اهل تعرف محافظة سوهاج؟!
إنها محافظة من محافظات صعيد مصر.. محافظة صغيرة لطيفة تمثل مخزن هائل من مخازن “المصري الأصيل” الموشك على الانقراض للأسف.. وبالطبع تروج فيها الحكايات والقصص غير العادية وتجد أذانًا صاغية.. وهناك وعلى بعد أربعة أو خمسة كيلومترات من مدينة ( البلينا ) توجد قرية صغيرة اسمها ( بني حلوة ).. نعم اسمها هكذا (بني حلوة ).. وهي قرية صغيرة من قرانا الأصيلة الجميلة ولا شيء يميزها في الحقيقة عن معظم قرى مصر في الشمال والجنوب فيما عدا شيء واحد.. شيء صغير أقرب ما يكون لخرافة محلية الصنع منتشرة بشدة.. فمن الغريب أن ثلاثة أرباع حوادث السيارات التي تقع على خط (البلينا – جرجا) تحدث أمام مدخل هذه القرية بالضبط!
بل أن المنطقة نفسها أصبحت مشئومة لدرجة أن راكبي السيارات يبسملون ويرجون السلامة من الله عندما يجدون أنفسهم بالقرب من (بني حلوة) ويتمنون الخروج من هناك سالمين..
والمشكلة ليست في حوادث السيارات التي تحدث على الخط.. فما أكثر الحوادث المماثلة في مصر.. ولكن الغريب أن كثير من الناس منهم سائقين وركاب عاديين وأناس متعلمين ذوي شأن يصرون على أن هناك ماعز أسود غريب الشكل يظهر أحيانًا فجأة أمام إحدى السيارات المارة بالقرب من القرية، فيفقد السائق السيطرة عليها ويتصادم مع سيارة أخرى أو يهوي في الترعة المحاذية.. والناجون دائمًا قليلون أو.. لا يوجد ناجين غالبًا!
المشكلة أن بعض هؤلاء الشهود هم من السائقين الذين تعرضوا لحادث غريب في هذا المكان ونجوا بأعجوبة ليؤكدوا بعدها أنهم شاهدوا ماعز أسود تنشق عنه الأرض فجأة ويسير نحو سيارتهم.. وفجأة يفقدون سيطرتهم عليها وتتصادم أو تهوي!
♦♦♦♦♦♦♦
حكاية ظريفة يتناقلها الناس الطيبون ويصدقونها.. ولكن ليس معنى هذا إنها حقيقية!
ولا أستطيع أن أحلل الشهادات المتعددة للبعض؛ ومنهم شهود عيان؛ ولكن ربما كان الأمر لا يعدو مجرد إيحاء جماعي أو هذيان أسطوري مما يستهوي الناس في هذه المناطق!
قلت لقريبي ذلك.. ولكي أثبت له كذب هذه الخرافة أعطيته مثالاً بسيطًا وهو أنه هو نفسه يستخدم هذا الخط ويسير بمحاذاة هذه القرية يوميًا.. ذهابًا وإيابًا ومع ذلك لم يحدث له شيء يذكر!
ظللنا نتجادل على هذا النحو نصف ساعة أو أكثر.. ثم فجأة صمت قريبي وأشار لي بإصبعه نحو اليمين وقال:
“هذه هي القرية التي أحدثك عنها!”
ونظرت حيث أشار .. كانت ( بني حلوة ) رابضة في الظلام على بعد سنتيمترات من سيارتنا!
♦♦♦♦♦♦♦
ولكن الرحلة مرت بسلام والحمد لله.. ووصلنا إلى بلدتنا الصغيرة؛ أو بلدة أسرتي؛ الهادئة قرب منتصف الليل.. فأنا صعيدي أيضًا.. أو على الأصح من أصل صعيدي تمام وإن كنت قد ولدت وتربيت في القاهرة ولم أزر بلدة أسرتي في (سوهاج) باستثناء مرات نادرة، إلا إن هذا لا يمنعني من شرف أن أكون صعيدي أصيل.. وإنه لشرف لو تعلمون عظيم!
