تجعل الاستعارة الخطاب قابلا لتأويلات متعددة وتشجع المتلقي على تركيز انتباهه على الحيلة الدلالية التي تحفز نوعا من التعدد الدلالي. هكذا يبدو أن الاستعارة تبرز الخاصيتين التي يسندهما جاكبسون Jakobson للخطاب الشعري: الغموض والانعكاسية الذاتية. إلا أن الفعل الشعري يرتبط بظواهر خاصة بالتعبير كالإيقاع والقافية والقيم الصوتية.. الخ.
تقديــم:
أمبرتو إيكو (Umberto Eco) سميائي وروائي إيطالي له إسهامات رائدة في مجال تطوير السيميائيات وتأويل الأنظمة الدالة لغوية وشعرية وثقافية… الخ. كما أنه “ملأ الدنيا وشغل الناس” برواياته الذائعة الصيت خصوصا اسم الزهرة التي لقيت رواجا كبيرا وترجمت إلى جل اللغات ومنها العربية، بالإضافة إلى كتاباته النقدية:
أ – العمل المفتوح L’oeuvre ouverte
ب – البنية الغائبة La structure absente
ج – القارئ في الحكاية Lector in fabula
د – سيميوطيقا وفلسفة اللغة Sémiotique et Philosophie du langage
هـ – العلامة: تاريخ وتحليل مفهوم Le signe/ Histoire et analyse de concept وغيرها من الأعمال والدراسات. وللإشارة فقد ترجم إلى اللغة العربية كتابه القارئ في الحكاية من طرف أنطوان أبو زيد، علاوة على ترجمات أخرى لكنها تبقى نادرة.
يعالج أمبرتو إيكو في كتابه حدود التأويل قضايا تتعلق بسيميوطيقا التلقي ومقصدية القارئ ومظاهر السمطقة الهرمسية وعمل التأويل، ويتناول في الفصل الأخير شروطه. وفي باب تأويل الاستعارة يتعرض لواحدة من أهم القضايا التي شغلت البلاغة الغربية والبلاغة العربية، لكن من منظور جديد وتوظيف مفاهيم مغايرة، وهي قضية تأويل الاستعارة وطرق اشتغالها في الخطاب الشعري. وما يميز عمل إيكو هو تركيبه لإنجازات الدراسات السابقة حول الاستعارة قديما وحديثا، إضافة إلى معالجته لها في علاقتها مع العوالم الممكنة ومقصدية المبدع، والإيحاء والقياس الاحتمالي والشرح والاستتيقا. كما أن إيكو لا يحصر نفسه في أشعار لغته الإيطالية، بل يستشهد بمقاطع شعرية فرنسية وإنجليزية.
وفي ما يلي ترجمة للفصل الثاني، تأويل الاستعارة، من الباب الثالث، عمل التأويل:
I – توليد وتأويل:
من الصعب اقتراح نظرية توليدية للاستعارات بصيغة أخرى إلا بمصطلحات المختبر (انظر مثلا إيكو ECO 1976: 3.8.3). إننا إزاء تمظهر خطي لنص موجود هنا سابقا كما في مواجهة أي ظاهرة سياقية أخرى (انظر أيضا سيكر SEGRE 1974 .5). كلما كان إبداع الاستعارة أصيلا، انتهك مسار توليدها القواعد البلاغية السابقة. وكل محاولة لوصف قواعد استعارة اصطناعية Invitro ستقود بإفراط إلى استعارة ميتة أو مبتذلة. فجزء كبير من الإبداع ما يزال مجهولا لدينا، وغالبا ما ينتج المتكلم استعارات عن طريق الصدفة أو بتجميع أفكار غير مراقبة أو خطأ.
يجب على مؤول الاستعارة المثالي أن يتبنى وجهة نظر من يسمعها لأول مرة (هنري Henry 1983: 9). في عبارة مجازية مثل “رجل طاولة” إنه إذا اعتبرنا وكأننا نسمعها لأول مرة نفهم، بمصطلحات رتشاردز سبب وضع هذا الدال لهذا المدلول وإذن سبب اختيار مبدع هذه العبارة رجل بدل ذراع. ونوجه باكتشافها بهذا الشكل ضد كل آليتنا اللسانية السابقة لرؤية طاولة مؤنسنة.
هل يجب كذلك معالجة استعارة أو ملفوظ استعاري انطلاقا من مبدأ وجود الدرجة الصفر في اللغة-التي تبدو بالنسبة لها العبارة المجازية المبتذلة منحرفة. إن موت استعارة متعلق بتاريخها السوسيولسني، وليس ببنيتها السيميوطيقية وتوليدها وإعادة تأويلها الممكن.
II – الدرجة الصفر والمعنى الحرفي:
لكن هل توجد الدرجة الصفر أو هل نستطيع بالتالي تحديد فرق واضح بين معنى حرفي ومعنى مجازي؟ لن يتفق الجميع اليوم على الرد بالإيجاب (انظر داسكال Dascal 1987: 259-269 للاطلاع على النقاشات السابقة). يرى البعض أن هناك إمكانية الاعتماد على معيار إحصائي في تحديد المعنى الحرفي كدرجة صفر مرتبطة بسياقات (كوهن Cohen 1966: 22، ريكور Ricoeur 1975، 180 وما بعدها) كونت اصطناعيا (جنيت Genette 1966: 211، جماعة مو 1970: 30 وما بعدها). هذه الدرجة الصفر يجب أن تماثل دلالة مقبولة في سياقات تقنية وعلمية. من الصعب التأكيد أن “أعين مضيئة” ينبغي فهمها حرفيا، لكن لو طلبنا من كهربائي أو مهندس معماري ماذا يفهم من “مضيئة” لأجابنا أن الجسم المضيء هو شيء ينشر ضوءه الخاص، وأن المكان المضيء هو فضاء يتلقى ضوء الشمس أو ضوءا اصطناعيا. وليس من الصدفة أن تمنح المعاجم هذا النوع من الدلالة الموقع الأول ثم تثبت بعده الاستعمالات المجازية كتعريفات ثانوية. ينطلق بيردسلي dslBerdsley 1958 وهيس Hesse 1966 وليفن Levin 1977 وسورل Searle 1980 وآخرون من فرضية أن المعنى الحرفي قابل للتعريف، ويفترضون إدراك المرسل إليه لا معقولية ملفوظ لتأويله استعاريا: إذا فهم حرفيا، تنشأ حالة خرق دلالي (تتفتح الزهرة)، أو تناقض ذاتي (الحيوان الإنساني) أو خرق المعيار التداولي للكيفية وإذن ادعاء خاطئ (هذا الرجل حيوان).
دون شك هناك حالات تظهر فيها العبارة الاستعارية مقبولة حرفيا، مثلا الأبيات الأولى من المقبرة البحرية Cimetière Marin لفاليري:
هذا السطح الهادئ حيث تمشي اليمامات،
بين الصنابر يرتجف، بين القبور،
يكون في الظهيرة لهيبا
البحر، البحر دائما يتجدد!
استعمل فاليري في البيت الأول جملة قد تفهم حرفيا نظرا لغياب الانحراف الدلالي في وصف سطح تمشي فوقه يمامات. وأضاف في البيت الثاني أن هذا السطح يرتجف، لكن العبارة تفرض (واستعاريا هذه المرة) أن حركة الطيور تثير انطباقا بتحرك السطح. يصبح البيت الأول استعارة حين يثبت الشاعر وجوده بجانب البحر في البيت الرابع: السطح الهادي هو البحر، واليمامات هي أشرعة السفن. بإدخال بغتة يثبت السياق تكراريا تماثلا ضمنيا ويحث القارئ على إعادة قراءة الملفوظ ليظهر استعاريا.
استهلت الكوميديا الإلهية بـ:
وسط طريق حياتنا
وجدت نفسي في غابة مظلمة
وأرى أني ظللت الطريق.
يمكن قراءة البيتين الثاني والثالث دون أي إشكال لأنه ليس هناك شيء عبثي في تيه المرء في غابة. إذا بدا هذان البيتان للوهلة الأولى مبنيين جيدا وصحيحين، فلأنهما في الحقيقة ليسا استعارة ولكنهما مجاز. وهو نموذج للمجازات التي تقبل قراءة حرفية (بالإضافة إلى قراءتنا لكثير من المجازات التي فقدت مفتاحها التأويلي حرفيا). إننا نعتزم تأويل سلسلة من الملفوظات كخطاب مجازي لأنها تنتهك قاعدة المجادلة للأهمية (انظر كرايس 1967): يسرد الكاتب كذلك كثيرا من التفاصيل والوقائع التي لا تظهر مهمة في الخطاب وبالتالي تحث على التفكير أن لهذه الكلمات معنى ثانيا (السبب الثاني الذي يكون به المجاز قابلا للتعريف هو أن الخطاب المجازي يستعمل صورا مسننة آنفا ومعروفة كمجازات). ويكون لهذه الصور التي يحددها المجاز، وليس للعلامات الكلامية التي تثيرها وضع استعاري في اللحظة التي يتعرف فيها على المجاز كما هو. وذلك هو سبب مشروعية إسناد قيمة استعارية للغابة المظلمة، في نص دانتي، عندما نلج عالم المعنى الثاني. من ثم يسمح البيت الثالث بتأويل طريق كسلوك أخلاقي ومنهج مستقيم تتبع فيه الأوامر الإلهية.
III – الاستعارة كظاهرة محتوى والموسوعة:
لا تقيم الاستعارة علاقة مشابهة بين مراجع الدلالة، لكن علاقة تطابق دلالي بين محتويات التعابير ولا يمكن أن تعني الكيفية التي نعتبر بها المراجع إلا بوساطة معينة. ومحاولات تطبيق منطق قيم الحقائق الصوري على الاستعارة لا تفسر ميكانيزمها السيميوطيقي (انظر إيكو 1984-3-10). إذا كان الاستبدال الاستعاري يخص كل علاقة بين أشياء العالم لن نتمكن من فهم Cantique des Cantiques حينما يقول: أسنانك كقطيع غنم عائد من حمام. أو حين يكتب إليوت في الأرض الخراب: I will show you fear in a hendful of dust
إن ابتسامة شابة جميلة ليست مشابهة لقطيع أغنام ثاغية مبللة في شيء. قد يبدو من الصعب القول بأي معنى يشبه الخوف الذي أحسه أو الذي قد يحسه حفنة من الغبار. إن التأويل الاستعاري يشتغل على مؤولين (انظر إيكو أيضا 1984) أي على وظائف سيميوطيقية تصف محتوى وظائف سيميوطيقية أخرى. من البديهي أن الأسنان بيضاء بالمعنى نفسه الذي يفهم به بياض الأغنام، لكن من المناسب أن الثقافة تؤول كل واحد منهما عبر المحمول الذي تعبر عنه كلمة أبيض لكي تستطيع الاستعارة الاشتغال على تماثل.
يتعلق الأمر بتماثل خصائص هاتين الكلمتين Lexemes، وليس بتماثل أمبريقي، والتأويل الاستعاري لا يكتشف التماثل، ولكن يكونه في نطاق افتراض نماذج من الأوصاف الموسوعية ورد بعض الخصائص موافقة (انظر بلاك Black 1962: 37، ريكور Ricoeur 1975: 246، لاكوف وجونسون Lakoff et Johnson 1980: 215). إنه فقط بعد أن أرغمتنا الاستعارة على بحثها حققنا نوعا من التشابه بين الخوف وحفنة الغبار. وقبل إليوت لم يكن هناك أي تشابه.
يتولد التفاعل الاستعاري بين محتويين، والمجاز الشكل الأساسي في الاستبدال الاستعاري يعطينا الحجة على هذا المبدأ. إن مجازا مثل رجل الطاولة يصلح أن يجعل من وظيفة سيموطيقية (تعبير + محتوى) تعبيرا لتسمية محتوى آخر لم تضع له اللغة تعبيرا مناسبا (يتوجب تأويلها بتفسير ممل وسلسلة من التعليمات التقنية وتمثيل بصري).
