تختلف صورة اليهود في السرد المغربي باختلاف منظور "الراصد" ، إذ يشكل " هذا المنظور، على حد تعبير جمال الجزيري، جزءًا من مكونات شخصية العين الراصدة أو الذات المفكرة أو القلب الحَسَّاس(...) ، فأي صورة في الدنيا صورة ذاتية في الأساس، دون أن ينفي ذلك أن بعض الصور لها وجود خارجي، أو بالأحرى، أصلها موجود خارج الذات التي ترصدها من منظور معين" ، وتبعاً لذلك ، فإن الصورة السردية التي حملتها رواية (خلف أطلال الجدران العتيقة ( Derrière les vieux murs en ruines ) للكاتبة ألين دو لانس Aline de Lens، تعكس تمثيلها " الذاتي" للشخصيات اليهودية التي نقلت لنا جوانب هامة من حياتها داخل الملاح وخارجه بمكناس المغربية . وتتأتى أهمية التمثيل السردي ليهود المغرب في مؤلفها القيم من كونها مواطنة فرنسية لا يشعر يهود الملاح بالحرج ، ولا التقية منها ، فضلا عن كون العمل برمته رأى النور قبل النكبة بما ينيف عن عقدين .
تطالعنا أولى الصور السردية عن يهود الملاح ، عندما ننتقل مع السارد من الكلام عن " الحريم" ،وحيوات النساء و الأطفال داخل الأسوار العالية بالمدينة القديمة إلى قلب الملاّح الذي نتعرف عليه من الخارج، ابتداءً ، عندما نتوقف مع وصف " دكاكين التجارة" التي يتفنن اليهود في مزاولتها .
و يطلّ من تلك الصورة التسامحُ الذي يمثله وجود المسجد غير بعيد عن الملاح الذي يقود إليه الزقاق المزدحم بمختلف أنواع الحرف التي اشتهر بها اليهود المغاربة من صياغة " الحلي وبيع النعال التقليدية ، و التوابل و الأعشاب...، و لا ينتهي عدّ تلك الحرف حتى يطالعنا الكلام عن أصل تسمية الملاح ، حيث يخبرنا السارد بسلاسة عن اشتقاق تسميته من الملح بوصفه مادة مطهرة وفق منطوق العهد القديم ، ذلك أن يهود الملاّح كانوا يشتغلون في دباغة الجلود باستعمال الملح طرداً لبكتريات العفونة.
و قبل أن يتوغل السارد في بواطن الحياة داخل الملاح ،يعمد إلى التمثيل السردي للشخصية اليهودية من خلال وصف الهيئة الخارجية و الملابس وما سوى ذلك.
و رغم طفو مسحة حزينة على وصف هيئة يهود الملاح ( لحى مرسلة ، أنوف بارزة ، لباس أسود ، وجوه شاحبة نحيلة ...) ،فإن بعض المصادر التاريخية تشير إلى أنهم دخلوا ، في العصر الموحدي، في "مفاوضات مع الملك الناصر ، فوافق على استبدال اللون الأسود بلون أصفر و عمامة صفراء" ، غير أن دلالة استمرار ارتداء الأسود في القرن 19 (فترة صدور الرواية محل كلامنا)، يحتاج إلى دراسة أنثروبولوجية ترصد تطوره ودلالاته.
و غير خاف ، أن أجواء الصورة السردية تحيل على الشرق بكل ما تحمله الكلمة من سمات مجتمع محافظ ، تسترق فيه النساء النظر من " الشرفات"، فهن " خلف حيطان الحريم الشاهقة حسب عنوان الرواية ، و لن نتعرف عن قرب على نساء يهود المغرب إلا عندما يرافق " الربيّ rabbin الساردة في جولة داخل دور الملاح المتلاصقة ، حيث ستتعرف على زوجته، وتصف حروف جمالها و حلي زينتها ، قبل أن تلمح إلى انحسار ظاهرة الزواج المبكر للبنات العبريات ( ابتداء من سن الثامنة ) ، منتهزة فرصة الكلام عن " إستير " الفتاة المخطوبة لهارون و اعتزامهما الهجرة إلى فرنسا من أجل إقامة مشروع تجاري بموازاة مع الدراسة بالسوربون.
