فاجأني مَجْمَع الأمثال بما يحمل من معارف في علوم الفلسفة والسياسة والاقتصاد و الاجتماع و اللغة و النبات و الحيوان والطبخ والأزياء. وندمتُ لأنني لم أسع إليه بجهد وتصميم أكبر في فتوتي وشبابي.
1
على العموم السعي في طلب المعرفة, ولو كانت في الصين, من الأمور المحمود , وها أنا أُكفّر عن ذنبي بقراءة مستفيضة عن حكايات النساء في مَجْمَع الأمثال. وهذه الحكايات وردت متفرقة في مَجْمَع الأمثال, أعرض منها ما تيسَّر في هذا المقام , بعد أن هذَّبتُ لفظها, دون التعدي على اسلوب الميداني لأن التعدي على لغته الرشيقة ولفظه المُستأنس الرقيق جريمة لا تُغتفر.
والميداني هو أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري، والمَيْدَانُ حارة من حارات نيسابور كان يسكنها فنُسب إليها. وهو أديب فاضل، عالم، نحوي، لغوي. مات في رمضان سنة ثمان عشرة وخمسمائة، ودفن بمقبرة الميدان.
2
يُحكى أن الزمخشري بعد ما ألف كتاب "المستقصى في الأمثال" اطلع على مجمع الأمثال فأطال نظره فيه، وأعجبه جداً، ويقال إنه ندم على تأليفه المستقصي لكونه دون مَجْمَع الأمثال في حسن التأليف والوضع وبسط العبارة وكثرة الفوائد. ألف الميداني كتابه في أواخر أيامه كما كتب في التقديم لحضرة الشيخ العميد أبو علي محمد بن أرسلان :
(أشار بجَمْع كتاب في الأمثال، مبرز على ماله من الأمثال، مشتمل على غثها وسمينها، محتو على جاهليها وإسلاميها، فعُدت إلى نيسابور فطالعت من كتب الأئمة الأعلام، مثل كتاب أبي عُبيدة وأبي عُبيد، والأصمعي ونظرتُ فيما جمعه المفضل بن محمد والمفضل بن سلمة. حتى لقد تصفحت أَكثر من خمسين كتاباً، ونخلتُ ما فيها فصلاً بعد فصل وباباً بعد باب)
3
كُنتُ اسمعُ بمَجْمَع الأمثال للميداني ولم اجتمع لا بالميداني ولا بمَجْمَعه في معارض الكُتب التي زرتها في مكتبة الأسد في دمشق أو في جامعة حلب أو معرض الكتاب في أبو ظبي أو معرض الشارقة للكتاب وكلها تجمَعُ في "مَجْمَعها" آلاف مُؤلفة من الكُتب . وبعد أن اقتربت من الخمسين من عمري حصلتُ على نسخة الكترونية غير مُهذبة - بكل معنى الكلمة - موافقة لطبعة دار المعرفة، بيروت لبنان بتحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد. وقد كانت هذه الطبعة رفيقة وجليسة مُحببة لشهور عديدة والجليس الصالِح كحامل المِسْكِ إما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيباً وقد وجدتُ عند الميداني عالماً غنياً من البشر الذين خاضوا في الحياة خوض مُدرك عارف بحقائقها. ولعل حكاية دلال وقومه تدل دلالة لا لبس فيها على سعة الحياة التي كَتَبَ عنها الميداني:
4
دلال من مخنثي المدينة، واسمه نافذ، وكنيته أبو يزيد، وهو ممن خصاهم خطأً ابن حزم الأنصاري أمير المدينة في عهد سليمان بن عبد الملك، وذلك أنه جاء أمر الخليفة إلى ابن حزم عامله أن أَحْصِ لي مخنثي المدينة، فتشظَّى قلمُ الكاتب فوقعت نقطة على ذروة الحاء فصيرتها خاء، فلما ورد الكتاب المدينة ناوله ابن حزم كاتبه فقرأ عليه : اخْصِ المخنثين. فقال له الأمير: - لعله أحص بالحاء. فقال الكاتب: - إن على الحاء نقطة مثل تمرة. فتقدم الأمير في إحضارهم، ثم خصاهم فعلاً، وهم: طويس، دلال، نسيم السحر، نومة الضحا، برد الفؤاد، ظل الشجر.
وجود هؤلاء القوم في بواكير المجتمع الإسلامي الناهض يدفعنا لتأكيد فكرة جوهرية وهي عندما ترافق الإسلام مع بنية حضارية قائمة اتسعت دائرة العلاقات الإنسانية التي تحترم الآخر مهما كان هذا الآخر. ونحن هنا لا نؤكد صحة الرواية لأنها تقترب من صيغ الحكايات ولكنني أعتقد أن لها سنداً في الواقع .