تبدو التحليلات الأكثر تقدما للميكانيزم الاستعاري واصفة للمحتوى بمصطلحات المكونات الدلالية. فطريق الحياة استعارة لأن حياة تتضمن وسم الزمانية، بينما تتضمن طريق وسم المكانية. بفضل تضمن هاتين الكلمتين وسم السيرورة أو التحول من س إلى ص (سواء كانت نقطا في الفضاء أو لحظات في الزمان)، تصبح الاستعارة ممكنة بترحيل خصائص أو بتحويل المقولة (انظر فينريش Weinreich 1966 وكودمان Goodman 1968). لن تصبح عبارة “وسط” استعارة إذا كانت الطريق مستعملة بمعناها الفضائي، لكن التساوق النصي لعبارة “حياتنا” يفرض نقل الوسم الفضائي في إطار المقولة الزمانية، بحيث أضحى الزمان بدوره فضاء داخليا يحتوي على نقطة متوسطة وطرفين.
مع ذلك، إذا كان التمثيل الدلالي في شكل معجم فقط، فلن يسجل إلا الخصائص التحليلية مستثنيا الخصائص التركيبية أي تلك التي تستلزم معرفة بالعالم (انظر إيكو 1984: 2). هكذا سيحدد المعجم حياة كسيرورة تتكون من مدة زمنية مستبعدا كونها غنية بالأفراح والآلام. وسيحدد طريق كسيرورة تشتمل على تحول فضائي مستبعدا احتمال تضمنها للمخاطر والمهالك.
سيرورة
مدة في الزمان نقل في الفضاء
حياة طريق
إن أي معجم لا يستطيع الإشارة إلا إلى العلاقات بين الأجزاء والكل، أو إلى علاقات من الجنس إلى الصنف تسمح باستنتاج علاقات الاستلزام: إذا كانت مدة في الزمان، فهي سيرورة. مع ذلك لا نبني على هذا الأساس إلا مجازات مرسلة. لهذا نفهم سبب إصرار كاتز Katz (1972: 433) على أن التأويل البلاغي يشتغل على تمثيل بنية السطح وتمثيله الفونيتكي بمفردهما. فهو يرى أن تمثيل الدلالة مبنية في شكل معجم ينبغي ألا تأخذ بعين الاعتبار سوى الفونيمات كالخرق الدلالي والترادف والاستلزام… الخ، إن استعمال الكل محل الجزء في نظرية الدلالة هذه ليس له انعكاس على المعنى العميق للملفوظ.
تبدو بالمقابل حالة الاستعارة التي يسميها أرسطو النمط الثالث (الشعرية 1457) مغايرة، لدينا تحويل من نوع إلى آخر (أو من جزء إلى آخر) بواسطة جنس (الكل)، لكن سيكون للتشابه بين حياة وطريق كذلك وظيفة وحيدة هي التذكير بأن الحياة سيرورة. يغدو التشابه مهما إذا استحضرنا أن مفهوم السفر لدى إنسان القرون الوسطى يستغرق مدة طويلة من المغامرة وتحفه المخاطر المهلكة. وهذه خصائص قابلة للتحديد كمميزات موسوعية. حينما يحيل منظرو الاستعارة إلى هذه البنية، يعطون أمثلة نحو: سن الجبل، لأن كلا من السن والقمة ينتميان إلى نوع الشكل الحاد القاطع. من الواضح أن هذا المثال مع ذلك لا يستلزم تمثيلا بسيطا في شكل معجم. وفي العبور من سن إلى قمة شيء أكثر من المرور عبر الجنس المشترك، أي ليس للقمة والسن معجميا جنس مشترك، وخاصية حاد ليست بتاتا خاصية معجمية. إن الاستعارة تشتغل لأنه اخترنا من بين خصائص الكلمتين المحيطية سمة مشتركة رفعت إلى مستوى النوع لهذا السياق فقط.
إن الاستعارة ليست قابلة للشرح بكلمات المعجم إلا في حالات مثل طريق حياتنا (السفر عبر المكان كالحياة في الزمان). إن أمثلة الاستعارة من النمط الرابع التي اقترحها أرسطو ليست قابلة لتحويلها إلى نماذج المعجم: الذرع قدح آريس والقدح ذرع ديونيزوس، بيد أن القدح والذرع ليسا متبادلين بكلمات المعجم، إلا باعتبارهما نوعين من جنس شيء وهذا لا يفسر الاستعارة. والحال أن أهمية الاستعارتين في هذا الطور لا تكمن في كون الذرع والقدح يمتلكان سمة مشتركة. إذا ابتدأنا بالتماثل نكتشف التناقض بين آريس إله الحرب وديونيزوس إله السلم والفرح، وبالتالي بين صفات الذرع أداة الحرب والدفاع، وصفات القدح أداة اللذة والسكر. بهذا فقط تسمح الاستعارة بسلسلة من الاستدلالات التي توضح المعنى وتوسعه. لكن للتنبؤ والسماح بها، ينبغي أن تتطلب الاستعارة موسوعة وليس معجما. إن قارئ استعارة الإنسان ذئب في نظر بلاك Black (1962: 40) ليس في حاجة إلى تعريف الذئب معجميا وإنما إلى الخصائص المشتركة المسندة له.
لا يقول دانتي إن الحياة مثل سفر، بل يقول أيضا أن له خمسة وثلاثين سنة. وهذه الاستعارة تفترض بجانب معارفنا الموسوعية حول الحياة معلومة عن مدتها المتوسطة. يقترح بيرفيش Bierwish وكيفر Kiefer (1970: 69 وما بعدها) تمثيلات موسوعية يحتوي فيها الرائز Item المعجمي على “مركز” و”محيط”. إن التمثيل المحيطي للملعقة يسجل شكلها المتوسط من بين صفات أخرى. وبفضل هذا نتعرف أن ملفوظا نحو: له ملعقة كبيرة كمجرفة يجب ألا يفهم بمعناه الحرفي ولكن كمبالغة.
إذا فهمنا “نعجة” كثديية في أبيات Salomon، فلن نكتشف جمالية الاستعارة، ولتوضيحها ينبغي إنجاز بعض الاستدلالات المعقدة:
أ – تقدير أن القطيع mass-noun ينبغي أن يثبت سمة مثل متعدد أفراد متماثلين.
ب – تذكر أحد معايير الاستيتقا القديمة: الوحدة في التعدد.
ج – إسناد صفة البياض للأغنام
د – إسناد صفة البلل للأسنان.
تدخل بهذه الاستدلالات الأسنان البيضاء اللامعة في تفاعل مع أغنام تخرج من الماء (سمة فرضها كليا السياق). نرى أنه للحصول على هذه الحصيلة التأويلية قد كفى تفعيل خاصيتين أو ثلاث وإبعاد الخصائص الأخرى (عن سيرورات تفعيل وإبعاد الخصائص في كل فعل تأويلي، انظر إيكو 1979). حسب السياق قد اختيرت بعض السمات الملائمة وانتقى المؤول، فخم، أزال ونظم مظاهر الموضوع الرئيس باستنتاج ملاحظات تطبق عادة على الموضوع الفرعي (بلاك Black 1962: 44-45) (1).
IV – الاستعارة والعوالم الممكنة:
يحث تحديد الاستعارة كظاهرة محتوى على التفكير في غياب علاقة مباشرة واحدة لها بالمرجع الذي لا يمكن اعتباره مقياسا لصحتها. حتى حينما نحدد تعبيرا كاستعارة، لأنه إذا فهم حرفيا سيبدو غير معقول، ليس ضروريا تصور بطلانها مرجعيا، لكنه بطلان وعدم دقة موسوعية. إن عبارات نحو “تسيل الزهرة” و”هذا الرجل حيوان” تبدو غير مقبولة في حالة اعتمادنا على الخصائص التي تسندها الموسوعة للزهرة وللرجال. فبعد معرفة المرجع نستخلص لا معقولية المضمون المحمول في التعابير الإشارية مثل “هذا حيوان” (هذا الكائن الإنساني ليس إنسانا).
رغم عدم وجود القارن نجد عبارة “القارن شعلة بيضاء في الخشب” غير عادية دلاليا. فللقارن في موسوعتنا خاصية كونها من الحيوانات، وبالتالي فمن غير المعقول تصنيفها كشعلات (دون الحديث عن الاستعارة المفارقة بيضاء) إننا نقرر بعد هذا الفعل التأويلي أن قراءة الملفوظ يجب أن تكون استعارية.
تستلزم إحدى وسائل استعادة المعالجة المرجعية للاستعارة تأكيد أن التعبير الاستعاري يجب أن يفهم حرفيا (انظر مثلا ليفن Levin 1979)، لكن مع إسقاط محتواه على عالم ممكن. فتأويل الاستعارات يرتكز على تخيل عوالم ممكنة تسيل فيها الزهور ويكون القارن شعلة بيضاء. لكن حتى ولو اعتمدنا هذه الأطروحة فإن استعارة Cantique des Cantiques ستحيل على عوالم غريبة تشبه فيها أسنان فتاة شابة قطيع غنم.
إن التعبير الاستعاري لا يتخذ شكلا مزيفا، ليس أكثر من فرض شرط تخيلي إثباتا لقبولنا غياب مقصدية قول الحقيقة لدى المتكلم. إن Salomon لا يقول ما إذا كانت أسنان الفتاة الشابة كقطيع غنم وأنها قصة شابة وقع لها هذا وذاك، وإنما يقول أيضا إن لأسنان الفتاة الشابة بعض خصائص قطيع غنم، وجزمه هذا يجب أن ينظر إليه جديا في سياق خطاب محدد يلتزم ببعض المواصفات الشعرية، لكن Salomon يقصد في هذا الخطاب قول شيء حقيقي على الفتاة الشابة التي يمدحها.
لا نختلف حول إثبات أن صفات قطيع غنم التي يشير إليها Salomon ليست تلك التي اكتشفها خلال تجربته الشخصية، وإنما هي خاصيات الثقافة الشعرية لعصره التي تعزوها لقطيع غنم (رمز البياض)، يبقى من جهة أخرى أن نعرف ما إذا كانت هذه المواضعات الثقافية تدفعه إلى النظر إلى القطيع بهذه الكيفية…
V – الاستعارة ومقصدية المؤلف:
إذا كانت الاستعارة لا تتعلق بمراجع الواقع ولا بالفضاء القيمي للعوالم الممكنة، تبرز اليوم أطروحة ثالثة: للاستعارة علاقة بتجربتنا الداخلية للعالم وسيروراتنا الوجدانية. هذا لا يعني أن الاستعارة تعطي-بعد تحليلها- جوابا وجدانيا وعاطفيا. وفي هذه الحال ستكون هذه الظاهرة غير قابلة للجدل وستكون موضوع دراسة في سيكولوجية التلقي. لكن يبقى السؤال مطروحا انطلاقا من أي تأويل تمكن الاستجابة وجدانيا للملفوظ المثير.
إن الأطروحة التي نثيرها أكثر عمقا وتخص مسار توليد الاستعارة. وتولد الاستعارات الإبداعية حسب بريوزي Briosi(1985) من صدمة إدراك بكيفية يتم التواصل مع العالم الذي يسبق الاشتغال اللسني ويحركه. لكننا نبدع دون شك استعارات جديدة للدلالة على تجربة داخلية منبثقة من كارثة الإدراك. بيد أنه إذا تحدثنا عن الاستعارة كمادة موجودة سلفا، وإذا لم يمكن تحديد حدوس حول سيرورة توليدها إلا من خلال تأويلها، فسيبدو القول بأن الكاتب كانت له تجربة سيكولوجية ثم ترجمها ثانيا إلى رسالة لغوية قولا صعبا أو كانت لديه تجربة لغوية استخلص منها بعد ذلك ترتيبات مختلفة لرؤية العالم. ترغمنا الاستعارة بعد تأويلها على النظر إلى العالم نظرة مغايرة، لكن لتأويلها يتوجب التساؤل كيف تجعلنا نرى العالم بهذه الكيفية الجديدة، وليس لماذا ترينا العالم بتلك الطريقة.
إن فهم الاستعارة هو -استدلاليا- فهم سبب اختيار مبدعها لها. لكن الأمر يتعلق هنا بفعل تعاوني في التأويل. إن عالم المبدع الداخلي (ككاتب نموذج) هو بناء فعل التأويل الاستعاري، وليس حقيقة سيكولوجية تثير التأويل نفسه.
