قرأت عدة مقالات في الآونه الأخيرة عن الشاعر المرحوم بدر شاكر السياب في الحوار المتمدن ، و رجعت بي الذاكرة إلى صيف عام 1957.
كنا خمسة طلاب نحتفل بنجاحنا إلى الصف الخامس الإعدادي ( الثانوية الإعدادية المركزية في بغداد) ، و كان مديرها في ذلك الوقت السيد علاء الدين الريس ذو النظارات الطبية المعتمة و صلعته المشهورة . كنا نحتفل في إحدى مناطق بغداد في كرادة مريم ، كنا نغني و بأصوات هادئة ( أغنية القمح للموسيقار محمد عبد الوهاب) و فجأة و بدون مسوغ و سبب واضح حوصرنا من قبل شلة من رجال الشرطة السرية في العهد الملكي البائد . و بعد أن فتشوا ملابسنا لم يجدوا غير بعض القصاصات الشعرية الرومانسيه منها و السياسية.
وبعد ذلك ذهبوا بنا الى مركز شرطة كرادة مريم و اتصلوا ببقية أعضاء البوليس السري في بغداد للتعرف علينا . فكنت أنا أسكن منطقة الحيدر خانة ( منطقة جديد حسن باشا ) ، و زملائي في منطقة الفضل ، و بعد أن فتشوا بيوتنا و التحري ، لم يجدوا عندي غير بعض الكتب للأدب العالمي ( مكسيم غوركي في معترك الحياة ، و أخرى لتولستوي و غوغول و غيرها) ، و كتب أخرى للكاتب العلماني المصري سلامة موسى ، وسبق لهذه الكتب أن اشتريتها من سوق السراي و أخرى أهديت لي من بعض الأصدقاء.
كانت التهمة الموجهة إلينا في حينه هي محاولتنا الاعتداء على السفارة الفرنسية المتواجدة في كرادة مريم بالإضافة إلى هذه التهمة , تهمة انتمائنا إلى الحزب الشيوعي العراقي . و بعد التحقيق معنا أرسلونا مخفورين إلى مديرية الأمن العامة ( التحقيقات الجنائية) الواقعة في شارع النهر خلف المحكمة الشرعية ، وهناك قابلنا مديرها المجرم بهجت العطية الذي أسمعنا الكثير من السب و الشتائم ، و هددنا بالضرب المبرح إذا لم نعترف على هذه الواقعة و نحن أبرياء منها.
و بعد هذا التحقيق دفعوا بنا إلى السرداب ، و هناك استقبلنا بعض المعتقلين السياسيين و قدموا لنا بعد المساعدات البسيطة. كنا نفترش الأرض و ننام على حصران قذرة ملطخة بالسخام الأسود ، و كان السرداب مقرونا بالرطوبة العالية و رائحة العفن ، كان الأكل لا يتجاوز على صمون’ واحدة و استكان شاي واحد مع ثلاث وجبات أخرى متكونة من مرق و صمونة واحدة.
بالصباح كنا نخرج لقضاء حاجتنا مع الاغتسال بالماء فقط ، و هذا قبل مجيء موظفي هذه الدائرة المسلطة على رقاب الشعب.
و في إحدى الليالي دخل علينا الشاعر بدر شاكر السياب و هو يرتدي بذلة زرقاء فاتحة اللون مع ربطة عنق تدل على شخصيته الهادئة الرزينة, جلسنا بالقرب منه بعد أن قدمنا له بعض المساعدات البسيطة و تعرف علينا و زادت دهشته عندما علم بأننا طلاب اعدادية.
بدأ السياب يتحدث عن الوضع السياسي المأساوي و على خنق الحريات , و كيف يجب علينا النضال ضد هذا الظلم و الطغيان ، و على الشعب العراقي أن يناضل و بلا هوادة على إسقاط الحكم الملكي الجائر. و بعدها بدأ يتلو علينا بعضا من شعره السياسي ، وأتذكر مضمون و محتوى إحداها.
يستيقظ.. المناضل السياسي المعتقل.. على أصوات اقدام الشرطي الحارس اصوات حذائه ( البسطال) و هي تغدو و تروح من امام زنزانته.. و في الليل ينام على صراخ و عذابات المناضلين في الزنزانات الأخرى.. من أجل أن ينتزعوا منهم الاعترافات.
وكانت هذه القصيدة التي نشرت في حينها في إحدى الصحف العراقية هي السبب في اعتقاله و إرساله الى مديرية الأمن العامة كما أعتقد.
بعد هذا اللقاء زادت معنوياتنا و زال الخوف من نفوسنا لأننا كنا مازلنا طلاب إعدادية لا تتجاوز أعمارنا ال19 سنة ، ومازلنا في طور التعلم و البحث عن الحقيقة و الإستفادة من تجارب الآخرين.
و بعد عدة أيام من تواجدنا في السرداب بدأوا بأرسالنا الى مراكز الشرطة المختلفة في بغداد ، فقد أرسلوا زملائي إلى مركز شرطة السراي قرب القشلة في بغداد ، أما أنا و الشاعر السياب فبكلبجة واحدة الى مركز شرطة الكاظمية.