5
يؤكد الباحث هادي العلوي في هذا السياق اندماج القيم الجاهلية مع المدنية الإسلامية الجديدة وكان لهذه القيم حضورها الفاعل في جميع زوايا العصور الاسلامية. وقد توقفت الفعالية الحضارية للمدنية الإسلامية عن التطور مع القرن الثامن الهجري, ودخل العالم الإسلامي في استعصائه الذي لا يزال حتى اليوم. وتوقف الحضارة لا يمحوها وإنما يحولها إلى تراث. والتراث من الإرث الذي يعني موت المورّث مع بقاء ميراثه, بحكم أن الموت انقطاع عن الحياة وليس عن الوجود. ولما كانت الحضارة الإسلامية قد وجدت فالعدم لا يسري عليها, لكنها ماتت فخلفت لنا هذا الإرث الواسع. وليس الدين الإسلامي من مورثات هذه الحضارة لأنه الآن حي. والدين بجوهره مباين للحضارة فهو يعيش معها وبدونها. وهذه فكرة جوهرية تغيب عن الكثير من الباحثين والمفكرين الذين اشتغلوا في تأثير الدين في المجتمعات الإنسانية.
6
تجتمع في حكايات النساء الواردة في مجمع الأمثال إضافة إلى الطرافة ظاهرة جميلة موحية جديرة بالتنويه وهي تواجد المرأة الصاخب في جميع مفاصل المجتمع الإسلامي الناهض المتحرك مع القيم الحضارية التي يلهج بها. بمعنى توافق وتتطابق بين طرفي الفعل الإنساني الذكر والأنثى مما جعل النهضة الحضارية الإسلامية ممكنة. وفي ظني اظهار هذا الجانب من دور المرأة في تراثنا يفيد الأجيال الجديدة الناهضة.
1
(أصبُّ من المتمنِّية)
المتمنِّية امرأة من المدينة عشقت فتى من بني سُلَيم يقال له: نَصْر بن حَجَّاج، وكان أحسن أهل زمانه صُورة، فضنيت من حبه، ودنفت من الوجد به، ثم لهجت بذكره. ومرَّ عمر بن الخطاب ذات ليلة بباب دارها، فسمعها تقول:
ألا سبيل إلى خمر فأشربها
أم لا سبيل إلى نصر بن حَجَّاج
فقال عمر : من هذه المتمنِّية؟
فعرف خبرها، فلما أصبح استحضر الفتى المتمنَّى، فلما رآه بهره جماله، فقال له: - أأنت الذي تتمناك الغانيات في خدورهن؟ لا أم لك. أما واللّه لأزيلن عنك رداء الجمال.
ثم دعا بحلاق فحلق شعر رأسه، ثم تأمله فقال له:
- أنت محلوقاً أحسن.
فقال:
- وأي ذنب لي في ذلك ؟
فقال:
-صدقت، الذنْبُ لي أَنْ تركتُكَ في دار الهجرة.
ثم أركَبَهُ جملا وسَيَّره إلى البَصْرة، وكتب إلى مُجَاشع ابن مسعود: إني قد سَيَّرْتُ المتمنَّي نصرَ بن حَجَّاج إليك.
وكما قالوا بالمدينة أصَبُّ من المتمنِّية قالوا بالبصرة : أدْنَفُ من المتمنَّى. وذلك أن نَصْر بن حَجَّاج لما ورَدَ البصرةَ أخذ الناسُ يسألون عنه، ويقولون: أين هذا المتمنَّي الذي سَيَّرهُ عمر؟ فغلب هذا الاسم عليه بالبصرة كما غلب ذلك الاسم على عشيقته بالمدينة.
و لما ورد البصرة أنزله مُجَاشع بن مسعود السُّلَمي منزلَه من أجل قَرَابته-هو من بني سُلَيم- وأَخْدَمَه امرأته شُمَيْلة، وكانت أجملَ امرأة بالبصرة، فعشقته وعشقها، وخفي على كل واحدٍ منهما خبرُ الآخر، لملازمة مُجَاشع لضَيْفه.
وكان مجاشع أميَّاً ونَصْر وشُمَيلة كاتبين، فَعِيلَ صبرُ نَصْر، فكتب على الأرض بحضرة مجاشع:
إني قد أحببتك حباً لو كان فَوْقَك لأظَلَّكِ، ولو كان تحتك لأقَلَّكِ، فوقَّعَتْ تحته غير محتشمة: وأنا، فقال لها مجاشع: ما الذي كَتَبه؟ فقالت: كتب كم تَحْلب ناقتكم؟ فقال: وما الذي كتبت تحته؟ فقالت: كتبت وأنا، فقال مجاشع: كم تَحْلب ناقتكم، وأنا، ما هذا لهذا بطبق، فقالت: أصدقك إنه كتب كم تغلُّ أرضكم؟ فقال مجاشع: كم تغل أرضكم، وأنا، ما بين كلامه وجوابك قرابة.
