سؤال ما فتأ يراود المهتمين بالشأن الثقافي في البحرين وخصوصاً أولئك الذين يجمعهم ذلك الحب والشغف بالتجربة الفنية والتشكيلية. سؤال يخفي تلك الروح المتوثبة للعطاء في زمن شحّت فيه القابلية على العطاء لدى الكثير من الفنانين التشكيليين بل وحتى الكتاب من القاصين والشعراء. وذلك السؤال هو: لماذا حتى هذه اللحظة لم نجد تلك العلاقة القوية التي تجمع بين الكتاب والفنانين التشكيليين ونعني بها تلك التجارب الجديرة بالوقوف والالتفات؟! ألا يدل غياب تلك العلاقة على أن هناك أزمة تتعلق بالكتابة من شعر وقصة ورواية وبالفن التشكيلي من رسم وحفر وتصوير... إلخ؟! ألم يكن بإمكان هذه العلاقة ان تفرز الكثير من الأعمال الابداعية ذات الخصوصية والتميز؟!
تلك الأسئلة يجيب عليها في الحوار الفنان والمسرحي البحريني المعروف عبدالله يوسف والتي يفتح بها مساحة جميلة لأفكار وتصورات وتفسيرات لغياب هذه العلاقة وتوضيح للمنافذ العظيمة التي يمكن من شبابيكها الخروج بشيء مختلف. وخصوصا أن لعبدالله يوسف تاريخه الجميل مع تلك العلاقة ونظرته الثاقبة التي لا تخلو من الصراحة... نفرد هنا اللقاء
* هل تؤمن بوجود علاقة حقيقية بين الكتاب والشعراء والقاصين بالفن التشكيلي في الفترة الراهنة، أم أن المشهد الثقافي الفني في البحرين شهد علاقة أقوى في مراحل سابقة؟
- أكاد أجزم بأن دول الخليج - باستثناء العراق- لم تشهد أية علاقة حقيقية خصبة فاعلة في الفترة الراهنة أو السابقة بين الحركة الأدبية وحركة الفن التشكيلي، إلا اذا اعتقدنا بأن حاجة الشاعر والقاص والروائي الى رسوم تزيين أغلفة مؤلفاتهم بمثابة علاقة، وهي حتما ليست كذلك بمفهوم العلاقة المتأسسة أو المنبثقة من الخصوبة الابداعية المشتركة بين الطرفين بحيث تثمر مشروعا بمثابة حالة جديدة تتجلى حداثتها من تلاقح خلايا فنيين ابداعيين مكتنزين بالعناصر المشتركة الجديدة باغواء الكاتب الى تمثل التكوينات والخطوط وأسرار الألوان، وكذلك تستدرج التشكيلي الى تخوم الكلمات وسحر الحروف وظلال المعنى.
بذلك المعنى أفهم أن تتأسس علاقة حقيقية بين الكتاب والشعراء والقاصين بالفنانين التشكيليين. لكنه فهم يخذله الواقع الراهن. ولم تثبت الذاكرة أن مراحل سابقة حبلت به الى الدرجة التي جعلت منه مشهدا، إذ المشهدية في ايقاع من ايقاعاتها تعني استحواذ فلتة ابداعية مشتركة على حيز زمني وتوثيقي في التاريخ الفني والأدبي لحضارة أي بلد، بحيث لا تتيح مجالا للمؤرخ والباحث والمؤلف أن يتجاوزها أو يسقطها من فصول ما يكتب.
* وما هي المداخل التي يمكن للكتاب - بحسب تصورك - أن يعبروا من خلالها في عملية توظيف وتجيير الفن التشكيلي في نصوصهم؟
- ربما تكون المداخل وفيرة، وليس مجديا أن تكون كذلك ولكن ثمة مداخل لم تلجها التجربة، ومداخل أخرى لم تلجها تجارب متوالية تراكم على التجربة الأولى أو الثانية.. الخ.. بحيث يتسنى مع تكالب التجارب رسم أبعاد المشهدية المأمولة. وأعتقد أن التجارب الأربع التي حفظتها ذاكرة الأدب العربي وتاريخ الفن التشكيلي في دنيا العرب وصيغت وفق ريادية بالغة العفوية والفطرية والأهمية التاريخية هي: (مقامات الحريري) التي وضع رسومها يحيى بن محمد الواسطي، (كليلة ودمنة) ترجمة ابن المقفع عن بيدبا الفارسية، (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني والتي صاغ رسومها بدرالدين بن عبدالله، وكتاب (الحيوان) للجاحظ.
