أدب السجون كريم عامر - من أوراق السجن : عم دسوقى وجواباته

يلف المكان هدوء معتاد فى هذا الوقت من الصباح الباكر ، هذا الهدوء الذى لا يقطعه سوى أصوات قادمة من بعيد لإرتطام قطع معدنية صغيرة هى فى الغالب مفاتيح الأبواب الخاصة بزنازين العنابر ، و التى إستلمها الحراس لتوهم إستعدادا لبدء يوم عمل جديد ، وأيضا أصوات زقزقة عصافير تقترب - على إستحياء - من النوافذ التى تتخللها قضبان معدنية قائمة ومستعرضة تفصل فضاء الزنزانة الضيق عن الأفق الفسيح وكأنها تعبر بأصواتها تلك عن مشاعر تضامن مع (أو شماتة في) من هم قابعين داخل هذه الغرف التى تذكرهم ببنى جنسهم المحبوسين داخل أقفاص معدنية تملكها وتتحكم فيها كائنات أخرى تنتمى ( للمفارقة) إلى نفس النوع الحيوانى الذى ينتمى إليه هؤلاء المحبوسين !!
الهدوء مستمر ، والأصوات البعيدة والتى تطرق الآذان خافتة بين الحين والحين تؤكد على وجوده وإستمراره ، هذا الهدوء الذى لا ينقطع قبل أن يدخل الى العنبر “ عم دسوقى “ صائحا بصوت يميزه الجميع : “ جوابات .. جوابات “ … لينهى هدوء الصباح ويفتتح صخب كل يوم فى هذا العنبر الممتلىء عن آخره بمن قيدت حريتهم تطبيقا لقانون الطوارىء !!
“ عم دسوقى “ كما عرفناه وإعتدنا أننا نناديه بهذا الإسم الذى يسبقه ذاك اللقب هو رجل يبدو فى العقد السادس من عمره ، يرتدى ملابس السجن الزرقاء ، ويجوب عنابر مجموعة “ هـ “ صباح أيام “ السبت “ و “ الإثنين “ و “ الأربعاء” ليجمع الخطابات التى كتبها المسجونون إلى معارفهم وذويهم لترسل إلى العناوين المخطوطة عليها ، ويقوم أيضا فى وقت لاحق بتوزيع الخطابات التى وردت للمسجونين عليهم بعد فتحها بمعرفة إدارة السجن وتفتيشها وربما قراءة محتوى بعضها قبل أن يصل ليد السجناء المرسل اليهم تلك الخطابات !! .
هذا هو عمله الذى يمارسه داخل السجن خلال فترة عقوبته ، والذى يتقاضى عنه راتبا شهريا هو نفسه الذى يتقاضاه كل المسجونين العاملين فى السجن ، وهو مبلغ قدره خمسة وعشرون جنيها مصريا ، هو بالأحرى ليس أجرا لقاء عمل ، هو فقط محاولة من وزارة الداخلية وقطاع السجون فى مصر لدفع تهمة إستغلال المسجونين للعمل بالسخرة داخل سجونهم عن طريق دفع هذا المبلغ الضئيل شهريا لهم !! .
من عادتى أن لا أعول كثيرا على القصص التى يرويها المسجونون فيما يتعلق بالأسباب التى ساقتهم إلى السجن ، فكثير منهم مهما كانت الإتهامات الموجهة اليهم يسهل عليهم الإدعاء بأنهم مظلومون وأبرياء ، متهمين السلطات بأنها هى التى لفقت لهم القضية التى سجنوا بسببها ، أو ملقين باللائمة على على عوامل أخرى ، كالدفع بأنهم ضحايا لحسن النية ونقاء السريرة و الجهل بالقانون .
ورواية رجل البريد بالسجن “ عم دسوقى “ عن السبب وراء تقييد حريته تنتمى إلى هذا القسم الأخير.