ثم كَفَأ على الكتابة جَفْنة-وعاء- ودعا بغلام من الكُتَّاب، فقرأ عليه، فالتفت إلى نَصْر فقال له: يا ابن عم ما سَيَّرَكَ عمر من خيرٍ فقم، فإنَّ وراءك أوسَعَ، فنهض مستحيياً، وعَدَلَ إلى منزل بعض السَّلَمين، ووقع لجنبه، فضَنِىَ من حب شُمَيْلة، ودَنِفَ حتى صار رَحْمَة، وانتشر خبره، فضرب نساء البصرة به المثل، فقلن :أَدْنَفُ من المتمنَّى .
ثم إن مجاشعاً وقف على خبر علة نَصْر بن حَجَّاج، فدخل عليه فلحقته رقَّة، لما رأى به من الدنف، فرجع إلى بيته وقال لشُمَيْلة: عَزَمْتُ عليكِ لما أخذت خُبْزَة فَلَبَكْتِهَا بسمن ثم بادرتِ بها إلى نصر، فبادت بها إليه، فلم يكن به نهوض، فضمته إلى صَدْرها، وجعلت تلقمه بيدها، فعادت قُوَاه وبرأ كأنْ لم يكن به داء. فلما فارقته عاود النُّكْس، فلم يزل يتردد في علته حتى مات فيها.
2
(ما ذنب عثمان)
حُبَّى امرأة من المدينة ، كانت مِزْوَاجاً، فتزوجت على كبر سنها فَتًى يقال له ابن أم كلاب، فقام ابن لها كهل فمشى إلى مروان ابن الحكَمِ وهو والي المدينة، وقال:
إن أمي السفيهة على كبر سنها وسِنِّي تزوجت شابّاً فحلاً صغير السِّنِّ فصيرتني ونفسَهَا حديث الناس. فاستحضرها مروان وابنها، فلم تكترث لقول والي المدينة، ولكنها التفتت إلى ابنها وقالت: يا برذعة الحمار، أما رأيت ذلك الشاب بطلته البهية وشبابه الطيب ، ودِدْتُ أنه ضَبٌّ وأني ضُبَيْبَتُه. وقد وجدنا خَلاَء.
وكانت نساء المدينة تسمين حُبَّى : حواء أم البشر, لأنها علمتهنَّ ضروباً من أوضاع الجماع، ولقبت كل هيئة منها بلقب، منها القبع والغربلة والنَّخير والرَّهْز.
وذكر الهيثم ابن عدي أنها زَوَّجَتْ بنتاً لها من رجل، ثم زارتها وقالت: كيف تَرَيْنَ زوجَكِ؟ قالت خير زوج، أحسن الناس خُلُقا، وخَلْقا، وأوسَعُهم رَحْلا وصَدْراً، يملأ بيتي خيراً. إلا أنه يكلفني أمراً صعباً، قد ضِقْتُ به ذَرْعاً، قالت: وما هو ؟ قالت: يقول عند الجماع انخري تحتي، فقالت حُبَّى: وهل يطيب نكاح بغير رهز ونخير؟
قدم أبوك من سفر وأنا على سطح المنزل مُشْرِفة على مربط إبل الصدقة في زمن عثمان بن عفان، وكلُّ بعير هناك قد عُقل بعِقَالين، فأمسكني أبوك على السطح ورفع رجلي وطعنني طعنة نَخَرْتُ لها نخرة نفرت منها إبل الصدقة نفرة قطعت عُقُلَها وتفرقت فما أخذ منها بعيران في طريق، فصار ذلك أول شيء نقم على عثمان، وما له في ذلك ذنب، الزوجُ طعَنَ، والزوجة نخرت، والإبل نَفَرت، فما ذنبه؟
3
(أَنتِ طالق)
تزوج امرأة رجلاً فأبغضته من ليلتها الأولى، وكرهت مكانها معه، فجعلت تقول: يا خَيْرَ الفِتْيَانِ أصْبَحْتَ، فيرفع رأسه فينظر فإذا الليل كما هو، فتقول: أصْبَحْ لَيْلُ، فلما أصبح قال لها: قد علمتُ ما صنعتِ الليلَةَ، وقد عرفتُ أن ما صنعتِ كان من كراهية مكاني في نفسك، فما الذي كرهت مني؟ فقالت: ما كرهتُك، فلم يَزَلْ بها حتى قالت: كرهت منك أنك خفيف العَزَلة ثقيل الصدر، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة، فلما سمع ذلك منها طَلَّقها.
4
(دِرْهَمَان)
امرأًة كانت تؤاجر نفسَها من الرجال بدرهمين لكل من طَلَبها، فاستأجرها يوما رجل بدرهمين، فلما جامعها أعجبها جِمَاعُه وقوته وشدة رَهْزه وضخامة جردونه فجعلت تقول : صُكَّ صكاً ودرهماك لك.
5
(خِدَاش والرَّباب)
عشق خِدَاش بن حابس التميمى فتاة يُقَال لها الرَّباب، وهام بها زماناً، ثم أقبل يخطبها وكان فقيراً قليل المال .وكان أبواها يتمنَّعان لجمالها وَمِيسَمِها، فردَّا خداشاً، فأضرب عنها زماناً ثم أقبل ذاتَ ليلةٍ راكباً، فانتهى إلى محلتهم وقال أبياتاً من الشعر. فعرفت الرَّباب منطقه، وجعلت تتسمَّع إليه، وحفظت الشعر، وأرسلت إلى الركب الذين فيهم خِداش أن انزلوا بنا الليلة، فنزلوا، وبعثت إلى خِداش أن قد عرفت حاجتك فاغْدُ على أبي خاطباً، ورجعت إلى أُمُها، فَقَالت:
يا أُمَّه، هل أنكح إلا مَنْ أهوى و ألتحف إلا من أرضى؟
قَالت: لا، فما ذاك؟
قَالت: فأنكحيني خِداشاً.
قَالت: وما يدعوك إلى ذلك مع قلة ماله؟
قَالت: إذا جمع المالَ السيءُ الفَعَالِ فقبحاً للمال.
فأخبرت الأم أباها بذلك, فَقَال:
ألم نكن صَرَفْناه عنا، فما بدا له؟ فلما أصبحوا غدا عليهم خِداش فسلَّم وقَال: العَوْدُ أحمد، والمرء يرشد، والورد يحمد.
6
(حريَّة جنسيَّة)
رجل يُعاشر امرَأة فكان يجئ وهى جالسةٌ مع بنيها وزوجها فيصفر لها، فتُخرج عجزها –وسطها- من وراء البيت –من تحت الخيمة- وهي تُحْدِثُ ولَدَها، فيقضى الرجلُ حاجته وينصرف، فعلم ذلك بعضُ بنيها، فغاب عنها يومَه، ثم جاء في ذلك الوقت فَصَفَر ومعه مِسْمَار مُحْمىً، فلما أن فعلت كعادتها كَوَاها به، فَجاء خِلُّها بعد ذلك فصفر فَقَالت: كوانا صفيركم.
7
(الماء و العِنَاق)
رجل ورد الماء مع إبله وبيتُه تِلْقَاء وجهه، فنظر إلى بيته فإذا هو برجل مُعَانق امرأته يُقَبلها داخل الخباء، فأخذ العَصَا وأقبل مُسْرعاً لا يشكُّ فيما رأى، فلما رأته امرأتُه جعلت الرجلَ في زاوية لا تُرى ، فنظر يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً، وخرج فنظر في الأرض فلم ير شيئاً، فكذب بصره، فقالت المرأة كأنها تريه أنها قد استنكرت من أمره شيئاً:
- ما دهاك يا أبا ناظر؟ أرعبك شيء؟
فكتَمَها الذي رأى، ومضى لحاجته، فلما كان في الوِرْدِ الثاني قالت:
- يا أبا ناظر، هل لك أن أكفيك السَّقْيُ اليوم فإني قد أشفقتُ عليك.
قال:
- نعم إن شئتِ.
فأقام في المنزل، فانطلقت تسقي وتحيَّنَتْ منه غفلة فأخذت العَصَا ثم أقبلت حتى تفلقَ بها رأسَه فشجَّتْه، فقال:
- ويلك! مالك؟ وما دهاك؟
قالت:
- وما دهاني يا فاسق؟ أين المرأة التي رأيتُهَا معك تعانقها؟
فقال:
- لا، والله ما كانت عندي امرأة، وما عانَقْتُ اليومَ امرأة.
قالت:
- بلى أنا نظرت إليها بعيني وأنا على الماء.
فتحالَفَا فلما أكثرت قال:
- إن تكوني صادقة فإن ماءكم هذا ماء عناق.