ركبنا سيارة التاكسي و معنا شرطيان ، و عند وصولنا الى منعطف للدخول الى شارع الرشيد بالقرب من المصور ارشاك , طلب الشاعر السياب من الشرطيين التوقف لبعض الوقت ، و كانت الساعة بين 2-3 ظهرا لعله يجد احدا من معارفه أو موظفي دائرته لاخبار عائلته بأنه معتقل في مركز شرطة الكاظمية ، ولكن الشرطيين لم يوافقا الا بعد دفع الرشوة لهم.
و في مركز شرطة الكاضمية التقينا بالكثير من المعتقلين من طلاب الجامعة حيث كان أكثرهم من سكنة الكاظمية ، و كان أهلها و أهل المعتقلين إيجابيون معنا ، و يحثوننا على الصمود و النضال من أجل إسقاط الملكية التي جلبت لنا الثالوث المشؤوم الجهل المرض والفقر.
هناك تعرفت على الشاعر محمود النقدي الذي كتب قصيدة في حينها اسمها ( محمود القمر) ، اما القمر فكان رمزا على رغيف الخبز ، حيث كان يصف في شعره معاناة شعبنا العراقي من الجوع و المرض و الفقر . و كان هناك نقاش سياسي يومي في داخل المعتقل بين السجناء السياسيين جاؤوا من سجن نقرة السلمان و بين الشاعر السياب , كان يحاورهم و في ذهنه الكثير من التساؤلات و الملاحظات حول الماركسية كمفهوم إنساني متجدد و بين المفاهيم القومية و التي كانت تطرح من قبل الشاعر لأنه اعترف اخيرا بأن الماركسية هي العلاج الاوحد لكل مشاكل العالم و هي البلسم الشافي لكل معاناة الطبقة العاملة.
فألف تحية الى المناضلين الرواد و الى شاعرنا السياب الذين زرعوا في قلبونا حب الناس كل الناس باختلاف انتماءاتهم القومية و الطائفية و الى الابطال الذين مهدوا لنا الطريق من اجل النضال ضد الاستبداد و الرجعية و الانعتاق من العبودية ، و اقف اكراما و اجلالا الى كل الرفاق الذين علمونا ان نناضل من اجل وطن حر و شعب سعيد ، و لا يسعني هنا الا ان اذكر اصدقائي الاخرين الذين قضوا معي ايام قاسية وواجهتنا اصعب حالات الخوف فيه حينه، المرحومين احمد الهاشمي و محمد فاضل و السيد طارق عبد الكريم و نوري محمد و انا قاسم الجلبي كاتب هذه السطور المتواضعة وشكرا
كنا خمسة طلاب نحتفل بنجاحنا إلى الصف الخامس الإعدادي ( الثانوية الإعدادية المركزية في بغداد) ، و كان مديرها في ذلك الوقت السيد علاء الدين الريس ذو النظارات الطبية المعتمة و صلعته المشهورة . كنا نحتفل في إحدى مناطق بغداد في كرادة مريم ، كنا نغني و بأصوات هادئة ( أغنية القمح للموسيقار محمد عبد الوهاب) و فجأة و بدون مسوغ و سبب واضح حوصرنا من قبل شلة من رجال الشرطة السرية في العهد الملكي البائد . و بعد أن فتشوا ملابسنا لم يجدوا غير بعض القصاصات الشعرية الرومانسيه منها و السياسية.
وبعد ذلك ذهبوا بنا الى مركز شرطة كرادة مريم و اتصلوا ببقية أعضاء البوليس السري في بغداد للتعرف علينا . فكنت أنا أسكن منطقة الحيدر خانة ( منطقة جديد حسن باشا ) ، و زملائي في منطقة الفضل ، و بعد أن فتشوا بيوتنا و التحري ، لم يجدوا عندي غير بعض الكتب للأدب العالمي ( مكسيم غوركي في معترك الحياة ، و أخرى لتولستوي و غوغول و غيرها) ، و كتب أخرى للكاتب العلماني المصري سلامة موسى ، وسبق لهذه الكتب أن اشتريتها من سوق السراي و أخرى أهديت لي من بعض الأصدقاء.
كانت التهمة الموجهة إلينا في حينه هي محاولتنا الاعتداء على السفارة الفرنسية المتواجدة في كرادة مريم بالإضافة إلى هذه التهمة , تهمة انتمائنا إلى الحزب الشيوعي العراقي . و بعد التحقيق معنا أرسلونا مخفورين إلى مديرية الأمن العامة ( التحقيقات الجنائية) الواقعة في شارع النهر خلف المحكمة الشرعية ، وهناك قابلنا مديرها المجرم بهجت العطية الذي أسمعنا الكثير من السب و الشتائم ، و هددنا بالضرب المبرح إذا لم نعترف على هذه الواقعة و نحن أبرياء منها.
