أحمد رجب شلتوت يواصل قراءاته لأهم الأعمال الفكرية والنقدية والروائية العالمية.
الثلاثاء 2019/02/26
القراءة رحلة معرفية ووجدانية
لا شيء قادر على التأثير في القارئ أكثر من الكتاب الأول الذي يلمس قلبه حقاً
صدى الكلمات التي نظن إننا نسيناها يرافقنا طوال الحياة، ويشيد في ذاكرتنا منزلاً سنعود إليه عاجلاً ام آجلاً
يفتتح الكاتب أحمد رجب شلتوت كتابه "رشفات من النهر" الذي يواصل فيه قراءاته لأهم الأعمال الفكرية والنقدية والروائية العالمية، بإضاءة الجانب الشخصي في حياته من خلال تتبع ولادة علاقة بالكتاب وتطوراتها وأهميتها، وينطلق من مقولة للروائي الإسباني كارلوس زافون صاحب رباعية "مقبرة الكتب المنسية" أنه "لا شيء قادر على التأثير في القارئ أكثر من الكتاب الأول الذي يلمس قلبه حقاً. إذ أن صدى الكلمات التي نظن إننا نسيناها يرافقنا طوال الحياة، ويشيد في ذاكرتنا منزلاً سنعود إليه عاجلاً ام آجلاً".
ويشير إلى أن هذا بالضبط ما حدث معه فأول كتاب وقع في يديه بعدما استطعت القراءة كان "بساط الريح" لكامل كيلاني، ولك أن تدرك أي تأثير يتركه بساط الريح في نفس طفل معاق مربوط بالأرض، كان الكتاب نفسه بالنسبة لي بساط ريح شدني لعوالم الكتب منذ طفولتي.
ويضيف شلتوت أن الكتب لم تسهم فقط في تشكيل حياته بل كانت هي الحياة نفسها، ويقول "ولدت في بيت عائلة قروية نزح أغلب أبنائها إلى القاهرة، لم يكن بالبيت إلا أربعة سواي، جدي لأمي "رجل خمسيني أنهكه الربو فغير من عمله وجعل من إحدى الغرف دكانا" وجدتي لأمي (أمي كانت طفلة ولدتني يوم عيد ميلادها الـ 15) وأبي ـ ابن عمها (كان جنديا في غزة قبل 1967، وفي السويس بعدها فلم أكن أراه إلا أياما كل عدة أسابيع).
ويوضح "جدي كان يخرج بي للدكان، يضعني فوق البنك فأنشغل بكلامه وكلام من يرافقونه، ولما أضيق بصمتي أنطق طالبا أن ينزلني فيضعنى بين ربطات كتب يكومها في جانب الدكان، يفكها كلما احتاج ليصنع منها قراطيس أو لفافات لما يبيع، اعتدت التقليب فيها متوقفا عند الصور إن كانت هناك صور. أبي كان يمنحني أجازاته، يحضر لي من "باب الحديد" كتبا لتعليم المطالعة وكراسات وأقلام رصاص، كانت تلك هداياه في كل الأجازات، يقضي أجازاته في تعليمي القراءة، فأجدتها قبل أن أدخل المدرسة، فلما تمكنت من القراءة أحضر لى قصصا، فتجاوزت علاقتي بالكتب مرحلة مشاهدة الصور، وسمح لي جدي بأن اصطحب ما يروق لي من كتب إلى داخل البيت لأنقذه من التمزيق و"القرطسة".
لم يكن إلا الكتاب أنيسا
يذكر شلتوت أن الكاتب الأرجنتيني ارنستو ساباتو في كتابه "الكاتب وأشباحه" قال: إن القراءة رحلة معرفية ووجدانية في نفس الوقت، ومن واجب الكاتب أن يُعد المسافرين في هذه الرحلة بما يحتاجونه من أدوات، ويعلمهم كيفية قراءة الخرائط وما ينبغي عليهم فعله عندما يضلون الطريق.