عبدالرزاق دحنون - المُسْتَطْرَفُ في حِكْاياتِ النّساءِ
1
على العموم السعي في طلب المعرفة, ولو كانت في الصين, من الأمور المحمود , وها أنا أُكفّر عن ذنبي بقراءة مستفيضة عن حكايات النساء في مَجْمَع الأمثال. وهذه الحكايات وردت متفرقة في مَجْمَع الأمثال, أعرض منها ما تيسَّر في هذا المقام , بعد أن هذَّبتُ لفظها, دون التعدي على اسلوب الميداني لأن التعدي على لغته الرشيقة ولفظه المُستأنس الرقيق جريمة لا تُغتفر.
والميداني هو أحمد بن محمد بن أحمد بن إبراهيم النيسابوري، والمَيْدَانُ حارة من حارات نيسابور كان يسكنها فنُسب إليها. وهو أديب فاضل، عالم، نحوي، لغوي. مات في رمضان سنة ثمان عشرة وخمسمائة، ودفن بمقبرة الميدان.
2
يُحكى أن الزمخشري بعد ما ألف كتاب "المستقصى في الأمثال" اطلع على مجمع الأمثال فأطال نظره فيه، وأعجبه جداً، ويقال إنه ندم على تأليفه المستقصي لكونه دون مَجْمَع الأمثال في حسن التأليف والوضع وبسط العبارة وكثرة الفوائد. ألف الميداني كتابه في أواخر أيامه كما كتب في التقديم لحضرة الشيخ العميد أبو علي محمد بن أرسلان :
(أشار بجَمْع كتاب في الأمثال، مبرز على ماله من الأمثال، مشتمل على غثها وسمينها، محتو على جاهليها وإسلاميها، فعُدت إلى نيسابور فطالعت من كتب الأئمة الأعلام، مثل كتاب أبي عُبيدة وأبي عُبيد، والأصمعي ونظرتُ فيما جمعه المفضل بن محمد والمفضل بن سلمة. حتى لقد تصفحت أَكثر من خمسين كتاباً، ونخلتُ ما فيها فصلاً بعد فصل وباباً بعد باب)
3
كُنتُ اسمعُ بمَجْمَع الأمثال للميداني ولم اجتمع لا بالميداني ولا بمَجْمَعه في معارض الكُتب التي زرتها في مكتبة الأسد في دمشق أو في جامعة حلب أو معرض الكتاب في أبو ظبي أو معرض الشارقة للكتاب وكلها تجمَعُ في "مَجْمَعها" آلاف مُؤلفة من الكُتب . وبعد أن اقتربت من الخمسين من عمري حصلتُ على نسخة الكترونية غير مُهذبة - بكل معنى الكلمة - موافقة لطبعة دار المعرفة، بيروت لبنان بتحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد. وقد كانت هذه الطبعة رفيقة وجليسة مُحببة لشهور عديدة والجليس الصالِح كحامل المِسْكِ إما أن تبتاع منه وإما أن تجد منه ريحاً طيباً وقد وجدتُ عند الميداني عالماً غنياً من البشر الذين خاضوا في الحياة خوض مُدرك عارف بحقائقها. ولعل حكاية دلال وقومه تدل دلالة لا لبس فيها على سعة الحياة التي كَتَبَ عنها الميداني:
4
دلال من مخنثي المدينة، واسمه نافذ، وكنيته أبو يزيد، وهو ممن خصاهم خطأً ابن حزم الأنصاري أمير المدينة في عهد سليمان بن عبد الملك، وذلك أنه جاء أمر الخليفة إلى ابن حزم عامله أن أَحْصِ لي مخنثي المدينة، فتشظَّى قلمُ الكاتب فوقعت نقطة على ذروة الحاء فصيرتها خاء، فلما ورد الكتاب المدينة ناوله ابن حزم كاتبه فقرأ عليه : اخْصِ المخنثين. فقال له الأمير: - لعله أحص بالحاء. فقال الكاتب: - إن على الحاء نقطة مثل تمرة. فتقدم الأمير في إحضارهم، ثم خصاهم فعلاً، وهم: طويس، دلال، نسيم السحر، نومة الضحا، برد الفؤاد، ظل الشجر.
وجود هؤلاء القوم في بواكير المجتمع الإسلامي الناهض يدفعنا لتأكيد فكرة جوهرية وهي عندما ترافق الإسلام مع بنية حضارية قائمة اتسعت دائرة العلاقات الإنسانية التي تحترم الآخر مهما كان هذا الآخر. ونحن هنا لا نؤكد صحة الرواية لأنها تقترب من صيغ الحكايات ولكنني أعتقد أن لها سنداً في الواقع .
