد ذكراه، شاب قضى في ميعة العمر ونضوج الصبا. . . فحيوا معي العروس المختضر، وأرسلوا البسمات صافية، لأن الدموع على الشباب الراحل ضرب من السخرية، ولون شائع من الحزن الرخيص. . .
زكي طليمات
* (نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ زكي طليمات مفتش شؤون التمثيل بوزارة المعارف في الحفلة التي أقامتها جماعة أنصار التمثيل والسينما بدار الأوبرا الملكية مساء يوم الأربعاء الموافق 28 فبراير 1940 تكريماً لذكرى المرحوم محمد تيمور، وذلك بمناسبة مرور عشرين عاما على وفاته)
بتاريخ: 11 - 03 - 1940
مجلة الرسالة - العدد 349
حينما لبى تيمور نداء ربه منذ عشرين عاماً، وريعت مصر بفقده، وانتظمت جنازته في شبه موكب قومي حافل - لم تشيع السرىَ ابن الجاه الواسع والحسب الأصيل، لم نشيع الشاعر الملهَم فحسب، وإنما شيعنا رجل المسرح المصري الحق، وكبير كتّابه، وأخلص نصرائه
على هذا الاعتبار الذي يطغى على أي اعتبار آخر، شيعنا محمد تيمور إلى مرقده الأخير، ولما يتجاوز العقد الثالث من عمره. وليس في ذلك إرخاص لشباب غض ذوى قبل أوانه، وخُلق رضي متواضع قلما تُلمح مخايله في شباب الأعيان وأبناء الأرستقراطية التي تحسب أن النعم وقف على أبنائها، ولا خفض لشأن البيان الذي كان تيمور من فرسانه؛ وإنما إعلاء لشأن تلك الموهبة الغنية الخصبة التي أمدت المسرح المصري، وهو يرقى أولى درجات نموه بكثير من مقومات كيانه بعد أن ركز فيه تيمور أعلاماً من العمل الباهر والجهاد الصادق وما اجتمعنا اليوم إلا بنفس الدافع الذي دفع الناس من قبل إلى تشييع جنازة تيمور. . .
اجتمعنا لنحيي ذكرى تيمور في جهاده للمسرح المصري ممثلاً وكاتباً وناقداً
وقد نجتمع غداً لنفس الدافع، ولعين الغرض، وسيحصل الجيل القادم شرف هذه الرسالة ليسلمها بدوره إلى الجيل الذي يليه. هذا أمر أعتقده وأؤمن به، لأننا، وقد شملتنا اليقظة القومية، لابد من أن نمجد ذكرى من عملوا لهذه القومية.
لأننا، وقد أخذنا بتدعيم أسباب مسرح مصري صحيح، لا مناص من أن نشيد بذكر من جاهدوا في سبيله، وأن ننتزع من النسيان تلك الوجوه الكريمة، التي شقت أفقاً، ومهدت طريقاً، وأهوت بيدها تنشئ في جدار!. . .
تيمور والمسرح
أتحدث الآن عن ذلك الجيل الذي عاش فيه تيمور، جيل الجهاد الأول من جانب الشباب المثقف لاستخلاص طابع مصري لفن التمثيل العربي، ولإعلاء شأنه، جيل الهواة الذين يرجع إليهم الفضل فيما انتهت إليه الحركة المسرحية اليوم
لئن قلت إن التمثيل كان قبلة تيمور في مختلف أدوار حياته، فإني لا أقرر غير الواقع الذي شهد به كل من اتصل بتيمور
فما كان تيمور المراهق الذي كان يتخذ من أبهاء قصور آبائه مسارح مرتجلة، ومن شقيقيه ومني ومن خلصائه ممثلين لفرقة مزعومة. . .
