يقول الشاعر الفلسطيني ابن غزة هاشم معين بسيسو في دفاتره الشيوعيَّة التي كتبها عن رفاقه في السجون المصرية : في صيف عام 1961عرضنا مشروعنا الزراعي على المأمور في سجن الواحات الخارجة المشهور المرمي في قلب الصحراء المصرية فضحك هو وضباطه:
-مزرعة هنا في الصحراء, كيف؟
لم يكن يتصوَّر أن:
مُعين بسيسو, فخري لبيب, لويس اسحق, حلمي ياسين, ,محمود أمين العالم, الدكتور فوزي منصور, الدكتور فؤاد مرسي, ميشيل كامل, زكي مراد, أديب ديمتري, أحمد صادق سعد, ريمون دويك, الفرد فرج, داوود عزيز, طاهر عبد الحكيم, عدلي جرجس, الدكتور عبدالعظيم أنيس, الدكتور كمال الدين حسين, شوقي عبدالحكيم, شعبان حافظ, عبدالمجيد كحيل, عبدالقادر ياسين, عبدالرحمن عوض الله, الدكتور إسماعيل صبري عبدالله.
نعم يا سادتي هذه الأسماء الكبيرة من رجال العلم و المعرفة من مفكرين وعلماء وكتاب ومسرحيين و موسيقيين و غيرهم من رفاق وأصدقاء في سجن الواحات الخارجة من يظن بأن هؤلاء من الممكن أن تحمل أكتافهم الزنابيل المليئة بالسماد البشري الطازج وتمضي بها مسافة كيلومتراً, ليتمَّ تفريغها فوق الرمال المُلتهبة. نعم, يا سيادة المأمور ها قد فُـتحت جور التفتيش التي تحوى مخلفات دورات مياه السجن, نزل إليها الرفاق, امتدت الأيدي لتحمل تلك الزنابيل المليئة بالسماد البشري حيث تذهبُ بها إلى قطعة الأرض المُحددة لإقامة المزرعة الشيوعيَّة.
كانت الرائحة كريهة, ولكن هذه هي رائحة حسن المصيلحي المستشار الأول لمكافحة الاشتراكية والشيوعيَّة والديمقراطية والذي رمى بالرفاق في سجن الواحات الخارجة ذلك المكان القصي البعيد عن الحياة الطبيعية للبشر. نُزحت "جور السماد" في ثلاثة أيام وسط دهشة مأمور السجن وضباطه وسجانيه. خُلط السماد بالتراب الرملي, أعطاهم مأمور السجن ثوراً للفلاحة. بعد أيام من العمل الممض سقط الثور على ركبتيه, صدر القرار بذبحه, أكل المعتقلون لأول مرة, لحماً له رائحة العشب الخارج لتوه من البحر.
جاءت البذور من القاهرة في جيوب السجانين مرة ومع البريد مرة أخرى. والماء جُرَّ من نبع قريب في أنابيب إلى المزرعة. خرج خبراء الزراعة من بين المسجونين مارسوا دكتاتوريتهم كي يخضرّ الرفاق. يقول معين بسيسو: عشرات الرفاق المصريين تطوعوا كي تكون لرفاق فلسطين مزرعتهم الخاصة, يزرعونها كما يشاؤون. قدموا لنا البذور والماء بلا شروط. أطلقنا على المزرعة اسم "غزة" وكان يُشرف عليها الرفيق عبدالمجيد كحيل.
ثمَّ بعد حين ظهرت صغار البطيخ وعلت شتلات البامية والملوخية وعبَّاد الشمس والذرة الصفراء والباذنجان والبندورة والفليفلة وامتدت على الأرض "سلوخ" الخيار والعجور والقرع واللوبياء. نجحت مزرعة المعتقلين الفلسطينيين والمصريين. وفي كل مساء كان دخان الطبيخ يتصاعد في الفضاء وتفوح رائحة الخضرة من الزنزانات. الرفيق عبدالمجيد كحيل يجلس مثل امبراطور متوج بالعشب أمام الموقد الفلسطيني وهو عبارة عن علبة مربى البندورة مثقوبة, في جوفها خرقة مبلَّلة بالبترول يصعد منها اللهب الأزرق بين حجرين فوقهما الطنجرة يطبخُ ما تيسَّر للرفاق. انتصروا على حسن المصيلحي وعلى الجوع وعلى رمل الصحراء ولكنهم فقدوا رفيقاً قديماً.
ذات صباح كفَّ قلب الرفيق شعبان حافظ عن الخفقان وهو آخر الأعضاء الأحياء في الحزب الشيوعي المصري الأول الذي تأسس في حياة لينين عام 1921. يقول معين بسيسو:
كنتُ مع فخري لبيب وبعض الرفاق إلى جانب فراشه لحظة احتضاره تجاوز الرجل الستين عاماً من عمره وكان حسن المصيلحي يعرف ذلك, فأرسله إلى سجن الواحات الصحراوي ليموت هُناك كي يكون موته أرهاباً لنا. ولكنه مات كما يجب أن يموت هذا الجذر من السنديانة الحمراء. كانت أول جنازة شيوعيَّة في سجن الواحات في 14 مارس 1962. وانطلق النعش ملفوفاً في بطانية حمراء محمولاً على أكتاف أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري.
كنتُ مع فخري لبيب في مقدمة النعش ووراءه مشى كل الرفاق في المعتقل. تصعد الأصوات المُنشدة مبلَّلة بالدمع وحينما تصل إلى مقطع" على قبرك في مهب الريح, حمراء تخفق راياتنا" تصعد دمعة حمراء من القلب. يوضع النعش في سيارة السجن إلى محطة أسيوط ومنها إلى الاسكندرية ليدفن هُناك... وأحد الرفاق يُصرِّح: مات شعبان حافظ, عاشت الشيوعيَّة.