تقود هذه الملاحظات إلى تفحص مشكل مقصدية المرسل، والاستعارة حسب سيرل Searle لا تتعلق بمعنى الجملة Sentence meaning بل بمعنى المتكلم Speaker’s meaning. إن ملفوظا ما استعاري لأن مبدعه يريده كذلك وليس لأسباب داخلية في بنية الموسوعة.
من المؤكد أن الأمر يتعلق حيال ملفوظات نحو: هي ظبية وهو بطن ظبية بمقصدية المتكلم باستعمالهما للإشارة إما إلى الكائن الإنساني أو إلى لون وإما إلى ثديية من الإيليات وجزء من جسمها. لهذا سيرتبط التأويل الاستعاري بقرار من جهة مقصدية المتكلم. لكن هذين الملفوظين المقروءين في مقطع أدبي خارج كل سياق يصبحان لدى مستمتع فرنسي تعبيرين يحتملان تأويلين: الأول حرفي والآخر استعاري.
لا يشك أحد في أن للمتكلم، مستعملا إحدى العبارتين، مقصدية حث قراءتهما استعاريا أولا. هذا لا يعني أن مقصدية المتكلم تصبح ذات دور مميز في معرفة الخاصية الاستعارية للملفوظ. شير لوك هولمس متعقب جيد تتوقع قراءة استعارية بقوة تقليد إيحائي (ولأنه إذا فهمناها حرفيا سنفاجأ بخرق دلالي) بمعزل عن مقصديات المتكلم.
يتولد التأويل الاستعاري من التفاعل بين مؤول وبين نص استعاري، لكن حصيلة هذا التأويل تتأتى من جهة طبيعة النص ومن جهةالإطار العام للمعارف الموسوعية لثقافة معينة، وبصفة عامة ليست لها أية علاقة بمقصديات المتكلم. يستطيع مؤول أن يقول باستعارية ملفوظ بشرط أن تمكنه كفاءته الموسوعية. من الجائز تأويل يأكل جون تفاحته كل صباح كما لو أنه يرتكب كل يوم خطيئة آدم. وتتأسس على هذا المفترض كثير من الممارسات التفكيكية. كما لا يمنح مقياس الصحة إلا السياق العام الذي يظهر فيه الملفوظ. إذا كان “الطوبيك” Topic هو وصف فطور أو مجموعة من وجبات الطعام باللحم، فإن التأويل الاستعاري غير مستساغ. لكن للملفوظ بالقوة أيضا معنى استعاريا.
نعود لإضاءة هذه النقطة أكثر إلى مثال فاليري. لقد قلنا على القارئ أن ينتظر البيت الرابع لاكتشاف بفضل أفعال المشاركة التأويلية، أن السطح الهادئ الذي تمشي فوقه اليمامات بحر مرصع بشراعات بيضاء (للتذكير فالمفتاح الذي يبرر تفسير اليمامات بشراعات لم يشر إليه إلا في البيت الأخير: هذا السطح الهادي الذي تنقر فيه الشراعا!). إن أي تأويل لها لا يقود فحسب إلى إعادة النظر في السطح البحري، لكن عطاء فضاءات أخرى.
يبدو هذا السطح بالحصول على بعض خاصيات البحر منتجا لانعكاسات فضية معدنية زرقاء أو مرصصة. إن الصدمة أقوى لدى قارئ إيطالي منها لدى قارئ فرنسي. بالفعل يفكر الإيطالي في سقوف بلاده الحمراء. بعد لحظة تأمل ينتبه إلى أن الاستعارة تشتغل إذا كان للبحر خاصيات السقوف الفرنسية الزرقاء. لكن ليس لنا أن نتساءل في ماذا يفكر الكاتب وما هي السقوف التي كانت أمام عينيه وهو يكتب (سقوف باريس احتمالا). والتماثل مع السقوف الزرقاء لا يفرض نفسه فحسب، بل يجب أن يكون القارئ الفرنسي النموذج ممتلكا لمعرفة موسوعية عميقة. إن النص علاوة على الموسوعة التي يستلزمها يمنحان للقارئ النموذج ما تفرضه استراتيجية نصية: مقصدية قارئ يتخيل بحر فاليري الأحمر المتألق ستصبح أكثر فضولا. في حين أن من سيقوم ببحث عن السطوح التي فكر فيها فاليري ذلك اليوم سوف يبذل مجهودا غير مجد.
في الختام، ليست الاستعارة ضرورة ظاهرة مقصدية، إذ من الممكن تصور حاسوب مبرمج يؤلف صدفة تراكيب لغة ينتج تعابير مثل “وسط طريق حياتنا” التي يعزو لها مؤول بالتالي معنى استعاريا. وبالمقابل إذا أنتج نفس الحاسوب بمقصدية ضعيفة لوضع استعارة “Patarase de reden frits” فسنواجه مشاكل في إعطائها تأويلا استعاريا كاملا بالنظر إلى معارفنا اللسانية الحالية وإلى التقليد التناصي.
VI – الاستعارة كصنف من الإيحاء:
إذا قبلنا التمييز الذي اقترحه رتشاردز Richards (1936) بين الحامل والمحمول، يجب قبول كون الحامل ممثلة دائما بوظيفة سيميوطيقية تامة (تعبير + محتوى) تحيل إلى محتوى آخر قد يمثل عند الاقتضاء بتعبير أو تعابير متعددة (أو دون أي واحدة كما هو الشأن في المجاز). وتبدو الاستعارة بهذا المعنى حالة خاصة من الإيحاء.
يصبح مجموع الوظيفة السيميوطيقية لدى دانتي (طريق = “حركة من مكان إلى آخر” أو “ممر يقود من مكان إلى آخر”) تعبير المحتوى “فضاء بين الولادة والموت”. إلا أن الإيحاء إذ اعتبر ظاهرة تخص العلاقة بين سيميوطيقيتين (وإذن بين نسقين) يجب التفكير في أن الإيحاءات مقننة في النسق- كما هو حال المعنى المجازي. ويمكن بالمقابل تخيل سياقات لا تكون فيها الإيحاءات المقننة موضع السؤال (قطعت طريقا طويلة بين روما وميلانو)، وسياقات تبنى فيها استعارات ليست غير مقننة فحسب، بل تبقى “منفتحة” (انظر مثال اليوت في III 3.2). يبدو إذن اعتبار الإيحاء ليس ظاهرة نسق وإنما ظاهرة سيرورة أي ظاهرة سياقية أكثر ملاءمة (انظر بونفا نتيني Bonfantini 1987)، في حين لا يختفي المعنى الأول في علاقة الإيحاء لتوليد الثاني، بل يفهم المعنى الثاني لأنه تحفظ في “القماشة الخلفية” دلالة الوظيفة السيميوطيقية الأولى أو على الأقل أحد مظاهرها.
لا يكفي لفهم بيت دانتي الأول استعاريا إبدال الزمان بالمكان: ينبغي النظر إليهما في نفس الآن. فالحياة تملك خاصية الفضائية والفضاء يملك خاصية الزمانية (انظر التفاعل L’Interaction view عند بلاك 1962).
من المهم تأكيد أن هذا ينتج أيضا مع الإيحاءات المقننة. تعني كلمة “خنزير” حرفيا “ثديي من فصيلة الخنازير”، وإيحائيا “شخص له تصرف أخلاقي مشين”. غير أن فهم “جون خنزير” يفرض معرفة عادات الخنزير القبيحة (بل وضع اللاصفاء الذي تسنده له مجموعة من الأديان). لكن الاستعمال الإيحائي يعكس مظاهر سلبية على الخنزير مثلما يظهره مقطع براسليس Paracelse: “إن الأسماء المقتطفة من اللغة العبرية تشير في نفس الوقت إلى الفضيلة والقوة وخاصية شيء آخر، مثلا حينما نقول “هذا خنزير” فإننا نشير بهذا الاسم إلى “حيوان كريه وغير صاف”. يقع هنا براسليس ضحية الاستعمال الإيحائي للكلمة. إن الإيحاء يؤيد أكثر تخصيص المعنى الحرفي بسمة السلبية إلى حد حث الكاتب على التفكير في كون اسم خنزير قد وضعه الله حتما لأنه يشير إلى رجال جديرين بالاحتقار.
لا يعني القول بأن المعنى الإيحائي “يفترض مسبقا” المعنى الحرفي قسرا أن الناطق بالاستعارة ينبغي أن يكون واعيا بالمعنى الحرفي ليتعرف على المعنى الاستعاري، خصوصا إذا تعلق الأمر باستعارات متداولة في الاستعمال المشترك. إن كثيرا من الشباب يتعلمون اليوم وضعية مثل الماخور دون معرفة أن العبارة ولدت بكيفية إيحائية من كون الماخور إلى نهاية الخمسينيات منزل تسامح ومسرح سلوكات غير تربوية صاخبة وغير منظمة (نستطيع قول نفس الشيء عن عبارة فوضى foutoir التي تستعمل في بعض المواقع الشعبية للإشارة إلى الضوضاء والاختلال، دون أن يفكر المتكلم -الورع المحتشم إن وجد- في فضاء الشبق الجنسي). لكن إذا أردنا تفسير سبب رغبة المتكلم في أن تفهم بعباراته وضعية الفوضى الصاخبة سنضطر إلى الإحالة على المعنى الحرفي الضمني المنسي ربما، لكن ليس أقل إجرائية دلاليا.
من ثمة تعتبر الاستعارة ظاهرة إيحائية بسبب إواليتها السيميوطيقية داخل لغة في لحظة محددة، وليس بسبب مقصدية المتكلم.
VII – التأويل كقياس احتمالي:
لاحظ أرسطو (Réthorique III 10. 1450) أننا نعرف شيئا بفضل الاستعارة: القول إن الشيخوخة كساق الحشفة يعني أن نعرف بواسطة النوع لأن الاثنين غير مزهرين. لكن ما الذي دفع أرسطو إلى تصنيف النوع المشترك للجوهرين ضمن “كونهما غير مزهرين”. إنه يتصرف ليس كمن ينبغي أن يبدع الاستعارة لكن كمن ينبغي أن يؤولها. إن إيجاد الصلة التي مازالت بعد غامضة بين الشيخوخة والحشفات يخلق دون شك مشكلا تأويليا يستلزم حسب بيرس قياسا احتماليا.
من السهل أن نرى كيف يماثل مفهوم القياس الاحتمالي مبدأ منطق الاكتشاف، مفهوم النموذج الذي اقترحه بلاك Black (1962) وهيس Hess (1966). يمثل منطق الاكتشاف العلمي لديهما مظاهر مشتركة في منطق التأويل الاستعاري. ويندرج التأويل الاستعاري والبحث العلمي والخطاب اللاهوتي في ظل هذا التصور ضمن نمط الاستدلال بالقياس (انظر ريكور Ricoeur أيضا 1975 وإيكو Eco 1984).
إننا نختار في استخدام النماذج العلمية وفي التأويل الاستعاري كذلك السمات التي عليها تتم، وللنموذج الخصائص التي تسند له بالتعاقد اللغوي. علاوة على ذلك من الضروري تعميق العلاقة بين استعارة ونموذج من زاوية النموذج القياسي (انظر نظرية graphes extentielles لدى بورس Pierce وعلاقة ratiodifficils عند إيكو 1975: 9.4.3). وهذا يعني الاستعارات غير اللفظية خصوصا. وقد حمل كوهن Kuhn 1979 للعلاقة بين استعارة واكتشاف علمي مشاركة مهمة، التأويل الاستعاري كمماثل لتقديم براديكم Paradigme علمي جديد. يؤكد علم الاستعارة المعاصر -وهي إحدى سماته المميزة- على العلاقة بين الاستعارة والاكتشاف العلمي، وبين الاستعارة والمعرفة عموما، أكثر من تركيزه على العلاقة بين الاستعارة والشعر.
إن القياس الاحتمالي العلمي يفترض قانونا كإطار مرجعي يسمح بتفسير ظاهرة غريبة لكنه متلو بتحقيقات تجريبية (إذا كان القانون صحيحا يجب أن ينتج هذا أو ذاك) بخلاف ذلك يمكن التأويل الاستعاري الذي يكشف إطارا مرجعيا من تأويل الاستعارة، لكن لا يروم تحديد قانون عالمي، إلا أن التأويل إذا كان مقنعا يجب ألا يبرر الملفوظ الاستعاري فحسب بل السياق الذي يظهر فيه كذلك (نستطيع أن نؤول ملفوظا بطريقة استعارية إذا كان باقي السياق يسوغ هذا التأويل).
