أعاجيب ابن عبد الرحمن
ثم رجع الحديث الى أعاجيب أبي عبد الرحمن:
وكان أبو عبد الرحمن يعجب بالرؤوس ويحمدها ويصفها. وكان لا يأكل اللحم إلا يوم أضحى، أو من بقية أضحيته ، أو يكون في عرس أو دعوة أو سفرة. وكان سمى الرأس «عرسا» لما يجتمع فيه من الألوان الطيبة. وكان يسميه مرة «الجامع» ، ومرة «الكامل» .
وكان يقول: «الرأس شيء واحد، وهو ذو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة . وكل قدر وكل شواء فإنما هو شيء واحد، والرأس فيه الدماغ ، فطعم الدماغ على حدة؛ وفيه العينان وطعمهما شيء على حدة؛ وفيه الشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين وطعمها على حدة، على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ وأنعم من الزبد وأدسم من السلاء ؛ وفي الرأس اللسان وطعمه شيء على حدة، وفيه الخيشوم والغضروف الذي في الخيشوم وطعمهما شيء على حدة؛ وفيه لحم الخدين وطعمه شيء على حدة» ، حتى يقسم اسقاطه الباقية. ويقول:
«الرأس سيد البدن، وفيه الدماغ، وهو معدن العقل، ومنه يتفرق العصب الذي فيه الحس، وبه قوام البدن؛ وإنما القلب باب العقل؛ كما أن النفس هي المدركة؛ والعين هي باب الألوان؛ والنفس هي السامعة الذائقة؛ وإنما الأنف والأذن بابان. ولولا أن العقل في الرأس لما ذهب العقل من الضربة تصيبه، وفي الرأس الحواس الخمس» . وكان ينشد قول الشاعر:
إذا ضربوا رأسي، وفي الرأس أكثري = وغودر عند الملتقى ثم سائري
وكان يقول: «الناس لم يقولوا: هذا رأس الأمر، وفلان رأس الكتيبة، وهو رأس القوم، وهم رؤوس الناس وخراطيمهم وأنفهم، واشتقوا من الرأس الرياسة والرئيس، وقد رأس القوم فلان، إلا والرأس هو المثل وهو المقدم» .
وكان إذا فرغ من أكل الرأس عمد إلى القحف وإلى اللحيين فوضعه بقرب بيوت النمل والذر، فإذا اجتمعن فيه أخذه فنفضه في طست فيها ماء، فلا يزال يعيد ذلك في تلك المواضع، حتى يقلع أصل النمل والذر من داره؛ فإذا فرغ من ذلك ألقاه في الحطب، ليوقد به سائر الحطب.
وكان إذا كان يوم الرؤوس أقعد ابنه معه على الخوان. إلا أن ذلك بعد تشرط طويل، وبعد أن يقف له على ما يريده. وكان فيما يقول له: «إياك ونهم الصبيان، وشره الزراع، وأخلاق النوائح . ودع عنك خبط الملاحين والفعلة ، ونهش الأعراب والمهنة . وكل من بين يديك، فإنما حظك الذي وقع وصار أقرب إليك. وإعلم أنه إذا كان في عام شيء طريف ولقمة كريمة ومضغة شهية، فإنما ذلك للشيخ المعظم والصبي المدلل، ولست واحدا منهما. فأنت قد تأتي الدعوات وتجيب الولائم، وتدخل منازل وعهدك باللحم قريب، وإخوانك أشد قرما إليه منك. وأنا بعد أكره لك الموالاة بين اللحم، فإن الله يبغض أهل البيت اللحمين. وكان عمر يقول: «إياكم وهذه المجازر، فإن لها ضراوة كضراوة الخمر . وكان يقول: «مدمن اللحم كمدمن الخمر» . وقال المسيح ورأى رجلا يأكل اللحم فقال: «لحم يأكل لحما، أف لهذا عملا» . وذكر هرم بن قطبة اللحم، فقال: «وإنه ليقتل السباع».
وقال المهلب : «لحم وارد على غير قرم، هذا الموت الأحمر» . وقال الأول: «أهلك الرجال الأحمران: اللحم والخمر، وأهلك النساء الأحمران: الذهب والزعفران» .
