في مارس من عام 1941 اختفت فيرجينيا من منزلها في مقاطعة سسكس في جنوب انكلترة بعد ان تركت رسالة قالت فيها انها تفكر في الانتحار. ثم عثر على جثمانها في نهر قريب. وظن انها انتحرت لانها لم تستطع احتمال الحياة في انكلترة اثناء الحرب، ولكن زوجها وجد من الضروري ان يعلن انها كانت تعاني من انهيار عصبي طيلة السنوات الخمس والعشرين الفائتة. وكانت في التاسعة والخمسين من العمر عند وفاتها.
ولدت فيرجينيا وولف (Virginia Woolf (1882-1941 في لندن لاسرة مثقفة. كان ابوها لسلي ستيفن من المثقفين المرموقين. وكان كاتبا ومحررا وفيلسوفا ومؤرخا. وكان قد بلغ الخمسين عندما ولدت فيرجينيا. واهم اعماله (معجم التراجم القومي) الذي يتألف من خمسة وستين مجلدا قام على تحريره سنوات طويلة وكان من اهم المساهمين في تأليفه. واقام لسلي مع اسرته الكبيرة في بيت مزدحم بحي كنزيغتون بالقرب من حديقة هايد بارك في لندن. وكان كثير القلق بشأن الاحوال المالية للاسرة.
اما امها جوليا ستيفين فكانت سيدة بيت من الطراز الاول. اخذت على عاتقها ادارة شؤون بيتها وزوجها واولادها وواصلت في الوقت نفسه القيام باعمالها الخيرية. عملت ممرضة واهتمت بالشؤون الاجتماعية للفقراء والمرضى. وقد يكون ارهاق العمل من الاسباب التي ادت الى وفاتها المفاجئة عندما كانت فيرجينيا في الثالثة عشرة من عمرها.
وحلت مصائب اخرى في اسرة فيرجينيا. فتوفيت اختها ستيلا بعد زواجها بقليلة عام 1897، وتوفي ابوها بعد مرض طويل عام 1904، وتوفي اخوها الكبير توبي بالحمى التي اصيب بها اثناء سفره الى اليونان عام 1906. وهذا كله اسهم في اصابة فيرجينيا بالاكتئاب الذي اقترب من الجنون. فعانت من اختلال عقلي وحاولت الانتحار في عدة مناسبات. وظلت عرضة لهذه المتاعب الصحية طيلة حياتها.
وانتقلت فيرجينيا مع اخواتها من بيت الاسرة في كنزينغتون بعد وفاة الاب. واقمن في بيت بمنطقة بلومزبري واحطن انفسهن بمجموعة من الاصدقاء معظمهم من الشباب المتخرجين من جامعة كيمبردج الذين كانوا يعتقدون انهم يمثلون الثقافة التقدمية. وتبنت هذه المجموعة اخلاقا اجتماعية متحررة واصبحت تعرف بمجموعة بلومزبري. وكان من بين هؤلاء الاصدقاء لايتون ستراكي كاتب التراجم المعروف وروجر فراي الناقد الفني الذي صعق انكلترة بمعرضين لفن ما بعد الانطباعية عامي 1910 و1912. وجون مينارد كينس الاقتصادي الشهير وجيمس ستراكي الذي ترجم اعمال سيغموند فرويد الى الانكليزية. واقترن ادوارد مورغان فورستر وتي اس إليوت بهذه المجموعة واصبحا صديقين لفيرجينيا وولف.
تزوجت فيرجينيا عام 1913 من ليونارد وولف احد اصدقاء اخيها في جامعة كيمبردج واصبح فيما بعد كاتبا ومحررا. وكان مهتما اهتماما خاصا في السياسة فكان يسهم في تحرير مجلة (السياسي الجديد) الشهرية وكان نشطا في حزب العمال. واسس الزوجان دار هوغارث للنشر التي توسعت ونجحت فيما بعد. ولم ينجب الزوجان اطفالا عملا بنصيحة الاطباء وذلك لاعتلال صحة فيرجينيا التي ظلت تشعر بحاجتها الى اطفال طيلة حياتها.