وبالنسبة لي لم يكن إلا الكتاب أنيسا، قصص اشتراها أبي لي "كتب كامل كيلاني وأولها بساط الريح" أو لنفسه "أرسين لوبين وشرلوك هولمز"، أضيفها إلى ما أنقله من الدكان، أضمها معا في كرتونة فلما تمتلىء أحضر أخرى فارغة، وأعيد توزيع الكتب ورصها في الكراتين، وهكذا تشكلت عشوائيا مكتبتي الأولى. وكانت مرات الذهاب المتكررة إلى المستشفى الذي كنت أقصده للعلاج الطبيعي عقب العمليات الجراحية فرصة للحصول على كتب جديدة، أختارها وأفض غلافها، وأقضي معها أياما قبل أن تستقر في إقامتها داخل كرتونة، ولما دخلت الجامعة وسكنت بالمدينة الجامعية كان من حسن حظي أن بائع الجرائد بها ـ كانوا يلقبونه بالكابتن ـ مد "فرشة كبيرة" للكتب المستعملة، كنت أتردد على الكابتن يوميا للحصول على صحف الصباح قبل خروجي إلى المحاضرات، وبعد العودة أقضي معه بعض الوقت للتقليب في الكتب المعروضة واختيار ما يطلب صحبتي في غرفتي القريبة، توطدت علاقتي بالكابتن فأصبحت أحصل على الكتب بالأجل وأستبدل بعضها وبعته أيضا كتبا كثيرة من التي كانت تملأ الكراتين في غرفتي الأخرى ببيت العائلة.
ويلفت شلتوت إلى أنه كان يقضي أغلب أيام الإجازات بصحبة كراتين الكتب، يعيد ترتيب الكتب بها ويختار ما يعيد قراءته، ويضيف "لم أكن أضم لها في الأصل إلا كتابا قرأته، وكانت ذاكرتي قوية بالدرجة التي مكنتني من معرفة محتويات كل كرتونة من الكتب، بل وأجدني متذكرا ليس فقط لمحتوى الكتاب بل ليوم حصولي عليه، ومن أي مكان اشتريته، وهكذا ارتبطت حياتي بالكتب، التي لم تشغل فراغي فحسب بل شكلت عقلي ووجداني، وأصبحت صنو ذكرياتي وأحداث أيامي، حتى حينما يضيق صدري وتعاف نفسي القراءة لا أجد متنفسا إلا بين كراتين الكتب، فأفتحها وأعيد التقليب والرص دون ملل، وكنت أدعو الحجرة الملأى بالكراتين مكتبة، مبررا بأن الاسم مشتق من الكتب، ولو كان مشتقا من الأرفف الخشبية لأسموها مخشبة.
ويوضح "بعدما تزوجت وأصبحت لي شقة وليس مجرد غرفة، واحتوت الشقة على مخشبة ودواليب لكنها لم تتسع إلا للقليل من محتويات الكراتين، وكم كان ألمي عظيما حينما اضطررت لإخلاء الغرفة، فاضطررت لبيع ما يقرب من ثلثي محتويات الكراتين، أتى البائع بسيارة لنقل ربطات الكتب، بدت لي كسيارة نقل الموتى، انطلقت بنعش حبيب، فعدت للحجرة التي أصبحت شاغرة، لم يكن بها إلا غلاف رواية "أمسيات قرب قرية ديكانكا" طبعة روايات الهلال، بقيت فيها سويعة حتى استطعت مداراة حزني ثم أغلقتها خلفي ومضيت قاصدا شقتي، لائذا بما نقلته إليها من كتب، فبدت لي المكتبة ـ رغم قلة عدد الكتب بها نسبيا ـ كنهر كان لا بد أن أنزل إليه لأغتسل من أساي، وأرشف منه رشفات تبل صداي، وهو نهر لا يفقد تجدده ولا تأثيره على روحي، كل يوم ألوذ به بعد الرجوع من مكان وظيفتي، فأقضي به بقية يومي ويمنحني هو زادا أواصل به حياتي".
من هذه الكتب التي توقف عندها شلتوت كتاب "التأرجح على الهاوية: العام الأخير من حياة دوستويفسكي" للناقد والأكاديمي الروسي المتخصص في أدب دوستويفسكي "إيجور فولجين، وقد رصدت روايات دوستويفسكي المرحلة التي انطلقت فيها شرارة الثورة في أعماق المجتمع الروسي وإن كان السطح بدا ثابتا دون أية تغييرات، لكن دوستويفسكي وبقدرة فذة على التنبؤ استشرف روح الثورة في رواياته، وكان طوال عامه الأخير يردد في أحاديثه ومقالاته أن "روسيا تقف عند خط الختام متأرجحة على الهاوية".