إن التأويل الاستعاري يبحث بعبارة أخرى عن قوانين صالحة لسياقات خطابية، بينما يبحث الاكتشاف العلمي عن قوانين صالحة للعالم. وهذا يتضمن أن التأويل الاستعاري يمنح حرية اختيار خارج النص المؤول.
إذا قبلت مماثلة بوهر Bohr فأنا مضطر دائما لرؤية الذرات كمجموعة شمسية، وإذا قبلت مماثلة Cantique des Cantiques، لست مجبرا على رؤية ابتسامة فتاة شابة كقطيع غنم إلا داخل هذا النص.
VIII – السياق والتناص:
تفترض كل استعارة ناجحة سياقا مرجعيا وإعادة قراءة واسعة لها. تظهر الاستعارة كظاهرة لكنها لا ترتبط حصرا بنسق المعجم. تصبح كلمة في بعض الأحيان حاملا استعاريا لأنه أدرجت في تركيب أدنى: إنها حالة “طريق حياتنا” أو “حفنة غبار” لكن مع أن الاستعارة دلالية حتى في هذا المعنى، فلها أولا أسس تركيبية (انظر بروك روس Brooke Rose 1958: 206-249). غير أن سياق الملفوظ المسهب وسياق النص كله هو الذي يسمح بافتراض الطوبيك الخطابي والتشاكلات-نقطة انطلاق العمل التأويلي.
إن مبدأ السياقية يتسع غالبا لمبدإ التناص، لنأخذ مشكلا يثار: معكوسية العلاقة الاستعارية (انظر مثلا مينني Mininné 1986: 79-89). إذا كان الصباح يمثل للنهار ما يمثل الشباب للحياة، فمن الجائز القول إن الصباح شباب النهار، كما أن الشباب صباح الحياة. لماذا يبدو القول إن الحياة سفر في الزمان جائزا تماما، ويعد القول إن السفر هو حياة في المكان أقل مشروعية؟ ببساطة لأن “شباب” و”صباح” ينتميان إلى نفس المقولة (زمان). بمعنى أنهما يتحققان في تشاكل منسجم، في حين أن سفر وحياة يحيلان على مقولتين مختلفتين.
لكن لماذا الحديث عن عوالم مقولية مختلفة؟ يكمن الجواب في قلب التوازن الذي تبلغه موسوعة “تناصية” في ثقافة معينة. يذكرنا لاكوفLakoff وجونسون Johnson (1980) بأن نسقنا التصوري يشجع الاستعارات المكانية للتعبير عن فترات زمانية وليس العكس. سيغدو من المهم إعادة بناء الأسباب التاريخية السيكولوجية لهذه الوضعية. لكن يكفي ملاحظة إمكانية القول إن سفرا بسرعة الضوء حياة (بالنسبة لمن يبقى في الأرض) في ثقافة ما.
هناك استعارات تشتغل في عالم ثقافي وتناصي معين، لكنها تكون غير مدركة في عالم آخر مختلف. يمكن أن تكون الخطيئة بالنسبة لدانتي غابة، لأن الترجمة الكنسية القروسطية ترى في غابة Silva متاهة ومكانا خطيرا تسكنه وحوش شيطانية ولصوص ولا نخرج منه إلا بمشقة كبيرة. غير أن مبدأ التفاعل السياقي يمكن من اعتبار مفهوم السفر ابتلاء.
تجبرنا الاستعارة على التساؤل عن عالم التناص، وتجعل السياق غامضا ومتعدد التأويل في نفس الوقت وتكون الاستعارات السابقة من جهة أخرى جزءا من التناص، حتى أنه يمكن إعطاء استعارات للاستعارات قابلة للتأويل في ضوء معرفة تناصية كافية.
يقوم ليفن Levin (1977 – 24) بتحليل نقل الخاصية بتحليل العبارة The rose melted. لكن تحليله سيظهر ناقصا لقارئ فرنسي يترجم الاستعارة حرفيا بـ La rose a fondu (ذابت الزهرة). ولتذوق الاستعارة بالإنجليزية ينبغي معرفة أن The melt تحمل أيضا إيحاءات (تثبتها المعاجم) الحزن والفناء وذوبان شيء: هكذا يمكن أن نقول La mer semble se fondre avec le ciel (وهي مقبولة في الفرنسية) لكن عبارة Sa douleur a fondu liquefie le coeur ستبدو بالأحرى مثيرا للسخرية). نستطيع بهذه الشروط (قراءة الاستعارة كلعبة حول الاستعارات السابقة) تأويل حال الوردة كذوبان أو تبخر مميع، أو تدمير بواسطة الهزال بتلة بتلة. ماذا سنقول إذن عن Hanful of dust لاليوت؟ إن محاولة كشف الخصائص المشتركة بين الغبار والخوف ترغم المؤول على رحلة تناصلية حقيقية بالشكل الذي يكون دائما إزاء تأويلات متعددة. ونستطيع في هذه الحالة أن نتحدث عن استعارة “مفتوحة” إذا لم يؤد هذا إلى اعتبار استعارات دانتي “استعارات مغلقة” (قابلة للشرح). لكن رأينا أن هذا يحتم على المؤول قدرة إدارة وتحريك في ضوء السياق لعبة استدلالات كالاستعارة الأكثر “انغلاقا” التي تستطيع أن تسترجع نظارة جديدة وتنتج استدلالات استعارية معقدة بحيث تظهر غير قابلة للشرح في كليتها. إن الاستعارة لا تقوم بإنجاز تفاعل بين فكرتين وإنما بين نسقي أفكار (بلاك Black 1972 – 28).
IX – الاستعارة والشرح:
نحدد الاستعارة كزخرف شعري لأنها ليست قابلة للشرح. إلا أن هناك اختلافا حول هذه النقطة (انظر مثلا بلاك Black 1972: 237 وسورل Searle 1980: 121). إذا كانت للاستعارة قيمة معرفية، يجب أن تكون قابلة للشرح، على أن حجة التفسير يبدو أنها تبين إبداعية وأصالة الاستعارة أو موتها وشيخوختها. من السهل شرح “جون خنزير” بكون جون إنسانا فظا، بينما يبدو تفسير بيت فاليري الأول مستحيلا دون إنتاج نص أكثر طولا من قصيدته ومضحكا في الآن نفسه (“البحر مثل سطح معبد الأعماق البحرية الذي يخفق تحت ضوء الشمس التي تضيء أمواجه، بينما الرياح تخدد أشرعة الزوارق”) هذا يعني أن المحاولة النقدية اللامعة لفينريش Weinrich (1971) عن استعارة البندول عند والتربنيامين Benjamin مثال للشرح النقدي (انظر إيكو 1984: 3) من الصحيح أن الاستعارة الإبداعية يمكن أن تفهم حدسيا، لكن ما يسمى حدسا ليس إلا حركة للذهن جد سريعة يتوجب على النظرية السيميوطيقية أن تعرف تحليلها في كل مرحلة من مراحلها (انظر إيكو 1971) (2).
لا يمكن أن تفسر الاستعارات الإبداعية والأصيلة إلا على شكل عرض (جسور ومتعب ولا نهائي) أو أفضل على شكل عرض للكيفية التي تؤول بها بتنوع. إن كون استعارة إبداعية لا تؤول إلا بواسطة شرح نقدي يصف الطريق المنجز من طرف القارئ لفهمها وجعلها مثمرة يجعلنا نفكر في أن بيانها غير ممكن. إلا أن هناك فرقا بين القول إن نتيجة زيادة عدد معين n مرات لا يمكن كتابته إلا باستعمال آلاف الأوراق وبين القول إن بيان هذه النتيجة غير ممكن.
X – الاستعارة والاستيتقا:
بما أنه ليس لدينا صلة باستبدال بين تعبيرين، من الصعب كذلك تحديد سبب كون استعارة أكثر شعرية من أخرى اعتمادا على أساس علم دلالة الاستعارة. إن بيت راسين من وجهة نظر “استعارية” يمكن إعادة صياغته مثل: إنها فينوس مشدودة كلها إلى فريستها Et c’est venus attachée à sa paroie. بينما هذا التأخير التركيبي من وجهة نظر شعرية -الذي يمس التعبير لا المحتوى- ينتج نتائج مدمرة.
بلا ريب تجعل الاستعارة الخطاب قابلا لتأويلات متعددة وتشجع المتلقي على تركيز انتباهه على الحيلة الدلالية التي تحفز نوعا من التعدد الدلالي. هكذا يبدو أن الاستعارة تبرز الخاصيتين التي يسندهما جاكبسون Jakobson للخطاب الشعري: الغموض والانعكاسية الذاتية. إلا أن الفعل الشعري يرتبط بظواهر خاصة بالتعبير كالإيقاع والقافية والقيم الصوتية.. الخ. ومن جهة نظر استعارية، ليس هناك فرق بين أبيات دانتي وبين ترجماتها، لكنها من وجهة نظر شعرية فهي بالتأكيد متباينة (مثلا أغلب الترجمات تتخلى عن القافية).
إن هذه الفكرة مهمة لأننا غالبا نعالج الاستعارة كظاهرة شعرية وجمالية. والحال -وقد رأينا ذلك- أن الفكر العلمي واللغة اليومية يتضمننان اشتغالا استعاريا (انظر لاكوف Lakoff وجونسون Johnson 1980 ولاكوف 1987). هذا لا يعني أن تأملا سيميوطيقيا حول الاستعارة غير مجد للاستتيقا. يتعلق الأمر قبل كل شيء -ولن تكون آخر مرة على الأقل منذ فيكو Vico- بتحديد نسبة الجمالية الحاضرة حتى في الاستعارات العادية. ونستطيع في الدرجة الثانية تفسير السبب الذي يجعل الاستعارات تظهر أكثر أصالة وإبداعية من استعارات أخرى، وبالتالي أكثر جمالية (انظر محاولة إيكو حول الاستعارة 1984).
نتعلم في مقاعد المدرسة أن نمقت (كنموذج للباروكية)- سوناتة جيوسبي آرتال Giusseppe Artale التي يشير، بعد قوله “إن عيون ماري مادلين متألفة كشمسين وأن شعرها يسيل كنهر”، إلى أن الثانية النادمة ترتمي بين يدي المخلص.
إن الإرباك الذي نحسه إزاء الجدل الفارغ مؤكد، لكنه مفسر بمصطلحات نفعية الاستعارة خصوصا بالإحالة إلى ما قلناه سابقا: لتأويل ملفوظ استعاريا من الضروري أن نتعرف أنه إذا فهم حرفيا سيصبح لا معقولا من الناحية الدلالية. والحال أن آرتال يبدع ويقبر استعارتين في الأبيات الثلاثة لأنه من العبث اعتبار العينين شمسين والشعر نهرا، والتأويل الاستعاري يتولد من التعرف على هذه اللامعقولية (وإلا سنقع في خطأ تصور أن الاستعارة تمثل عوالم ممكنة).
لكن إذا قبل التأويل أصبحت العيون شموسا وغدا الشعر نهرا في مظهر معين وعبر تحويل بعض الخصائص وليس كلها. بالمقابل إذا قرر الشاعر أنهما كذلك تحت أي مظهر (إذن ينبغي أن تكون العيون لامعة كالشمس والشعر مبللا كالنهر) يفهم الاستعارة حرفيا فيدخلنا في عالم مضطرب ونفتقد أثر التصوير الأول).
إنه يتصرف مثل من شبه آخيل Achille بالأسد، وأصبح يبحث بلهفة عن لبدته أو كأن كاتب Cantique des Cantiques مشبها الأسنان بقطيع غنم يتظاهر متلهفا لجزها. إذا فهمنا استعارة أرتال Artale حرفيا فستصبح النتائج مضحكة: يجب أن تصبح عيون ماري مادلين في مركز العالم، وأن يتضمن شعرها أسماكا ويكون صالحا للملاحة، ناضبا في الصيف ومتدفقا في حال الانتعاش. ن استعارة أرتال تخفق شعريا لأسباب سيميوطيقية، وبإخفاقها تذكرنا بوجود حدود في تأويل الاستعارة أيضا (3)
n
Umberto Eco : Les limites de l’interprétation، traduit de l’italien par Myriem Bouzahir، Edition Grasset et Fasquelle 1992.