وفي غمرة وصف أسلوب ونمط الحياة داخل الملاّح ، لم تفوت المؤلفة سانحة وصف معالم التأثر بنمط العيش الأوروبي ، إذ ذكرت أن الشاي يقدم على الطريقة الأوروبية ، كما وصفت التنورات التي ترتديها الفتيات الصغيرات اليهوديات بأنها "أوروبية " ، و يذكّر تعليق كومة البصل وغيره من الخضر على حبل مشدود بمسمار على الحائط بحياة الريف المغربي قبل شيوع الثلاجات ووسائل التبريد و الصيانة.
غير أن الصورة السردية السلبية لليهود لن تطل برأسها إلا بعد أن تستعيد المؤلفة حادثة يعود تاريخها إلى 1911 ، حيث سيضطر يهود الملاح إلى الاستجارة بأحد " قطاع الطريق السابقين" ، بعد أن أصبح شيخاً نافذا ب: "قصبة بريمة BERRIMA، وذلك إثر إقدام " الربيّ " اليهودي على ذبح " عجلين" على سبيل الهدي أو الهدية للشيخ الذي تعهد بحماية الطائفة اليهودية بالملاّح من كل أشكال الاعتداء والاهانة ، وفي هذا الصدد تذكر المؤلفة على لسانه أن اليهود كانوا يتعرضون لكثير من الاهانات و التصرفات الحاطّة من الكرامة من قبيل : ( المنع من المرور من محيط المسجد إلا مشيا على أربع كالكلب!)
و رغم ما اتسمت به هذه الصورة من قساوة و عنف و إهانة ، فإن صورة اليهودي المغربي في عين المسلم المغربي تتضمن جوانب أخرى أشد غرابة ، فقد دلت فتاوى فقهاء مغاربة على تشنيعهم على دخول اليهودي على النساء بحرية ، ذلك ، أنه كان يعتبر بمنزلة " غير ذوي الإربة" !.
و يبدو أن المؤلفة لم تتخلص طيلة تمثيلها السردي ليهود المغرب من التحيز ، إذ يشع من تتبعها الدقيق لمعالم التأثر بالنموذج الغربي رغبتها في إبراز وجه " التفوق " و " التحضر" ، فهي تقرّ بشيء من الانتشاء بأن جيل شباب " الملاح" أقرب إلى الأوروبيين خلافا للمسنين ، بل لا تجد غضاضة في التساؤل عن سرّ تمسك اليهود بالعيش مع " مسلمين " يحتقرونهم!.
د. بوزيد الغلى
تطالعنا أولى الصور السردية عن يهود الملاح ، عندما ننتقل مع السارد من الكلام عن " الحريم" ،وحيوات النساء و الأطفال داخل الأسوار العالية بالمدينة القديمة إلى قلب الملاّح الذي نتعرف عليه من الخارج، ابتداءً ، عندما نتوقف مع وصف " دكاكين التجارة" التي يتفنن اليهود في مزاولتها .
و يطلّ من تلك الصورة التسامحُ الذي يمثله وجود المسجد غير بعيد عن الملاح الذي يقود إليه الزقاق المزدحم بمختلف أنواع الحرف التي اشتهر بها اليهود المغاربة من صياغة " الحلي وبيع النعال التقليدية ، و التوابل و الأعشاب...، و لا ينتهي عدّ تلك الحرف حتى يطالعنا الكلام عن أصل تسمية الملاح ، حيث يخبرنا السارد بسلاسة عن اشتقاق تسميته من الملح بوصفه مادة مطهرة وفق منطوق العهد القديم ، ذلك أن يهود الملاّح كانوا يشتغلون في دباغة الجلود باستعمال الملح طرداً لبكتريات العفونة.
و قبل أن يتوغل السارد في بواطن الحياة داخل الملاح ،يعمد إلى التمثيل السردي للشخصية اليهودية من خلال وصف الهيئة الخارجية و الملابس وما سوى ذلك.