في بلدتي وجدت ترحيب وود ودفء لم أتوقعه من أهلي الأصليين.. فالحفاوة في كل مكان أنزل فيه.. والناس يريد كل منهم أن يستضيفني في بيته.. وبقية أقاربي يتعاركون على من يكون لديه العشاء والغداء اليوم حتى ليوشكوا أن يجذبوني ويمزقوني بينهم!
إلا إن خرافة ( بني حلوة ) هذه ظلت تحتل جزء كبير من تفكيري لا أدري لماذا؟!
♦♦♦♦♦♦♦
ولم تكن زيارتي لبلدتي في ( سوهاج ) قاصرة على الالتقاء بأقاربي الأصليين الذين لم أراهم إلا مرات قليلة جدًا حتى كدت لا أتعرف عليهم أصلًا.. ولكنها أفادتني في عملي أيضًا ومن هناك تمكنت من الحصول على عدد من الموضوعات والتحقيقات الصحفية الشيقة التي سال لها لعاب رئيس التحرير عندما أرسلتها له على طريق البريد الإلكتروني حتى كاد يطبع قبلاته على شاشة الكمبيوتر لتصلني في رسالة البريد.. المهم أنني قضيت وقتًا طيبًا للغاية وسط أهلي البسطاء الممتلئين طيبة وأصلاً.. ومضت أيام زيارتي لسوهاج في لمح البصر.. وتصور.. لقد عبرت أمام القرية الملعونة (بني حلوة) ثلاثة آلاف مرة دون أن يحدث لسيارتنا شيء.. بل ولا حتى مجرد نفاد للوقود!
وجاء يوم الرحيل المنشود.. في الحقيقة أنه كان منشود قبل ذلك.. أما الآن فقد تمنيت من كل قلبي أن تتاح لي فرصة أكبر للتقرب أكثر وأكثر من أولئك الناس الطيبين الذين ما زالوا يحتفظون داخلهم بشيء غريب حبيب إلى النفس.. شيء غير محدد بالضبط.. ولكن لعله بقية من التراب النقي الذي جُبل منه “آدم” قبل أن تلوث أقدام البشر ومصائبهم تراب الأرض وتربتها وماءها وهواءها!
المهم أنني في ليلة من منتصف شهر يناير، والبرد على أشده، وضعت حقيبتي في سيارة ابن عمي “خالد” وقلت له ببساطة:
“على مطار مبارك يا حبيبي”
♦♦♦♦♦♦♦
كان مطار مبارك حديث الإنشاء وما زال أعجوبة أن (سوهاج) أخيرًا أصبح لها مطار مثل المدن المهمة المحترمة.. وكان المسافة بين بلدتنا الصغيرة وبين (سوهاج) حوالي خمسين كيلومترًا.. وكان من رأي خالد أن أؤجل حجزي إلى الصباح أو إلى يوم آخر.. ولكنني أصررت على الرحيل الليلة لأنني أريد أن أكون في القاهرة صباحًا لأتمكن من تسليم بقية عملي لرئيس التحرير قبل أن تمر عليه أيام كثيرة وتصبح تقارير (حامضة قديمة)..
وهكذا بدأنا رحلتنا على بركة الله . وكانت السيارة تسير بسرعة كبيرة على طريق جيد.. ومرت ثلاثة أو أربعة كيلومترات بسلام.. وكنا في هذه اللحظة نمر بالضبط أمام قرية (بني حلوة).. وفجأة راودني شعور غريب لا أفهم معناه.. وسقط الكتاب من يدي وشعرت بشيء غريب ينظر لي من يساري.. رفعت وجهي فوجدت القرية رابضة إلى جوارنا تمامًا، مدخلها الأصلي على يساري، والمدخل الثاني الذي يتكون من كوبري صغير على يميني.. وهناك على يميني وجدت نفسي؛ أحدق مباشرة في وجه ماعز ضخم أسود اللون قبيح ككابوس.. من أين جاء لا أدري؟!