كانت مجموعة بلومزبري من الكتاب والمفكرين والمبدعين العالم المباشر الذي تأثرت به فيرجينيا في تأليف اعمالها ولكنها في الوقت نفسه قرأت اعمال مارسيل بروست وتأثرت بها اشد ما يكون التأثر، وتأثرت كذلك برواية (يوليسير) 1919 لجيمس جويس وبتقنية تيار الوعي في رواية (رحلة الحاج) للكاتبة الروائية دوروثي ريتشاردسون. واقامت علاقة وثيقة مع الكاتبة النيوزيلندية كاثرين مانسفيلد.
اصابت اول روايتين لفيرجينيا (الرحلة البحرية) 1915 و(الليل والنهار) 1919 نجاحا متواضعا، وكانتا روايتين تقليديتين. ولكن الكاتبة بدأت التجريب في الاسلوب في رواية (غرفة جيكوب) 1922 ورواية (مسز دولاوي) 1925. وكان الفضل لهاتين الروايتين في اكسابها شهرة واسعة بصفتها رائدة في الحداثة الادبية. وبدأت في تأليف (الى المنارة) عام 1925 ونشرتها عام 1927. ونجحت الرواية وشقت طريقها الى اعداد كبيرة من القراء، واصبحت فيرجينيا منذ ذلك الوقت فصاعدا كاتبة مشهورة. ويبدو ان تلك الفترة كانت اسعد فترة في حياتها. وعاشت حياة اجتماعية نشطة. وكتبت عام 1928 رواية خفيفة فازت بشعبية كبيرة بعنوان (اورلاندو). وفي عام 1931 نشرت اغرب واصعب رواية لها بعنوان (الموجات). وبعد سنوات من العمل الجاد عادت الى شكل تقليدي في رواية (السنوات) 1937. اما آخر رواياتها فهي بعنوان (بين الفصول) التي نشرت بعد وفاتها عام 1941.
وفي ذلك العام انتحرت فيرجينيا وولف بان اغرقت نفسها في نهر قريب من منزلها في مقاطعة سسكس.
ولم تقتصر كتابات فيرجينيا على الرواية فقط. بل كتبت عدة كتب تناولت فيها قضايا الادب. وكتبت سيرة صديقها روجر فراي. والفت كتابين عن دور المرأة في المجتمع. في الكتاب الاول وهو بعنوان ( غرفة خاصة) 1929 تدافع عن حق المرأة في الاستقلال الاقتصادي وتسلط الضوء على العقبات التي تحول دون ان تصبح المرأة كاتبة واديبة. وتقول ان المرأة عموما حرمت من التعليم ويطالبها المجتمع بان تضحي بنفسها من اجل الاخرين. اما الكتاب الثاني عن دور المرأة في المجتمع فهو بعنوان (الخنازير الثلاثة) 1938 وفيه تقول ان على المرأة العاملة ان تظل لامنتمية وان ترفض الخضوع لثقافة يسيطر عليها الرجل وهي ثقافة اعتقدت فيرجينيا بانها تتميز بكثير من العجرفة والعدوانية والعنف.
ويبدو ان فيرجينيا قررت ان تغدو كاتبة منذ وقت مبكر في حياتها. ولم تخف استياءها من القيود الاجتماعية التي فرضت عليها كامرأة. ففي الوقت الذي التحق فيه اخوتها الشبان بمدارس وجامعات خاصة باهظة التكاليف كان عليها ان تظل في البيت. ولكن الواقع ان اباها شجعها على الكتابة واعارها ما تحتاج اليه من كتب من مكتبته الخاصة. وادرك ان ابنته تتمتع بمواهب ادبية وفنية عالية فكان يناقش معها ما تقرأه وما تكتبه. واعجبت هي بالتالي بشجاعة ابيها كمفكر وكاتب. ولكنه كان ابا طاغية يتحرك في ارجاء البيت كالعاصفة لا يكف عن اطلاق الاوامر لزوجته وبناته.
اتسعت شهرة فيرجينيا في السنوات العشر الاخيرة من حياتها فظهرت كتب ومقالات تبحث في رواياتها وادبها. وترجمت مؤلفاتها الى لغات اجنبية. ولكن في بداية الاربعينيات بدا للنقاد ان الصلة انقطعت بين كتبها والعالم المعاصر بهمومه ومشكلاته. وقالوا ان فيرجينيا لا تهتم في مؤلفاتها بظهور الفاشية ولا بالحرب الاهلية الاسبانية ولا بالكساد الاقتصادي ولا بتفاقم البطالة ولا بخطر حرب عالمية ثانية . . . وهذا في الواقع ادى الى تدني مكانتها الادبية.
