أحمد فؤاد نجم - حكاية قصيدة..

ما أشبه الليلة بالبارحة، سبحان الله وكأن التاريخ يعيد نفسه على أرضك يا مصر المحروسة.. الزمان فى تمام عام 1968 والحدث كان خروج شباب الجامعات والمعاهد العليا فى مظاهرات عارمة لم تشهد المحروسة مثلها منذ عام 1954 -والله زمان- وكان سبب هذه الانتفاضة الشبابية هو ما عُرف آنذاك بأحكام الطيران إثر محاكمة شكلية لكل جنرالات سلاح الطيران المصرى اللى كانوا سهرانين ليلة 5 يونيو فى حفلة مالهاش مناسبة وكانت سهرة صباحى وصحينا يوم 5 يونيو 1967 على أبشع كارثة عسكرية تتعرض لها قواتنا المسلحة، اللى هى فى الأساس جيش البطل أحمد عرابى ورفيق سلاحه البطل محمد عبيد، جيش مصر المحروسة، وكان يوم صباحه أسود من مساه، على رأى المرحومة أمى هانم عليها السلام.
انضرب سلاح الطيران على الأرض وتحولت مقاتلات الميج والسوخوى إلى قطع خشبية محترقة تماماً وكان لا بد لهذه الفضيحة من كبش فدا وكان كبش الفدا هو الفريق أول محمد صدقى محمود، القائد العام لسلاح الطيران، وباقى مساعديه من جنرالات عبدالناصر وعبدالحكيم عامر.
وحين صدرت الأحكام اكتشف الشعب المصرى الخيانة فانفجرت مظاهرات الطلبة تنادى: (لا صدقى ولا الغول عبدالناصر المسئول).. على الرغم من أن جمال عبدالناصر نفسه كان هو صاحب هذا التعبير فى بيانه يوم 9 يونيو الذى أُذيع على التليفزيون حين قال: (أنا مستعد أن أتحمل المسئولية كاملة)، لكن حين جاءت هذه العبارة على لسان المتظاهرين اعتبرت كفراً وتحريفاً وعيباً فى الذات الإلهية وتم القبض على قادة المظاهرات وأُلقى بهم فى غياهب الجب، وهنا جاء دور العهر الإعلامى فى سيل من الاتهامات الفاجرة فى محاولة لتلويث شباب مصر فاتهموهم بالعمالة لجهات أجنبية وطعنوهم فى شرفهم الوطنى، تماماً كما فعلوا وما زالوا مع ثوار 25 يناير الأطهار، واضطر عبدالناصر أن يزور الجامعة وقال لهم بالحرف الواحد: «أنا لو كنت فقدت ثوريتى ماكنتش جيت لكم، إنما أنا جاى أقابلكم لأنكم مستقبل الثورة فى مصر» وكلام من هذا القبيل هدأت به النفوس واستطاعت أجهزة أمن الدولة أن تتغلغل فى صفوف طلبة الجامعات حيث زرعت مجموعة من عملائها لرصد كل التحركات الطلابية داخل الجامعات والمعاهد العليا.
وأنا الآن أتذكر اسم عاطف الشاطر، الذى كان من زعماء الحركة الطلابية، ولا أعرف أين هو الآن، كما أتذكر أن الصمت العام رمى ستائره على هذه الانتفاضة المجيدة؛ لأن الإعلام الرسمى فى مصر المحروسة بعد أن شبع تقطيعاً فى لحم الشباب صمت تماماً عن كل ما حدث وانشغل الرأى العام باستعدادات القوات المسلحة لتحرير الأرض المحتلة بعد أن قال جمال عبدالناصر: «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة» وأنا عن نفسى حاولت الكتابة فى هذا الموضوع لكنى لم أستطع إلى أن كان يوم زارنا فيه الصديق الفنان عدلى رزق الله وقال لى: إحنا الليلادى هنسهر فى شقة العجوزة وبلغ مولانا الشيخ إمام، قلت: سمعاً وطاعة، وليلتها ذهبنا إلى شقة العجوزة «حدوتة» ذلك الزمان، وفى شقة العجوزة لفت نظرى الأستاذ الحسينى، القائم بالأعمال المنزلية؛ المأكل والمشرب والتنظيف، وهو موظف كبير بإحدى المصالح الحكومية، ثم ظهر محمد جاد الرب فشدنى إليه بلونه الأسود وشعره الذى يشبه رأس العبد التى تستخدمها ربات البيوت فى تنظيف السقف من الأتربة، ثم أقبل حجازى الرسام أستاذى وصديقى وحبيبى بعد ما سفخنا صينية البطاطس وحبسنا، بدأ الشيخ إمام يغنى اللحن الجديد:

«أنا الأديب الأدباتى
غايظنى حال بلدياتى
وغلبت أوحوح وأهاتى
لكن بلدنا سمعها تقيل
الله الله يا بدوى هات الشخاليل»
.

وبعد انتهاء الغناء بدأ النقاش وكان موضوع الليلة هو الانتفاضة الطلابية وما حدث لها، وقد قلت على سبيل الاعتذار:
- «معلهش أنا لسة مكتبتش لكن لازم أكتب»
فقالى محمد جاد:
-«أنا يعنى كدة حاولت أكتب معرفش معرفش بقى»،
فقال له الشيخ إمام:
- طب ما تسمعنا
وبدأ محمد جاد يقرأ من ورقة فى يده:

«يا أم المطاهر رشى الملح سبع مرات
ومع الزغروطة احكى حدوتة تعلب فات
إلا المطاهر شافها مظاهر طب سكات
وبإيده شرخ
وبإيديه شرخ
بنيان وصرخ
وكتب وترخ
ما إحناش بقرات
يا أم المطاهر رشى الملح سبع مرات.. إلخ».


وكانت القصيدة دى هى كلمة الحق الوحيدة اللى اتقالت فى انتقاضة الشباب المجيدة عام 1968 ومش بس كدة دى كانت المحاولة الأولى فى كتابة الشعر اللى اقترفها محمد جاد الرب على فلاح بركة السبع الفصيح.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى