كان ذلك فى شتاء عام 1975 والأسفلت يبعث برودة قارسة فى الأجسام الغضة, والبرش المصنوع من جدائل الخوص يرسم علاماته بكامل التفصيلات, ليبدو الجسم مطبوعا بنقشه بدقة, وجردل البول يعّبق الزنزانة الضيقة, ولسعات القمل ذى اللون الأبيض تصيب الجلد بحساسية مستمرة.
هذا جزء من مشهد كافكاوى للسجن فى بلدى, ومجمل الصورة أكثر مرارة, يخفف من المشهد أحيانا أن تكون فى زنزانة جماعية, وأحيانا يزيد ذلك المشهد تعقيدا, يعتمد ذلك فى الغالب على من معك, ينطبق على ذلك مقولة "سارتر" ( الجحيم هو الآخرين ), فى هذه الظروف تعرفت عليه.
أسمر, طويل, له شارب دوجلاس صغير, يهتم دائما بمظهره, بدلة السجن الزرقاء دائما نظيفة ومهندمة, الحذاء نظيف, أسنانه بيضاء لامعة, شعره ممشط, يمشى بخطوات واثقه, ويحمل علبة السجائر البلمونت الصغيرة دائما فى جيبه.
كان يملك حساسية عالية, وإسلوب مميز فى التعامل مع البشر, إقترب منى وئيدا وعلى مراحل, وكأنما ينسج تفاصيل علاقة من نوع خاص, فى اللحظة المناسبة وبينما نجلس فى حوش الكانتين الضيق, إقترب منى محييا مادا يده بعلبة السجائر, تناولت واحدة شاكرا, أشعل سيجارته وإنتحينا جانبا, ودار بيننا حوار طويل.
مع مرور الوقت كنا نحرص على اللقاء أثناء فترة الفسحة, وإتسعت أطراف الحديث ليحكى لى قصته.
هو يحمل شهادة متوسطة, فى حوالى الخامسة والثلاثين, الإبن الأكبر لخمس بنات, أبوه يعمل صف ضابط فى البوليس برتبة متواضعة, أخته الكبرى"سناء" حاصلة على دبلوم تجارة متوسطة وتعمل فى الحى, ولدوا جميعا وعاشوا فى مدينة"بور سعيد" حتى العام 1968, كانت حياة متقشفة لكن هادئة, حتى اضطروا مثل الملايين من سكان مدن القناة الى التهجير الى مختلف المدن المصرية, فى أكبر هجرة جماعية شهدتها مصر فى تاريخها الطويل.
كانت محطتهم فى إحدى المدارس بالأسكندرية, فى حى باكوس الشعبى المزدحم, تكدسوا جميعا فى أحد فصول المدرسة, تشاركهم عائلات أخرى كثيرة فى باقى الفصول, حياة جديدة عليهم, الأصوات العالية والضجة لا تنتهى, طقوس الإذدحام والحاجة تؤدى الى مشاكل مستمرة وخناقات, توجدعلاقات كثيرة غير مشروعة, ومشاريع حب مجهضة.
تم تسليمه عملا بالتليفونات, وعمل أبوه بقسم سيدى جابر, وأخته"سناء" بحى شرق, باقى البنات التحقوا بمدارس قريبة, وإستمرت الحياة بصعوبة, والأم تحاول تدبير الحياة الجديدة بمشقة, تحاول هذه السيدة أن تسد الأفواه المفتوحة بأى وسيلة, مداعبات البنات مع أمهن لا تنقطع, يذكر لى "سمير" أنهم لم يكونوا يأكلون اللحم الا فى المناسبات, كانوا فى أغلب الأيام يفطرون جبنا بالزيت مع الخبز والشاى, وتتكر الوجبة فى الغذاء, وفى المساء عندما تعجز الأم عن ماذا يؤكلون, تبتسم البنات فى خبث ( وحشتنا الجبنة أم زيت ياماما).
هروبا من المكان الضيق والمزدحم, تعّود سمير الجلوس على مقهى فى "كامب شيزار", تعرف هناك على بعض الشباب كان منهم " سيد" و"سلامة", وبدأ تفكيره يتجه الى عمل ضربة كبيرة تخرجهم من الفقر, وجهه هذا التفكير الى بيت الخواجة "أنطونيو", الساكن فى عمارة كبيرة وقديمة فى الإبراهيمية, حيث قد كان زاره سابقا لإصلاح التليفون, ولاحظ أنه يقيم وحده, وعندما أراد الخواجة أن يعطيه بقشيشا دخل الى غرفة النوم وبقى فيها طويلا قبل أن يحضر النقود.