5
يؤكد الباحث هادي العلوي في هذا السياق اندماج القيم الجاهلية مع المدنية الإسلامية الجديدة وكان لهذه القيم حضورها الفاعل في جميع زوايا العصور الاسلامية. وقد توقفت الفعالية الحضارية للمدنية الإسلامية عن التطور مع القرن الثامن الهجري, ودخل العالم الإسلامي في استعصائه الذي لا يزال حتى اليوم. وتوقف الحضارة لا يمحوها وإنما يحولها إلى تراث. والتراث من الإرث الذي يعني موت المورّث مع بقاء ميراثه, بحكم أن الموت انقطاع عن الحياة وليس عن الوجود. ولما كانت الحضارة الإسلامية قد وجدت فالعدم لا يسري عليها, لكنها ماتت فخلفت لنا هذا الإرث الواسع. وليس الدين الإسلامي من مورثات هذه الحضارة لأنه الآن حي. والدين بجوهره مباين للحضارة فهو يعيش معها وبدونها. وهذه فكرة جوهرية تغيب عن الكثير من الباحثين والمفكرين الذين اشتغلوا في تأثير الدين في المجتمعات الإنسانية.
6
تجتمع في حكايات النساء الواردة في مجمع الأمثال إضافة إلى الطرافة ظاهرة جميلة موحية جديرة بالتنويه وهي تواجد المرأة الصاخب في جميع مفاصل المجتمع الإسلامي الناهض المتحرك مع القيم الحضارية التي يلهج بها. بمعنى توافق وتتطابق بين طرفي الفعل الإنساني الذكر والأنثى مما جعل النهضة الحضارية الإسلامية ممكنة. وفي ظني اظهار هذا الجانب من دور المرأة في تراثنا يفيد الأجيال الجديدة الناهضة.
1
(أصبُّ من المتمنِّية)
المتمنِّية امرأة من المدينة عشقت فتى من بني سُلَيم يقال له: نَصْر بن حَجَّاج، وكان أحسن أهل زمانه صُورة، فضنيت من حبه، ودنفت من الوجد به، ثم لهجت بذكره. ومرَّ عمر بن الخطاب ذات ليلة بباب دارها، فسمعها تقول:
ألا سبيل إلى خمر فأشربها
أم لا سبيل إلى نصر بن حَجَّاج
فقال عمر : من هذه المتمنِّية؟
فعرف خبرها، فلما أصبح استحضر الفتى المتمنَّى، فلما رآه بهره جماله، فقال له: - أأنت الذي تتمناك الغانيات في خدورهن؟ لا أم لك. أما واللّه لأزيلن عنك رداء الجمال.
ثم دعا بحلاق فحلق شعر رأسه، ثم تأمله فقال له:
- أنت محلوقاً أحسن.
فقال:
- وأي ذنب لي في ذلك ؟
فقال:
-صدقت، الذنْبُ لي أَنْ تركتُكَ في دار الهجرة.
ثم أركَبَهُ جملا وسَيَّره إلى البَصْرة، وكتب إلى مُجَاشع ابن مسعود: إني قد سَيَّرْتُ المتمنَّي نصرَ بن حَجَّاج إليك.
وكما قالوا بالمدينة أصَبُّ من المتمنِّية قالوا بالبصرة : أدْنَفُ من المتمنَّى. وذلك أن نَصْر بن حَجَّاج لما ورَدَ البصرةَ أخذ الناسُ يسألون عنه، ويقولون: أين هذا المتمنَّي الذي سَيَّرهُ عمر؟ فغلب هذا الاسم عليه بالبصرة كما غلب ذلك الاسم على عشيقته بالمدينة.
و لما ورد البصرة أنزله مُجَاشع بن مسعود السُّلَمي منزلَه من أجل قَرَابته-هو من بني سُلَيم- وأَخْدَمَه امرأته شُمَيْلة، وكانت أجملَ امرأة بالبصرة، فعشقته وعشقها، وخفي على كل واحدٍ منهما خبرُ الآخر، لملازمة مُجَاشع لضَيْفه.
وكان مجاشع أميَّاً ونَصْر وشُمَيلة كاتبين، فَعِيلَ صبرُ نَصْر، فكتب على الأرض بحضرة مجاشع:
إني قد أحببتك حباً لو كان فَوْقَك لأظَلَّكِ، ولو كان تحتك لأقَلَّكِ، فوقَّعَتْ تحته غير محتشمة: وأنا، فقال لها مجاشع: ما الذي كَتَبه؟ فقالت: كتب كم تَحْلب ناقتكم؟ فقال: وما الذي كتبت تحته؟ فقالت: كتبت وأنا، فقال مجاشع: كم تَحْلب ناقتكم، وأنا، ما هذا لهذا بطبق، فقالت: أصدقك إنه كتب كم تغلُّ أرضكم؟ فقال مجاشع: كم تغل أرضكم، وأنا، ما بين كلامه وجوابك قرابة.