ولكن بامكاننا ان نعزو تراجع مكانة فيرجينيا الادبية الى سبب آخر فالحضارة الغربية عموما شهدت تراجعا وانحسارا في بداية القرن العشرين. فالاجيال السابقة كانت على صلة وثيقة بالتراث الادبي التقليدي، ولكن في بداية القرن العشرين انعدمت الروابط او كادت بين عامة الناس وذلك التراث. وعلى هذا يقول ادوارد مورغان فورستر ان على الكاتب الروائي الحديث ان يختار بين ان يرضي اذواق العامة وان يرضي اذواق الخاصة. واختارت فيرجينيا ان ترضي اذواق الخاصة. وهنا تكمن صعوبة كتاباتها.
ولم يكن لهذه الفجوة بين الادب العام والادب الخاص وجود في القرن التاسع عشر كما تدل على ذلك كتب تشارلز ديكنز التي ظهرت اول ما ظهرت في دوريات اسبوعية وشهرية رخيصة فأرضت جميع الاذواق. ولم يكن لهذه الفجوة كذلك وجود في القرنين الثامن عشر والسابع عشر عندما كان جميع القراء على اختلاف مستوياتهم يقبلون على قراءة ستيرن وبنيان.
اضف الى ذلك كله ان روايات فيرجينيا تفتقر الى كل شيء تقريبا يسعى وراءه عامة القراء: شخصيات مرسومة رسما محددا وحبكة مثيرة وحدث متطور وتحليل واضح. . . ورواياتها لا تفتقر الى هذا فحسب، ولكنها مكتوبة بلغة غير مألوف. وقال بعض النقاد ان مواهب فيرجينيا لم تكن روائية على الاطلاق وان جمال كتابتها كان يمكن الاستفادة منه في اجناس ادبية اخرى.
ولكن ما ان انتهت الحرب العالمية الثانية حتى بدأ النقاد والدارسون ينظرون الى مؤلفاتها نظرة جديدة. فادركوا الان ان تغيرا كبيرا قد حدث في الموقف العام من الفكر عموما مما احدث تحولا في الثقافة الغربية في كل ميدان من الموسيقى الى التصوير ومن العلوم الى الادب. وصنف النقاد فيرجينيا في فئة الروائيين العظام في الادب الحديث. ومما اسهم في اعادة تقييم اعمالها هذا السيل من الكتب والمقالات عن حياتها وحياة اصدقائها في مجموعة بلومزبري. ومنذ منتصف السبعينيات بدأت تنشر ابحاثها ومذكراتها ورسائلها ومقتطفات من سيرتها الذاتية. وظهرت سيرة لها بقلم ابن اختها كوينتن بل عام 1972.
ومن العوامل التي ادت الى تجدد الاهتمام بمؤلفات فيرجينيا الحركة النسائية. فمع انتعاش الحركة النسائية انتعش الاهتمام بكاتبتنا ليس فقط لانها امرأة كاتبة ولكن ايضا لان قضايا المرأة وخبراتها تشغل مكان الصدارة في اعمالها. فاكتشف النقاد والباحثون ان فيرجينيا تهتم في الواقع بالمشكلات الاجتماعية والسياسية. ومن اهم هذه المشكلات مشكلة "السلطة" و"التسلط". ونجد اليوم ان من القضايا التي تناقشها رواياتها سلطة الرجل على المرأة وسلطة الاباء على الابناء في العصر الفيكتوري. ونجد ان اعمالها تثير تساؤلات عن قمع المرأة واضطهادها وعجزها واحباطاتها. وتثير تساؤلات عن ازمات الرجل الذي تدفعه الى ظلم المرأة.
وعندما قرأ ليونارد وولف مخطوطة (الى المنارة) قال انها افضل رواية كتبتها زوجته. وقال انها قصيدة رائعة تلقي الضوء على خبايا النفس البشرية. واعترفت فيرجينيا نفسها بان (الى المنارة) تكاد تكون خالية من اي حدث درامي. تصف الرواية في القسم الاول منها عطلة يقضيها افراد اسرة رامسي في جزيرة سكاي باسكوتلندة. الوقت في شهر سبتمبر قبيل الحرب العالمية الاولى. تعد الام ابنها جيمس برحلة بالقارب الى المنارة القريبة من الشاطئ في اليوم التالي اذا سمح الطقس بذلك.