وقد كرس ايجور فولجين كتابه لدراسة علاقة دوستيفسكي بعالم الثورة الروسية، مركزا على المرحلة الختامية منها، فدوستويفسكي "لم يكن شاهدا متفرجا على هذه الدراما، بل أصبح طرفا فيها، وبطلا من أبطالها إلى حد ما". فإدراكه لتردي الأوضاع لم يدفعه لنوبات من الكآبة بل أرغمه على توخي الحل، لذا بدا للكاتب "متفائل تاريخي يراهن كليا على المستقبل"، ويستعيد التحوّلات الأساسية التي شهدتها سيرة الروائي منذ أن أصدر أول أعماله "المساكين".
كذلك عرض شلتوت لكتاب ترجم فيه العراقي خيري الضامن مائتي وخمسين رسالة من رسائل دوستويفسكي، شغلت ألف صفحة نشرتها دار سؤال في مجلدين. ومن المعروف أن الرسائل المتبادلة بين الأدباء والفنانين تكتسب أهميتها من قدرتها على كشف الجوانب الذاتية لهم، فالرسائل مكتوبة لم تكتب بغرض النشر، بل للتواصل الشخصي بين الأديب وشخص ما من المقربين له. لهذا فهي تكشف للباحثين ذلك الجانب الخفي من ذوات المبدعين، خصوصا في حالة ديستويفسكي الذي وصف بأنه أكثر الأدباء ذاتية.
ولعل أحد أهم تلك الجوانب يتمثل في التناقض بين رأي الكاتب الذي وصف الرسائل مرة بأنها "من الأمور السخيفة، ولا يمكنها بأي حال أن تفي بالتعبير عن الذات" وفي أخرى قال ضمن رسالة لأخيه "إنني لا أجيد كتابة الرسائل، ولا أحسن التعبير عن نفسي"، وفي رسالة غيرها قال "ليس بوسعنا أن نودع الرسائل شيئا على الإطلاق"، بالرغم من ذلك لم يتوقف يوما عن كتابة الرسائل، حتى أنه سخر يوما من ذلك، وكتب أيضا في رسالة "إذا ذهبت إلى الجحيم فسأدان لأنني كنت أكتب كل يوم عشرات الرسائل".
ويرى أن رسائل دوستويفسكي فضلا عن قيمتها الأدبية لا تخلو من قيمة تاريخية خاصة بما تتيحه من معلومات عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي كانت تحيط بدوستويفسكي والمصاعب التي كان يكتب تحت ضغطها. كما أنها تلقي الضوء على جوانب من شخصيته التي جمعت بين الزهد والسخط. كما تظهر انشغاله الدائم بتفاصيل الحياة حتى تلك التي تبدو بلا أهمية، فتدلل على قدرته على التقاط وتسجيل ما هو عابر ويومي، وتلك التي وجدت لها فيما بعد مكانا في رواياته.
ويشير إلى أن كتاب للناقدة الأرجنتينية المتخصصة في أدب بورخيس بياتريث سارلو وعنوانه "كاتب على الحافة"، يرسم "صورة عامة لبورخيس" تتماهى مع صورة عامة للعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وهي البيئة التي نشأ فيها وتأثر بها بورخيس المولود في 1899. فهي تنظر لأدب بورخيس على أنه النموذج الأمثل للأدب الأرجنتيني، فقد تم بناؤه كالأمة الأرجنتينية من مؤثرات مختلفة، أسهمت في تشكيل فكر وإبداع بورخيس. كذلك يقدم الكتاب رشفة من إبداع البرتو مانغويل في كتابه "الفضول" فعبر سبعة عشر فصلا بدأ كل منها بسؤال خَصصه لأحد الكتاب، أو المفكرين، أو الفنانين، ممَّن ابتكروا طرقًا جديدة في طرح سؤال "لماذا؟"، السؤال الذي يُعَد مرآةً عاكسة للفضول البشري الذي ظلَّ عبر العصور دافعًا من دوافع الإنسان للمعرفة والاكتشاف، وتأتي الإجابات لتروي فضول الكاتب نفسه.
