(أمسية بلا صباح)
الصحوة الواهنة التي داهمته لهنيهة.. بدت كطيف هلامي يحوم كشبح بلا ملامح في مخيلة ليس لها تاريخ.
النور الكامد المتسلل من خلف ستائر سميكة صور له دون يقين أن الوقت لمساء لا ترصده الساعات، لهذا لن تعقبه شمس ترتفع إلى قبة السماء أبدا.
السكون المطبق للقاعة فرض سطوته، بحزم لا تخدشه غير أصداء بعيدة لأناس يتحركون بدأب في مكان آخر.
***
لم يفاجئه انه وجد نفسه في ذاك المكان، وفي الزمن ذاته دون مبرر. لأن الدهشة تحتاج إلى حواس تعمل بشكل جيد.
أمامه تماما، ثمة منصة ضخمة مصنوعة من أخشاب الأشجار المقطوعة.
لم يكن ينصت لما يقول المحاضر لأنه لم يجد أن للكلام ثمة معنى، أو غاية، أو هدفا.
ولأنه ليس لديه ما يفعله، اكتفي بمتابعة المحاضر الذي يحاول دون جدوى أن يبدو كلامه كحقيقة لا تقبل الجدل.
المحاضر دون أن يتوقف عن الكلام زادت تجاعيد جبينه الضيق، وضاقت عيناه خلف نظارته السميكة، وزاد انتفاخ لغده المتهدل. كما اختبأت ملامح وجهه خلف شعر كثيف أسود طال مشكلاً لحية شعثاء غطت معظم وجهه، بينما شعر رأسه بهت لونه متحولاً إلى خصل بيضاء تساقطت بهدوء مطبق حول جسده الضخم الذي تضاءل تدريجيا حتى تهلهلت عليه ثياب تقطعت خيوطها فغدت رثة ممزقة.
ربما الملل الطويل دعاه لأن يجول في المكان بعينيه اللتين تحركتا بصعوبة، لعله يرى شيئاً آخر غير هيئة المحاضر المرعبة بقدر رصانتها.
لكنه لم يستطع رفع عينيه -التي كلّ بصرهما- إلى فوق، فاكتفى بتأمل الجدران التين سقط الدهان عنها. والأرضية المغطاة بطبقات من الوسخ، وظلال الكراسي التي توشك على الانهيار، وقد تداعت فوقها عظام بشرية تكاد تتفتت من وطأة الغبار الكثيف، والزمن.
***
لم يفكر بإسكات المحاضر الذي لم يتوقف عن الكلام الصامت، برغم أنه لم يشرب قطرة ماء من الكأس الذي فقد شفافيته وتبخر ماؤه منذ عهد طويل.
أيضا لم تخطر في ذهنه فكرة دفن الموتى الذين فقدوا لحمهم ودمهم منذ سنوات طويلة.
فقط حاول الوقوف، دون أن يفكر بالقيام بأي عمل..
ولكنه لم يقدر على الوقوف على قدميه، بل على الإتيان بأدنى حركة، لأنه اكتشف -متأخراً جداً- إنه منذ زمن بعيد.. فارقته الروح دون الأمل في العودة للحياة بأي طريقة ما!
*من مجموعتي القصصية (ماء ودماء) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب- دمشق 2006
---------------------------
القراءة
سأكتفي، في قراءتي لهذا النص العميق، بتفسيره، دون المرور على مافي الأسلوب واللغة والفكرة من جماليات؛ لأني أرى أنه نص يحمل الإشارات، ويتركنا في حيرة القراءة، والتأويل، واكتشاف اللذة، بعد الانتهاء من تحويل تلك الإشارات إلى مدلولاتها.
وفي البدء أقول،: إن تلك الدلالات التي سأوردها، هي ما رأيته أنا، في قراءتي للنص، وليس بالضرورة ما أراده الكاتب وبالتأكيد، ليست الوحيدة، فلكل قارئ الحق في توليد النص من جديد، حسب رؤيته.
النص رغم قصره النسبي، إلا أنه طويل، طويل، يحفر في الماضي، ويطوف في المستقبل.
منذ الكلمة الأولى، يحدد الكاتب الأستاذ سامر أنور الشمالي، بأن الدائم، والمستمر هو النوم، او حالة الغيبوبة، وأن الصحو، إن حصل، فهو واهن وآني…"الصحوة التي داهمته لهنيهة…"، ثم يبدأ بسرد النص - الحكاية بتقنية رائعة، يتعاقب فيها الواقعي بالغرائبي، الراهن بالماضي والمستقبل، مايراه الرجل بطل النص في صحوته الآنية، وما يراه الكاتب نفسه، في رؤيته التاريخية، مازجاً بين الواقعية والعجائبية، بين مونولوج البطل، وبين أفكاره هو، الكاتب..