وتنقضي عشر سنوات لا تزور فيها الاسرة البيت في الجزيرة. ويغدو البيت مهجورا. . . هنا في القسم الثاني تركز المؤلفة على مرور الوقت وعلى الطبيعة التي لا تكترث لغياب الانسان او لمصيره. تموت مسز رامسي فجأة ذات ليلة ويقتل اندرو في الحرب. وتتلقى مديرة البيت رسالة تقول ان الاسرة ستزور البيت. وفعلا تعود الاسرة الى البيت بعد مرور عشر سنوات. ويقرر مستر رامسي ان يقوم برحلة الى المنارة. ويقرر ابنه جيمس وابنته كام ان يرافقاه.
ان هذا النطاق الضيق للرواية هو نتيجة اختيار متعمد للمؤلفة وليس بطبيعة الحال انعكاسا لضيق اهتماماتها. لقد ارادت فيرجينيا ان تضيق نطاق الرواية لتركز على ما اهمله الرجال من الروائيين ولتركز على الجوانب الحياتية التي ظن خطأ انها اقل او اتفه من ان تكون الموضوع الرئيسي في اية رواية.
تبحث رواية (الى المنارة) في ما يدور في الذهن من افكار وهواجس في اثناء الخبرات اليومية العادية. وتصور الشخصيات في اطار علاقتها داخل الاسرة: بين الزوج والزوجة، وبين الابوين والابناء، وبين افراد الاسرة والاصدقاء. وبالرغم من ان هذه الافكار والهواجس لا تتمثل غالبا في احداث درامية الا انها تشكل جانبا اساسيا في الشخصية الانسانية. فهي تسمح لنا بان ننجز بعضا من اهم المهام التي تواجهنا في الحياة كرصد تطور هويتنا الذاتية وحسم صراعاتنا النفسية داخل الاسرة والتعايش مع فقدان من نحب. . . وهذه مهام تشترك فيها ادق المشاعر والاحاسيس التي لا ترتقي في الغالب الى عتبة الوعي بحيث نستطيع ان نعبر عنها بكلمات. لقد ارادت فيرجينيا ان تستكشف سبلا جديدة لوصف هذه المشاعر والاحاسيس ورفعها الى مستوى التعبير اللفظي.
ان شخصيات الرواية واقعة تحت رحمة قوى تفرض نفسها من الخارج اهمها قوى الطبيعة التي تقتل وتدمر. والحرب في الرواية تعتبر واحدة من هذه القوى التي لا تكترث لأحد ولا لشيء.
[email protected]
لندن - بريطانيا
ولدت فيرجينيا وولف (Virginia Woolf (1882-1941 في لندن لاسرة مثقفة. كان ابوها لسلي ستيفن من المثقفين المرموقين. وكان كاتبا ومحررا وفيلسوفا ومؤرخا. وكان قد بلغ الخمسين عندما ولدت فيرجينيا. واهم اعماله (معجم التراجم القومي) الذي يتألف من خمسة وستين مجلدا قام على تحريره سنوات طويلة وكان من اهم المساهمين في تأليفه. واقام لسلي مع اسرته الكبيرة في بيت مزدحم بحي كنزيغتون بالقرب من حديقة هايد بارك في لندن. وكان كثير القلق بشأن الاحوال المالية للاسرة.
اما امها جوليا ستيفين فكانت سيدة بيت من الطراز الاول. اخذت على عاتقها ادارة شؤون بيتها وزوجها واولادها وواصلت في الوقت نفسه القيام باعمالها الخيرية. عملت ممرضة واهتمت بالشؤون الاجتماعية للفقراء والمرضى. وقد يكون ارهاق العمل من الاسباب التي ادت الى وفاتها المفاجئة عندما كانت فيرجينيا في الثالثة عشرة من عمرها.
وحلت مصائب اخرى في اسرة فيرجينيا. فتوفيت اختها ستيلا بعد زواجها بقليلة عام 1897، وتوفي ابوها بعد مرض طويل عام 1904، وتوفي اخوها الكبير توبي بالحمى التي اصيب بها اثناء سفره الى اليونان عام 1906. وهذا كله اسهم في اصابة فيرجينيا بالاكتئاب الذي اقترب من الجنون. فعانت من اختلال عقلي وحاولت الانتحار في عدة مناسبات. وظلت عرضة لهذه المتاعب الصحية طيلة حياتها.
