كان فلوبير رجلا متشائما الى درجة انه كان يعتقد ان الانسان لا يستطيع ان يحقق السعادة او هو لا يستحق ان يكون سعيدا. وكان يعتقد ان النشاط الوحيد الجدير بان ينفق الانسان حياته عليه هو خلق اعمال فنية رائعة. وكان من دأبه ان يعيد كتابة ما يكتبه مرات ومرات منفقا اسبوعا احيانا على فقرة واحدة. وفاز باعجاب النقاد الفرنسيين نظرا الى كمال الشكل الروائي الذي حققه.
ولد فلوبير (1821-1880 Gustave Flaubert) في مدينة روين الفرنسية لاسرة بورجوازية ثرية. كان ابوه طبيبا ومن وجهاء المدينة. وكانت امه ابنة طبيب وكانت تمتاز بالتضحية ونكران الذات. ولكنها كانت تعامل ابنها بكثير من الشدة.
اظهر كاتبنا ميولا ادبية في سن مبكرة. وكتب عدة مسرحيات اخرجها ومثلها في قاعة البيلياردو في بيته عندما كان في التاسعة او العاشرة. والتحق بالمدرسة في روين وابدى اهتماما خاصا بالتاريخ. كما انه طالع كثيرا من اعمال المؤلفين الرومانتيكيين من امثال بايرون وسكوت وهيغو ولامارتين وشاتوبريان وغوته. وفي سن الرابعة عشرة احب فتاة ارستقراطية. ورافقته آثار هذا الحب طيلة حياته. واتم تعليمه الثانوي واعتزم دراسة الحقوق في باريس، ولكنه عندما بدأ الدراسة اكتشف انه لا يميل الى الحقوق. وبعد سنة من ذلك تدهورت صحته واصبح يعاني من نوبات يفقد وعيه فيها. وقد يكون ذلك شكلا من اشكال الهيستيرية العصبية. فعاد الى بيت اسرته في روين، وهناك عاش طيلة حياته باستثناء الاوقات التي قضاها في السفر في فرنسا والخارج.
وفي عام 1849 رافق فلوبير صديقه مكسيم دو كام في جولة في الشرق استغرقت سنتين قاما خلالها بمهمة دبلوماسية صغيرة افسحت لهما المجال للقاء عدد من كبار المسؤولين في الدول التي زاراها ومنها مصر وفلسطين وسوريا وتركيا واليونان.
مدام بوفاري
هذه افضل واشهر ما كتبه فلوبير من روايات. وهي تشكل نقطة تحول في تاريخ الرواية الاوربية. فللمرة الاولى تشغل امرأة من الطبقة المتوسطة مكان الصدارة في دراسة كاملة مفصلة للحياة الرتيبة المملة في مدينة صغيرة، وللرأي الذي يقول ان الحب الحقيقي لا يمكن العثور عليه الا في علاقة محرمة. وأوضح فلوبير ان هذا الرأي ما هو الا وهم من اوله الى آخره. وتشبه ايما بوفاري، بطلة الرواية، في السياق التاريخي للفن الروائي، "دون كيهوته" للكاتب الاسباني سيرفانتس 1614 في انها شخص يحاول ان يعيش حياته وفق الافكار التي استقاها من الكتب ولكنه لا يصيب اي نجاح. وتمثل ايما بوفاري النموذج الاول "للمرأة المتزوجة التعسة" التي نصادفها في رواية (آنا كارنينا)1873 للكاتب الروسي ليو تولستوي وفي رواية (تيريزا ديسكورد) 1927 للكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك. وكما هو الحال في الشخصيات النسائية التي جاءت بعدها نجد ايما متزوجة من رجل يتمتع بمكانة اجتماعية عالية ولكنه شديد الغباء.
وهذه الرواية التي يقرأها اليوم طلاب المرحلة الثانوية وطلاب الجامعات اعتبرت عام 1856 رواية اباحية. فقصص الحب التي تتخللها الخيانات الزوجية كانت تلقى رواجا واسعا بين القراء الفرنسيين، ولكن هذه الموضوعات كانت تعالج بطريقة رومانتيكية فيها كثير من السحر والفتنة. غير ان اسلوب فلوبير الذي يتميز بالصدق والواقعية اثار فزع القراء ونفورهم. وبعد صدور الرواية بشهر واحد اتهم فلوبير وناشر الرواية وطابعها بالاساءة الى الاخلاق العامة والدين، وقضت المحكمة بمنع تداول الكتاب. ولكن الكتاب حقق من الشهرة ما لم يمكن ليحققه لولا هذه ا لمحاكمة.