°°°°
تقديــم:
أمبرتو إيكو (Umberto Eco) سميائي وروائي إيطالي له إسهامات رائدة في مجال تطوير السيميائيات وتأويل الأنظمة الدالة لغوية وشعرية وثقافية… الخ. كما أنه “ملأ الدنيا وشغل الناس” برواياته الذائعة الصيت خصوصا اسم الزهرة التي لقيت رواجا كبيرا وترجمت إلى جل اللغات ومنها العربية، بالإضافة إلى كتاباته النقدية:
أ – العمل المفتوح L’oeuvre ouverte
ب – البنية الغائبة La structure absente
ج – القارئ في الحكاية Lector in fabula
د – سيميوطيقا وفلسفة اللغة Sémiotique et Philosophie du langage
هـ – العلامة: تاريخ وتحليل مفهوم Le signe/ Histoire et analyse de concept وغيرها من الأعمال والدراسات. وللإشارة فقد ترجم إلى اللغة العربية كتابه القارئ في الحكاية من طرف أنطوان أبو زيد، علاوة على ترجمات أخرى لكنها تبقى نادرة.
يعالج أمبرتو إيكو في كتابه حدود التأويل قضايا تتعلق بسيميوطيقا التلقي ومقصدية القارئ ومظاهر السمطقة الهرمسية وعمل التأويل، ويتناول في الفصل الأخير شروطه. وفي باب تأويل الاستعارة يتعرض لواحدة من أهم القضايا التي شغلت البلاغة الغربية والبلاغة العربية، لكن من منظور جديد وتوظيف مفاهيم مغايرة، وهي قضية تأويل الاستعارة وطرق اشتغالها في الخطاب الشعري. وما يميز عمل إيكو هو تركيبه لإنجازات الدراسات السابقة حول الاستعارة قديما وحديثا، إضافة إلى معالجته لها في علاقتها مع العوالم الممكنة ومقصدية المبدع، والإيحاء والقياس الاحتمالي والشرح والاستتيقا. كما أن إيكو لا يحصر نفسه في أشعار لغته الإيطالية، بل يستشهد بمقاطع شعرية فرنسية وإنجليزية.
وفي ما يلي ترجمة للفصل الثاني، تأويل الاستعارة، من الباب الثالث، عمل التأويل:
I – توليد وتأويل:
من الصعب اقتراح نظرية توليدية للاستعارات بصيغة أخرى إلا بمصطلحات المختبر (انظر مثلا إيكو ECO 1976: 3.8.3). إننا إزاء تمظهر خطي لنص موجود هنا سابقا كما في مواجهة أي ظاهرة سياقية أخرى (انظر أيضا سيكر SEGRE 1974 .5). كلما كان إبداع الاستعارة أصيلا، انتهك مسار توليدها القواعد البلاغية السابقة. وكل محاولة لوصف قواعد استعارة اصطناعية Invitro ستقود بإفراط إلى استعارة ميتة أو مبتذلة. فجزء كبير من الإبداع ما يزال مجهولا لدينا، وغالبا ما ينتج المتكلم استعارات عن طريق الصدفة أو بتجميع أفكار غير مراقبة أو خطأ.
يجب على مؤول الاستعارة المثالي أن يتبنى وجهة نظر من يسمعها لأول مرة (هنري Henry 1983: 9). في عبارة مجازية مثل “رجل طاولة” إنه إذا اعتبرنا وكأننا نسمعها لأول مرة نفهم، بمصطلحات رتشاردز سبب وضع هذا الدال لهذا المدلول وإذن سبب اختيار مبدع هذه العبارة رجل بدل ذراع. ونوجه باكتشافها بهذا الشكل ضد كل آليتنا اللسانية السابقة لرؤية طاولة مؤنسنة.
هل يجب كذلك معالجة استعارة أو ملفوظ استعاري انطلاقا من مبدأ وجود الدرجة الصفر في اللغة-التي تبدو بالنسبة لها العبارة المجازية المبتذلة منحرفة. إن موت استعارة متعلق بتاريخها السوسيولسني، وليس ببنيتها السيميوطيقية وتوليدها وإعادة تأويلها الممكن.
II – الدرجة الصفر والمعنى الحرفي:
لكن هل توجد الدرجة الصفر أو هل نستطيع بالتالي تحديد فرق واضح بين معنى حرفي ومعنى مجازي؟ لن يتفق الجميع اليوم على الرد بالإيجاب (انظر داسكال Dascal 1987: 259-269 للاطلاع على النقاشات السابقة). يرى البعض أن هناك إمكانية الاعتماد على معيار إحصائي في تحديد المعنى الحرفي كدرجة صفر مرتبطة بسياقات (كوهن Cohen 1966: 22، ريكور Ricoeur 1975، 180 وما بعدها) كونت اصطناعيا (جنيت Genette 1966: 211، جماعة مو 1970: 30 وما بعدها). هذه الدرجة الصفر يجب أن تماثل دلالة مقبولة في سياقات تقنية وعلمية. من الصعب التأكيد أن “أعين مضيئة” ينبغي فهمها حرفيا، لكن لو طلبنا من كهربائي أو مهندس معماري ماذا يفهم من “مضيئة” لأجابنا أن الجسم المضيء هو شيء ينشر ضوءه الخاص، وأن المكان المضيء هو فضاء يتلقى ضوء الشمس أو ضوءا اصطناعيا. وليس من الصدفة أن تمنح المعاجم هذا النوع من الدلالة الموقع الأول ثم تثبت بعده الاستعمالات المجازية كتعريفات ثانوية. ينطلق بيردسلي dslBerdsley 1958 وهيس Hesse 1966 وليفن Levin 1977 وسورل Searle 1980 وآخرون من فرضية أن المعنى الحرفي قابل للتعريف، ويفترضون إدراك المرسل إليه لا معقولية ملفوظ لتأويله استعاريا: إذا فهم حرفيا، تنشأ حالة خرق دلالي (تتفتح الزهرة)، أو تناقض ذاتي (الحيوان الإنساني) أو خرق المعيار التداولي للكيفية وإذن ادعاء خاطئ (هذا الرجل حيوان).
دون شك هناك حالات تظهر فيها العبارة الاستعارية مقبولة حرفيا، مثلا الأبيات الأولى من المقبرة البحرية Cimetière Marin لفاليري:
هذا السطح الهادئ حيث تمشي اليمامات،
بين الصنابر يرتجف، بين القبور،
يكون في الظهيرة لهيبا
البحر، البحر دائما يتجدد!
استعمل فاليري في البيت الأول جملة قد تفهم حرفيا نظرا لغياب الانحراف الدلالي في وصف سطح تمشي فوقه يمامات. وأضاف في البيت الثاني أن هذا السطح يرتجف، لكن العبارة تفرض (واستعاريا هذه المرة) أن حركة الطيور تثير انطباقا بتحرك السطح. يصبح البيت الأول استعارة حين يثبت الشاعر وجوده بجانب البحر في البيت الرابع: السطح الهادي هو البحر، واليمامات هي أشرعة السفن. بإدخال بغتة يثبت السياق تكراريا تماثلا ضمنيا ويحث القارئ على إعادة قراءة الملفوظ ليظهر استعاريا.
استهلت الكوميديا الإلهية بـ:
وسط طريق حياتنا
وجدت نفسي في غابة مظلمة
وأرى أني ظللت الطريق.
يمكن قراءة البيتين الثاني والثالث دون أي إشكال لأنه ليس هناك شيء عبثي في تيه المرء في غابة. إذا بدا هذان البيتان للوهلة الأولى مبنيين جيدا وصحيحين، فلأنهما في الحقيقة ليسا استعارة ولكنهما مجاز. وهو نموذج للمجازات التي تقبل قراءة حرفية (بالإضافة إلى قراءتنا لكثير من المجازات التي فقدت مفتاحها التأويلي حرفيا). إننا نعتزم تأويل سلسلة من الملفوظات كخطاب مجازي لأنها تنتهك قاعدة المجادلة للأهمية (انظر كرايس 1967): يسرد الكاتب كذلك كثيرا من التفاصيل والوقائع التي لا تظهر مهمة في الخطاب وبالتالي تحث على التفكير أن لهذه الكلمات معنى ثانيا (السبب الثاني الذي يكون به المجاز قابلا للتعريف هو أن الخطاب المجازي يستعمل صورا مسننة آنفا ومعروفة كمجازات). ويكون لهذه الصور التي يحددها المجاز، وليس للعلامات الكلامية التي تثيرها وضع استعاري في اللحظة التي يتعرف فيها على المجاز كما هو. وذلك هو سبب مشروعية إسناد قيمة استعارية للغابة المظلمة، في نص دانتي، عندما نلج عالم المعنى الثاني. من ثم يسمح البيت الثالث بتأويل طريق كسلوك أخلاقي ومنهج مستقيم تتبع فيه الأوامر الإلهية.
III – الاستعارة كظاهرة محتوى والموسوعة:
لا تقيم الاستعارة علاقة مشابهة بين مراجع الدلالة، لكن علاقة تطابق دلالي بين محتويات التعابير ولا يمكن أن تعني الكيفية التي نعتبر بها المراجع إلا بوساطة معينة. ومحاولات تطبيق منطق قيم الحقائق الصوري على الاستعارة لا تفسر ميكانيزمها السيميوطيقي (انظر إيكو 1984-3-10). إذا كان الاستبدال الاستعاري يخص كل علاقة بين أشياء العالم لن نتمكن من فهم Cantique des Cantiques حينما يقول: أسنانك كقطيع غنم عائد من حمام. أو حين يكتب إليوت في الأرض الخراب: I will show you fear in a hendful of dust
إن ابتسامة شابة جميلة ليست مشابهة لقطيع أغنام ثاغية مبللة في شيء. قد يبدو من الصعب القول بأي معنى يشبه الخوف الذي أحسه أو الذي قد يحسه حفنة من الغبار. إن التأويل الاستعاري يشتغل على مؤولين (انظر إيكو أيضا 1984) أي على وظائف سيميوطيقية تصف محتوى وظائف سيميوطيقية أخرى. من البديهي أن الأسنان بيضاء بالمعنى نفسه الذي يفهم به بياض الأغنام، لكن من المناسب أن الثقافة تؤول كل واحد منهما عبر المحمول الذي تعبر عنه كلمة أبيض لكي تستطيع الاستعارة الاشتغال على تماثل.
يتعلق الأمر بتماثل خصائص هاتين الكلمتين Lexemes، وليس بتماثل أمبريقي، والتأويل الاستعاري لا يكتشف التماثل، ولكن يكونه في نطاق افتراض نماذج من الأوصاف الموسوعية ورد بعض الخصائص موافقة (انظر بلاك Black 1962: 37، ريكور Ricoeur 1975: 246، لاكوف وجونسون Lakoff et Johnson 1980: 215). إنه فقط بعد أن أرغمتنا الاستعارة على بحثها حققنا نوعا من التشابه بين الخوف وحفنة الغبار. وقبل إليوت لم يكن هناك أي تشابه.
يتولد التفاعل الاستعاري بين محتويين، والمجاز الشكل الأساسي في الاستبدال الاستعاري يعطينا الحجة على هذا المبدأ. إن مجازا مثل رجل الطاولة يصلح أن يجعل من وظيفة سيموطيقية (تعبير + محتوى) تعبيرا لتسمية محتوى آخر لم تضع له اللغة تعبيرا مناسبا (يتوجب تأويلها بتفسير ممل وسلسلة من التعليمات التقنية وتمثيل بصري).
تبدو التحليلات الأكثر تقدما للميكانيزم الاستعاري واصفة للمحتوى بمصطلحات المكونات الدلالية. فطريق الحياة استعارة لأن حياة تتضمن وسم الزمانية، بينما تتضمن طريق وسم المكانية. بفضل تضمن هاتين الكلمتين وسم السيرورة أو التحول من س إلى ص (سواء كانت نقطا في الفضاء أو لحظات في الزمان)، تصبح الاستعارة ممكنة بترحيل خصائص أو بتحويل المقولة (انظر فينريش Weinreich 1966 وكودمان Goodman 1968). لن تصبح عبارة “وسط” استعارة إذا كانت الطريق مستعملة بمعناها الفضائي، لكن التساوق النصي لعبارة “حياتنا” يفرض نقل الوسم الفضائي في إطار المقولة الزمانية، بحيث أضحى الزمان بدوره فضاء داخليا يحتوي على نقطة متوسطة وطرفين.