وسمعت ابن عمي يبسمل بصوت مرتجف ويردد بذعر:
“سترك يا رب .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”.
لا أذكر ما حدث بالضبط.. بل كل ما علق بذاكرتي هو صوت ابن عمي المرتجف المذعور والماعز القبيح وهو يتحرك نحونا في هدوء قاتل ويحدق في وجوهنا بعينيين ناريتين.. لم يستغرق الأمر أكثر من ثانية.. وفجأة أفلتت عجلة القيادة من يد “خالد” ووجدت السيارة تهوي بنا.. تهوي وتهوي في مكان سحيق بلا قرار!
♦♦♦♦♦♦♦
فتحت عيناي بصعوبة فوجدت أسرتي كلها حولي.. زوجتي وابني وابنتي وأمي العجوز.. ولم يكونوا وحدهم بل إن كل أقاربي من سوهاج كانوا هناك أيضًا.. وحتى رئيس التحرير كان موجودًا بجانبي مباشرة.. لم أسأل إلا عن شيء واحد:
“خالد .. ابن عمي .. أين هو ؟!”
وفوجئت بصمت عميق ونظرة متحسرة في العيون.. ففهمت.. لقد مات الشاب المسكين.. مات ليكون ضحية أخرى من ضحية هذا الماعز الشيطاني المخيف!
سألت زوجتي عما حدث.. فأخبرتني.. وهي تغالب دموعها أنهم اتصلوا بها من ( سوهاج ) وأخبروها أنني عملت حادثة بالسيارة أنا وابن عمي “خالدًا”.. فهرعت على الفور هي والطفلين وأمي من القاهرة.. وعندما وصلوا المستشفى المركزي في البلينا (أقرب مكان للحادث) وجدوا ابن عمي قد فارق الحياة متأثرًا بإصابته البالغة.. أما أنا فكنت راقدًا بين الحياة والموت أعاني من كسور عديدة في الساقين والذراع الأيمن وأحد الضلوع وكذلك ارتجاج في المخ.. وأنني رقدت في غيبوبة لمدة خمسة أيام حتى استعدت وعي الآن!
أقترب مني رئيس التحرير وقال لي بتسرع، فقد جاءت الممرضة وطلبت من الزوار كلهم الخروج فوراً لأتمكن من النوم والراحة، قال لي رئيسي بصوت خافت:
“سمع يجب أن تخبرني تفاصيل ما حدث لحظة بلحظة .. لابد إنها كانت حادثة مثيرة .. إنها عاشر حادثة تحدث في هذا المكان خلال شهر واحد؟!”
حدقت في وجه رئيس التحرير عاجزاً عن النطق .. ماذا أقول له؟!
أأقول له أنني أنا الذي كنت أكثر من ينكر فكرة هذه الأسطورة ويرفض تصديقها ويسخر ممن يصدقها قدر لي أن أرى هذا الماعز الشيطاني رأي العين وكأنه يخرج لسانه لى أنا بالذات؟!
أأقول له أنني أحمق ومغرور بالباطل وأعتقد أن العلم وحده يجيب على كل الأسئلة في الكون ويحل كل المشاكل؟!
لا لن أقول له شيء ولأحتفظ بهذا السر لنفسي.. ولأموت ذعرًا وحدي ولا أدع الآخرون يسخرون مني كما كنت أسخر أنا منهم!
ابتلعت ريقي وقلت لرئيسي بصعوبة بالغة:
“لا شيء .. لقد أختلت عجلة القيادة وفقد “خالد” السيطرة على السيارة.. وانحرفت السيارة عن طريقها وهوت في الترعة .. هذا هو كل ما حدث!”
وعدت أكرر مؤكدًا:
“هذا هو كل ما حدث!”
ـــــــــــــــــــــــــــ
(*) الأحداث تستند إلى أسطورة حقيقية بمحافظة سوهاج.