تلك تجارب بمثابة التأسيس المبدئي لمشهد ظل محدودا. ربما ساهم لاحقا في محاولة استكماله الفنان العراقي المتميز ضياء العزاوي، في تجربته (النشيد الجسدي) و(المعلقات السبع) وبعض تجارب متناثرة لفنانين آخرين لم تملك جدارة استكمال أبعاد المشهد كي يصير نموذجا أو دليلا في التجربة التشكيلية العربية، ذلك لا يلغي أو يلغي أو ينفي حدوث محاولات في اتجاه خلق علاقة بين الكتاب والشعراء والقاصين بالفن التشكيلي في البحرين في الفترة الراهنة. لكنها محاولات جرت وفق رغبة طارئة لم تتجذر، كونها لم تصدر وفق مشروع له مرئياته وأهدافه المنبثقة عن ذهنيات متقاربة لمستوى الوعي الثقافي والادراك الفني والاقتناع بجدلية العلاقة بين الابداعين.
* وماذا عن الثقافة البصرية، هل تجد ثمة ثقافة بصرية عميقة لدى الكتاب على اختلاف توجهاتهم؟
- هناك من الكتاب من يتمتع بثقافة بصرية عالية تتفوق على الكثير من التشكيليين لكنهم قلة على كل حال فيما هي متواضعة بل قد تكون متلاشية عند عدد كبير ممن يمارسون الكتابة، ودليلنا على ذلك تواضع الأبعاد الفنية المنبثقة من تقليدية فجة في الشكل والاخراج الفني لاصداراتهم من دون أن يثير ذلك امتعاضا بصريا لديهم... والمفارقة الغريبة هنا أن الثقافة البصرية البالغة الحساسية التي تتمتع بها القلة الأخرى من التشكيليين نادرا ما تجمع الطرفين في عمل مشترك يكون بمثابة تجربة تتلوها تجارب متصلة من دون انقطاع زمني شاسع، وهو أمر لو تحقق فسوف يؤدي بالضرورة الى تشكيل العلاقة الحقيقية - التي أثيرت في السؤال الأول - بين الكتاب والشعراء والقاصين بالفنانين التشكيليين. وان الابداعات الرصينة الواعية في النتاجات الأدبية الجديدة أو القديمة في القصة والرواية والشعر بشكل خاص تحفل بعدد هائل من الصور التعبيرية التخيلية، فعندما يقول أدونيس على سبيل المثال في احدى قصائده (... انه آخر ما تغنى به طائر في غابة مشتعلة...) نجد صورة تشكيلية بالغة التعبير والتكثيف ومكتنزة بجمالية بصرية هائلة، تفسح للتشكيلي المتبصر أفقا رحبا لانتاج عدد من الأعمال المتسلسلة في موضوع فائق الحيوية والمعاصرة.
قس على ذلك المثال، الكثير اللامتناه من النماذج والشواهد على ضرورة تعاضد المبدعين من أجل تاسيس مشهد جديد مغاير مناكف متجاوز لروتينية ما ساد في الفن والأدب ردحا من الزمن، باتت فيه التجارب الابداعية على مشارف الترهل والعطب واعادة تدوير المنجز كما هو من دون تفتيت عناصره التي غالبا ما تكون حبلى بما يمكن أن يكون جديدا.
يوسف: لابد من التأسيس لمشهد متجاوز للروتينية
تلك الأسئلة يجيب عليها في الحوار الفنان والمسرحي البحريني المعروف عبدالله يوسف والتي يفتح بها مساحة جميلة لأفكار وتصورات وتفسيرات لغياب هذه العلاقة وتوضيح للمنافذ العظيمة التي يمكن من شبابيكها الخروج بشيء مختلف. وخصوصا أن لعبدالله يوسف تاريخه الجميل مع تلك العلاقة ونظرته الثاقبة التي لا تخلو من الصراحة... نفرد هنا اللقاء
* هل تؤمن بوجود علاقة حقيقية بين الكتاب والشعراء والقاصين بالفن التشكيلي في الفترة الراهنة، أم أن المشهد الثقافي الفني في البحرين شهد علاقة أقوى في مراحل سابقة؟
- أكاد أجزم بأن دول الخليج - باستثناء العراق- لم تشهد أية علاقة حقيقية خصبة فاعلة في الفترة الراهنة أو السابقة بين الحركة الأدبية وحركة الفن التشكيلي، إلا اذا اعتقدنا بأن حاجة الشاعر والقاص والروائي الى رسوم تزيين أغلفة مؤلفاتهم بمثابة علاقة، وهي حتما ليست كذلك بمفهوم العلاقة المتأسسة أو المنبثقة من الخصوبة الابداعية المشتركة بين الطرفين بحيث تثمر مشروعا بمثابة حالة جديدة تتجلى حداثتها من تلاقح خلايا فنيين ابداعيين مكتنزين بالعناصر المشتركة الجديدة باغواء الكاتب الى تمثل التكوينات والخطوط وأسرار الألوان، وكذلك تستدرج التشكيلي الى تخوم الكلمات وسحر الحروف وظلال المعنى.