هذا الجواب الصغير لدور التمثيل في سن لا يُحسن فيها الذهاب إلى دور التمثيل، هذا المقلد (لسلامة حجازي) في إنشاده، ما كان تيمور هذا، إلا ذلك الشاب اليافع، الذي أعجب به الجمهور بعد ذلك ممثلاً في حلقات السمر، وفي حفلات الجمعيات التمثيلية، ثم حياه ناقداً جريئاً، ثم مجده مؤلفاً لمسرحيات مصرية طريفة هي الأولى من نوعها في العهد الذي عاش فيه تيمور
وإذا حاولنا أن نقيم صلة بين هوية تيمور بالمسرح وبين نشأته وبيئته وتقاليد أسرته لما وجدنا إلى ذلك سبيلاً، ولانتهينا إلى أن الإنسان حقاً لا يستقيم إلا على محتوم قضائه ومكتوب سيرته. (فتيمور) سليل بيت عريق في الغنى والمجد وفي التقاليد التي تعتبر التمثيل رِجساً من أعمال الشيطان. و (تيمور) ابن بيت عُرف بالاشتغال بالأدب، فعمته الشاعرة عائشة التيمورية، ووالده المؤرخ واللغوي المحقق أحمد تيمور باشا. و (تيمور) اجتاز مراحل الدراسة في مصر، وسافر إلى أوربا لدراسة الحقوق، ولم يكن بينه وبين نيل إجازته شيء، لولا أن قطعت عليه الحرب الأخيرة سير دراسته. . .
ومع كل هذا فقد اعتلى تيمور المسرح ممثلاً قبل عودته من أوربا وبعد عودته منها وعلى الرغم من تبرم أهله وعشيرته بفن التمثيل. . .
اعتلى المسرح وهو يشغل وظيفة التشريفي لدى عظمة السلطان حسين في قصر عابدين؛ فضرب بذلك المثل الحي على أن التمثيل هوية شريفة جديرة بأن يعمل فيها أكبر الناس حمولةً من العلم والجاه والمركز الاجتماعي الممتاز. وهذا المثل فيه ما فيه من دلالة على أن المسرح يجب أن يكون مما يُعنى به الشباب المتعلم والشباب الكريم المحتد. وأن المسرح ليس بالأرض التي قضى عليها بألا تحمل إلا الأغرار ومن تنكبت بهم سبل العيش ومن خلت مواهبهم إلا من الجرأة والصوت الجهير!. . .
تيمور الممثل
ترأس (تيمور) أكثر من هيئة تمثيلية، وعمل مخرجاً وممثلاً فيها. بيد أن حياته في فن الممثل ليست بالحياة الطويلة، ولكنها على قصرها رسمت فن الممثل في نسقه العالي، وأقامت مدرسة لفن الإلقاء والتجويد لم تكن معروفة في ذلك الوقت، لأنها مدرسة كانت تقوم على الاعتدال والاتزان وصدق التعبير وجمال التأثير. جمع تيمور في إلقائه قوة التصور والإدراك إلى قوة الأداء والتعبير في تلك البساطة الغنية والحذق الباهر الذي يعمل على إرخاص الحواشي وإعلاء جوهر الكلام، والذي يحمل التأثير إلى قلوب المستمعين، لا إلى آذانهم!