وانتقلت فيرجينيا مع اخواتها من بيت الاسرة في كنزينغتون بعد وفاة الاب. واقمن في بيت بمنطقة بلومزبري واحطن انفسهن بمجموعة من الاصدقاء معظمهم من الشباب المتخرجين من جامعة كيمبردج الذين كانوا يعتقدون انهم يمثلون الثقافة التقدمية. وتبنت هذه المجموعة اخلاقا اجتماعية متحررة واصبحت تعرف بمجموعة بلومزبري. وكان من بين هؤلاء الاصدقاء لايتون ستراكي كاتب التراجم المعروف وروجر فراي الناقد الفني الذي صعق انكلترة بمعرضين لفن ما بعد الانطباعية عامي 1910 و1912. وجون مينارد كينس الاقتصادي الشهير وجيمس ستراكي الذي ترجم اعمال سيغموند فرويد الى الانكليزية. واقترن ادوارد مورغان فورستر وتي اس إليوت بهذه المجموعة واصبحا صديقين لفيرجينيا وولف.
تزوجت فيرجينيا عام 1913 من ليونارد وولف احد اصدقاء اخيها في جامعة كيمبردج واصبح فيما بعد كاتبا ومحررا. وكان مهتما اهتماما خاصا في السياسة فكان يسهم في تحرير مجلة (السياسي الجديد) الشهرية وكان نشطا في حزب العمال. واسس الزوجان دار هوغارث للنشر التي توسعت ونجحت فيما بعد. ولم ينجب الزوجان اطفالا عملا بنصيحة الاطباء وذلك لاعتلال صحة فيرجينيا التي ظلت تشعر بحاجتها الى اطفال طيلة حياتها.
كانت مجموعة بلومزبري من الكتاب والمفكرين والمبدعين العالم المباشر الذي تأثرت به فيرجينيا في تأليف اعمالها ولكنها في الوقت نفسه قرأت اعمال مارسيل بروست وتأثرت بها اشد ما يكون التأثر، وتأثرت كذلك برواية (يوليسير) 1919 لجيمس جويس وبتقنية تيار الوعي في رواية (رحلة الحاج) للكاتبة الروائية دوروثي ريتشاردسون. واقامت علاقة وثيقة مع الكاتبة النيوزيلندية كاثرين مانسفيلد.
اصابت اول روايتين لفيرجينيا (الرحلة البحرية) 1915 و(الليل والنهار) 1919 نجاحا متواضعا، وكانتا روايتين تقليديتين. ولكن الكاتبة بدأت التجريب في الاسلوب في رواية (غرفة جيكوب) 1922 ورواية (مسز دولاوي) 1925. وكان الفضل لهاتين الروايتين في اكسابها شهرة واسعة بصفتها رائدة في الحداثة الادبية. وبدأت في تأليف (الى المنارة) عام 1925 ونشرتها عام 1927. ونجحت الرواية وشقت طريقها الى اعداد كبيرة من القراء، واصبحت فيرجينيا منذ ذلك الوقت فصاعدا كاتبة مشهورة. ويبدو ان تلك الفترة كانت اسعد فترة في حياتها. وعاشت حياة اجتماعية نشطة. وكتبت عام 1928 رواية خفيفة فازت بشعبية كبيرة بعنوان (اورلاندو). وفي عام 1931 نشرت اغرب واصعب رواية لها بعنوان (الموجات). وبعد سنوات من العمل الجاد عادت الى شكل تقليدي في رواية (السنوات) 1937. اما آخر رواياتها فهي بعنوان (بين الفصول) التي نشرت بعد وفاتها عام 1941.
وفي ذلك العام انتحرت فيرجينيا وولف بان اغرقت نفسها في نهر قريب من منزلها في مقاطعة سسكس.
ولم تقتصر كتابات فيرجينيا على الرواية فقط. بل كتبت عدة كتب تناولت فيها قضايا الادب. وكتبت سيرة صديقها روجر فراي. والفت كتابين عن دور المرأة في المجتمع. في الكتاب الاول وهو بعنوان ( غرفة خاصة) 1929 تدافع عن حق المرأة في الاستقلال الاقتصادي وتسلط الضوء على العقبات التي تحول دون ان تصبح المرأة كاتبة واديبة. وتقول ان المرأة عموما حرمت من التعليم ويطالبها المجتمع بان تضحي بنفسها من اجل الاخرين. اما الكتاب الثاني عن دور المرأة في المجتمع فهو بعنوان (الخنازير الثلاثة) 1938 وفيه تقول ان على المرأة العاملة ان تظل لامنتمية وان ترفض الخضوع لثقافة يسيطر عليها الرجل وهي ثقافة اعتقدت فيرجينيا بانها تتميز بكثير من العجرفة والعدوانية والعنف.