مع ذلك، إذا كان التمثيل الدلالي في شكل معجم فقط، فلن يسجل إلا الخصائص التحليلية مستثنيا الخصائص التركيبية أي تلك التي تستلزم معرفة بالعالم (انظر إيكو 1984: 2). هكذا سيحدد المعجم حياة كسيرورة تتكون من مدة زمنية مستبعدا كونها غنية بالأفراح والآلام. وسيحدد طريق كسيرورة تشتمل على تحول فضائي مستبعدا احتمال تضمنها للمخاطر والمهالك.
سيرورة
مدة في الزمان نقل في الفضاء
حياة طريق
إن أي معجم لا يستطيع الإشارة إلا إلى العلاقات بين الأجزاء والكل، أو إلى علاقات من الجنس إلى الصنف تسمح باستنتاج علاقات الاستلزام: إذا كانت مدة في الزمان، فهي سيرورة. مع ذلك لا نبني على هذا الأساس إلا مجازات مرسلة. لهذا نفهم سبب إصرار كاتز Katz (1972: 433) على أن التأويل البلاغي يشتغل على تمثيل بنية السطح وتمثيله الفونيتكي بمفردهما. فهو يرى أن تمثيل الدلالة مبنية في شكل معجم ينبغي ألا تأخذ بعين الاعتبار سوى الفونيمات كالخرق الدلالي والترادف والاستلزام… الخ، إن استعمال الكل محل الجزء في نظرية الدلالة هذه ليس له انعكاس على المعنى العميق للملفوظ.
تبدو بالمقابل حالة الاستعارة التي يسميها أرسطو النمط الثالث (الشعرية 1457) مغايرة، لدينا تحويل من نوع إلى آخر (أو من جزء إلى آخر) بواسطة جنس (الكل)، لكن سيكون للتشابه بين حياة وطريق كذلك وظيفة وحيدة هي التذكير بأن الحياة سيرورة. يغدو التشابه مهما إذا استحضرنا أن مفهوم السفر لدى إنسان القرون الوسطى يستغرق مدة طويلة من المغامرة وتحفه المخاطر المهلكة. وهذه خصائص قابلة للتحديد كمميزات موسوعية. حينما يحيل منظرو الاستعارة إلى هذه البنية، يعطون أمثلة نحو: سن الجبل، لأن كلا من السن والقمة ينتميان إلى نوع الشكل الحاد القاطع. من الواضح أن هذا المثال مع ذلك لا يستلزم تمثيلا بسيطا في شكل معجم. وفي العبور من سن إلى قمة شيء أكثر من المرور عبر الجنس المشترك، أي ليس للقمة والسن معجميا جنس مشترك، وخاصية حاد ليست بتاتا خاصية معجمية. إن الاستعارة تشتغل لأنه اخترنا من بين خصائص الكلمتين المحيطية سمة مشتركة رفعت إلى مستوى النوع لهذا السياق فقط.
إن الاستعارة ليست قابلة للشرح بكلمات المعجم إلا في حالات مثل طريق حياتنا (السفر عبر المكان كالحياة في الزمان). إن أمثلة الاستعارة من النمط الرابع التي اقترحها أرسطو ليست قابلة لتحويلها إلى نماذج المعجم: الذرع قدح آريس والقدح ذرع ديونيزوس، بيد أن القدح والذرع ليسا متبادلين بكلمات المعجم، إلا باعتبارهما نوعين من جنس شيء وهذا لا يفسر الاستعارة. والحال أن أهمية الاستعارتين في هذا الطور لا تكمن في كون الذرع والقدح يمتلكان سمة مشتركة. إذا ابتدأنا بالتماثل نكتشف التناقض بين آريس إله الحرب وديونيزوس إله السلم والفرح، وبالتالي بين صفات الذرع أداة الحرب والدفاع، وصفات القدح أداة اللذة والسكر. بهذا فقط تسمح الاستعارة بسلسلة من الاستدلالات التي توضح المعنى وتوسعه. لكن للتنبؤ والسماح بها، ينبغي أن تتطلب الاستعارة موسوعة وليس معجما. إن قارئ استعارة الإنسان ذئب في نظر بلاك Black (1962: 40) ليس في حاجة إلى تعريف الذئب معجميا وإنما إلى الخصائص المشتركة المسندة له.
لا يقول دانتي إن الحياة مثل سفر، بل يقول أيضا أن له خمسة وثلاثين سنة. وهذه الاستعارة تفترض بجانب معارفنا الموسوعية حول الحياة معلومة عن مدتها المتوسطة. يقترح بيرفيش Bierwish وكيفر Kiefer (1970: 69 وما بعدها) تمثيلات موسوعية يحتوي فيها الرائز Item المعجمي على “مركز” و”محيط”. إن التمثيل المحيطي للملعقة يسجل شكلها المتوسط من بين صفات أخرى. وبفضل هذا نتعرف أن ملفوظا نحو: له ملعقة كبيرة كمجرفة يجب ألا يفهم بمعناه الحرفي ولكن كمبالغة.
إذا فهمنا “نعجة” كثديية في أبيات Salomon، فلن نكتشف جمالية الاستعارة، ولتوضيحها ينبغي إنجاز بعض الاستدلالات المعقدة:
أ – تقدير أن القطيع mass-noun ينبغي أن يثبت سمة مثل متعدد أفراد متماثلين.
ب – تذكر أحد معايير الاستيتقا القديمة: الوحدة في التعدد.
ج – إسناد صفة البياض للأغنام
د – إسناد صفة البلل للأسنان.
تدخل بهذه الاستدلالات الأسنان البيضاء اللامعة في تفاعل مع أغنام تخرج من الماء (سمة فرضها كليا السياق). نرى أنه للحصول على هذه الحصيلة التأويلية قد كفى تفعيل خاصيتين أو ثلاث وإبعاد الخصائص الأخرى (عن سيرورات تفعيل وإبعاد الخصائص في كل فعل تأويلي، انظر إيكو 1979). حسب السياق قد اختيرت بعض السمات الملائمة وانتقى المؤول، فخم، أزال ونظم مظاهر الموضوع الرئيس باستنتاج ملاحظات تطبق عادة على الموضوع الفرعي (بلاك Black 1962: 44-45) (1).
IV – الاستعارة والعوالم الممكنة:
يحث تحديد الاستعارة كظاهرة محتوى على التفكير في غياب علاقة مباشرة واحدة لها بالمرجع الذي لا يمكن اعتباره مقياسا لصحتها. حتى حينما نحدد تعبيرا كاستعارة، لأنه إذا فهم حرفيا سيبدو غير معقول، ليس ضروريا تصور بطلانها مرجعيا، لكنه بطلان وعدم دقة موسوعية. إن عبارات نحو “تسيل الزهرة” و”هذا الرجل حيوان” تبدو غير مقبولة في حالة اعتمادنا على الخصائص التي تسندها الموسوعة للزهرة وللرجال. فبعد معرفة المرجع نستخلص لا معقولية المضمون المحمول في التعابير الإشارية مثل “هذا حيوان” (هذا الكائن الإنساني ليس إنسانا).
رغم عدم وجود القارن نجد عبارة “القارن شعلة بيضاء في الخشب” غير عادية دلاليا. فللقارن في موسوعتنا خاصية كونها من الحيوانات، وبالتالي فمن غير المعقول تصنيفها كشعلات (دون الحديث عن الاستعارة المفارقة بيضاء) إننا نقرر بعد هذا الفعل التأويلي أن قراءة الملفوظ يجب أن تكون استعارية.
تستلزم إحدى وسائل استعادة المعالجة المرجعية للاستعارة تأكيد أن التعبير الاستعاري يجب أن يفهم حرفيا (انظر مثلا ليفن Levin 1979)، لكن مع إسقاط محتواه على عالم ممكن. فتأويل الاستعارات يرتكز على تخيل عوالم ممكنة تسيل فيها الزهور ويكون القارن شعلة بيضاء. لكن حتى ولو اعتمدنا هذه الأطروحة فإن استعارة Cantique des Cantiques ستحيل على عوالم غريبة تشبه فيها أسنان فتاة شابة قطيع غنم.
إن التعبير الاستعاري لا يتخذ شكلا مزيفا، ليس أكثر من فرض شرط تخيلي إثباتا لقبولنا غياب مقصدية قول الحقيقة لدى المتكلم. إن Salomon لا يقول ما إذا كانت أسنان الفتاة الشابة كقطيع غنم وأنها قصة شابة وقع لها هذا وذاك، وإنما يقول أيضا إن لأسنان الفتاة الشابة بعض خصائص قطيع غنم، وجزمه هذا يجب أن ينظر إليه جديا في سياق خطاب محدد يلتزم ببعض المواصفات الشعرية، لكن Salomon يقصد في هذا الخطاب قول شيء حقيقي على الفتاة الشابة التي يمدحها.
لا نختلف حول إثبات أن صفات قطيع غنم التي يشير إليها Salomon ليست تلك التي اكتشفها خلال تجربته الشخصية، وإنما هي خاصيات الثقافة الشعرية لعصره التي تعزوها لقطيع غنم (رمز البياض)، يبقى من جهة أخرى أن نعرف ما إذا كانت هذه المواضعات الثقافية تدفعه إلى النظر إلى القطيع بهذه الكيفية…
V – الاستعارة ومقصدية المؤلف:
إذا كانت الاستعارة لا تتعلق بمراجع الواقع ولا بالفضاء القيمي للعوالم الممكنة، تبرز اليوم أطروحة ثالثة: للاستعارة علاقة بتجربتنا الداخلية للعالم وسيروراتنا الوجدانية. هذا لا يعني أن الاستعارة تعطي-بعد تحليلها- جوابا وجدانيا وعاطفيا. وفي هذه الحال ستكون هذه الظاهرة غير قابلة للجدل وستكون موضوع دراسة في سيكولوجية التلقي. لكن يبقى السؤال مطروحا انطلاقا من أي تأويل تمكن الاستجابة وجدانيا للملفوظ المثير.
إن الأطروحة التي نثيرها أكثر عمقا وتخص مسار توليد الاستعارة. وتولد الاستعارات الإبداعية حسب بريوزي Briosi(1985) من صدمة إدراك بكيفية يتم التواصل مع العالم الذي يسبق الاشتغال اللسني ويحركه. لكننا نبدع دون شك استعارات جديدة للدلالة على تجربة داخلية منبثقة من كارثة الإدراك. بيد أنه إذا تحدثنا عن الاستعارة كمادة موجودة سلفا، وإذا لم يمكن تحديد حدوس حول سيرورة توليدها إلا من خلال تأويلها، فسيبدو القول بأن الكاتب كانت له تجربة سيكولوجية ثم ترجمها ثانيا إلى رسالة لغوية قولا صعبا أو كانت لديه تجربة لغوية استخلص منها بعد ذلك ترتيبات مختلفة لرؤية العالم. ترغمنا الاستعارة بعد تأويلها على النظر إلى العالم نظرة مغايرة، لكن لتأويلها يتوجب التساؤل كيف تجعلنا نرى العالم بهذه الكيفية الجديدة، وليس لماذا ترينا العالم بتلك الطريقة.
إن فهم الاستعارة هو -استدلاليا- فهم سبب اختيار مبدعها لها. لكن الأمر يتعلق هنا بفعل تعاوني في التأويل. إن عالم المبدع الداخلي (ككاتب نموذج) هو بناء فعل التأويل الاستعاري، وليس حقيقة سيكولوجية تثير التأويل نفسه.
تقود هذه الملاحظات إلى تفحص مشكل مقصدية المرسل، والاستعارة حسب سيرل Searle لا تتعلق بمعنى الجملة Sentence meaning بل بمعنى المتكلم Speaker’s meaning. إن ملفوظا ما استعاري لأن مبدعه يريده كذلك وليس لأسباب داخلية في بنية الموسوعة.