وبالرغم من السمعة الرديئة التي احاطت بالكتاب اعترف نقاد الادب الفرنسي الجادون بقيمته. فاعجب به الناقد سنت بوف ايما اعجاب وقال ان ابرز ما يمتاز به الكتاب هو دقة الملاحظة وجمال الاسلوب وترتيب الاحداث. واعتبر كثيرا من المشاهد الواردة في الكتاب "صورا لو انها رسمت بالريشة حسب التفاصيل المذكورة لجاز ان توضع جنبا الى جنب مع افضل اللوحات." اما عيب الكتاب في نظر الناقد فهو افتقار القصة للطيبة وتصويرها الحقارة والضحالة والفساد بشكل يوحي بانعدام الافكار السامية.
اما هنري جيمس الذي كان يعرف فلوبير شخصيا فقد اعتبر الكتاب احد معالم الادب الفرنسي. وقال: ان رواية (مدام بوفاري) لا تتميز بالكمال فحسب، ولكنها من الكمال بحيث يمكن تصنيفها في فئة وحدها تقريبا.
وقال مارتن تيرنر ان الرواية كان لها اثر بالغ في ادب هنري جيمس وجوزيف كونراد. وقال ان جيمس وكونراد اعظم بكثير من فلوبير، ولكن اسلوبهما في معالجة مشكلة العلاقات الانسانية تأثر تأثرا عميقا باعمال فلوبير. وقال ان من الصعب ان نتوقع انه كان في استطاعتهما تأليف روائعهما دون المثال الذي وضعه امامهما فلوبير.
وطغت شهرة (مدام بوفاري) على اعمال فلوبير اللاحقة كلها مما اوجد في نفس المؤلف شعورا بالمرارة الى درجة انه قال مرة انه يتمنى لو استطاع ان يشتري كل نسخ كتاب (مدام بوفاري) ويرمي بها في النار لئلا يسمع بالكتاب مرة اخرى.
ظل فلوبير نشطا في دوائر الادب الفرنسي حتى آخر حياته. فاجتمع بالكاتبة جورج ساند وتبادل الرسائل معها. واهتم يتدريب وتشجيع الكاتب الشاب غي دو موباسان. وصادق الروائي الروسي ايفان تورجينيف الذي كان يعيش في المنفى في باريس.
اما عمله الاخير الذي لم يتمه في الواقع فهو هجائيته اللاذعة للمجتمع البورجوازي (دوفار وبيكوشيه)، وهي قصة مغامرات رجلين في اواسط العمر ينسحبان الى الريف لتثقيف نفسيهما. ويدرس الرجلان كل علم وفلسفة وادب معروف للانسان ويكتشفان ان كل ذلك لا يمت للحقيقة بصلة ومتناقض مع ذاته.
كان فلوبير طيلة حياته ضحية القلق العصابي والاكتئاب القهري. وكثيرا ما وصف في رسائله انسحابه من الواقع وكراهيته للحياة وميوله الى الانتحار. وكان فلوبير مصابا بخيبة امل من الواقع وازدادت سخريته مع مرور الايام شأنه في ذلك شأن جميع المثاليين.
وتمثل اعمال فلوبير – باستثناء (مدام بوفاري) و(قلب بسيط) – انسحابا من الواقع البورجوازي الذي كان يحيط به والذي كان يزدريه. واتخذ هذا الانسحاب شكلين: الهروب الى الماضي كما في روايتي (غواية الاب انطوان) و(سالاميو) والسخرية من الواقع البورجوازي كما في رواية (بوفار وبيكوشيه).
كان فلوبير من نتاج عصر التجارب. ويبدو عدم استقرار هذا العصر واضحا في تباين اساليب المؤلف وتنوعها. وصمدت اعمال فلوبير امام نقد المتعنتين من النقاد. وكما قال تيرنر يظل غوستاف فلوبير كاتبا على جانب كبير من الاهمية في تطور الرواية. انك اذا انتقدت كاتبا صغيرا فان عمله يتفتت ويضمحل. اما الكاتب العظيم فانه يملك من القوة والمرونة ما يمكنه من مواجهة النقد والانتصار عليه.