إنها محافظة من محافظات صعيد مصر.. محافظة صغيرة لطيفة تمثل مخزن هائل من مخازن “المصري الأصيل” الموشك على الانقراض للأسف.. وبالطبع تروج فيها الحكايات والقصص غير العادية وتجد أذانًا صاغية.. وهناك وعلى بعد أربعة أو خمسة كيلومترات من مدينة ( البلينا ) توجد قرية صغيرة اسمها ( بني حلوة ).. نعم اسمها هكذا (بني حلوة ).. وهي قرية صغيرة من قرانا الأصيلة الجميلة ولا شيء يميزها في الحقيقة عن معظم قرى مصر في الشمال والجنوب فيما عدا شيء واحد.. شيء صغير أقرب ما يكون لخرافة محلية الصنع منتشرة بشدة.. فمن الغريب أن ثلاثة أرباع حوادث السيارات التي تقع على خط (البلينا – جرجا) تحدث أمام مدخل هذه القرية بالضبط!
بل أن المنطقة نفسها أصبحت مشئومة لدرجة أن راكبي السيارات يبسملون ويرجون السلامة من الله عندما يجدون أنفسهم بالقرب من (بني حلوة) ويتمنون الخروج من هناك سالمين..
والمشكلة ليست في حوادث السيارات التي تحدث على الخط.. فما أكثر الحوادث المماثلة في مصر.. ولكن الغريب أن كثير من الناس منهم سائقين وركاب عاديين وأناس متعلمين ذوي شأن يصرون على أن هناك ماعز أسود غريب الشكل يظهر أحيانًا فجأة أمام إحدى السيارات المارة بالقرب من القرية، فيفقد السائق السيطرة عليها ويتصادم مع سيارة أخرى أو يهوي في الترعة المحاذية.. والناجون دائمًا قليلون أو.. لا يوجد ناجين غالبًا!
المشكلة أن بعض هؤلاء الشهود هم من السائقين الذين تعرضوا لحادث غريب في هذا المكان ونجوا بأعجوبة ليؤكدوا بعدها أنهم شاهدوا ماعز أسود تنشق عنه الأرض فجأة ويسير نحو سيارتهم.. وفجأة يفقدون سيطرتهم عليها وتتصادم أو تهوي!
♦♦♦♦♦♦♦
حكاية ظريفة يتناقلها الناس الطيبون ويصدقونها.. ولكن ليس معنى هذا إنها حقيقية!
ولا أستطيع أن أحلل الشهادات المتعددة للبعض؛ ومنهم شهود عيان؛ ولكن ربما كان الأمر لا يعدو مجرد إيحاء جماعي أو هذيان أسطوري مما يستهوي الناس في هذه المناطق!
قلت لقريبي ذلك.. ولكي أثبت له كذب هذه الخرافة أعطيته مثالاً بسيطًا وهو أنه هو نفسه يستخدم هذا الخط ويسير بمحاذاة هذه القرية يوميًا.. ذهابًا وإيابًا ومع ذلك لم يحدث له شيء يذكر!
ظللنا نتجادل على هذا النحو نصف ساعة أو أكثر.. ثم فجأة صمت قريبي وأشار لي بإصبعه نحو اليمين وقال:
“هذه هي القرية التي أحدثك عنها!”
ونظرت حيث أشار .. كانت ( بني حلوة ) رابضة في الظلام على بعد سنتيمترات من سيارتنا!
♦♦♦♦♦♦♦
ولكن الرحلة مرت بسلام والحمد لله.. ووصلنا إلى بلدتنا الصغيرة؛ أو بلدة أسرتي؛ الهادئة قرب منتصف الليل.. فأنا صعيدي أيضًا.. أو على الأصح من أصل صعيدي تمام وإن كنت قد ولدت وتربيت في القاهرة ولم أزر بلدة أسرتي في (سوهاج) باستثناء مرات نادرة، إلا إن هذا لا يمنعني من شرف أن أكون صعيدي أصيل.. وإنه لشرف لو تعلمون عظيم!