ويبدو ان فيرجينيا قررت ان تغدو كاتبة منذ وقت مبكر في حياتها. ولم تخف استياءها من القيود الاجتماعية التي فرضت عليها كامرأة. ففي الوقت الذي التحق فيه اخوتها الشبان بمدارس وجامعات خاصة باهظة التكاليف كان عليها ان تظل في البيت. ولكن الواقع ان اباها شجعها على الكتابة واعارها ما تحتاج اليه من كتب من مكتبته الخاصة. وادرك ان ابنته تتمتع بمواهب ادبية وفنية عالية فكان يناقش معها ما تقرأه وما تكتبه. واعجبت هي بالتالي بشجاعة ابيها كمفكر وكاتب. ولكنه كان ابا طاغية يتحرك في ارجاء البيت كالعاصفة لا يكف عن اطلاق الاوامر لزوجته وبناته.
اتسعت شهرة فيرجينيا في السنوات العشر الاخيرة من حياتها فظهرت كتب ومقالات تبحث في رواياتها وادبها. وترجمت مؤلفاتها الى لغات اجنبية. ولكن في بداية الاربعينيات بدا للنقاد ان الصلة انقطعت بين كتبها والعالم المعاصر بهمومه ومشكلاته. وقالوا ان فيرجينيا لا تهتم في مؤلفاتها بظهور الفاشية ولا بالحرب الاهلية الاسبانية ولا بالكساد الاقتصادي ولا بتفاقم البطالة ولا بخطر حرب عالمية ثانية . . . وهذا في الواقع ادى الى تدني مكانتها الادبية.
ولكن بامكاننا ان نعزو تراجع مكانة فيرجينيا الادبية الى سبب آخر فالحضارة الغربية عموما شهدت تراجعا وانحسارا في بداية القرن العشرين. فالاجيال السابقة كانت على صلة وثيقة بالتراث الادبي التقليدي، ولكن في بداية القرن العشرين انعدمت الروابط او كادت بين عامة الناس وذلك التراث. وعلى هذا يقول ادوارد مورغان فورستر ان على الكاتب الروائي الحديث ان يختار بين ان يرضي اذواق العامة وان يرضي اذواق الخاصة. واختارت فيرجينيا ان ترضي اذواق الخاصة. وهنا تكمن صعوبة كتاباتها.
ولم يكن لهذه الفجوة بين الادب العام والادب الخاص وجود في القرن التاسع عشر كما تدل على ذلك كتب تشارلز ديكنز التي ظهرت اول ما ظهرت في دوريات اسبوعية وشهرية رخيصة فأرضت جميع الاذواق. ولم يكن لهذه الفجوة كذلك وجود في القرنين الثامن عشر والسابع عشر عندما كان جميع القراء على اختلاف مستوياتهم يقبلون على قراءة ستيرن وبنيان.
اضف الى ذلك كله ان روايات فيرجينيا تفتقر الى كل شيء تقريبا يسعى وراءه عامة القراء: شخصيات مرسومة رسما محددا وحبكة مثيرة وحدث متطور وتحليل واضح. . . ورواياتها لا تفتقر الى هذا فحسب، ولكنها مكتوبة بلغة غير مألوف. وقال بعض النقاد ان مواهب فيرجينيا لم تكن روائية على الاطلاق وان جمال كتابتها كان يمكن الاستفادة منه في اجناس ادبية اخرى.
ولكن ما ان انتهت الحرب العالمية الثانية حتى بدأ النقاد والدارسون ينظرون الى مؤلفاتها نظرة جديدة. فادركوا الان ان تغيرا كبيرا قد حدث في الموقف العام من الفكر عموما مما احدث تحولا في الثقافة الغربية في كل ميدان من الموسيقى الى التصوير ومن العلوم الى الادب. وصنف النقاد فيرجينيا في فئة الروائيين العظام في الادب الحديث. ومما اسهم في اعادة تقييم اعمالها هذا السيل من الكتب والمقالات عن حياتها وحياة اصدقائها في مجموعة بلومزبري. ومنذ منتصف السبعينيات بدأت تنشر ابحاثها ومذكراتها ورسائلها ومقتطفات من سيرتها الذاتية. وظهرت سيرة لها بقلم ابن اختها كوينتن بل عام 1972.