و رغم طفو مسحة حزينة على وصف هيئة يهود الملاح ( لحى مرسلة ، أنوف بارزة ، لباس أسود ، وجوه شاحبة نحيلة ...) ،فإن بعض المصادر التاريخية تشير إلى أنهم دخلوا ، في العصر الموحدي، في "مفاوضات مع الملك الناصر ، فوافق على استبدال اللون الأسود بلون أصفر و عمامة صفراء" ، غير أن دلالة استمرار ارتداء الأسود في القرن 19 (فترة صدور الرواية محل كلامنا)، يحتاج إلى دراسة أنثروبولوجية ترصد تطوره ودلالاته.
و غير خاف ، أن أجواء الصورة السردية تحيل على الشرق بكل ما تحمله الكلمة من سمات مجتمع محافظ ، تسترق فيه النساء النظر من " الشرفات"، فهن " خلف حيطان الحريم الشاهقة حسب عنوان الرواية ، و لن نتعرف عن قرب على نساء يهود المغرب إلا عندما يرافق " الربيّ rabbin الساردة في جولة داخل دور الملاح المتلاصقة ، حيث ستتعرف على زوجته، وتصف حروف جمالها و حلي زينتها ، قبل أن تلمح إلى انحسار ظاهرة الزواج المبكر للبنات العبريات ( ابتداء من سن الثامنة ) ، منتهزة فرصة الكلام عن " إستير " الفتاة المخطوبة لهارون و اعتزامهما الهجرة إلى فرنسا من أجل إقامة مشروع تجاري بموازاة مع الدراسة بالسوربون.
وفي غمرة وصف أسلوب ونمط الحياة داخل الملاّح ، لم تفوت المؤلفة سانحة وصف معالم التأثر بنمط العيش الأوروبي ، إذ ذكرت أن الشاي يقدم على الطريقة الأوروبية ، كما وصفت التنورات التي ترتديها الفتيات الصغيرات اليهوديات بأنها "أوروبية " ، و يذكّر تعليق كومة البصل وغيره من الخضر على حبل مشدود بمسمار على الحائط بحياة الريف المغربي قبل شيوع الثلاجات ووسائل التبريد و الصيانة.
غير أن الصورة السردية السلبية لليهود لن تطل برأسها إلا بعد أن تستعيد المؤلفة حادثة يعود تاريخها إلى 1911 ، حيث سيضطر يهود الملاح إلى الاستجارة بأحد " قطاع الطريق السابقين" ، بعد أن أصبح شيخاً نافذا ب: "قصبة بريمة BERRIMA، وذلك إثر إقدام " الربيّ " اليهودي على ذبح " عجلين" على سبيل الهدي أو الهدية للشيخ الذي تعهد بحماية الطائفة اليهودية بالملاّح من كل أشكال الاعتداء والاهانة ، وفي هذا الصدد تذكر المؤلفة على لسانه أن اليهود كانوا يتعرضون لكثير من الاهانات و التصرفات الحاطّة من الكرامة من قبيل : ( المنع من المرور من محيط المسجد إلا مشيا على أربع كالكلب!)
و رغم ما اتسمت به هذه الصورة من قساوة و عنف و إهانة ، فإن صورة اليهودي المغربي في عين المسلم المغربي تتضمن جوانب أخرى أشد غرابة ، فقد دلت فتاوى فقهاء مغاربة على تشنيعهم على دخول اليهودي على النساء بحرية ، ذلك ، أنه كان يعتبر بمنزلة " غير ذوي الإربة" !.
و يبدو أن المؤلفة لم تتخلص طيلة تمثيلها السردي ليهود المغرب من التحيز ، إذ يشع من تتبعها الدقيق لمعالم التأثر بالنموذج الغربي رغبتها في إبراز وجه " التفوق " و " التحضر" ، فهي تقرّ بشيء من الانتشاء بأن جيل شباب " الملاح" أقرب إلى الأوروبيين خلافا للمسنين ، بل لا تجد غضاضة في التساؤل عن سرّ تمسك اليهود بالعيش مع " مسلمين " يحتقرونهم!.
د. بوزيد الغلى