من المؤكد أن الأمر يتعلق حيال ملفوظات نحو: هي ظبية وهو بطن ظبية بمقصدية المتكلم باستعمالهما للإشارة إما إلى الكائن الإنساني أو إلى لون وإما إلى ثديية من الإيليات وجزء من جسمها. لهذا سيرتبط التأويل الاستعاري بقرار من جهة مقصدية المتكلم. لكن هذين الملفوظين المقروءين في مقطع أدبي خارج كل سياق يصبحان لدى مستمتع فرنسي تعبيرين يحتملان تأويلين: الأول حرفي والآخر استعاري.
لا يشك أحد في أن للمتكلم، مستعملا إحدى العبارتين، مقصدية حث قراءتهما استعاريا أولا. هذا لا يعني أن مقصدية المتكلم تصبح ذات دور مميز في معرفة الخاصية الاستعارية للملفوظ. شير لوك هولمس متعقب جيد تتوقع قراءة استعارية بقوة تقليد إيحائي (ولأنه إذا فهمناها حرفيا سنفاجأ بخرق دلالي) بمعزل عن مقصديات المتكلم.
يتولد التأويل الاستعاري من التفاعل بين مؤول وبين نص استعاري، لكن حصيلة هذا التأويل تتأتى من جهة طبيعة النص ومن جهةالإطار العام للمعارف الموسوعية لثقافة معينة، وبصفة عامة ليست لها أية علاقة بمقصديات المتكلم. يستطيع مؤول أن يقول باستعارية ملفوظ بشرط أن تمكنه كفاءته الموسوعية. من الجائز تأويل يأكل جون تفاحته كل صباح كما لو أنه يرتكب كل يوم خطيئة آدم. وتتأسس على هذا المفترض كثير من الممارسات التفكيكية. كما لا يمنح مقياس الصحة إلا السياق العام الذي يظهر فيه الملفوظ. إذا كان “الطوبيك” Topic هو وصف فطور أو مجموعة من وجبات الطعام باللحم، فإن التأويل الاستعاري غير مستساغ. لكن للملفوظ بالقوة أيضا معنى استعاريا.
نعود لإضاءة هذه النقطة أكثر إلى مثال فاليري. لقد قلنا على القارئ أن ينتظر البيت الرابع لاكتشاف بفضل أفعال المشاركة التأويلية، أن السطح الهادئ الذي تمشي فوقه اليمامات بحر مرصع بشراعات بيضاء (للتذكير فالمفتاح الذي يبرر تفسير اليمامات بشراعات لم يشر إليه إلا في البيت الأخير: هذا السطح الهادي الذي تنقر فيه الشراعا!). إن أي تأويل لها لا يقود فحسب إلى إعادة النظر في السطح البحري، لكن عطاء فضاءات أخرى.
يبدو هذا السطح بالحصول على بعض خاصيات البحر منتجا لانعكاسات فضية معدنية زرقاء أو مرصصة. إن الصدمة أقوى لدى قارئ إيطالي منها لدى قارئ فرنسي. بالفعل يفكر الإيطالي في سقوف بلاده الحمراء. بعد لحظة تأمل ينتبه إلى أن الاستعارة تشتغل إذا كان للبحر خاصيات السقوف الفرنسية الزرقاء. لكن ليس لنا أن نتساءل في ماذا يفكر الكاتب وما هي السقوف التي كانت أمام عينيه وهو يكتب (سقوف باريس احتمالا). والتماثل مع السقوف الزرقاء لا يفرض نفسه فحسب، بل يجب أن يكون القارئ الفرنسي النموذج ممتلكا لمعرفة موسوعية عميقة. إن النص علاوة على الموسوعة التي يستلزمها يمنحان للقارئ النموذج ما تفرضه استراتيجية نصية: مقصدية قارئ يتخيل بحر فاليري الأحمر المتألق ستصبح أكثر فضولا. في حين أن من سيقوم ببحث عن السطوح التي فكر فيها فاليري ذلك اليوم سوف يبذل مجهودا غير مجد.
في الختام، ليست الاستعارة ضرورة ظاهرة مقصدية، إذ من الممكن تصور حاسوب مبرمج يؤلف صدفة تراكيب لغة ينتج تعابير مثل “وسط طريق حياتنا” التي يعزو لها مؤول بالتالي معنى استعاريا. وبالمقابل إذا أنتج نفس الحاسوب بمقصدية ضعيفة لوضع استعارة “Patarase de reden frits” فسنواجه مشاكل في إعطائها تأويلا استعاريا كاملا بالنظر إلى معارفنا اللسانية الحالية وإلى التقليد التناصي.
VI – الاستعارة كصنف من الإيحاء:
إذا قبلنا التمييز الذي اقترحه رتشاردز Richards (1936) بين الحامل والمحمول، يجب قبول كون الحامل ممثلة دائما بوظيفة سيميوطيقية تامة (تعبير + محتوى) تحيل إلى محتوى آخر قد يمثل عند الاقتضاء بتعبير أو تعابير متعددة (أو دون أي واحدة كما هو الشأن في المجاز). وتبدو الاستعارة بهذا المعنى حالة خاصة من الإيحاء.
يصبح مجموع الوظيفة السيميوطيقية لدى دانتي (طريق = “حركة من مكان إلى آخر” أو “ممر يقود من مكان إلى آخر”) تعبير المحتوى “فضاء بين الولادة والموت”. إلا أن الإيحاء إذ اعتبر ظاهرة تخص العلاقة بين سيميوطيقيتين (وإذن بين نسقين) يجب التفكير في أن الإيحاءات مقننة في النسق- كما هو حال المعنى المجازي. ويمكن بالمقابل تخيل سياقات لا تكون فيها الإيحاءات المقننة موضع السؤال (قطعت طريقا طويلة بين روما وميلانو)، وسياقات تبنى فيها استعارات ليست غير مقننة فحسب، بل تبقى “منفتحة” (انظر مثال اليوت في III 3.2). يبدو إذن اعتبار الإيحاء ليس ظاهرة نسق وإنما ظاهرة سيرورة أي ظاهرة سياقية أكثر ملاءمة (انظر بونفا نتيني Bonfantini 1987)، في حين لا يختفي المعنى الأول في علاقة الإيحاء لتوليد الثاني، بل يفهم المعنى الثاني لأنه تحفظ في “القماشة الخلفية” دلالة الوظيفة السيميوطيقية الأولى أو على الأقل أحد مظاهرها.
لا يكفي لفهم بيت دانتي الأول استعاريا إبدال الزمان بالمكان: ينبغي النظر إليهما في نفس الآن. فالحياة تملك خاصية الفضائية والفضاء يملك خاصية الزمانية (انظر التفاعل L’Interaction view عند بلاك 1962).
من المهم تأكيد أن هذا ينتج أيضا مع الإيحاءات المقننة. تعني كلمة “خنزير” حرفيا “ثديي من فصيلة الخنازير”، وإيحائيا “شخص له تصرف أخلاقي مشين”. غير أن فهم “جون خنزير” يفرض معرفة عادات الخنزير القبيحة (بل وضع اللاصفاء الذي تسنده له مجموعة من الأديان). لكن الاستعمال الإيحائي يعكس مظاهر سلبية على الخنزير مثلما يظهره مقطع براسليس Paracelse: “إن الأسماء المقتطفة من اللغة العبرية تشير في نفس الوقت إلى الفضيلة والقوة وخاصية شيء آخر، مثلا حينما نقول “هذا خنزير” فإننا نشير بهذا الاسم إلى “حيوان كريه وغير صاف”. يقع هنا براسليس ضحية الاستعمال الإيحائي للكلمة. إن الإيحاء يؤيد أكثر تخصيص المعنى الحرفي بسمة السلبية إلى حد حث الكاتب على التفكير في كون اسم خنزير قد وضعه الله حتما لأنه يشير إلى رجال جديرين بالاحتقار.
لا يعني القول بأن المعنى الإيحائي “يفترض مسبقا” المعنى الحرفي قسرا أن الناطق بالاستعارة ينبغي أن يكون واعيا بالمعنى الحرفي ليتعرف على المعنى الاستعاري، خصوصا إذا تعلق الأمر باستعارات متداولة في الاستعمال المشترك. إن كثيرا من الشباب يتعلمون اليوم وضعية مثل الماخور دون معرفة أن العبارة ولدت بكيفية إيحائية من كون الماخور إلى نهاية الخمسينيات منزل تسامح ومسرح سلوكات غير تربوية صاخبة وغير منظمة (نستطيع قول نفس الشيء عن عبارة فوضى foutoir التي تستعمل في بعض المواقع الشعبية للإشارة إلى الضوضاء والاختلال، دون أن يفكر المتكلم -الورع المحتشم إن وجد- في فضاء الشبق الجنسي). لكن إذا أردنا تفسير سبب رغبة المتكلم في أن تفهم بعباراته وضعية الفوضى الصاخبة سنضطر إلى الإحالة على المعنى الحرفي الضمني المنسي ربما، لكن ليس أقل إجرائية دلاليا.
من ثمة تعتبر الاستعارة ظاهرة إيحائية بسبب إواليتها السيميوطيقية داخل لغة في لحظة محددة، وليس بسبب مقصدية المتكلم.
VII – التأويل كقياس احتمالي:
لاحظ أرسطو (Réthorique III 10. 1450) أننا نعرف شيئا بفضل الاستعارة: القول إن الشيخوخة كساق الحشفة يعني أن نعرف بواسطة النوع لأن الاثنين غير مزهرين. لكن ما الذي دفع أرسطو إلى تصنيف النوع المشترك للجوهرين ضمن “كونهما غير مزهرين”. إنه يتصرف ليس كمن ينبغي أن يبدع الاستعارة لكن كمن ينبغي أن يؤولها. إن إيجاد الصلة التي مازالت بعد غامضة بين الشيخوخة والحشفات يخلق دون شك مشكلا تأويليا يستلزم حسب بيرس قياسا احتماليا.
من السهل أن نرى كيف يماثل مفهوم القياس الاحتمالي مبدأ منطق الاكتشاف، مفهوم النموذج الذي اقترحه بلاك Black (1962) وهيس Hess (1966). يمثل منطق الاكتشاف العلمي لديهما مظاهر مشتركة في منطق التأويل الاستعاري. ويندرج التأويل الاستعاري والبحث العلمي والخطاب اللاهوتي في ظل هذا التصور ضمن نمط الاستدلال بالقياس (انظر ريكور Ricoeur أيضا 1975 وإيكو Eco 1984).
إننا نختار في استخدام النماذج العلمية وفي التأويل الاستعاري كذلك السمات التي عليها تتم، وللنموذج الخصائص التي تسند له بالتعاقد اللغوي. علاوة على ذلك من الضروري تعميق العلاقة بين استعارة ونموذج من زاوية النموذج القياسي (انظر نظرية graphes extentielles لدى بورس Pierce وعلاقة ratiodifficils عند إيكو 1975: 9.4.3). وهذا يعني الاستعارات غير اللفظية خصوصا. وقد حمل كوهن Kuhn 1979 للعلاقة بين استعارة واكتشاف علمي مشاركة مهمة، التأويل الاستعاري كمماثل لتقديم براديكم Paradigme علمي جديد. يؤكد علم الاستعارة المعاصر -وهي إحدى سماته المميزة- على العلاقة بين الاستعارة والاكتشاف العلمي، وبين الاستعارة والمعرفة عموما، أكثر من تركيزه على العلاقة بين الاستعارة والشعر.
إن القياس الاحتمالي العلمي يفترض قانونا كإطار مرجعي يسمح بتفسير ظاهرة غريبة لكنه متلو بتحقيقات تجريبية (إذا كان القانون صحيحا يجب أن ينتج هذا أو ذاك) بخلاف ذلك يمكن التأويل الاستعاري الذي يكشف إطارا مرجعيا من تأويل الاستعارة، لكن لا يروم تحديد قانون عالمي، إلا أن التأويل إذا كان مقنعا يجب ألا يبرر الملفوظ الاستعاري فحسب بل السياق الذي يظهر فيه كذلك (نستطيع أن نؤول ملفوظا بطريقة استعارية إذا كان باقي السياق يسوغ هذا التأويل).