بذلك المعنى أفهم أن تتأسس علاقة حقيقية بين الكتاب والشعراء والقاصين بالفنانين التشكيليين. لكنه فهم يخذله الواقع الراهن. ولم تثبت الذاكرة أن مراحل سابقة حبلت به الى الدرجة التي جعلت منه مشهدا، إذ المشهدية في ايقاع من ايقاعاتها تعني استحواذ فلتة ابداعية مشتركة على حيز زمني وتوثيقي في التاريخ الفني والأدبي لحضارة أي بلد، بحيث لا تتيح مجالا للمؤرخ والباحث والمؤلف أن يتجاوزها أو يسقطها من فصول ما يكتب.
* وما هي المداخل التي يمكن للكتاب - بحسب تصورك - أن يعبروا من خلالها في عملية توظيف وتجيير الفن التشكيلي في نصوصهم؟
- ربما تكون المداخل وفيرة، وليس مجديا أن تكون كذلك ولكن ثمة مداخل لم تلجها التجربة، ومداخل أخرى لم تلجها تجارب متوالية تراكم على التجربة الأولى أو الثانية.. الخ.. بحيث يتسنى مع تكالب التجارب رسم أبعاد المشهدية المأمولة. وأعتقد أن التجارب الأربع التي حفظتها ذاكرة الأدب العربي وتاريخ الفن التشكيلي في دنيا العرب وصيغت وفق ريادية بالغة العفوية والفطرية والأهمية التاريخية هي: (مقامات الحريري) التي وضع رسومها يحيى بن محمد الواسطي، (كليلة ودمنة) ترجمة ابن المقفع عن بيدبا الفارسية، (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني والتي صاغ رسومها بدرالدين بن عبدالله، وكتاب (الحيوان) للجاحظ.
تلك تجارب بمثابة التأسيس المبدئي لمشهد ظل محدودا. ربما ساهم لاحقا في محاولة استكماله الفنان العراقي المتميز ضياء العزاوي، في تجربته (النشيد الجسدي) و(المعلقات السبع) وبعض تجارب متناثرة لفنانين آخرين لم تملك جدارة استكمال أبعاد المشهد كي يصير نموذجا أو دليلا في التجربة التشكيلية العربية، ذلك لا يلغي أو يلغي أو ينفي حدوث محاولات في اتجاه خلق علاقة بين الكتاب والشعراء والقاصين بالفن التشكيلي في البحرين في الفترة الراهنة. لكنها محاولات جرت وفق رغبة طارئة لم تتجذر، كونها لم تصدر وفق مشروع له مرئياته وأهدافه المنبثقة عن ذهنيات متقاربة لمستوى الوعي الثقافي والادراك الفني والاقتناع بجدلية العلاقة بين الابداعين.
* وماذا عن الثقافة البصرية، هل تجد ثمة ثقافة بصرية عميقة لدى الكتاب على اختلاف توجهاتهم؟
- هناك من الكتاب من يتمتع بثقافة بصرية عالية تتفوق على الكثير من التشكيليين لكنهم قلة على كل حال فيما هي متواضعة بل قد تكون متلاشية عند عدد كبير ممن يمارسون الكتابة، ودليلنا على ذلك تواضع الأبعاد الفنية المنبثقة من تقليدية فجة في الشكل والاخراج الفني لاصداراتهم من دون أن يثير ذلك امتعاضا بصريا لديهم... والمفارقة الغريبة هنا أن الثقافة البصرية البالغة الحساسية التي تتمتع بها القلة الأخرى من التشكيليين نادرا ما تجمع الطرفين في عمل مشترك يكون بمثابة تجربة تتلوها تجارب متصلة من دون انقطاع زمني شاسع، وهو أمر لو تحقق فسوف يؤدي بالضرورة الى تشكيل العلاقة الحقيقية - التي أثيرت في السؤال الأول - بين الكتاب والشعراء والقاصين بالفنانين التشكيليين. وان الابداعات الرصينة الواعية في النتاجات الأدبية الجديدة أو القديمة في القصة والرواية والشعر بشكل خاص تحفل بعدد هائل من الصور التعبيرية التخيلية، فعندما يقول أدونيس على سبيل المثال في احدى قصائده (... انه آخر ما تغنى به طائر في غابة مشتعلة...) نجد صورة تشكيلية بالغة التعبير والتكثيف ومكتنزة بجمالية بصرية هائلة، تفسح للتشكيلي المتبصر أفقا رحبا لانتاج عدد من الأعمال المتسلسلة في موضوع فائق الحيوية والمعاصرة.
قس على ذلك المثال، الكثير اللامتناه من النماذج والشواهد على ضرورة تعاضد المبدعين من أجل تاسيس مشهد جديد مغاير مناكف متجاوز لروتينية ما ساد في الفن والأدب ردحا من الزمن، باتت فيه التجارب الابداعية على مشارف الترهل والعطب واعادة تدوير المنجز كما هو من دون تفتيت عناصره التي غالبا ما تكون حبلى بما يمكن أن يكون جديدا.
يوسف: لابد من التأسيس لمشهد متجاوز للروتينية