في بلدتي وجدت ترحيب وود ودفء لم أتوقعه من أهلي الأصليين.. فالحفاوة في كل مكان أنزل فيه.. والناس يريد كل منهم أن يستضيفني في بيته.. وبقية أقاربي يتعاركون على من يكون لديه العشاء والغداء اليوم حتى ليوشكوا أن يجذبوني ويمزقوني بينهم!
إلا إن خرافة ( بني حلوة ) هذه ظلت تحتل جزء كبير من تفكيري لا أدري لماذا؟!
♦♦♦♦♦♦♦
ولم تكن زيارتي لبلدتي في ( سوهاج ) قاصرة على الالتقاء بأقاربي الأصليين الذين لم أراهم إلا مرات قليلة جدًا حتى كدت لا أتعرف عليهم أصلًا.. ولكنها أفادتني في عملي أيضًا ومن هناك تمكنت من الحصول على عدد من الموضوعات والتحقيقات الصحفية الشيقة التي سال لها لعاب رئيس التحرير عندما أرسلتها له على طريق البريد الإلكتروني حتى كاد يطبع قبلاته على شاشة الكمبيوتر لتصلني في رسالة البريد.. المهم أنني قضيت وقتًا طيبًا للغاية وسط أهلي البسطاء الممتلئين طيبة وأصلاً.. ومضت أيام زيارتي لسوهاج في لمح البصر.. وتصور.. لقد عبرت أمام القرية الملعونة (بني حلوة) ثلاثة آلاف مرة دون أن يحدث لسيارتنا شيء.. بل ولا حتى مجرد نفاد للوقود!
وجاء يوم الرحيل المنشود.. في الحقيقة أنه كان منشود قبل ذلك.. أما الآن فقد تمنيت من كل قلبي أن تتاح لي فرصة أكبر للتقرب أكثر وأكثر من أولئك الناس الطيبين الذين ما زالوا يحتفظون داخلهم بشيء غريب حبيب إلى النفس.. شيء غير محدد بالضبط.. ولكن لعله بقية من التراب النقي الذي جُبل منه “آدم” قبل أن تلوث أقدام البشر ومصائبهم تراب الأرض وتربتها وماءها وهواءها!
المهم أنني في ليلة من منتصف شهر يناير، والبرد على أشده، وضعت حقيبتي في سيارة ابن عمي “خالد” وقلت له ببساطة:
“على مطار مبارك يا حبيبي”
♦♦♦♦♦♦♦
كان مطار مبارك حديث الإنشاء وما زال أعجوبة أن (سوهاج) أخيرًا أصبح لها مطار مثل المدن المهمة المحترمة.. وكان المسافة بين بلدتنا الصغيرة وبين (سوهاج) حوالي خمسين كيلومترًا.. وكان من رأي خالد أن أؤجل حجزي إلى الصباح أو إلى يوم آخر.. ولكنني أصررت على الرحيل الليلة لأنني أريد أن أكون في القاهرة صباحًا لأتمكن من تسليم بقية عملي لرئيس التحرير قبل أن تمر عليه أيام كثيرة وتصبح تقارير (حامضة قديمة)..
وهكذا بدأنا رحلتنا على بركة الله . وكانت السيارة تسير بسرعة كبيرة على طريق جيد.. ومرت ثلاثة أو أربعة كيلومترات بسلام.. وكنا في هذه اللحظة نمر بالضبط أمام قرية (بني حلوة).. وفجأة راودني شعور غريب لا أفهم معناه.. وسقط الكتاب من يدي وشعرت بشيء غريب ينظر لي من يساري.. رفعت وجهي فوجدت القرية رابضة إلى جوارنا تمامًا، مدخلها الأصلي على يساري، والمدخل الثاني الذي يتكون من كوبري صغير على يميني.. وهناك على يميني وجدت نفسي؛ أحدق مباشرة في وجه ماعز ضخم أسود اللون قبيح ككابوس.. من أين جاء لا أدري؟!