أي بني! عود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش الأفاعي ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدم الأكل إدامة النعاج، ولا تلقم لقم الجمال. قال أبو ذر، لمن بدل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخضمون ونقضم والموعد لله» . إن الله قد فضلك فجعلك إنسانا، فلا تجعل نفسك بهيمة ولا سبعا . واحذر سرعة الكظة وسرف البطنة. وقد قال بعض الحكماء: «إذا كنت بطينا فعد نفسك في الزمني » وقال الأعشى:
«والبطنة مما تسفه الأحلاما»
واعلم أن الشبع داعية البشم ، وأن البشم داعية السقم، وأن السقم داعية الموت؛ ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة، وهو قاتل نفسه وقاتل نفسه ألوم من قاتل غيره. وأعجب إن أردت العجب. وقد قال الله جل ذكره: ولا تقتلوا أنفسكم
. وسواء. قتلنا أنفسنا أو قتل بعضنا بعضا كان ذلك للآية تأويلا.
أي بني! إن القاتل والمقتول في النار. لو سألت حذاق الأطباء لأخبروك أن عامة أهل القبور إنما ماتوا بالتخم. واعرف خطأ من قال:
«أكلة وموتة» ، وخذ بقول من قال: «رب أكلة تمنع أكلات» وقد قال الحسن «3» : «يا ابن آدم كل في ثلث بطنك، ودع الثلث للتفكر والتنفس» . وقال بكر بن عبد الله المزني : «ما وجدت طعم العيش حتى استبدلت الخمص بالكظة، وحتى لم ألبس من ثيابي ما يستخدمني، وحتى لم آكل إلا ما لا اغسل يدي منه» .
يا بني! والله ما أدري حق الركوع ولا وظيفة السجود ذو كظة، ولا خشع لله ذو بطنة. والصوم مصحة، والوجبات عيش الطالحين.
ثم قال: لأمر ما طالت أعمال الهند، وصحت أبدان الأعراب. فلله در الحارث إبن كلدة حين زعم أن الدواء هو الأزم ، وأن الداء هو إدخال الطعام في إثر الطعام.
أي بني! لم صفت أذهان العرب، ولم صدقت إحساس الأعراب، ولم صحت أبدان الرهبان، مع طول الإقامة في الصوامع، وحتى لم تعرف النقرس ولا وجع المفاصل ولا الأورام، إلا لقلة الرزء من الطعام، وخفة الزاد والتبلغ باليسير؟
أي بني! إن نسيم الدنيا وروح الحياة، أفضل من أن تبيت كظيظا وأن تكون بقصر العمر خليقا. وكيف لا ترغب في تدبير يجمع لك صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح المعاد، وكثرة المال، والقرب من عيش الملائكة.
أي بني! لم صار الضب أطول شيء عمرا، إلا لأنه إنما يعيش بالنسيم؟ ولم زعم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصوم وجاء ، إلا ليجعل الجوع حجازا دون الشهوات؟ افهم تأديب الله فإنه لم يقصد به إلا الى مثلك.
أي بني! قد بلغت تسعين عاما ما نغض لي سن، ولا تحرك لي عظم، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت دنين أذن ولا سيلان عين، ولا سلس بول، ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فلا يبعد الله إلا من ظلم» .
هذه كانت وصيته في يوم الرؤوس وحده. فلم يكن لعياله إلا التقمم «1» ومص العظم.
وكان لا يشتري الرأس إلا في زيادة الشهر، لمكان زيادة الدماغ.
وكان لا يشتري إلا رأس فتى لوفارة الدماغ، لأن دماغ الفتى أوفر، ويكون مخه أنقص، ومخ المسن أوفر ودماغه أنقص.
ويزعمون أن للأهلة والمحاق في الأدمغة والدماء عملا معروفا، وبينها في الربيع والخريف فضلا بينا. وتزعم الأعراب والعرب أن النطفة إذا وقعت في الرحم، في أول الهلال، خرج الولد قويا ضخما، وإذا كان في المحاق خرج ضئيلا شختا «2» . وأنشد قول الشاعر:
لقحت في الهلال عن قبل الطهر ... وقد لاح للضياء بشير
ثم نمى ولم يراضع فلوا «3» ... ورضاع المحج عيب كبير «4»
وكان أبو عبد الرحمن يشتري ذلك الرأس من جميع رأآسي بغداد، إلا من رأآسي مسجد ابن رغبان. وكان لا يشتريه إلا يوم سبت. واختلط عليه الأمر فيما بين الشتاء والصيف، فكان مرة يشتريه في هذا الزمان.