و بعد هذا التحقيق دفعوا بنا إلى السرداب ، و هناك استقبلنا بعض المعتقلين السياسيين و قدموا لنا بعد المساعدات البسيطة. كنا نفترش الأرض و ننام على حصران قذرة ملطخة بالسخام الأسود ، و كان السرداب مقرونا بالرطوبة العالية و رائحة العفن ، كان الأكل لا يتجاوز على صمون’ واحدة و استكان شاي واحد مع ثلاث وجبات أخرى متكونة من مرق و صمونة واحدة.
بالصباح كنا نخرج لقضاء حاجتنا مع الاغتسال بالماء فقط ، و هذا قبل مجيء موظفي هذه الدائرة المسلطة على رقاب الشعب.
و في إحدى الليالي دخل علينا الشاعر بدر شاكر السياب و هو يرتدي بذلة زرقاء فاتحة اللون مع ربطة عنق تدل على شخصيته الهادئة الرزينة, جلسنا بالقرب منه بعد أن قدمنا له بعض المساعدات البسيطة و تعرف علينا و زادت دهشته عندما علم بأننا طلاب اعدادية.
بدأ السياب يتحدث عن الوضع السياسي المأساوي و على خنق الحريات , و كيف يجب علينا النضال ضد هذا الظلم و الطغيان ، و على الشعب العراقي أن يناضل و بلا هوادة على إسقاط الحكم الملكي الجائر. و بعدها بدأ يتلو علينا بعضا من شعره السياسي ، وأتذكر مضمون و محتوى إحداها.
يستيقظ.. المناضل السياسي المعتقل.. على أصوات اقدام الشرطي الحارس اصوات حذائه ( البسطال) و هي تغدو و تروح من امام زنزانته.. و في الليل ينام على صراخ و عذابات المناضلين في الزنزانات الأخرى.. من أجل أن ينتزعوا منهم الاعترافات.
وكانت هذه القصيدة التي نشرت في حينها في إحدى الصحف العراقية هي السبب في اعتقاله و إرساله الى مديرية الأمن العامة كما أعتقد.
بعد هذا اللقاء زادت معنوياتنا و زال الخوف من نفوسنا لأننا كنا مازلنا طلاب إعدادية لا تتجاوز أعمارنا ال19 سنة ، ومازلنا في طور التعلم و البحث عن الحقيقة و الإستفادة من تجارب الآخرين.
و بعد عدة أيام من تواجدنا في السرداب بدأوا بأرسالنا الى مراكز الشرطة المختلفة في بغداد ، فقد أرسلوا زملائي إلى مركز شرطة السراي قرب القشلة في بغداد ، أما أنا و الشاعر السياب فبكلبجة واحدة الى مركز شرطة الكاظمية.
ركبنا سيارة التاكسي و معنا شرطيان ، و عند وصولنا الى منعطف للدخول الى شارع الرشيد بالقرب من المصور ارشاك , طلب الشاعر السياب من الشرطيين التوقف لبعض الوقت ، و كانت الساعة بين 2-3 ظهرا لعله يجد احدا من معارفه أو موظفي دائرته لاخبار عائلته بأنه معتقل في مركز شرطة الكاظمية ، ولكن الشرطيين لم يوافقا الا بعد دفع الرشوة لهم.
و في مركز شرطة الكاضمية التقينا بالكثير من المعتقلين من طلاب الجامعة حيث كان أكثرهم من سكنة الكاظمية ، و كان أهلها و أهل المعتقلين إيجابيون معنا ، و يحثوننا على الصمود و النضال من أجل إسقاط الملكية التي جلبت لنا الثالوث المشؤوم الجهل المرض والفقر.
هناك تعرفت على الشاعر محمود النقدي الذي كتب قصيدة في حينها اسمها ( محمود القمر) ، اما القمر فكان رمزا على رغيف الخبز ، حيث كان يصف في شعره معاناة شعبنا العراقي من الجوع و المرض و الفقر . و كان هناك نقاش سياسي يومي في داخل المعتقل بين السجناء السياسيين جاؤوا من سجن نقرة السلمان و بين الشاعر السياب , كان يحاورهم و في ذهنه الكثير من التساؤلات و الملاحظات حول الماركسية كمفهوم إنساني متجدد و بين المفاهيم القومية و التي كانت تطرح من قبل الشاعر لأنه اعترف اخيرا بأن الماركسية هي العلاج الاوحد لكل مشاكل العالم و هي البلسم الشافي لكل معاناة الطبقة العاملة.
فألف تحية الى المناضلين الرواد و الى شاعرنا السياب الذين زرعوا في قلبونا حب الناس كل الناس باختلاف انتماءاتهم القومية و الطائفية و الى الابطال الذين مهدوا لنا الطريق من اجل النضال ضد الاستبداد و الرجعية و الانعتاق من العبودية ، و اقف اكراما و اجلالا الى كل الرفاق الذين علمونا ان نناضل من اجل وطن حر و شعب سعيد ، و لا يسعني هنا الا ان اذكر اصدقائي الاخرين الذين قضوا معي ايام قاسية وواجهتنا اصعب حالات الخوف فيه حينه، المرحومين احمد الهاشمي و محمد فاضل و السيد طارق عبد الكريم و نوري محمد و انا قاسم الجلبي كاتب هذه السطور المتواضعة وشكرا