"النور الكامد من خلف ستائر سميكة، صور له دون يقين أن الوقت مساء، لا ترصده الساعات، لهذا لن تعقبه شمئ ترتفع إلى قبة السماء أبداً".
هئا هو الفضاء الواقعي للنص من جهة، والفضاء أو الأفق أو العمق الذي يريده الكاتب، من جهة ثانية، هذا الفضاء الذي يراه مداراً مغلقا لاينتهي، تدور فيه أفكارنا، ثقافتنا، حياتنا كلها. وهو، فضاء خارج الزمن، أي خارج التاريخ، مع ما للستائر السميكة من دلالة على الحجب والانغلاق،ومع ما للمساء من رمز للأفول، وقرب النهاية.
لنتابع مع الكاتب وبطله، وهذه الأمسية التي لاتنتهي:
" أمامه منصة ضخمة، مصنوعة من أخشاب الأشجار المقطوعة"...صورة أخرى، ورمزاً آخر يستخدمه الكاتب، في انتقال رائع بين المشهد الحسي، الواقعي، وبين المشهد العام، التاريخي - الرؤيوي، الأشجار رمز للحياة، والأشجار المقطوعة رمز للموت، أو الانتخار، حين يكون الفاعل صاحب هذه الأشجار، والأشجار قطعت، لتكون منصة ضخمة للمحاضر، بمعنى: هو وصف لحال أمة، تقطع أشجارها، لتحولها إلى منصات للخطابة والحكاية،هي صورة لحال جمود وموات حضاري، وحال ثقافة لا المستمع فبها، يشعر بالمعنى للكلام الذي يسمعه، والا المحاضر مقتنع بأن مايقوله ليس ألا الحقيقة الكاملة التي لا تقبل الجدل.
المحاضر واقع راهن، يراه بطل النص، ويلمسه، غير أن الصورة تمتد إلى زمن أطول، والمحاضر يأخذ أحوالا أكثر من كونه محاضرا في أمسية، لنتابع هذه الصورة الرائعة، أو سلسلة الصور المتتابعة، التي أجاد فيها الكاتب أيما إحادة…
"المحاضر دون أن يتوقف عن الكلام زادت تجاعيد جبينه الضيق، وضاقت عيناه خلف نظارته السميكة، وزاد انتفاخ لغده المتهدل. كما اختبأت ملامح وجهه خلف شعر كثيف أسود طال مشكلاً لحية شعثاء غطت معظم وجهه، بينما شعر رأسه بهت لونه متحولاً إلى خصل بيضاء تساقطت بهدوء مطبق حول جسده الضخم الذي تضاءل تدريجيا حتى تهلهلت عليه ثياب تقطعت خيوطها فغدت رثة ممزقة."
سأضطر لتقطيع هذه الصورة، لغرض فحص الدلالات المثيرة التي تكتنزها، برغم أنها صورة متصلة لا تقبل التقطيع، وأي لعب فيها،سيفقدها جمالها.
١ . "المحاضر دون أن يتوقف عن الكلام زادت تجاعيد جبينه الضيق، وضاقت عيناه خلف نظارته السميكة، وزاد انتفاخ لغده المتهدل"، تعبير عن استمرار الثقافة نفسها، والخطاب نفسه، رغم تعدد الوجوه، وكأنه محاضر وحيد طيلة الزمان، يشيخ، ولا يتغير.
٢. "كما اختبأت ملامح وجهه خلف شعر كثيف أسود طال مشكلاً لحية شعثاء غطت معظم وجهه". هذه صورة أقسى، تغير شكلي في الخطاب، أصبح مسايرا لمرحلة أخرى، ربما تكون الخطاب الديني، أو الخطاب اليساري….لكن صاحب الخطاب لم يتغير، هو بدل جلده، كما تفعل الأفعى.
٣. "بينما شعر رأسه بهت لونه متحولاً إلى خصل بيضاء تساقطت بهدوء مطبق حول جسده الضخم الذي تضاءل تدريجيا حتى تهلهلت عليه ثياب تقطعت خيوطها فغدت رثة ممزقة."
الثياب الممزقة، والشعر الأبيض المتساقط، دلالة على قدم العهد، وشيخوخة الخطيب وخطابه، وهي صورة تعيدنا إلى صورة (الدرويش)، ذاك الذي يرتدي الأسمال، ويهذر بكلمات لامعنى لها، وجعل من التصوف، وهو الحالة الأسمى في الإيمان والعرفان والفكر، جعله هذراً، وضياعاً، وتحشيشاً، وغيبوبة.