وأما زهده في رؤوس مسجد ابن رغبان، فان البصريين يختارون لحم الماعز الخصي على الضأن كله، ورؤوس الضأن أشحم وألحم رخصا وأطيب. ورأس التيس أكثر لحما من رأس الخصي، لأن الخصي من الماعز يعرق جلده، ويقل لحم رأسه ولا يبلغ جلده وإن كان ما عزا في الثمن عشر ما يبلغ جلد التيس، ولا يكون رأسه إلا دونا. ولذلك تخطاه إلى غيره.
وما اختيار شراء الرؤوس يوم السبت، فإن القصابين يذبحون يوم الجمعة أكثر، فتكثر الرؤوس يوم السبت على قدر للفضل فيما يذبحون، ولأن العوام والتجار والصناع لا يقرمون إلى أكل الرؤوس يوم السبت، مع قرب عهدهم بأكل اللحم يوم الجمعة، ولأن عامتهم قد بقيت عنده فضلة، فهي تمنعه من الشهوة. ولأن الناس لا يكادون يجمعون على خوان واحد بين الرؤوس واللحم.
وأما اختلاط التدبير عليه في فرق ما بين الشتاء والصيف، فوجه ذلك أن العلل كانت تتصور له، وتعرض له الدواعي على قدر قرمه وحركة شهوته، صيفا وافق ذلك أم شتاء. فإن اللحم في الصيف أرخص، والرؤوس تابعة للحم، ولأن الناس في الشتاء لها آكل، وهم لها في القيظ «2» أترك. فكان يختار الرخص على حسن الموقع. فإذا قويت دواعيها في الشتاء، قال: «رأس واحد شتوي كرأسين صيفيين، لأن المعلوفة غير الراعية، وما أكل الكسب في الحبس موثقا، غير ما أكل الحشيش في الصحراء مطلقا» . وكان على ثقة أنه سيأتي عليه في الشتاء مع صحته وبدنه، وفي شك من استبقائه في الصيف، لنقصان شهوات الناس للرؤوس في الصيف، فكان يخاف جريرة تلك البقية وجناية تلك الفضلة. وكان يقول إن أكلتها بعد الشبع لم آمن العطب وإن تركتها لهم في الصيف، ولم يعرفوا العلة، طلبوا ذلك مني في الشتاء!.
ثم رجع الحديث الى أعاجيب أبي عبد الرحمن:
وكان أبو عبد الرحمن يعجب بالرؤوس ويحمدها ويصفها. وكان لا يأكل اللحم إلا يوم أضحى، أو من بقية أضحيته ، أو يكون في عرس أو دعوة أو سفرة. وكان سمى الرأس «عرسا» لما يجتمع فيه من الألوان الطيبة. وكان يسميه مرة «الجامع» ، ومرة «الكامل» .
وكان يقول: «الرأس شيء واحد، وهو ذو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة . وكل قدر وكل شواء فإنما هو شيء واحد، والرأس فيه الدماغ ، فطعم الدماغ على حدة؛ وفيه العينان وطعمهما شيء على حدة؛ وفيه الشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين وطعمها على حدة، على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ وأنعم من الزبد وأدسم من السلاء ؛ وفي الرأس اللسان وطعمه شيء على حدة، وفيه الخيشوم والغضروف الذي في الخيشوم وطعمهما شيء على حدة؛ وفيه لحم الخدين وطعمه شيء على حدة» ، حتى يقسم اسقاطه الباقية. ويقول:
«الرأس سيد البدن، وفيه الدماغ، وهو معدن العقل، ومنه يتفرق العصب الذي فيه الحس، وبه قوام البدن؛ وإنما القلب باب العقل؛ كما أن النفس هي المدركة؛ والعين هي باب الألوان؛ والنفس هي السامعة الذائقة؛ وإنما الأنف والأذن بابان. ولولا أن العقل في الرأس لما ذهب العقل من الضربة تصيبه، وفي الرأس الحواس الخمس» . وكان ينشد قول الشاعر:
إذا ضربوا رأسي، وفي الرأس أكثري = وغودر عند الملتقى ثم سائري
وكان يقول: «الناس لم يقولوا: هذا رأس الأمر، وفلان رأس الكتيبة، وهو رأس القوم، وهم رؤوس الناس وخراطيمهم وأنفهم، واشتقوا من الرأس الرياسة والرئيس، وقد رأس القوم فلان، إلا والرأس هو المثل وهو المقدم» .