أما الفرنسي ألبير كامو فأتوقف عنده عبر كتاب "مشكلة الإنسان في فكر ألبير كامو" وهو في الأصل رسالة دكتوراة للسورية سوزان عبدالله إدريس، وهي ترى أن استعادة كامو الآن وبعد مرور عقود على وفاته مشروعة بل ومطلوبة، لما لها من أثر بعيد على أهمية الإنسان ومعناه في هذا الوجود المضطرب محاولا أن يعيد الأمل إلى هذا الإنسان المهمش المحطم بعيدا عن الأمل بحلول ميتافيزيقية.
وترى أن دراسة كامو للإنسان ارتكزت على محورين هما "العبث" و"التمرد"، فكامو يرى العالم كله عبث لامعنى له إلا الإنسان الذي يعد المعنى الأوحد في الوجود، لذا يطالبه كامو برفض العبث ومقاومته بدلا من الهروب منه. لذا رفض كامو فكرة الإنتحار، وكان ينظر إلى المنتحر على أنه ذلك العاجز عن نفي العالم بكل ما فيه من عبث وزيف وفوضى فيقوم بنفي نفسه بإرادته، وهو بهذا يلغي كل قيمة للحياة، فالانتحار بمثابة تأكيد لفشل الإنسان في استرجاع حريته الضائعة.
وتتوالي رشفات شلتوت من نهر المعرفة، شرقا وغربا، فيقرأ للكاتبة الأميركية ذات الأصول الإيرانية آذر نفيسي كتابها "جمهورية الخيال" راصدا للهوة السحيقة بين الخيال والحقيقة، ويزور مع العراقية لطفية الدليمي مملكة الروائيين العظام هسه وكازنتزاكيس وماركيز، وتتنوع الرشفات ما بين التحليل النفسي للأدب والفن، والفائدة المتبادلة بين السينما والفلسفة.
الثلاثاء 2019/02/26
القراءة رحلة معرفية ووجدانية
لا شيء قادر على التأثير في القارئ أكثر من الكتاب الأول الذي يلمس قلبه حقاً
صدى الكلمات التي نظن إننا نسيناها يرافقنا طوال الحياة، ويشيد في ذاكرتنا منزلاً سنعود إليه عاجلاً ام آجلاً
يفتتح الكاتب أحمد رجب شلتوت كتابه "رشفات من النهر" الذي يواصل فيه قراءاته لأهم الأعمال الفكرية والنقدية والروائية العالمية، بإضاءة الجانب الشخصي في حياته من خلال تتبع ولادة علاقة بالكتاب وتطوراتها وأهميتها، وينطلق من مقولة للروائي الإسباني كارلوس زافون صاحب رباعية "مقبرة الكتب المنسية" أنه "لا شيء قادر على التأثير في القارئ أكثر من الكتاب الأول الذي يلمس قلبه حقاً. إذ أن صدى الكلمات التي نظن إننا نسيناها يرافقنا طوال الحياة، ويشيد في ذاكرتنا منزلاً سنعود إليه عاجلاً ام آجلاً".
ويشير إلى أن هذا بالضبط ما حدث معه فأول كتاب وقع في يديه بعدما استطعت القراءة كان "بساط الريح" لكامل كيلاني، ولك أن تدرك أي تأثير يتركه بساط الريح في نفس طفل معاق مربوط بالأرض، كان الكتاب نفسه بالنسبة لي بساط ريح شدني لعوالم الكتب منذ طفولتي.
ويضيف شلتوت أن الكتب لم تسهم فقط في تشكيل حياته بل كانت هي الحياة نفسها، ويقول "ولدت في بيت عائلة قروية نزح أغلب أبنائها إلى القاهرة، لم يكن بالبيت إلا أربعة سواي، جدي لأمي "رجل خمسيني أنهكه الربو فغير من عمله وجعل من إحدى الغرف دكانا" وجدتي لأمي (أمي كانت طفلة ولدتني يوم عيد ميلادها الـ 15) وأبي ـ ابن عمها (كان جنديا في غزة قبل 1967، وفي السويس بعدها فلم أكن أراه إلا أياما كل عدة أسابيع).