بعد إتخاذ قرار العملية, قرر أن يعترف للأسرة, جمعهم بعد العشاء, وحكى لهم القصة, وأعلن لهم قراره بسرقة الخواجة, إعترضوا فى البداية, ولكنه أقنعهم أنه لا حل من الخروج من أزمتهم إلا من خلال هذه العملية المضمونة, ضمن موافقتهم, إنطلق الى القهوة, وإختلى برفاقه فى أحد الأركان, ورتب معهم دور كل واحد منهم.
كانت الخطة أن يلبس سمير ملابس ظابط, وينتحل الأخريان صفة مخبرين, وبعد دخول البيت يأخذون المال فقط ويهربون, ويقوم سمير بإخفاء المبلغ لحين تقسيمه, ذكر لى سمير أن أبوه قام بتأمين المنطقة ليلة الحادث, وبعد إتمام العملية قاموا بتقييد الضحية, بعد تكميم فمه.
قام سمير بعد ذلك بإبلاغ الشرطة (حسب قوله) حفاظا على حياة العجوز, وإحتفظ فى البيت بمبلغ مائة جنيه, وتم إخفاء الباقى, وإنتظر حتى تهدأ الأمور, ولكن الآخرين ما كانوا لينتظرون.
سرعان ما إكتشف البوليس خيوط الجريمة نتيجة ثرثرة أحد المشتركين, حاصرت الشرطة المكان الذى يقيم به, أحس بهم سمير, أطفاء نور الغرفة ونظر من خلال الشيش, تأكد أنهم أوقعوا به, أخبر أمه وأخواته البنات وطلب منهم التماسك, صوت أقدامهم الثقيلة تصعد السلم الداخلى للمدرسة, خبطات قوية على الباب, طلب من البنات التوارى وفتح لهم.
كانو أربعة على رأسهم ضابط مباحث القسم, وكلهم مسلحين, كانوا عنيفين فى تحركهم, وضعوا سمير قبالة الحائط رافعا يديه, وقلبوا كل شيئ, كانت الأم واقفة فى وسط الغرفة, تحاول أن تمنع نفسها عن البكاء أو الصراخ, طلب الضابط من سمير أن يستدير, أخبره ا، يعترف أين أخفى النقود فى هدوء, وإلا ستسوء العواقب, نظر سمير فى عيني أمه, ذكر لى سمير أنه فى هذه اللحظة قرر الإعتراف, أخبرنى لو أن الضابط ضربها قلما لإنهارهو وإعترف, والعكس أيضا لو ضربه قلما لإنهارت هى.
طلب من النقيب " أدم" إعطاؤه كلمة شرف, أنه إذا إعترف له بالحقيقة ألا يزج بأحد من أفراد أسرته فى القضية.
بعد أن أعطاه الضابط كلمة الشرف, أخبره أن المبلغ قد أخفته "سناء" أخته بالخزينة فى الحى, وهى فقط التى معها المفتاح, كان موقفا صعبا, قام الضابط بعدة إتصالات بالاسلكى, ثم طلب منه وأخته إصطحابه الى الحى, وبعد أن إستلم النقود, ناقصة المائة جنيه,أخذ معه سميرإلى القسم, ولم يرد إسم أخته فى جميع محاضر التحقيق.
وقفت الأسرة خلف سمير طول الوقت, معتبرين أنه ضحى بنفسه من أجلهم, وتلك هى الحقيقة نسبيا, حكم عليه بعشر سنوات لإتهامه بالسرقة بالإكراه, وإنتحال شخصية ضابط بوليس.
توثقت بيننا العلاقة, كان يواصل دراسته بكلية الحقوق, كانت أسرته تزوره بإنتظام, ويتركون له نقودا دائما فى حساب الكانتين, وبدأت فى الإندماج معه وبعض الجنائيين أصدقاؤه, وكان معظمهم منتسبين للكليات النظرية, منهم "عبد العزيز الناحل" و"عبد الفتاح عواد" و"رمزى الفلسطينى" وآخرين.
بعد أن قررت القيادة السياسية الإفراج عن مجموعتنا, وفى الليلة الأخيرة لى معه فى السجن, قرر ومجموعة من زملائه توديعى بإحتفالية, تم رشوة الحرس للسماح لى بأن أقضى الليلة معهم, كانوا قد أعدوا عشاءا فخما, أحضرته أسرته خصيصا حسب طلبه, مع قطعة من الحشيش وزجاجة خمر هربها رمزى عن طريق "البوسطة" (وهى طريقة للتهريب عبر السور عن طريق حبل طويل يقذف به بشدة), ورغم عدم تعلقى بالخمر أو الحشيش فقد تناولته معهم مجاملة.