وكان إذا فرغ من أكل الرأس عمد إلى القحف وإلى اللحيين فوضعه بقرب بيوت النمل والذر، فإذا اجتمعن فيه أخذه فنفضه في طست فيها ماء، فلا يزال يعيد ذلك في تلك المواضع، حتى يقلع أصل النمل والذر من داره؛ فإذا فرغ من ذلك ألقاه في الحطب، ليوقد به سائر الحطب.
وكان إذا كان يوم الرؤوس أقعد ابنه معه على الخوان. إلا أن ذلك بعد تشرط طويل، وبعد أن يقف له على ما يريده. وكان فيما يقول له: «إياك ونهم الصبيان، وشره الزراع، وأخلاق النوائح . ودع عنك خبط الملاحين والفعلة ، ونهش الأعراب والمهنة . وكل من بين يديك، فإنما حظك الذي وقع وصار أقرب إليك. وإعلم أنه إذا كان في عام شيء طريف ولقمة كريمة ومضغة شهية، فإنما ذلك للشيخ المعظم والصبي المدلل، ولست واحدا منهما. فأنت قد تأتي الدعوات وتجيب الولائم، وتدخل منازل وعهدك باللحم قريب، وإخوانك أشد قرما إليه منك. وأنا بعد أكره لك الموالاة بين اللحم، فإن الله يبغض أهل البيت اللحمين. وكان عمر يقول: «إياكم وهذه المجازر، فإن لها ضراوة كضراوة الخمر . وكان يقول: «مدمن اللحم كمدمن الخمر» . وقال المسيح ورأى رجلا يأكل اللحم فقال: «لحم يأكل لحما، أف لهذا عملا» . وذكر هرم بن قطبة اللحم، فقال: «وإنه ليقتل السباع».
وقال المهلب : «لحم وارد على غير قرم، هذا الموت الأحمر» . وقال الأول: «أهلك الرجال الأحمران: اللحم والخمر، وأهلك النساء الأحمران: الذهب والزعفران» .
أي بني! عود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة، ولا تنهش نهش الأفاعي ولا تخضم خضم البراذين، ولا تدم الأكل إدامة النعاج، ولا تلقم لقم الجمال. قال أبو ذر، لمن بدل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تخضمون ونقضم والموعد لله» . إن الله قد فضلك فجعلك إنسانا، فلا تجعل نفسك بهيمة ولا سبعا . واحذر سرعة الكظة وسرف البطنة. وقد قال بعض الحكماء: «إذا كنت بطينا فعد نفسك في الزمني » وقال الأعشى:
«والبطنة مما تسفه الأحلاما»
واعلم أن الشبع داعية البشم ، وأن البشم داعية السقم، وأن السقم داعية الموت؛ ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة، وهو قاتل نفسه وقاتل نفسه ألوم من قاتل غيره. وأعجب إن أردت العجب. وقد قال الله جل ذكره: ولا تقتلوا أنفسكم
. وسواء. قتلنا أنفسنا أو قتل بعضنا بعضا كان ذلك للآية تأويلا.
أي بني! إن القاتل والمقتول في النار. لو سألت حذاق الأطباء لأخبروك أن عامة أهل القبور إنما ماتوا بالتخم. واعرف خطأ من قال:
«أكلة وموتة» ، وخذ بقول من قال: «رب أكلة تمنع أكلات» وقد قال الحسن «3» : «يا ابن آدم كل في ثلث بطنك، ودع الثلث للتفكر والتنفس» . وقال بكر بن عبد الله المزني : «ما وجدت طعم العيش حتى استبدلت الخمص بالكظة، وحتى لم ألبس من ثيابي ما يستخدمني، وحتى لم آكل إلا ما لا اغسل يدي منه» .
يا بني! والله ما أدري حق الركوع ولا وظيفة السجود ذو كظة، ولا خشع لله ذو بطنة. والصوم مصحة، والوجبات عيش الطالحين.
ثم قال: لأمر ما طالت أعمال الهند، وصحت أبدان الأعراب. فلله در الحارث إبن كلدة حين زعم أن الدواء هو الأزم ، وأن الداء هو إدخال الطعام في إثر الطعام.
أي بني! لم صفت أذهان العرب، ولم صدقت إحساس الأعراب، ولم صحت أبدان الرهبان، مع طول الإقامة في الصوامع، وحتى لم تعرف النقرس ولا وجع المفاصل ولا الأورام، إلا لقلة الرزء من الطعام، وخفة الزاد والتبلغ باليسير؟
أي بني! إن نسيم الدنيا وروح الحياة، أفضل من أن تبيت كظيظا وأن تكون بقصر العمر خليقا. وكيف لا ترغب في تدبير يجمع لك صحة البدن، وذكاء الذهن، وصلاح المعاد، وكثرة المال، والقرب من عيش الملائكة.