[email protected]
لندن - بريطالنيا
ولد فلوبير (1821-1880 Gustave Flaubert) في مدينة روين الفرنسية لاسرة بورجوازية ثرية. كان ابوه طبيبا ومن وجهاء المدينة. وكانت امه ابنة طبيب وكانت تمتاز بالتضحية ونكران الذات. ولكنها كانت تعامل ابنها بكثير من الشدة.
اظهر كاتبنا ميولا ادبية في سن مبكرة. وكتب عدة مسرحيات اخرجها ومثلها في قاعة البيلياردو في بيته عندما كان في التاسعة او العاشرة. والتحق بالمدرسة في روين وابدى اهتماما خاصا بالتاريخ. كما انه طالع كثيرا من اعمال المؤلفين الرومانتيكيين من امثال بايرون وسكوت وهيغو ولامارتين وشاتوبريان وغوته. وفي سن الرابعة عشرة احب فتاة ارستقراطية. ورافقته آثار هذا الحب طيلة حياته. واتم تعليمه الثانوي واعتزم دراسة الحقوق في باريس، ولكنه عندما بدأ الدراسة اكتشف انه لا يميل الى الحقوق. وبعد سنة من ذلك تدهورت صحته واصبح يعاني من نوبات يفقد وعيه فيها. وقد يكون ذلك شكلا من اشكال الهيستيرية العصبية. فعاد الى بيت اسرته في روين، وهناك عاش طيلة حياته باستثناء الاوقات التي قضاها في السفر في فرنسا والخارج.
وفي عام 1849 رافق فلوبير صديقه مكسيم دو كام في جولة في الشرق استغرقت سنتين قاما خلالها بمهمة دبلوماسية صغيرة افسحت لهما المجال للقاء عدد من كبار المسؤولين في الدول التي زاراها ومنها مصر وفلسطين وسوريا وتركيا واليونان.
مدام بوفاري
هذه افضل واشهر ما كتبه فلوبير من روايات. وهي تشكل نقطة تحول في تاريخ الرواية الاوربية. فللمرة الاولى تشغل امرأة من الطبقة المتوسطة مكان الصدارة في دراسة كاملة مفصلة للحياة الرتيبة المملة في مدينة صغيرة، وللرأي الذي يقول ان الحب الحقيقي لا يمكن العثور عليه الا في علاقة محرمة. وأوضح فلوبير ان هذا الرأي ما هو الا وهم من اوله الى آخره. وتشبه ايما بوفاري، بطلة الرواية، في السياق التاريخي للفن الروائي، "دون كيهوته" للكاتب الاسباني سيرفانتس 1614 في انها شخص يحاول ان يعيش حياته وفق الافكار التي استقاها من الكتب ولكنه لا يصيب اي نجاح. وتمثل ايما بوفاري النموذج الاول "للمرأة المتزوجة التعسة" التي نصادفها في رواية (آنا كارنينا)1873 للكاتب الروسي ليو تولستوي وفي رواية (تيريزا ديسكورد) 1927 للكاتب الفرنسي فرانسوا مورياك. وكما هو الحال في الشخصيات النسائية التي جاءت بعدها نجد ايما متزوجة من رجل يتمتع بمكانة اجتماعية عالية ولكنه شديد الغباء.
وهذه الرواية التي يقرأها اليوم طلاب المرحلة الثانوية وطلاب الجامعات اعتبرت عام 1856 رواية اباحية. فقصص الحب التي تتخللها الخيانات الزوجية كانت تلقى رواجا واسعا بين القراء الفرنسيين، ولكن هذه الموضوعات كانت تعالج بطريقة رومانتيكية فيها كثير من السحر والفتنة. غير ان اسلوب فلوبير الذي يتميز بالصدق والواقعية اثار فزع القراء ونفورهم. وبعد صدور الرواية بشهر واحد اتهم فلوبير وناشر الرواية وطابعها بالاساءة الى الاخلاق العامة والدين، وقضت المحكمة بمنع تداول الكتاب. ولكن الكتاب حقق من الشهرة ما لم يمكن ليحققه لولا هذه ا لمحاكمة.