ومن العوامل التي ادت الى تجدد الاهتمام بمؤلفات فيرجينيا الحركة النسائية. فمع انتعاش الحركة النسائية انتعش الاهتمام بكاتبتنا ليس فقط لانها امرأة كاتبة ولكن ايضا لان قضايا المرأة وخبراتها تشغل مكان الصدارة في اعمالها. فاكتشف النقاد والباحثون ان فيرجينيا تهتم في الواقع بالمشكلات الاجتماعية والسياسية. ومن اهم هذه المشكلات مشكلة "السلطة" و"التسلط". ونجد اليوم ان من القضايا التي تناقشها رواياتها سلطة الرجل على المرأة وسلطة الاباء على الابناء في العصر الفيكتوري. ونجد ان اعمالها تثير تساؤلات عن قمع المرأة واضطهادها وعجزها واحباطاتها. وتثير تساؤلات عن ازمات الرجل الذي تدفعه الى ظلم المرأة.
وعندما قرأ ليونارد وولف مخطوطة (الى المنارة) قال انها افضل رواية كتبتها زوجته. وقال انها قصيدة رائعة تلقي الضوء على خبايا النفس البشرية. واعترفت فيرجينيا نفسها بان (الى المنارة) تكاد تكون خالية من اي حدث درامي. تصف الرواية في القسم الاول منها عطلة يقضيها افراد اسرة رامسي في جزيرة سكاي باسكوتلندة. الوقت في شهر سبتمبر قبيل الحرب العالمية الاولى. تعد الام ابنها جيمس برحلة بالقارب الى المنارة القريبة من الشاطئ في اليوم التالي اذا سمح الطقس بذلك.
وتنقضي عشر سنوات لا تزور فيها الاسرة البيت في الجزيرة. ويغدو البيت مهجورا. . . هنا في القسم الثاني تركز المؤلفة على مرور الوقت وعلى الطبيعة التي لا تكترث لغياب الانسان او لمصيره. تموت مسز رامسي فجأة ذات ليلة ويقتل اندرو في الحرب. وتتلقى مديرة البيت رسالة تقول ان الاسرة ستزور البيت. وفعلا تعود الاسرة الى البيت بعد مرور عشر سنوات. ويقرر مستر رامسي ان يقوم برحلة الى المنارة. ويقرر ابنه جيمس وابنته كام ان يرافقاه.
ان هذا النطاق الضيق للرواية هو نتيجة اختيار متعمد للمؤلفة وليس بطبيعة الحال انعكاسا لضيق اهتماماتها. لقد ارادت فيرجينيا ان تضيق نطاق الرواية لتركز على ما اهمله الرجال من الروائيين ولتركز على الجوانب الحياتية التي ظن خطأ انها اقل او اتفه من ان تكون الموضوع الرئيسي في اية رواية.
تبحث رواية (الى المنارة) في ما يدور في الذهن من افكار وهواجس في اثناء الخبرات اليومية العادية. وتصور الشخصيات في اطار علاقتها داخل الاسرة: بين الزوج والزوجة، وبين الابوين والابناء، وبين افراد الاسرة والاصدقاء. وبالرغم من ان هذه الافكار والهواجس لا تتمثل غالبا في احداث درامية الا انها تشكل جانبا اساسيا في الشخصية الانسانية. فهي تسمح لنا بان ننجز بعضا من اهم المهام التي تواجهنا في الحياة كرصد تطور هويتنا الذاتية وحسم صراعاتنا النفسية داخل الاسرة والتعايش مع فقدان من نحب. . . وهذه مهام تشترك فيها ادق المشاعر والاحاسيس التي لا ترتقي في الغالب الى عتبة الوعي بحيث نستطيع ان نعبر عنها بكلمات. لقد ارادت فيرجينيا ان تستكشف سبلا جديدة لوصف هذه المشاعر والاحاسيس ورفعها الى مستوى التعبير اللفظي.
ان شخصيات الرواية واقعة تحت رحمة قوى تفرض نفسها من الخارج اهمها قوى الطبيعة التي تقتل وتدمر. والحرب في الرواية تعتبر واحدة من هذه القوى التي لا تكترث لأحد ولا لشيء.
[email protected]
لندن - بريطانيا