وسمعت ابن عمي يبسمل بصوت مرتجف ويردد بذعر:
“سترك يا رب .. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”.
لا أذكر ما حدث بالضبط.. بل كل ما علق بذاكرتي هو صوت ابن عمي المرتجف المذعور والماعز القبيح وهو يتحرك نحونا في هدوء قاتل ويحدق في وجوهنا بعينيين ناريتين.. لم يستغرق الأمر أكثر من ثانية.. وفجأة أفلتت عجلة القيادة من يد “خالد” ووجدت السيارة تهوي بنا.. تهوي وتهوي في مكان سحيق بلا قرار!
♦♦♦♦♦♦♦
فتحت عيناي بصعوبة فوجدت أسرتي كلها حولي.. زوجتي وابني وابنتي وأمي العجوز.. ولم يكونوا وحدهم بل إن كل أقاربي من سوهاج كانوا هناك أيضًا.. وحتى رئيس التحرير كان موجودًا بجانبي مباشرة.. لم أسأل إلا عن شيء واحد:
“خالد .. ابن عمي .. أين هو ؟!”
وفوجئت بصمت عميق ونظرة متحسرة في العيون.. ففهمت.. لقد مات الشاب المسكين.. مات ليكون ضحية أخرى من ضحية هذا الماعز الشيطاني المخيف!
سألت زوجتي عما حدث.. فأخبرتني.. وهي تغالب دموعها أنهم اتصلوا بها من ( سوهاج ) وأخبروها أنني عملت حادثة بالسيارة أنا وابن عمي “خالدًا”.. فهرعت على الفور هي والطفلين وأمي من القاهرة.. وعندما وصلوا المستشفى المركزي في البلينا (أقرب مكان للحادث) وجدوا ابن عمي قد فارق الحياة متأثرًا بإصابته البالغة.. أما أنا فكنت راقدًا بين الحياة والموت أعاني من كسور عديدة في الساقين والذراع الأيمن وأحد الضلوع وكذلك ارتجاج في المخ.. وأنني رقدت في غيبوبة لمدة خمسة أيام حتى استعدت وعي الآن!
أقترب مني رئيس التحرير وقال لي بتسرع، فقد جاءت الممرضة وطلبت من الزوار كلهم الخروج فوراً لأتمكن من النوم والراحة، قال لي رئيسي بصوت خافت:
“سمع يجب أن تخبرني تفاصيل ما حدث لحظة بلحظة .. لابد إنها كانت حادثة مثيرة .. إنها عاشر حادثة تحدث في هذا المكان خلال شهر واحد؟!”
حدقت في وجه رئيس التحرير عاجزاً عن النطق .. ماذا أقول له؟!
أأقول له أنني أنا الذي كنت أكثر من ينكر فكرة هذه الأسطورة ويرفض تصديقها ويسخر ممن يصدقها قدر لي أن أرى هذا الماعز الشيطاني رأي العين وكأنه يخرج لسانه لى أنا بالذات؟!
أأقول له أنني أحمق ومغرور بالباطل وأعتقد أن العلم وحده يجيب على كل الأسئلة في الكون ويحل كل المشاكل؟!
لا لن أقول له شيء ولأحتفظ بهذا السر لنفسي.. ولأموت ذعرًا وحدي ولا أدع الآخرون يسخرون مني كما كنت أسخر أنا منهم!
ابتلعت ريقي وقلت لرئيسي بصعوبة بالغة:
“لا شيء .. لقد أختلت عجلة القيادة وفقد “خالد” السيطرة على السيارة.. وانحرفت السيارة عن طريقها وهوت في الترعة .. هذا هو كل ما حدث!”
وعدت أكرر مؤكدًا:
“هذا هو كل ما حدث!”
ـــــــــــــــــــــــــــ
(*) الأحداث تستند إلى أسطورة حقيقية بمحافظة سوهاج.