أثناء وداعنا فى الصباح, طلب منى سمير أن أفتح الراديو على إذاعة الأسكندرية فى يوم وساعة محددين بعد حوالى إسبوع, وعند سماعى للراديو كانت المذيعة تعلن إهداء الأغنية التالية من سمير والزملاء فى السجن اليّ.
رياض حسن محرم - قصص من السجن
هذا جزء من مشهد كافكاوى للسجن فى بلدى, ومجمل الصورة أكثر مرارة, يخفف من المشهد أحيانا أن تكون فى زنزانة جماعية, وأحيانا يزيد ذلك المشهد تعقيدا, يعتمد ذلك فى الغالب على من معك, ينطبق على ذلك مقولة "سارتر" ( الجحيم هو الآخرين ), فى هذه الظروف تعرفت عليه.
أسمر, طويل, له شارب دوجلاس صغير, يهتم دائما بمظهره, بدلة السجن الزرقاء دائما نظيفة ومهندمة, الحذاء نظيف, أسنانه بيضاء لامعة, شعره ممشط, يمشى بخطوات واثقه, ويحمل علبة السجائر البلمونت الصغيرة دائما فى جيبه.
كان يملك حساسية عالية, وإسلوب مميز فى التعامل مع البشر, إقترب منى وئيدا وعلى مراحل, وكأنما ينسج تفاصيل علاقة من نوع خاص, فى اللحظة المناسبة وبينما نجلس فى حوش الكانتين الضيق, إقترب منى محييا مادا يده بعلبة السجائر, تناولت واحدة شاكرا, أشعل سيجارته وإنتحينا جانبا, ودار بيننا حوار طويل.
مع مرور الوقت كنا نحرص على اللقاء أثناء فترة الفسحة, وإتسعت أطراف الحديث ليحكى لى قصته.
هو يحمل شهادة متوسطة, فى حوالى الخامسة والثلاثين, الإبن الأكبر لخمس بنات, أبوه يعمل صف ضابط فى البوليس برتبة متواضعة, أخته الكبرى"سناء" حاصلة على دبلوم تجارة متوسطة وتعمل فى الحى, ولدوا جميعا وعاشوا فى مدينة"بور سعيد" حتى العام 1968, كانت حياة متقشفة لكن هادئة, حتى اضطروا مثل الملايين من سكان مدن القناة الى التهجير الى مختلف المدن المصرية, فى أكبر هجرة جماعية شهدتها مصر فى تاريخها الطويل.
كانت محطتهم فى إحدى المدارس بالأسكندرية, فى حى باكوس الشعبى المزدحم, تكدسوا جميعا فى أحد فصول المدرسة, تشاركهم عائلات أخرى كثيرة فى باقى الفصول, حياة جديدة عليهم, الأصوات العالية والضجة لا تنتهى, طقوس الإذدحام والحاجة تؤدى الى مشاكل مستمرة وخناقات, توجدعلاقات كثيرة غير مشروعة, ومشاريع حب مجهضة.
تم تسليمه عملا بالتليفونات, وعمل أبوه بقسم سيدى جابر, وأخته"سناء" بحى شرق, باقى البنات التحقوا بمدارس قريبة, وإستمرت الحياة بصعوبة, والأم تحاول تدبير الحياة الجديدة بمشقة, تحاول هذه السيدة أن تسد الأفواه المفتوحة بأى وسيلة, مداعبات البنات مع أمهن لا تنقطع, يذكر لى "سمير" أنهم لم يكونوا يأكلون اللحم الا فى المناسبات, كانوا فى أغلب الأيام يفطرون جبنا بالزيت مع الخبز والشاى, وتتكر الوجبة فى الغذاء, وفى المساء عندما تعجز الأم عن ماذا يؤكلون, تبتسم البنات فى خبث ( وحشتنا الجبنة أم زيت ياماما).
هروبا من المكان الضيق والمزدحم, تعّود سمير الجلوس على مقهى فى "كامب شيزار", تعرف هناك على بعض الشباب كان منهم " سيد" و"سلامة", وبدأ تفكيره يتجه الى عمل ضربة كبيرة تخرجهم من الفقر, وجهه هذا التفكير الى بيت الخواجة "أنطونيو", الساكن فى عمارة كبيرة وقديمة فى الإبراهيمية, حيث قد كان زاره سابقا لإصلاح التليفون, ولاحظ أنه يقيم وحده, وعندما أراد الخواجة أن يعطيه بقشيشا دخل الى غرفة النوم وبقى فيها طويلا قبل أن يحضر النقود.
بعد إتخاذ قرار العملية, قرر أن يعترف للأسرة, جمعهم بعد العشاء, وحكى لهم القصة, وأعلن لهم قراره بسرقة الخواجة, إعترضوا فى البداية, ولكنه أقنعهم أنه لا حل من الخروج من أزمتهم إلا من خلال هذه العملية المضمونة, ضمن موافقتهم, إنطلق الى القهوة, وإختلى برفاقه فى أحد الأركان, ورتب معهم دور كل واحد منهم.