، فعلى حد قوله ساقته خطى عاثرة إلى عالم السجن عندما قبل التوقيع كضامن لصديق له على عدد من إيصالات الأمانة التى حررها هذا الصديق ، ربما ليقترض مالا ، إختفى الصديق دون أن يسدد ما كان مدينا به ، ووقع “ عم دسوقى “ فى الفخ ، والزم بتسديد تلك المبالغ بوصفه ضامنا للشخص المدين ، عجز “ عم دسوقى “ عن ذالك فقدم الدائن الإيصالات إلى النيابة التى أحالت “ عم دسوقى “ الى المحكمة التى حكمت عليه بمجموع أحكام تجاوز العشر سنوات ، وبموجب إحدى مواد القانون الجنائى المصرى لست فى معرض شرحها هنا أصبح بإمكانه أن يمكث فى السجن لست سنوات فقط يستطيع أن يغادر السجن بعدها دون أن يضطر لقضاء مجموع السنوات التى حكم القاضى عليه بها .
خطوات “عم دسوقى “ داخل العنبر كان ينتظرها المسجونون بمزيج من اللهفة والترقب ، فخطابات ذويهم تحمل اليهم أخبارا قد تكون سارة أو مؤلمة ، البعض منهم أيضا كان ينتظر خطابات من محاميه للإطلاع على سير قضية إعتقاله وما اذا كان محتملا أن يفرج عنه قريبا أم لا ، وبعض ممن تركوا خلفهم زوجاتهم وأولادهم ينتظرون الخطابات التى يطمئنون من خلالها عليهم ، لكن عدد الخطابات التى كان “ عم دسوقى” يحملها إلى - أنا- وحدى فى كل مرة يحضر فيها الى العنبر تساوى -فى بعض الأحيان- أو تتجاوز ضعفى عدد الخطابات التى يحملها إلى باقي المسجونين فى نفس العنبر الذى يتكون من ثمانية عشر غرفة أشغل بمفردى إحداها بينما تزدحم بقيتها بأعداد كبيرة من المسجونين تصل إلى 40 فردا فى الغرفة الواحدة !!.
كنت أيضا أنتظر “ عم دسوقى” فى كل مرة يوزع فيها الخطابات على النزلاء ، لكننى لم أكن أنتظر من خطاباته أن تحمل لى أخبارا عن أسرة تركتها خلفي أو قضية معلق بها مصيرى ، فقد كنت أنتظر خطابات من أشخاص لا أعرفهم ولم يسبق لى أن التقيت بهم ولا أعرف عنهم شيئا سوى أسماؤهم التى يذيلون بها خطاباتهم عند توقيعىها!!!.
فى الفترة التى سجنت فيها والتى بلغت أربع سنوات تلقيت فى زنزانتى عدد من الخطابات يقدر بالالاف من متضامنين من خارج مصر ، من مختلف المراحل العمرية ، ومن جنسيات متعددة ، بعضهم عرف عن قضيتى من خلال حملات التضامن التى كانت تقودها عدد من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان والحريات ، كمنظمة العفو الدولية ، ومراسلون بلا حدود ومنظمة مراقبة حقوق الإنسان وغيرها ، والبعض الآخر تحمس لإرسال تلك الخطابات استجابة للحملة التى أطلقها أصدقاء لى مطالبين بالافراج عنى والتى كان إرسال الخطابات الى محبسي جزءا أصيلا منها .
تلك الخطابات التى كنت أتلقاها ساعدتنى كثيرا على تخطى وتجاوز محنتى ، ففي رأيي أنه وعلى الرغم أهمية إنهاء محنة سجين الرأى وبذل ما يمكن بذله من أجل الإفراج عنه فإن للإهتمام بالجانب النفسي والمعنوى فى حياة السجين أهمية لا أراها تقل عن الجانب المادى الذى أشرت اليه .
فالضغوط النفسية والمادية التى تمارسها السلطات التى تقمع الحريات فى البلدان التى تحكمها سلطة مستبدة تهدف فى الأساس الى كسر سجين الرأى وتحطيم معنوياته حتى يخرج منكسرا محطما منشغلا بإصلاح ما أفسده السجن عن الكتابة والتعبير عن رأيه الذى يؤرق المستبدين ويدفعهم الى اتخاذ ردود الأفعال الهمجية تجاه هؤلاء الذين لا يحملون سلاحا سوى لسان او قلم او لوحة مفاتيح ، ومن الممكن أن يغادر سجين الرأى سجنه بعد فترة قصيرة ، لكن قد تكون الضغوط التى مورست عليه فى تلك الفترة دون وجود معادل ايجابي يرفع من معنوياته التى تسعى إدارة السجن إلى تحطيمها كفيلة بتحويله من شخص قوى مقاوم قادر على التحدى والتصدى للظلم ، والصمود ، إلى شخص آخر ؛ محطم نفسيا يقضي فترة كبيرة من حياة ما بعد السجن فى التردد على عيادات الطب النفسي محاولا إصلاح ما أُفسد منه فى تلك الفترة .
الخطابات التى كنت أتلقاها خلال تلك الفترة أسقطت جدار زنزانتى وحطمت قضبان نوافذها وجعلتنى أشعر أن هذا السجن ليس سوى مجرد وهم فى عقول من يديرونه ومن يحرسون عنابره ، حملتنى خطابات تلقيتها من مختلف بلدان العالم إلى تلك البلدان ، الرسومات التى خطتها أصابع تلاميذ المدارس الابتدائية فى أوروبا وأمريكا والكلمات التى كتبوها لى بخط يد طفولى بالاضافة الى كلمات التضامن والمساندة التى أرسلها لى أشخاص كثيرون كانت تصل سريعا إلى هدفها وتحقق ما قد يكون مرسلها قد فكر فيه أو ربما لا يكون قد خطر بباله ، أزالت تلك الرسائل شعورى بالوحدة داخل السجن ونقلتنى إلى حيث بدأت رحلتها من بلاد لم تكن قدماى قد وطأت أرضها من قبل .
وعندما حان موعد مغادرتى للسجن ، لم يكن بإمكانى حمل تلك الكمية من الخطابات التى تجاوزت - عددا - الآلاف السبعة من الخطابات ، ووزنا لا يمكننى تخمينه لكنه تقديرا يتجاوز الخمس عشرة كيلو جراما ، فتركتها خلفى فى الزنزانة وأغلقت ورائها الباب مودعا هؤلاء الذين آنستنى فى وحدتى كلماتهم وشخبطات أناملهم الصغيرة وهم يرسمون حارسا وقضبانا وسجينا ويطالبون الحارس فى صرامة طفولية عابثة بإخراجه من محبسة !!، تلك الخطابات التى لن أنسي كيف ساعدتنى طوال شهر كامل فى اخفاء هاتف محمول داخل أحدها مستغلا زحام الخطابات وكثرتها التى لن تشجع الحراس عند تفتيش الزنزانة على فتحها واحدا تلو الآخر كى تبحث فى طياته عما قد أخفيه داخله !!
لكن إدارة السجن وعلى غير ما هو معتاد مع المسجونين المفرج عنهم فتشت أمتعتى على باب السجن كى تتأكد من أننى لم أحمل معى وقت أن غادرته أية خطابات من تلك التى كانت تصلنى ، ولحسن الحظ ، عميت أبصارهم عن أن يروا الخطابات القليلة التى فضلت الإحتفاظ بها معى مخفيها بين أمتعتى ، ونجحت فى الخروج بها بسلام !! .
والآن إذ ألتفت خلفي لأتذكر سجن برج العرب و “ عم دسوقى “ و الخطابات التى كانت تفتح وربما تقرأ قبل أن تصل الى ، أشعر بالحزن لأن هناك فى هذا العالم من لا يزالون يعانون من نفس ما عانيت منه ودفعت ثمنه سنينا فى السجن ، هؤلاء الذين سجنوا من أجل مبادىء نبيلة آمنوا بها ودافعوا عنها ودفعوا ثمن حريتهم غاليا ينبغي أن نستمر فى تقديم ما نستطيع أن نقدمه من أجل إنهاء معاناتهم أو تخفيفها ، إنهاءها بالضغط على حكومات بلادهم المستبدة ودفعها بالقوة إلى الإفراج عنهم ، أو محاولة تخفيفها بتقديم الدعم المعنوى والنفسي لهم بالكتابة اليهم وإطلاعهم أولا بأول على تفاصيل الجهود التى تبذل من أجلهم كى يختفي شعورهم بالوحدة والعزلة ويحل محله أمل بغد أفضل يغادرون فيه السجون منتصرين لمبائدهم وقيمهم و مرفوعى الرأس وفخورين بما بذلوه من أجل قضايا سامية آمنوا بها وضحوا من أجلها .

كريم عامر - من أوراق السجن : -عم دسوقى - و -جواباته -

تعليقات

لا توجد تعليقات.

هذا النص

ملف
أدب السجون والمعتقلات
المشاهدات
977
آخر تحديث
أعلى