ثم كَفَأ على الكتابة جَفْنة-وعاء- ودعا بغلام من الكُتَّاب، فقرأ عليه، فالتفت إلى نَصْر فقال له: يا ابن عم ما سَيَّرَكَ عمر من خيرٍ فقم، فإنَّ وراءك أوسَعَ، فنهض مستحيياً، وعَدَلَ إلى منزل بعض السَّلَمين، ووقع لجنبه، فضَنِىَ من حب شُمَيْلة، ودَنِفَ حتى صار رَحْمَة، وانتشر خبره، فضرب نساء البصرة به المثل، فقلن :أَدْنَفُ من المتمنَّى .
ثم إن مجاشعاً وقف على خبر علة نَصْر بن حَجَّاج، فدخل عليه فلحقته رقَّة، لما رأى به من الدنف، فرجع إلى بيته وقال لشُمَيْلة: عَزَمْتُ عليكِ لما أخذت خُبْزَة فَلَبَكْتِهَا بسمن ثم بادرتِ بها إلى نصر، فبادت بها إليه، فلم يكن به نهوض، فضمته إلى صَدْرها، وجعلت تلقمه بيدها، فعادت قُوَاه وبرأ كأنْ لم يكن به داء. فلما فارقته عاود النُّكْس، فلم يزل يتردد في علته حتى مات فيها.
2
(ما ذنب عثمان)
حُبَّى امرأة من المدينة ، كانت مِزْوَاجاً، فتزوجت على كبر سنها فَتًى يقال له ابن أم كلاب، فقام ابن لها كهل فمشى إلى مروان ابن الحكَمِ وهو والي المدينة، وقال:
إن أمي السفيهة على كبر سنها وسِنِّي تزوجت شابّاً فحلاً صغير السِّنِّ فصيرتني ونفسَهَا حديث الناس. فاستحضرها مروان وابنها، فلم تكترث لقول والي المدينة، ولكنها التفتت إلى ابنها وقالت: يا برذعة الحمار، أما رأيت ذلك الشاب بطلته البهية وشبابه الطيب ، ودِدْتُ أنه ضَبٌّ وأني ضُبَيْبَتُه. وقد وجدنا خَلاَء.
وكانت نساء المدينة تسمين حُبَّى : حواء أم البشر, لأنها علمتهنَّ ضروباً من أوضاع الجماع، ولقبت كل هيئة منها بلقب، منها القبع والغربلة والنَّخير والرَّهْز.
وذكر الهيثم ابن عدي أنها زَوَّجَتْ بنتاً لها من رجل، ثم زارتها وقالت: كيف تَرَيْنَ زوجَكِ؟ قالت خير زوج، أحسن الناس خُلُقا، وخَلْقا، وأوسَعُهم رَحْلا وصَدْراً، يملأ بيتي خيراً. إلا أنه يكلفني أمراً صعباً، قد ضِقْتُ به ذَرْعاً، قالت: وما هو ؟ قالت: يقول عند الجماع انخري تحتي، فقالت حُبَّى: وهل يطيب نكاح بغير رهز ونخير؟
قدم أبوك من سفر وأنا على سطح المنزل مُشْرِفة على مربط إبل الصدقة في زمن عثمان بن عفان، وكلُّ بعير هناك قد عُقل بعِقَالين، فأمسكني أبوك على السطح ورفع رجلي وطعنني طعنة نَخَرْتُ لها نخرة نفرت منها إبل الصدقة نفرة قطعت عُقُلَها وتفرقت فما أخذ منها بعيران في طريق، فصار ذلك أول شيء نقم على عثمان، وما له في ذلك ذنب، الزوجُ طعَنَ، والزوجة نخرت، والإبل نَفَرت، فما ذنبه؟
3
(أَنتِ طالق)
تزوج امرأة رجلاً فأبغضته من ليلتها الأولى، وكرهت مكانها معه، فجعلت تقول: يا خَيْرَ الفِتْيَانِ أصْبَحْتَ، فيرفع رأسه فينظر فإذا الليل كما هو، فتقول: أصْبَحْ لَيْلُ، فلما أصبح قال لها: قد علمتُ ما صنعتِ الليلَةَ، وقد عرفتُ أن ما صنعتِ كان من كراهية مكاني في نفسك، فما الذي كرهت مني؟ فقالت: ما كرهتُك، فلم يَزَلْ بها حتى قالت: كرهت منك أنك خفيف العَزَلة ثقيل الصدر، سريع الإراقة، بطيء الإفاقة، فلما سمع ذلك منها طَلَّقها.