كانت الخطة أن يلبس سمير ملابس ظابط, وينتحل الأخريان صفة مخبرين, وبعد دخول البيت يأخذون المال فقط ويهربون, ويقوم سمير بإخفاء المبلغ لحين تقسيمه, ذكر لى سمير أن أبوه قام بتأمين المنطقة ليلة الحادث, وبعد إتمام العملية قاموا بتقييد الضحية, بعد تكميم فمه.
قام سمير بعد ذلك بإبلاغ الشرطة (حسب قوله) حفاظا على حياة العجوز, وإحتفظ فى البيت بمبلغ مائة جنيه, وتم إخفاء الباقى, وإنتظر حتى تهدأ الأمور, ولكن الآخرين ما كانوا لينتظرون.
سرعان ما إكتشف البوليس خيوط الجريمة نتيجة ثرثرة أحد المشتركين, حاصرت الشرطة المكان الذى يقيم به, أحس بهم سمير, أطفاء نور الغرفة ونظر من خلال الشيش, تأكد أنهم أوقعوا به, أخبر أمه وأخواته البنات وطلب منهم التماسك, صوت أقدامهم الثقيلة تصعد السلم الداخلى للمدرسة, خبطات قوية على الباب, طلب من البنات التوارى وفتح لهم.
كانو أربعة على رأسهم ضابط مباحث القسم, وكلهم مسلحين, كانوا عنيفين فى تحركهم, وضعوا سمير قبالة الحائط رافعا يديه, وقلبوا كل شيئ, كانت الأم واقفة فى وسط الغرفة, تحاول أن تمنع نفسها عن البكاء أو الصراخ, طلب الضابط من سمير أن يستدير, أخبره ا، يعترف أين أخفى النقود فى هدوء, وإلا ستسوء العواقب, نظر سمير فى عيني أمه, ذكر لى سمير أنه فى هذه اللحظة قرر الإعتراف, أخبرنى لو أن الضابط ضربها قلما لإنهارهو وإعترف, والعكس أيضا لو ضربه قلما لإنهارت هى.
طلب من النقيب " أدم" إعطاؤه كلمة شرف, أنه إذا إعترف له بالحقيقة ألا يزج بأحد من أفراد أسرته فى القضية.
بعد أن أعطاه الضابط كلمة الشرف, أخبره أن المبلغ قد أخفته "سناء" أخته بالخزينة فى الحى, وهى فقط التى معها المفتاح, كان موقفا صعبا, قام الضابط بعدة إتصالات بالاسلكى, ثم طلب منه وأخته إصطحابه الى الحى, وبعد أن إستلم النقود, ناقصة المائة جنيه,أخذ معه سميرإلى القسم, ولم يرد إسم أخته فى جميع محاضر التحقيق.
وقفت الأسرة خلف سمير طول الوقت, معتبرين أنه ضحى بنفسه من أجلهم, وتلك هى الحقيقة نسبيا, حكم عليه بعشر سنوات لإتهامه بالسرقة بالإكراه, وإنتحال شخصية ضابط بوليس.
توثقت بيننا العلاقة, كان يواصل دراسته بكلية الحقوق, كانت أسرته تزوره بإنتظام, ويتركون له نقودا دائما فى حساب الكانتين, وبدأت فى الإندماج معه وبعض الجنائيين أصدقاؤه, وكان معظمهم منتسبين للكليات النظرية, منهم "عبد العزيز الناحل" و"عبد الفتاح عواد" و"رمزى الفلسطينى" وآخرين.
بعد أن قررت القيادة السياسية الإفراج عن مجموعتنا, وفى الليلة الأخيرة لى معه فى السجن, قرر ومجموعة من زملائه توديعى بإحتفالية, تم رشوة الحرس للسماح لى بأن أقضى الليلة معهم, كانوا قد أعدوا عشاءا فخما, أحضرته أسرته خصيصا حسب طلبه, مع قطعة من الحشيش وزجاجة خمر هربها رمزى عن طريق "البوسطة" (وهى طريقة للتهريب عبر السور عن طريق حبل طويل يقذف به بشدة), ورغم عدم تعلقى بالخمر أو الحشيش فقد تناولته معهم مجاملة.
أثناء وداعنا فى الصباح, طلب منى سمير أن أفتح الراديو على إذاعة الأسكندرية فى يوم وساعة محددين بعد حوالى إسبوع, وعند سماعى للراديو كانت المذيعة تعلن إهداء الأغنية التالية من سمير والزملاء فى السجن اليّ.
رياض حسن محرم - قصص من السجن