ويوضح "جدي كان يخرج بي للدكان، يضعني فوق البنك فأنشغل بكلامه وكلام من يرافقونه، ولما أضيق بصمتي أنطق طالبا أن ينزلني فيضعنى بين ربطات كتب يكومها في جانب الدكان، يفكها كلما احتاج ليصنع منها قراطيس أو لفافات لما يبيع، اعتدت التقليب فيها متوقفا عند الصور إن كانت هناك صور. أبي كان يمنحني أجازاته، يحضر لي من "باب الحديد" كتبا لتعليم المطالعة وكراسات وأقلام رصاص، كانت تلك هداياه في كل الأجازات، يقضي أجازاته في تعليمي القراءة، فأجدتها قبل أن أدخل المدرسة، فلما تمكنت من القراءة أحضر لى قصصا، فتجاوزت علاقتي بالكتب مرحلة مشاهدة الصور، وسمح لي جدي بأن اصطحب ما يروق لي من كتب إلى داخل البيت لأنقذه من التمزيق و"القرطسة".
لم يكن إلا الكتاب أنيسا
يذكر شلتوت أن الكاتب الأرجنتيني ارنستو ساباتو في كتابه "الكاتب وأشباحه" قال: إن القراءة رحلة معرفية ووجدانية في نفس الوقت، ومن واجب الكاتب أن يُعد المسافرين في هذه الرحلة بما يحتاجونه من أدوات، ويعلمهم كيفية قراءة الخرائط وما ينبغي عليهم فعله عندما يضلون الطريق.
وبالنسبة لي لم يكن إلا الكتاب أنيسا، قصص اشتراها أبي لي "كتب كامل كيلاني وأولها بساط الريح" أو لنفسه "أرسين لوبين وشرلوك هولمز"، أضيفها إلى ما أنقله من الدكان، أضمها معا في كرتونة فلما تمتلىء أحضر أخرى فارغة، وأعيد توزيع الكتب ورصها في الكراتين، وهكذا تشكلت عشوائيا مكتبتي الأولى. وكانت مرات الذهاب المتكررة إلى المستشفى الذي كنت أقصده للعلاج الطبيعي عقب العمليات الجراحية فرصة للحصول على كتب جديدة، أختارها وأفض غلافها، وأقضي معها أياما قبل أن تستقر في إقامتها داخل كرتونة، ولما دخلت الجامعة وسكنت بالمدينة الجامعية كان من حسن حظي أن بائع الجرائد بها ـ كانوا يلقبونه بالكابتن ـ مد "فرشة كبيرة" للكتب المستعملة، كنت أتردد على الكابتن يوميا للحصول على صحف الصباح قبل خروجي إلى المحاضرات، وبعد العودة أقضي معه بعض الوقت للتقليب في الكتب المعروضة واختيار ما يطلب صحبتي في غرفتي القريبة، توطدت علاقتي بالكابتن فأصبحت أحصل على الكتب بالأجل وأستبدل بعضها وبعته أيضا كتبا كثيرة من التي كانت تملأ الكراتين في غرفتي الأخرى ببيت العائلة.
ويلفت شلتوت إلى أنه كان يقضي أغلب أيام الإجازات بصحبة كراتين الكتب، يعيد ترتيب الكتب بها ويختار ما يعيد قراءته، ويضيف "لم أكن أضم لها في الأصل إلا كتابا قرأته، وكانت ذاكرتي قوية بالدرجة التي مكنتني من معرفة محتويات كل كرتونة من الكتب، بل وأجدني متذكرا ليس فقط لمحتوى الكتاب بل ليوم حصولي عليه، ومن أي مكان اشتريته، وهكذا ارتبطت حياتي بالكتب، التي لم تشغل فراغي فحسب بل شكلت عقلي ووجداني، وأصبحت صنو ذكرياتي وأحداث أيامي، حتى حينما يضيق صدري وتعاف نفسي القراءة لا أجد متنفسا إلا بين كراتين الكتب، فأفتحها وأعيد التقليب والرص دون ملل، وكنت أدعو الحجرة الملأى بالكراتين مكتبة، مبررا بأن الاسم مشتق من الكتب، ولو كان مشتقا من الأرفف الخشبية لأسموها مخشبة.