"لم يستطع رفع عينيه -التي كلّ بصرهما- إلى فوق، فاكتفى بتأمل الجدران التين سقط الدهان عنها. والأرضية المغطاة بطبقات من الوسخ، وظلال الكراسي التي توشك على الانهيار، وقد تداعت فوقها عظام بشرية تكاد تتفتت من وطأة الغبار الكثيف، والزمن...لم يفكر بإسكات المحاضر الذي لم يتوقف عن الكلام الصامت، برغم أنه لم يشرب قطرة من ماء الكأس الذي فقد شفافيته، وتبخر ماؤه منذ عهد طويل"، هي إشارة إلى استمرار لحال ثقافة (البيان) الذي لا يجدي، ولا يستمع إليه أحد،ناهيك أن ينتفع به، فكأنه والصمت، شيء واحد لايختلفان. وهي حال يرى الكاتب أنها ستستمر، دون أن يتغير شيء، نلمس ذلك من الكأس التي غطى الزمن والغبار على شفافيها، وجف ماؤها لطول العهد، وحال السكون.
وكذا هي حال الصورة التي سبقتها.
الصورة الأخيرة في النص، هي الصورة الأخرى، المقابلة للمحاضر والمنبر، صورة المجتمع العربي الذي تحول إلى مجموعة من الأموات الذين، وإن لم يكونوا أمواتاً بالمعنى الحسي، فهم أموات بالمعنى الحضاري، التاريخي…"لم تخطر في ذهنه فكرة دفن الموتى الذين فقدوا لحمهم ودمهم منذ سنوات طويلة.
فقط حاول الوقوف...ولكنه لم يقدر على الوقوف على قدميه...لأنه اكتشف -متأخراً جداً- إنه منذ زمن بعيد.. فارقته الروح دون الأمل في العودة للحياة بأي طريقة ما!".
هي صورة متشائمة، بل تغلق أي أفق للمستقبل. هل بالغ الكاتب في تشاؤمه؟. ربما، لكنه تشاؤم مباح، ومبرر، فما نراه في مجتمعاتنا، لايبعث على أي تفاؤل.
منذر فالح الغزالي
الصحوة الواهنة التي داهمته لهنيهة.. بدت كطيف هلامي يحوم كشبح بلا ملامح في مخيلة ليس لها تاريخ.
النور الكامد المتسلل من خلف ستائر سميكة صور له دون يقين أن الوقت لمساء لا ترصده الساعات، لهذا لن تعقبه شمس ترتفع إلى قبة السماء أبدا.
السكون المطبق للقاعة فرض سطوته، بحزم لا تخدشه غير أصداء بعيدة لأناس يتحركون بدأب في مكان آخر.
***
لم يفاجئه انه وجد نفسه في ذاك المكان، وفي الزمن ذاته دون مبرر. لأن الدهشة تحتاج إلى حواس تعمل بشكل جيد.
أمامه تماما، ثمة منصة ضخمة مصنوعة من أخشاب الأشجار المقطوعة.
لم يكن ينصت لما يقول المحاضر لأنه لم يجد أن للكلام ثمة معنى، أو غاية، أو هدفا.
ولأنه ليس لديه ما يفعله، اكتفي بمتابعة المحاضر الذي يحاول دون جدوى أن يبدو كلامه كحقيقة لا تقبل الجدل.
المحاضر دون أن يتوقف عن الكلام زادت تجاعيد جبينه الضيق، وضاقت عيناه خلف نظارته السميكة، وزاد انتفاخ لغده المتهدل. كما اختبأت ملامح وجهه خلف شعر كثيف أسود طال مشكلاً لحية شعثاء غطت معظم وجهه، بينما شعر رأسه بهت لونه متحولاً إلى خصل بيضاء تساقطت بهدوء مطبق حول جسده الضخم الذي تضاءل تدريجيا حتى تهلهلت عليه ثياب تقطعت خيوطها فغدت رثة ممزقة.
ربما الملل الطويل دعاه لأن يجول في المكان بعينيه اللتين تحركتا بصعوبة، لعله يرى شيئاً آخر غير هيئة المحاضر المرعبة بقدر رصانتها.
لكنه لم يستطع رفع عينيه -التي كلّ بصرهما- إلى فوق، فاكتفى بتأمل الجدران التين سقط الدهان عنها. والأرضية المغطاة بطبقات من الوسخ، وظلال الكراسي التي توشك على الانهيار، وقد تداعت فوقها عظام بشرية تكاد تتفتت من وطأة الغبار الكثيف، والزمن.