هكذا شق تيمور الفجر الأول لما يجب أن يكون عليه الإلقاء والتمثيل من جانب الممثل والملقي
إلا أن الحركة التمثيلية لم تستفد الإفادة كلها من مواهب تيمور الممثل؛ لأنه لم يكن في وسع تيمور - وظروف بيئته على ما أجملنا وصفه - أن يحترف التمثيل في الفرق العاملة
ويقيني أن تيمور لو احترف التمثيل لما أصاب فيه خيراً، ولا اقتصرت مواهبه على تأدية بعض الأدوار، ولا انصرف بذلك عما هو أهم وأجدى، ولتبرم في النهاية بالمسرح ومحترفيه
تيمور المؤرخ والناقد
إذا صح أن المسرح المصري فقد في إمساك تيمور عن احتراف التمثيل ممثلاً قديراً كان في وسعه أن يرقى بفن الممثل إلى الدرج المرغوب فيه، إذا صح هذا فإن المسرح لم يفقد في تيمور ناقداً له ومؤرخاً لعصر من عصوره
إن ما كتبه تيمور ناقداً ومؤرخاً للمسرح المصري متفرد في بابه بالدقة والصراحة، متفرد في ابتعاده عن التشيع وتلمس العيوب وحرق المباخر تحت ذقون زعماء المسرح المصري
كان تيمور لا يكتب لشهوة الكلام، أو للتظاهر بأنه حذق المسرح وفنونه، ولا لأي غرض من الأغراض التي تدفع بعض نقاد المسرح إلى امتشاق القلم وخوض معارك الجدل، وإنما كان يكتب لينزل الأشياء منازلها الصحيحة، وليخط للنقد المسرحي طريقاً، وليقيم له عرفاً، وليذيع اسم المسرح في كل مكان، ثم ليرسم للعاملين في المسرح الطرق والوسائل التي ترقى بهم وبفنهم نحو الكمال المنشود. ولعل تيمور أول من كتب منادياً بوجوب استقلال المسرح المصري عن المسرح الغربي برواياته وتصانيفه، وبوسائل تأدية ممثليه
لو قال تيمور هذا وسكت لقلنا إنه إنما يزف نظريات استلهمها من تاريخ المسرح الغربي وتطوره، وهو المسرح الذي نهل منه تيمور أعذب الموارد
تيمور المؤلف
ولكن تيمور قرن القول بالعمل والنظر بالتنفيذ، فألف للمسرح مسرحيات تمتاز بطابع مصري أصيل، هذبت حواشيه وصقلت صميمه مطالعات بعيدة وتأملات واسعة في نفائس الأدب المسرحي العام، امتزجت بوفرة الاستعداد وخصب الموهبة وروح الشاعر
كتب تيمور ثلاث مسرحيات (العصفور في القفص)، و (عبد الستار) و (الهاوية) كما وضع مسرحية (العشرة الطيبة)، والجديد في هذه الروايات أنها عالجت موضوعات منتزعة من صميم الحياة المصرية والشرقية في أسلوب أخذ نصيبه الوافر من طرافة الحوار، ووضوح الفكرة، وتغلغل هابطاً في أعماق النفس البشرية ليسجل منها أصدق الخلجات وأخلص المشاعر والجديد في هذه الروايات أيضاً، أنها كتبت باللغة العامية، وهذا موضع العجب، لأن تيمور كان يملك ناصية البيان العربي وله شعر رصين ينم عن تعمق في دراسة اللغة، والأخذ ببيان الأقدمين.
وكان التأليف للمسرح من جانب من هم على شاكلة تيمور في ثقافته وأدبه إنما يجري باللغة العربية الفصحى
تيمور واللغة العامية
يفسر هذا أن تيمور كان يعتقد - كما سبق أن جاهر بذلك في مقالات عديدة - بأن لغة المسرح يجب أن تكون غير لغة المقال والأدب، وأنه يجب مخاطبة الجمهور المستمع باللغة التي يفهمها ويحذقها، أيّاً كانت لهجة هذه اللغة ونصيبها من البيان، وأنه في سبيل ذلك لا ضير على المؤلف للمسرح أن يكتب باللغة العامية مادامت هذه اللغة في متناول كل الأذهان ومختلف الطبقات، وأن لا ضير من إهمال جانب العربية في الكتابة للمسرح حتى يجتاز التمثيل المصري المرحلة الأولى من مراحل تكوينه، وهي مرحلة نشره وإذاعته بين الجماهير
كان تيمور أول من سن هذه الشرعة الفنية في وقت كانت تصدر فيه أغلب المسرحيات في أسلوب عربي لو اهتم كاتبه بمقتضيات الفن في نسج الرواية اهتمامه بتنميق اللفظ وإشراق البيان، لكان للمسرح المصري اليوم روايات عربية مقطوع بصحتها الأدبية والفنية معاً
تيمور والمصرية
وفوق هذا فقد كانت تعمر قلب تيمور فكرة (المصرية) وهي فكرة ترمي إلى أن يكون الأدب المصري مستقلاً عن الأدب العربي، لا في مناحي التفكير فحسب، ولكن في العبارة وأسلوبها إذا لزم الأمر
وهذه (المصرية) تجلت في كل ما كتبه تيمور قصاصاً وشاعراً.