إن التأويل الاستعاري يبحث بعبارة أخرى عن قوانين صالحة لسياقات خطابية، بينما يبحث الاكتشاف العلمي عن قوانين صالحة للعالم. وهذا يتضمن أن التأويل الاستعاري يمنح حرية اختيار خارج النص المؤول.
إذا قبلت مماثلة بوهر Bohr فأنا مضطر دائما لرؤية الذرات كمجموعة شمسية، وإذا قبلت مماثلة Cantique des Cantiques، لست مجبرا على رؤية ابتسامة فتاة شابة كقطيع غنم إلا داخل هذا النص.
VIII – السياق والتناص:
تفترض كل استعارة ناجحة سياقا مرجعيا وإعادة قراءة واسعة لها. تظهر الاستعارة كظاهرة لكنها لا ترتبط حصرا بنسق المعجم. تصبح كلمة في بعض الأحيان حاملا استعاريا لأنه أدرجت في تركيب أدنى: إنها حالة “طريق حياتنا” أو “حفنة غبار” لكن مع أن الاستعارة دلالية حتى في هذا المعنى، فلها أولا أسس تركيبية (انظر بروك روس Brooke Rose 1958: 206-249). غير أن سياق الملفوظ المسهب وسياق النص كله هو الذي يسمح بافتراض الطوبيك الخطابي والتشاكلات-نقطة انطلاق العمل التأويلي.
إن مبدأ السياقية يتسع غالبا لمبدإ التناص، لنأخذ مشكلا يثار: معكوسية العلاقة الاستعارية (انظر مثلا مينني Mininné 1986: 79-89). إذا كان الصباح يمثل للنهار ما يمثل الشباب للحياة، فمن الجائز القول إن الصباح شباب النهار، كما أن الشباب صباح الحياة. لماذا يبدو القول إن الحياة سفر في الزمان جائزا تماما، ويعد القول إن السفر هو حياة في المكان أقل مشروعية؟ ببساطة لأن “شباب” و”صباح” ينتميان إلى نفس المقولة (زمان). بمعنى أنهما يتحققان في تشاكل منسجم، في حين أن سفر وحياة يحيلان على مقولتين مختلفتين.
لكن لماذا الحديث عن عوالم مقولية مختلفة؟ يكمن الجواب في قلب التوازن الذي تبلغه موسوعة “تناصية” في ثقافة معينة. يذكرنا لاكوفLakoff وجونسون Johnson (1980) بأن نسقنا التصوري يشجع الاستعارات المكانية للتعبير عن فترات زمانية وليس العكس. سيغدو من المهم إعادة بناء الأسباب التاريخية السيكولوجية لهذه الوضعية. لكن يكفي ملاحظة إمكانية القول إن سفرا بسرعة الضوء حياة (بالنسبة لمن يبقى في الأرض) في ثقافة ما.
هناك استعارات تشتغل في عالم ثقافي وتناصي معين، لكنها تكون غير مدركة في عالم آخر مختلف. يمكن أن تكون الخطيئة بالنسبة لدانتي غابة، لأن الترجمة الكنسية القروسطية ترى في غابة Silva متاهة ومكانا خطيرا تسكنه وحوش شيطانية ولصوص ولا نخرج منه إلا بمشقة كبيرة. غير أن مبدأ التفاعل السياقي يمكن من اعتبار مفهوم السفر ابتلاء.
تجبرنا الاستعارة على التساؤل عن عالم التناص، وتجعل السياق غامضا ومتعدد التأويل في نفس الوقت وتكون الاستعارات السابقة من جهة أخرى جزءا من التناص، حتى أنه يمكن إعطاء استعارات للاستعارات قابلة للتأويل في ضوء معرفة تناصية كافية.
يقوم ليفن Levin (1977 – 24) بتحليل نقل الخاصية بتحليل العبارة The rose melted. لكن تحليله سيظهر ناقصا لقارئ فرنسي يترجم الاستعارة حرفيا بـ La rose a fondu (ذابت الزهرة). ولتذوق الاستعارة بالإنجليزية ينبغي معرفة أن The melt تحمل أيضا إيحاءات (تثبتها المعاجم) الحزن والفناء وذوبان شيء: هكذا يمكن أن نقول La mer semble se fondre avec le ciel (وهي مقبولة في الفرنسية) لكن عبارة Sa douleur a fondu liquefie le coeur ستبدو بالأحرى مثيرا للسخرية). نستطيع بهذه الشروط (قراءة الاستعارة كلعبة حول الاستعارات السابقة) تأويل حال الوردة كذوبان أو تبخر مميع، أو تدمير بواسطة الهزال بتلة بتلة. ماذا سنقول إذن عن Hanful of dust لاليوت؟ إن محاولة كشف الخصائص المشتركة بين الغبار والخوف ترغم المؤول على رحلة تناصلية حقيقية بالشكل الذي يكون دائما إزاء تأويلات متعددة. ونستطيع في هذه الحالة أن نتحدث عن استعارة “مفتوحة” إذا لم يؤد هذا إلى اعتبار استعارات دانتي “استعارات مغلقة” (قابلة للشرح). لكن رأينا أن هذا يحتم على المؤول قدرة إدارة وتحريك في ضوء السياق لعبة استدلالات كالاستعارة الأكثر “انغلاقا” التي تستطيع أن تسترجع نظارة جديدة وتنتج استدلالات استعارية معقدة بحيث تظهر غير قابلة للشرح في كليتها. إن الاستعارة لا تقوم بإنجاز تفاعل بين فكرتين وإنما بين نسقي أفكار (بلاك Black 1972 – 28).
IX – الاستعارة والشرح:
نحدد الاستعارة كزخرف شعري لأنها ليست قابلة للشرح. إلا أن هناك اختلافا حول هذه النقطة (انظر مثلا بلاك Black 1972: 237 وسورل Searle 1980: 121). إذا كانت للاستعارة قيمة معرفية، يجب أن تكون قابلة للشرح، على أن حجة التفسير يبدو أنها تبين إبداعية وأصالة الاستعارة أو موتها وشيخوختها. من السهل شرح “جون خنزير” بكون جون إنسانا فظا، بينما يبدو تفسير بيت فاليري الأول مستحيلا دون إنتاج نص أكثر طولا من قصيدته ومضحكا في الآن نفسه (“البحر مثل سطح معبد الأعماق البحرية الذي يخفق تحت ضوء الشمس التي تضيء أمواجه، بينما الرياح تخدد أشرعة الزوارق”) هذا يعني أن المحاولة النقدية اللامعة لفينريش Weinrich (1971) عن استعارة البندول عند والتربنيامين Benjamin مثال للشرح النقدي (انظر إيكو 1984: 3) من الصحيح أن الاستعارة الإبداعية يمكن أن تفهم حدسيا، لكن ما يسمى حدسا ليس إلا حركة للذهن جد سريعة يتوجب على النظرية السيميوطيقية أن تعرف تحليلها في كل مرحلة من مراحلها (انظر إيكو 1971) (2).
لا يمكن أن تفسر الاستعارات الإبداعية والأصيلة إلا على شكل عرض (جسور ومتعب ولا نهائي) أو أفضل على شكل عرض للكيفية التي تؤول بها بتنوع. إن كون استعارة إبداعية لا تؤول إلا بواسطة شرح نقدي يصف الطريق المنجز من طرف القارئ لفهمها وجعلها مثمرة يجعلنا نفكر في أن بيانها غير ممكن. إلا أن هناك فرقا بين القول إن نتيجة زيادة عدد معين n مرات لا يمكن كتابته إلا باستعمال آلاف الأوراق وبين القول إن بيان هذه النتيجة غير ممكن.
X – الاستعارة والاستيتقا:
بما أنه ليس لدينا صلة باستبدال بين تعبيرين، من الصعب كذلك تحديد سبب كون استعارة أكثر شعرية من أخرى اعتمادا على أساس علم دلالة الاستعارة. إن بيت راسين من وجهة نظر “استعارية” يمكن إعادة صياغته مثل: إنها فينوس مشدودة كلها إلى فريستها Et c’est venus attachée à sa paroie. بينما هذا التأخير التركيبي من وجهة نظر شعرية -الذي يمس التعبير لا المحتوى- ينتج نتائج مدمرة.
بلا ريب تجعل الاستعارة الخطاب قابلا لتأويلات متعددة وتشجع المتلقي على تركيز انتباهه على الحيلة الدلالية التي تحفز نوعا من التعدد الدلالي. هكذا يبدو أن الاستعارة تبرز الخاصيتين التي يسندهما جاكبسون Jakobson للخطاب الشعري: الغموض والانعكاسية الذاتية. إلا أن الفعل الشعري يرتبط بظواهر خاصة بالتعبير كالإيقاع والقافية والقيم الصوتية.. الخ. ومن جهة نظر استعارية، ليس هناك فرق بين أبيات دانتي وبين ترجماتها، لكنها من وجهة نظر شعرية فهي بالتأكيد متباينة (مثلا أغلب الترجمات تتخلى عن القافية).
إن هذه الفكرة مهمة لأننا غالبا نعالج الاستعارة كظاهرة شعرية وجمالية. والحال -وقد رأينا ذلك- أن الفكر العلمي واللغة اليومية يتضمننان اشتغالا استعاريا (انظر لاكوف Lakoff وجونسون Johnson 1980 ولاكوف 1987). هذا لا يعني أن تأملا سيميوطيقيا حول الاستعارة غير مجد للاستتيقا. يتعلق الأمر قبل كل شيء -ولن تكون آخر مرة على الأقل منذ فيكو Vico- بتحديد نسبة الجمالية الحاضرة حتى في الاستعارات العادية. ونستطيع في الدرجة الثانية تفسير السبب الذي يجعل الاستعارات تظهر أكثر أصالة وإبداعية من استعارات أخرى، وبالتالي أكثر جمالية (انظر محاولة إيكو حول الاستعارة 1984).
نتعلم في مقاعد المدرسة أن نمقت (كنموذج للباروكية)- سوناتة جيوسبي آرتال Giusseppe Artale التي يشير، بعد قوله “إن عيون ماري مادلين متألفة كشمسين وأن شعرها يسيل كنهر”، إلى أن الثانية النادمة ترتمي بين يدي المخلص.
إن الإرباك الذي نحسه إزاء الجدل الفارغ مؤكد، لكنه مفسر بمصطلحات نفعية الاستعارة خصوصا بالإحالة إلى ما قلناه سابقا: لتأويل ملفوظ استعاريا من الضروري أن نتعرف أنه إذا فهم حرفيا سيصبح لا معقولا من الناحية الدلالية. والحال أن آرتال يبدع ويقبر استعارتين في الأبيات الثلاثة لأنه من العبث اعتبار العينين شمسين والشعر نهرا، والتأويل الاستعاري يتولد من التعرف على هذه اللامعقولية (وإلا سنقع في خطأ تصور أن الاستعارة تمثل عوالم ممكنة).
لكن إذا قبل التأويل أصبحت العيون شموسا وغدا الشعر نهرا في مظهر معين وعبر تحويل بعض الخصائص وليس كلها. بالمقابل إذا قرر الشاعر أنهما كذلك تحت أي مظهر (إذن ينبغي أن تكون العيون لامعة كالشمس والشعر مبللا كالنهر) يفهم الاستعارة حرفيا فيدخلنا في عالم مضطرب ونفتقد أثر التصوير الأول).
إنه يتصرف مثل من شبه آخيل Achille بالأسد، وأصبح يبحث بلهفة عن لبدته أو كأن كاتب Cantique des Cantiques مشبها الأسنان بقطيع غنم يتظاهر متلهفا لجزها. إذا فهمنا استعارة أرتال Artale حرفيا فستصبح النتائج مضحكة: يجب أن تصبح عيون ماري مادلين في مركز العالم، وأن يتضمن شعرها أسماكا ويكون صالحا للملاحة، ناضبا في الصيف ومتدفقا في حال الانتعاش. ن استعارة أرتال تخفق شعريا لأسباب سيميوطيقية، وبإخفاقها تذكرنا بوجود حدود في تأويل الاستعارة أيضا (3)
n
Umberto Eco : Les limites de l’interprétation، traduit de l’italien par Myriem Bouzahir، Edition Grasset et Fasquelle 1992.
°°°°