عبدالرزاق دحنون - شيوعيون يزرعون عبَّاد الشمس
-مزرعة هنا في الصحراء, كيف؟
لم يكن يتصوَّر أن:
مُعين بسيسو, فخري لبيب, لويس اسحق, حلمي ياسين, ,محمود أمين العالم, الدكتور فوزي منصور, الدكتور فؤاد مرسي, ميشيل كامل, زكي مراد, أديب ديمتري, أحمد صادق سعد, ريمون دويك, الفرد فرج, داوود عزيز, طاهر عبد الحكيم, عدلي جرجس, الدكتور عبدالعظيم أنيس, الدكتور كمال الدين حسين, شوقي عبدالحكيم, شعبان حافظ, عبدالمجيد كحيل, عبدالقادر ياسين, عبدالرحمن عوض الله, الدكتور إسماعيل صبري عبدالله.
نعم يا سادتي هذه الأسماء الكبيرة من رجال العلم و المعرفة من مفكرين وعلماء وكتاب ومسرحيين و موسيقيين و غيرهم من رفاق وأصدقاء في سجن الواحات الخارجة من يظن بأن هؤلاء من الممكن أن تحمل أكتافهم الزنابيل المليئة بالسماد البشري الطازج وتمضي بها مسافة كيلومتراً, ليتمَّ تفريغها فوق الرمال المُلتهبة. نعم, يا سيادة المأمور ها قد فُـتحت جور التفتيش التي تحوى مخلفات دورات مياه السجن, نزل إليها الرفاق, امتدت الأيدي لتحمل تلك الزنابيل المليئة بالسماد البشري حيث تذهبُ بها إلى قطعة الأرض المُحددة لإقامة المزرعة الشيوعيَّة.
كانت الرائحة كريهة, ولكن هذه هي رائحة حسن المصيلحي المستشار الأول لمكافحة الاشتراكية والشيوعيَّة والديمقراطية والذي رمى بالرفاق في سجن الواحات الخارجة ذلك المكان القصي البعيد عن الحياة الطبيعية للبشر. نُزحت "جور السماد" في ثلاثة أيام وسط دهشة مأمور السجن وضباطه وسجانيه. خُلط السماد بالتراب الرملي, أعطاهم مأمور السجن ثوراً للفلاحة. بعد أيام من العمل الممض سقط الثور على ركبتيه, صدر القرار بذبحه, أكل المعتقلون لأول مرة, لحماً له رائحة العشب الخارج لتوه من البحر.
جاءت البذور من القاهرة في جيوب السجانين مرة ومع البريد مرة أخرى. والماء جُرَّ من نبع قريب في أنابيب إلى المزرعة. خرج خبراء الزراعة من بين المسجونين مارسوا دكتاتوريتهم كي يخضرّ الرفاق. يقول معين بسيسو: عشرات الرفاق المصريين تطوعوا كي تكون لرفاق فلسطين مزرعتهم الخاصة, يزرعونها كما يشاؤون. قدموا لنا البذور والماء بلا شروط. أطلقنا على المزرعة اسم "غزة" وكان يُشرف عليها الرفيق عبدالمجيد كحيل.
ثمَّ بعد حين ظهرت صغار البطيخ وعلت شتلات البامية والملوخية وعبَّاد الشمس والذرة الصفراء والباذنجان والبندورة والفليفلة وامتدت على الأرض "سلوخ" الخيار والعجور والقرع واللوبياء. نجحت مزرعة المعتقلين الفلسطينيين والمصريين. وفي كل مساء كان دخان الطبيخ يتصاعد في الفضاء وتفوح رائحة الخضرة من الزنزانات. الرفيق عبدالمجيد كحيل يجلس مثل امبراطور متوج بالعشب أمام الموقد الفلسطيني وهو عبارة عن علبة مربى البندورة مثقوبة, في جوفها خرقة مبلَّلة بالبترول يصعد منها اللهب الأزرق بين حجرين فوقهما الطنجرة يطبخُ ما تيسَّر للرفاق. انتصروا على حسن المصيلحي وعلى الجوع وعلى رمل الصحراء ولكنهم فقدوا رفيقاً قديماً.
ذات صباح كفَّ قلب الرفيق شعبان حافظ عن الخفقان وهو آخر الأعضاء الأحياء في الحزب الشيوعي المصري الأول الذي تأسس في حياة لينين عام 1921. يقول معين بسيسو:
كنتُ مع فخري لبيب وبعض الرفاق إلى جانب فراشه لحظة احتضاره تجاوز الرجل الستين عاماً من عمره وكان حسن المصيلحي يعرف ذلك, فأرسله إلى سجن الواحات الصحراوي ليموت هُناك كي يكون موته أرهاباً لنا. ولكنه مات كما يجب أن يموت هذا الجذر من السنديانة الحمراء. كانت أول جنازة شيوعيَّة في سجن الواحات في 14 مارس 1962. وانطلق النعش ملفوفاً في بطانية حمراء محمولاً على أكتاف أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي المصري.
كنتُ مع فخري لبيب في مقدمة النعش ووراءه مشى كل الرفاق في المعتقل. تصعد الأصوات المُنشدة مبلَّلة بالدمع وحينما تصل إلى مقطع" على قبرك في مهب الريح, حمراء تخفق راياتنا" تصعد دمعة حمراء من القلب. يوضع النعش في سيارة السجن إلى محطة أسيوط ومنها إلى الاسكندرية ليدفن هُناك... وأحد الرفاق يُصرِّح: مات شعبان حافظ, عاشت الشيوعيَّة.
عبدالرزاق دحنون - شيوعيون يزرعون عبَّاد الشمس