والمصرية اليوم فكرة قد لا تلقى ترحيباً لدى بعض الرؤوس المفكرة، ولها ما لها عند البعض، وعليها ما عليها عند البعض الآخر، إلا أنني أقول - وقد أخذت عن تيمور الكثير من ثقافتي الفنية والأدبية - إنه ستكون للمصرية، ولاشك، دولة في القريب العاجل مادمنا قد استكملنا مظاهر استقلالنا السياسي، وما دمنا قد استشعرنا العزة القومية، وأخذنا بأسباب نهضة ترمي في الصميم إلى استقلال الفكر والأسلوب في جميع نواحي الحياة الاجتماعية
ولم يك غريباً بعد أن أصدر تيمور مسرحياته باللغة العامية وهي تعالج موضوعات مصرية، لم يك غريباً أن يقيم مدرسة جديدة في الأدب المصري، والأدب العربي المستحدث، اجتذبت نحوها مريدين وأنصاراً
وقد ننسى أن تيمور كان ممثلاً فذاً، وكان ناقداً جريئاً، وأنه أضاف جديداً إلى دولة الشعر والبيان، وأنه دبّج للإصلاح الاجتماعي مقالات عديدة. قد ننسى كل هذا، ولكننا لا نستطيع أن ننسى أن تيمور عمل للقومية المصرية الحقة بتأليف مسرحيات جديرة بالخلود لوفائها بشرائط الفن الرفيع، مسرحيات تعتبر بحق من أحسن ما أخرجته الأقلام المصرية الدائبة على أن تجعل المسرح شقة من الأدب العربي المستحدث
كذلك لا نستطيع نسيان شيء آخر، وهو نزول شاب عريق في الحسب والجاه، إلى العمل في حقل جديد، في فن وافد حديث العهد بفنون هذه البلاد وتقاليدها، ترمقه الأكثرية الغالبة من الناس بعين ملؤها الشك والازدراء. . .
لا ننسى أن تيمور كان سبباً في أن أخذ الناس يحسنون الظن بهذا الفن. وشد ما يحتاج هذا الفن إلى حسن ظن الناس به! وأنه عمل له مجاهداً فدائياً بقدر ما وسعته بيئته وزمانه، وأنه لم يلق قلم الجهاد حتى الساعة الأخيرة، ويا لها من ساعة سقطت فيها زهرة ندية بقطر الشباب، تتنفس عن عطر فاغم، بعد أن جادت بروائها وبنورها وبعطرها لتبقي منابت الورد وموارد الإلهام وحصاد الخيال ومباعث الحنان. . .
أيها السادة:
إن الذي نحتفل اليوم بتمجيد ذكراه، شاب قضى في ميعة العمر ونضوج الصبا. . . فحيوا معي العروس المختضر، وأرسلوا البسمات صافية، لأن الدموع على الشباب الراحل ضرب من السخرية، ولون شائع من الحزن الرخيص. . .
زكي طليمات
* (نص الكلمة التي ألقاها الأستاذ زكي طليمات مفتش شؤون التمثيل بوزارة المعارف في الحفلة التي أقامتها جماعة أنصار التمثيل والسينما بدار الأوبرا الملكية مساء يوم الأربعاء الموافق 28 فبراير 1940 تكريماً لذكرى المرحوم محمد تيمور، وذلك بمناسبة مرور عشرين عاما على وفاته)
بتاريخ: 11 - 03 - 1940
مجلة الرسالة - العدد 349