***
لم يفكر بإسكات المحاضر الذي لم يتوقف عن الكلام الصامت، برغم أنه لم يشرب قطرة ماء من الكأس الذي فقد شفافيته وتبخر ماؤه منذ عهد طويل.
أيضا لم تخطر في ذهنه فكرة دفن الموتى الذين فقدوا لحمهم ودمهم منذ سنوات طويلة.
فقط حاول الوقوف، دون أن يفكر بالقيام بأي عمل..
ولكنه لم يقدر على الوقوف على قدميه، بل على الإتيان بأدنى حركة، لأنه اكتشف -متأخراً جداً- إنه منذ زمن بعيد.. فارقته الروح دون الأمل في العودة للحياة بأي طريقة ما!
*من مجموعتي القصصية (ماء ودماء) الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب- دمشق 2006
---------------------------
القراءة
سأكتفي، في قراءتي لهذا النص العميق، بتفسيره، دون المرور على مافي الأسلوب واللغة والفكرة من جماليات؛ لأني أرى أنه نص يحمل الإشارات، ويتركنا في حيرة القراءة، والتأويل، واكتشاف اللذة، بعد الانتهاء من تحويل تلك الإشارات إلى مدلولاتها.
وفي البدء أقول،: إن تلك الدلالات التي سأوردها، هي ما رأيته أنا، في قراءتي للنص، وليس بالضرورة ما أراده الكاتب وبالتأكيد، ليست الوحيدة، فلكل قارئ الحق في توليد النص من جديد، حسب رؤيته.
النص رغم قصره النسبي، إلا أنه طويل، طويل، يحفر في الماضي، ويطوف في المستقبل.
منذ الكلمة الأولى، يحدد الكاتب الأستاذ سامر أنور الشمالي، بأن الدائم، والمستمر هو النوم، او حالة الغيبوبة، وأن الصحو، إن حصل، فهو واهن وآني…"الصحوة التي داهمته لهنيهة…"، ثم يبدأ بسرد النص - الحكاية بتقنية رائعة، يتعاقب فيها الواقعي بالغرائبي، الراهن بالماضي والمستقبل، مايراه الرجل بطل النص في صحوته الآنية، وما يراه الكاتب نفسه، في رؤيته التاريخية، مازجاً بين الواقعية والعجائبية، بين مونولوج البطل، وبين أفكاره هو، الكاتب..
"النور الكامد من خلف ستائر سميكة، صور له دون يقين أن الوقت مساء، لا ترصده الساعات، لهذا لن تعقبه شمئ ترتفع إلى قبة السماء أبداً".
هئا هو الفضاء الواقعي للنص من جهة، والفضاء أو الأفق أو العمق الذي يريده الكاتب، من جهة ثانية، هذا الفضاء الذي يراه مداراً مغلقا لاينتهي، تدور فيه أفكارنا، ثقافتنا، حياتنا كلها. وهو، فضاء خارج الزمن، أي خارج التاريخ، مع ما للستائر السميكة من دلالة على الحجب والانغلاق،ومع ما للمساء من رمز للأفول، وقرب النهاية.
لنتابع مع الكاتب وبطله، وهذه الأمسية التي لاتنتهي:
" أمامه منصة ضخمة، مصنوعة من أخشاب الأشجار المقطوعة"...صورة أخرى، ورمزاً آخر يستخدمه الكاتب، في انتقال رائع بين المشهد الحسي، الواقعي، وبين المشهد العام، التاريخي - الرؤيوي، الأشجار رمز للحياة، والأشجار المقطوعة رمز للموت، أو الانتخار، حين يكون الفاعل صاحب هذه الأشجار، والأشجار قطعت، لتكون منصة ضخمة للمحاضر، بمعنى: هو وصف لحال أمة، تقطع أشجارها، لتحولها إلى منصات للخطابة والحكاية،هي صورة لحال جمود وموات حضاري، وحال ثقافة لا المستمع فبها، يشعر بالمعنى للكلام الذي يسمعه، والا المحاضر مقتنع بأن مايقوله ليس ألا الحقيقة الكاملة التي لا تقبل الجدل.