ويوضح "بعدما تزوجت وأصبحت لي شقة وليس مجرد غرفة، واحتوت الشقة على مخشبة ودواليب لكنها لم تتسع إلا للقليل من محتويات الكراتين، وكم كان ألمي عظيما حينما اضطررت لإخلاء الغرفة، فاضطررت لبيع ما يقرب من ثلثي محتويات الكراتين، أتى البائع بسيارة لنقل ربطات الكتب، بدت لي كسيارة نقل الموتى، انطلقت بنعش حبيب، فعدت للحجرة التي أصبحت شاغرة، لم يكن بها إلا غلاف رواية "أمسيات قرب قرية ديكانكا" طبعة روايات الهلال، بقيت فيها سويعة حتى استطعت مداراة حزني ثم أغلقتها خلفي ومضيت قاصدا شقتي، لائذا بما نقلته إليها من كتب، فبدت لي المكتبة ـ رغم قلة عدد الكتب بها نسبيا ـ كنهر كان لا بد أن أنزل إليه لأغتسل من أساي، وأرشف منه رشفات تبل صداي، وهو نهر لا يفقد تجدده ولا تأثيره على روحي، كل يوم ألوذ به بعد الرجوع من مكان وظيفتي، فأقضي به بقية يومي ويمنحني هو زادا أواصل به حياتي".
من هذه الكتب التي توقف عندها شلتوت كتاب "التأرجح على الهاوية: العام الأخير من حياة دوستويفسكي" للناقد والأكاديمي الروسي المتخصص في أدب دوستويفسكي "إيجور فولجين، وقد رصدت روايات دوستويفسكي المرحلة التي انطلقت فيها شرارة الثورة في أعماق المجتمع الروسي وإن كان السطح بدا ثابتا دون أية تغييرات، لكن دوستويفسكي وبقدرة فذة على التنبؤ استشرف روح الثورة في رواياته، وكان طوال عامه الأخير يردد في أحاديثه ومقالاته أن "روسيا تقف عند خط الختام متأرجحة على الهاوية".
وقد كرس ايجور فولجين كتابه لدراسة علاقة دوستيفسكي بعالم الثورة الروسية، مركزا على المرحلة الختامية منها، فدوستويفسكي "لم يكن شاهدا متفرجا على هذه الدراما، بل أصبح طرفا فيها، وبطلا من أبطالها إلى حد ما". فإدراكه لتردي الأوضاع لم يدفعه لنوبات من الكآبة بل أرغمه على توخي الحل، لذا بدا للكاتب "متفائل تاريخي يراهن كليا على المستقبل"، ويستعيد التحوّلات الأساسية التي شهدتها سيرة الروائي منذ أن أصدر أول أعماله "المساكين".
كذلك عرض شلتوت لكتاب ترجم فيه العراقي خيري الضامن مائتي وخمسين رسالة من رسائل دوستويفسكي، شغلت ألف صفحة نشرتها دار سؤال في مجلدين. ومن المعروف أن الرسائل المتبادلة بين الأدباء والفنانين تكتسب أهميتها من قدرتها على كشف الجوانب الذاتية لهم، فالرسائل مكتوبة لم تكتب بغرض النشر، بل للتواصل الشخصي بين الأديب وشخص ما من المقربين له. لهذا فهي تكشف للباحثين ذلك الجانب الخفي من ذوات المبدعين، خصوصا في حالة ديستويفسكي الذي وصف بأنه أكثر الأدباء ذاتية.