وبالرغم من السمعة الرديئة التي احاطت بالكتاب اعترف نقاد الادب الفرنسي الجادون بقيمته. فاعجب به الناقد سنت بوف ايما اعجاب وقال ان ابرز ما يمتاز به الكتاب هو دقة الملاحظة وجمال الاسلوب وترتيب الاحداث. واعتبر كثيرا من المشاهد الواردة في الكتاب "صورا لو انها رسمت بالريشة حسب التفاصيل المذكورة لجاز ان توضع جنبا الى جنب مع افضل اللوحات." اما عيب الكتاب في نظر الناقد فهو افتقار القصة للطيبة وتصويرها الحقارة والضحالة والفساد بشكل يوحي بانعدام الافكار السامية.
اما هنري جيمس الذي كان يعرف فلوبير شخصيا فقد اعتبر الكتاب احد معالم الادب الفرنسي. وقال: ان رواية (مدام بوفاري) لا تتميز بالكمال فحسب، ولكنها من الكمال بحيث يمكن تصنيفها في فئة وحدها تقريبا.
وقال مارتن تيرنر ان الرواية كان لها اثر بالغ في ادب هنري جيمس وجوزيف كونراد. وقال ان جيمس وكونراد اعظم بكثير من فلوبير، ولكن اسلوبهما في معالجة مشكلة العلاقات الانسانية تأثر تأثرا عميقا باعمال فلوبير. وقال ان من الصعب ان نتوقع انه كان في استطاعتهما تأليف روائعهما دون المثال الذي وضعه امامهما فلوبير.
وطغت شهرة (مدام بوفاري) على اعمال فلوبير اللاحقة كلها مما اوجد في نفس المؤلف شعورا بالمرارة الى درجة انه قال مرة انه يتمنى لو استطاع ان يشتري كل نسخ كتاب (مدام بوفاري) ويرمي بها في النار لئلا يسمع بالكتاب مرة اخرى.
ظل فلوبير نشطا في دوائر الادب الفرنسي حتى آخر حياته. فاجتمع بالكاتبة جورج ساند وتبادل الرسائل معها. واهتم يتدريب وتشجيع الكاتب الشاب غي دو موباسان. وصادق الروائي الروسي ايفان تورجينيف الذي كان يعيش في المنفى في باريس.
اما عمله الاخير الذي لم يتمه في الواقع فهو هجائيته اللاذعة للمجتمع البورجوازي (دوفار وبيكوشيه)، وهي قصة مغامرات رجلين في اواسط العمر ينسحبان الى الريف لتثقيف نفسيهما. ويدرس الرجلان كل علم وفلسفة وادب معروف للانسان ويكتشفان ان كل ذلك لا يمت للحقيقة بصلة ومتناقض مع ذاته.
كان فلوبير طيلة حياته ضحية القلق العصابي والاكتئاب القهري. وكثيرا ما وصف في رسائله انسحابه من الواقع وكراهيته للحياة وميوله الى الانتحار. وكان فلوبير مصابا بخيبة امل من الواقع وازدادت سخريته مع مرور الايام شأنه في ذلك شأن جميع المثاليين.
وتمثل اعمال فلوبير – باستثناء (مدام بوفاري) و(قلب بسيط) – انسحابا من الواقع البورجوازي الذي كان يحيط به والذي كان يزدريه. واتخذ هذا الانسحاب شكلين: الهروب الى الماضي كما في روايتي (غواية الاب انطوان) و(سالاميو) والسخرية من الواقع البورجوازي كما في رواية (بوفار وبيكوشيه).
كان فلوبير من نتاج عصر التجارب. ويبدو عدم استقرار هذا العصر واضحا في تباين اساليب المؤلف وتنوعها. وصمدت اعمال فلوبير امام نقد المتعنتين من النقاد. وكما قال تيرنر يظل غوستاف فلوبير كاتبا على جانب كبير من الاهمية في تطور الرواية. انك اذا انتقدت كاتبا صغيرا فان عمله يتفتت ويضمحل. اما الكاتب العظيم فانه يملك من القوة والمرونة ما يمكنه من مواجهة النقد والانتصار عليه.
[email protected]
لندن - بريطالنيا