المحاضر واقع راهن، يراه بطل النص، ويلمسه، غير أن الصورة تمتد إلى زمن أطول، والمحاضر يأخذ أحوالا أكثر من كونه محاضرا في أمسية، لنتابع هذه الصورة الرائعة، أو سلسلة الصور المتتابعة، التي أجاد فيها الكاتب أيما إحادة…
"المحاضر دون أن يتوقف عن الكلام زادت تجاعيد جبينه الضيق، وضاقت عيناه خلف نظارته السميكة، وزاد انتفاخ لغده المتهدل. كما اختبأت ملامح وجهه خلف شعر كثيف أسود طال مشكلاً لحية شعثاء غطت معظم وجهه، بينما شعر رأسه بهت لونه متحولاً إلى خصل بيضاء تساقطت بهدوء مطبق حول جسده الضخم الذي تضاءل تدريجيا حتى تهلهلت عليه ثياب تقطعت خيوطها فغدت رثة ممزقة."
سأضطر لتقطيع هذه الصورة، لغرض فحص الدلالات المثيرة التي تكتنزها، برغم أنها صورة متصلة لا تقبل التقطيع، وأي لعب فيها،سيفقدها جمالها.
١ . "المحاضر دون أن يتوقف عن الكلام زادت تجاعيد جبينه الضيق، وضاقت عيناه خلف نظارته السميكة، وزاد انتفاخ لغده المتهدل"، تعبير عن استمرار الثقافة نفسها، والخطاب نفسه، رغم تعدد الوجوه، وكأنه محاضر وحيد طيلة الزمان، يشيخ، ولا يتغير.
٢. "كما اختبأت ملامح وجهه خلف شعر كثيف أسود طال مشكلاً لحية شعثاء غطت معظم وجهه". هذه صورة أقسى، تغير شكلي في الخطاب، أصبح مسايرا لمرحلة أخرى، ربما تكون الخطاب الديني، أو الخطاب اليساري….لكن صاحب الخطاب لم يتغير، هو بدل جلده، كما تفعل الأفعى.
٣. "بينما شعر رأسه بهت لونه متحولاً إلى خصل بيضاء تساقطت بهدوء مطبق حول جسده الضخم الذي تضاءل تدريجيا حتى تهلهلت عليه ثياب تقطعت خيوطها فغدت رثة ممزقة."
الثياب الممزقة، والشعر الأبيض المتساقط، دلالة على قدم العهد، وشيخوخة الخطيب وخطابه، وهي صورة تعيدنا إلى صورة (الدرويش)، ذاك الذي يرتدي الأسمال، ويهذر بكلمات لامعنى لها، وجعل من التصوف، وهو الحالة الأسمى في الإيمان والعرفان والفكر، جعله هذراً، وضياعاً، وتحشيشاً، وغيبوبة.
"لم يستطع رفع عينيه -التي كلّ بصرهما- إلى فوق، فاكتفى بتأمل الجدران التين سقط الدهان عنها. والأرضية المغطاة بطبقات من الوسخ، وظلال الكراسي التي توشك على الانهيار، وقد تداعت فوقها عظام بشرية تكاد تتفتت من وطأة الغبار الكثيف، والزمن...لم يفكر بإسكات المحاضر الذي لم يتوقف عن الكلام الصامت، برغم أنه لم يشرب قطرة من ماء الكأس الذي فقد شفافيته، وتبخر ماؤه منذ عهد طويل"، هي إشارة إلى استمرار لحال ثقافة (البيان) الذي لا يجدي، ولا يستمع إليه أحد،ناهيك أن ينتفع به، فكأنه والصمت، شيء واحد لايختلفان. وهي حال يرى الكاتب أنها ستستمر، دون أن يتغير شيء، نلمس ذلك من الكأس التي غطى الزمن والغبار على شفافيها، وجف ماؤها لطول العهد، وحال السكون.
وكذا هي حال الصورة التي سبقتها.
الصورة الأخيرة في النص، هي الصورة الأخرى، المقابلة للمحاضر والمنبر، صورة المجتمع العربي الذي تحول إلى مجموعة من الأموات الذين، وإن لم يكونوا أمواتاً بالمعنى الحسي، فهم أموات بالمعنى الحضاري، التاريخي…"لم تخطر في ذهنه فكرة دفن الموتى الذين فقدوا لحمهم ودمهم منذ سنوات طويلة.
فقط حاول الوقوف...ولكنه لم يقدر على الوقوف على قدميه...لأنه اكتشف -متأخراً جداً- إنه منذ زمن بعيد.. فارقته الروح دون الأمل في العودة للحياة بأي طريقة ما!".
هي صورة متشائمة، بل تغلق أي أفق للمستقبل. هل بالغ الكاتب في تشاؤمه؟. ربما، لكنه تشاؤم مباح، ومبرر، فما نراه في مجتمعاتنا، لايبعث على أي تفاؤل.
منذر فالح الغزالي