4
(دِرْهَمَان)
امرأًة كانت تؤاجر نفسَها من الرجال بدرهمين لكل من طَلَبها، فاستأجرها يوما رجل بدرهمين، فلما جامعها أعجبها جِمَاعُه وقوته وشدة رَهْزه وضخامة جردونه فجعلت تقول : صُكَّ صكاً ودرهماك لك.
5
(خِدَاش والرَّباب)
عشق خِدَاش بن حابس التميمى فتاة يُقَال لها الرَّباب، وهام بها زماناً، ثم أقبل يخطبها وكان فقيراً قليل المال .وكان أبواها يتمنَّعان لجمالها وَمِيسَمِها، فردَّا خداشاً، فأضرب عنها زماناً ثم أقبل ذاتَ ليلةٍ راكباً، فانتهى إلى محلتهم وقال أبياتاً من الشعر. فعرفت الرَّباب منطقه، وجعلت تتسمَّع إليه، وحفظت الشعر، وأرسلت إلى الركب الذين فيهم خِداش أن انزلوا بنا الليلة، فنزلوا، وبعثت إلى خِداش أن قد عرفت حاجتك فاغْدُ على أبي خاطباً، ورجعت إلى أُمُها، فَقَالت:
يا أُمَّه، هل أنكح إلا مَنْ أهوى و ألتحف إلا من أرضى؟
قَالت: لا، فما ذاك؟
قَالت: فأنكحيني خِداشاً.
قَالت: وما يدعوك إلى ذلك مع قلة ماله؟
قَالت: إذا جمع المالَ السيءُ الفَعَالِ فقبحاً للمال.
فأخبرت الأم أباها بذلك, فَقَال:
ألم نكن صَرَفْناه عنا، فما بدا له؟ فلما أصبحوا غدا عليهم خِداش فسلَّم وقَال: العَوْدُ أحمد، والمرء يرشد، والورد يحمد.
6
(حريَّة جنسيَّة)
رجل يُعاشر امرَأة فكان يجئ وهى جالسةٌ مع بنيها وزوجها فيصفر لها، فتُخرج عجزها –وسطها- من وراء البيت –من تحت الخيمة- وهي تُحْدِثُ ولَدَها، فيقضى الرجلُ حاجته وينصرف، فعلم ذلك بعضُ بنيها، فغاب عنها يومَه، ثم جاء في ذلك الوقت فَصَفَر ومعه مِسْمَار مُحْمىً، فلما أن فعلت كعادتها كَوَاها به، فَجاء خِلُّها بعد ذلك فصفر فَقَالت: كوانا صفيركم.
7
(الماء و العِنَاق)
رجل ورد الماء مع إبله وبيتُه تِلْقَاء وجهه، فنظر إلى بيته فإذا هو برجل مُعَانق امرأته يُقَبلها داخل الخباء، فأخذ العَصَا وأقبل مُسْرعاً لا يشكُّ فيما رأى، فلما رأته امرأتُه جعلت الرجلَ في زاوية لا تُرى ، فنظر يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً، وخرج فنظر في الأرض فلم ير شيئاً، فكذب بصره، فقالت المرأة كأنها تريه أنها قد استنكرت من أمره شيئاً:
- ما دهاك يا أبا ناظر؟ أرعبك شيء؟
فكتَمَها الذي رأى، ومضى لحاجته، فلما كان في الوِرْدِ الثاني قالت:
- يا أبا ناظر، هل لك أن أكفيك السَّقْيُ اليوم فإني قد أشفقتُ عليك.
قال:
- نعم إن شئتِ.
فأقام في المنزل، فانطلقت تسقي وتحيَّنَتْ منه غفلة فأخذت العَصَا ثم أقبلت حتى تفلقَ بها رأسَه فشجَّتْه، فقال:
- ويلك! مالك؟ وما دهاك؟
قالت:
- وما دهاني يا فاسق؟ أين المرأة التي رأيتُهَا معك تعانقها؟
فقال:
- لا، والله ما كانت عندي امرأة، وما عانَقْتُ اليومَ امرأة.
قالت:
- بلى أنا نظرت إليها بعيني وأنا على الماء.
فتحالَفَا فلما أكثرت قال:
- إن تكوني صادقة فإن ماءكم هذا ماء عناق.
عبدالرزاق دحنون - المُسْتَطْرَفُ في حِكْاياتِ النّساءِ