ولعل أحد أهم تلك الجوانب يتمثل في التناقض بين رأي الكاتب الذي وصف الرسائل مرة بأنها "من الأمور السخيفة، ولا يمكنها بأي حال أن تفي بالتعبير عن الذات" وفي أخرى قال ضمن رسالة لأخيه "إنني لا أجيد كتابة الرسائل، ولا أحسن التعبير عن نفسي"، وفي رسالة غيرها قال "ليس بوسعنا أن نودع الرسائل شيئا على الإطلاق"، بالرغم من ذلك لم يتوقف يوما عن كتابة الرسائل، حتى أنه سخر يوما من ذلك، وكتب أيضا في رسالة "إذا ذهبت إلى الجحيم فسأدان لأنني كنت أكتب كل يوم عشرات الرسائل".
ويرى أن رسائل دوستويفسكي فضلا عن قيمتها الأدبية لا تخلو من قيمة تاريخية خاصة بما تتيحه من معلومات عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية التي كانت تحيط بدوستويفسكي والمصاعب التي كان يكتب تحت ضغطها. كما أنها تلقي الضوء على جوانب من شخصيته التي جمعت بين الزهد والسخط. كما تظهر انشغاله الدائم بتفاصيل الحياة حتى تلك التي تبدو بلا أهمية، فتدلل على قدرته على التقاط وتسجيل ما هو عابر ويومي، وتلك التي وجدت لها فيما بعد مكانا في رواياته.
ويشير إلى أن كتاب للناقدة الأرجنتينية المتخصصة في أدب بورخيس بياتريث سارلو وعنوانه "كاتب على الحافة"، يرسم "صورة عامة لبورخيس" تتماهى مع صورة عامة للعاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، وهي البيئة التي نشأ فيها وتأثر بها بورخيس المولود في 1899. فهي تنظر لأدب بورخيس على أنه النموذج الأمثل للأدب الأرجنتيني، فقد تم بناؤه كالأمة الأرجنتينية من مؤثرات مختلفة، أسهمت في تشكيل فكر وإبداع بورخيس. كذلك يقدم الكتاب رشفة من إبداع البرتو مانغويل في كتابه "الفضول" فعبر سبعة عشر فصلا بدأ كل منها بسؤال خَصصه لأحد الكتاب، أو المفكرين، أو الفنانين، ممَّن ابتكروا طرقًا جديدة في طرح سؤال "لماذا؟"، السؤال الذي يُعَد مرآةً عاكسة للفضول البشري الذي ظلَّ عبر العصور دافعًا من دوافع الإنسان للمعرفة والاكتشاف، وتأتي الإجابات لتروي فضول الكاتب نفسه.
أما الفرنسي ألبير كامو فأتوقف عنده عبر كتاب "مشكلة الإنسان في فكر ألبير كامو" وهو في الأصل رسالة دكتوراة للسورية سوزان عبدالله إدريس، وهي ترى أن استعادة كامو الآن وبعد مرور عقود على وفاته مشروعة بل ومطلوبة، لما لها من أثر بعيد على أهمية الإنسان ومعناه في هذا الوجود المضطرب محاولا أن يعيد الأمل إلى هذا الإنسان المهمش المحطم بعيدا عن الأمل بحلول ميتافيزيقية.
وترى أن دراسة كامو للإنسان ارتكزت على محورين هما "العبث" و"التمرد"، فكامو يرى العالم كله عبث لامعنى له إلا الإنسان الذي يعد المعنى الأوحد في الوجود، لذا يطالبه كامو برفض العبث ومقاومته بدلا من الهروب منه. لذا رفض كامو فكرة الإنتحار، وكان ينظر إلى المنتحر على أنه ذلك العاجز عن نفي العالم بكل ما فيه من عبث وزيف وفوضى فيقوم بنفي نفسه بإرادته، وهو بهذا يلغي كل قيمة للحياة، فالانتحار بمثابة تأكيد لفشل الإنسان في استرجاع حريته الضائعة.
وتتوالي رشفات شلتوت من نهر المعرفة، شرقا وغربا، فيقرأ للكاتبة الأميركية ذات الأصول الإيرانية آذر نفيسي كتابها "جمهورية الخيال" راصدا للهوة السحيقة بين الخيال والحقيقة، ويزور مع العراقية لطفية الدليمي مملكة الروائيين العظام هسه وكازنتزاكيس وماركيز، وتتنوع الرشفات ما بين التحليل النفسي للأدب والفن، والفائدة المتبادلة بين السينما والفلسفة.