أي بني! لم صار الضب أطول شيء عمرا، إلا لأنه إنما يعيش بالنسيم؟ ولم زعم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصوم وجاء ، إلا ليجعل الجوع حجازا دون الشهوات؟ افهم تأديب الله فإنه لم يقصد به إلا الى مثلك.
أي بني! قد بلغت تسعين عاما ما نغض لي سن، ولا تحرك لي عظم، ولا انتشر لي عصب، ولا عرفت دنين أذن ولا سيلان عين، ولا سلس بول، ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة، وإن كنت تحب الموت فلا يبعد الله إلا من ظلم» .
هذه كانت وصيته في يوم الرؤوس وحده. فلم يكن لعياله إلا التقمم «1» ومص العظم.
وكان لا يشتري الرأس إلا في زيادة الشهر، لمكان زيادة الدماغ.
وكان لا يشتري إلا رأس فتى لوفارة الدماغ، لأن دماغ الفتى أوفر، ويكون مخه أنقص، ومخ المسن أوفر ودماغه أنقص.
ويزعمون أن للأهلة والمحاق في الأدمغة والدماء عملا معروفا، وبينها في الربيع والخريف فضلا بينا. وتزعم الأعراب والعرب أن النطفة إذا وقعت في الرحم، في أول الهلال، خرج الولد قويا ضخما، وإذا كان في المحاق خرج ضئيلا شختا «2» . وأنشد قول الشاعر:
لقحت في الهلال عن قبل الطهر ... وقد لاح للضياء بشير
ثم نمى ولم يراضع فلوا «3» ... ورضاع المحج عيب كبير «4»
وكان أبو عبد الرحمن يشتري ذلك الرأس من جميع رأآسي بغداد، إلا من رأآسي مسجد ابن رغبان. وكان لا يشتريه إلا يوم سبت. واختلط عليه الأمر فيما بين الشتاء والصيف، فكان مرة يشتريه في هذا الزمان.
وأما زهده في رؤوس مسجد ابن رغبان، فان البصريين يختارون لحم الماعز الخصي على الضأن كله، ورؤوس الضأن أشحم وألحم رخصا وأطيب. ورأس التيس أكثر لحما من رأس الخصي، لأن الخصي من الماعز يعرق جلده، ويقل لحم رأسه ولا يبلغ جلده وإن كان ما عزا في الثمن عشر ما يبلغ جلد التيس، ولا يكون رأسه إلا دونا. ولذلك تخطاه إلى غيره.
وما اختيار شراء الرؤوس يوم السبت، فإن القصابين يذبحون يوم الجمعة أكثر، فتكثر الرؤوس يوم السبت على قدر للفضل فيما يذبحون، ولأن العوام والتجار والصناع لا يقرمون إلى أكل الرؤوس يوم السبت، مع قرب عهدهم بأكل اللحم يوم الجمعة، ولأن عامتهم قد بقيت عنده فضلة، فهي تمنعه من الشهوة. ولأن الناس لا يكادون يجمعون على خوان واحد بين الرؤوس واللحم.
وأما اختلاط التدبير عليه في فرق ما بين الشتاء والصيف، فوجه ذلك أن العلل كانت تتصور له، وتعرض له الدواعي على قدر قرمه وحركة شهوته، صيفا وافق ذلك أم شتاء. فإن اللحم في الصيف أرخص، والرؤوس تابعة للحم، ولأن الناس في الشتاء لها آكل، وهم لها في القيظ «2» أترك. فكان يختار الرخص على حسن الموقع. فإذا قويت دواعيها في الشتاء، قال: «رأس واحد شتوي كرأسين صيفيين، لأن المعلوفة غير الراعية، وما أكل الكسب في الحبس موثقا، غير ما أكل الحشيش في الصحراء مطلقا» . وكان على ثقة أنه سيأتي عليه في الشتاء مع صحته وبدنه، وفي شك من استبقائه في الصيف، لنقصان شهوات الناس للرؤوس في الصيف، فكان يخاف جريرة تلك البقية وجناية تلك الفضلة. وكان يقول إن أكلتها بعد الشبع لم آمن العطب وإن تركتها لهم في الصيف، ولم يعرفوا العلة، طلبوا ذلك مني في الشتاء!.