في سنة 2005 نشرتْ دار Mariner Books ترجمة إنجليزية لكتاب مهم للسيميائي والروائي الإيطالي الراحل أومبرتو إيكو، والذي تحلّ ذكري وفاته في الخامس من الشهر الحالي. ظهر الكتاب تحت عنوان »عن الأدب». الكتاب في الأصل، شأنه في ذلك شأن معظم أعمال إيكو غير الروائية، مجموعة من المحاضرات التي ألقيت في مناسبات علمية متفّرقة، بدايةً من سنة 1980 وحتي سنة 2000، ثم نقّحها إيكو وزوّدها بشروح وتعليقات، لتصدرَ الترجمة الإنجليزية تحت هذا العنوان في سنة 2005.
علي مدار ثمانية عشر فصلًا يحاول إيكو تحليل سِـرّ شغفه بعالم الأدب والكلمات، بداية من تأثير كتاب »فن الشعر» لأرسطو، مرورًا بتأملات عميقة في »الفردوس» في كوميديا دانتي الإلهية، وكذلك رؤيته لعوالم كاتبيه الأثيريْن جيمس جويس وخورخي لويس بورخيس، منتقلًا بعدها إلي موضوعه المفضل، الذي كتب عنه أغلب رواياته، وهو قـوة التزوير والكذب في صناعة الواقع، بل وكتابة التاريخ (علي نحو ما نري في روايات اسم الوردة، باودولينو، بندول فوكو، مقبرة براج وروايته الأخيرة الرقم صفر)، وصولًا إلي الفصل الأخير، وهو الأكثر تشويقًا، والذي يناقش إيكو فيه أسلوبه في الكتابة من خلال تسليط الضوء علي ظروف تأليف الروايات السابقة.
>>>
يحمل الفصل الأول عنوان: »حول بعض وظائف الأدب». هنا يؤكد إيكو علي حقيقة يبني عليها أطروحاته: »الأدب هو ما يكفل بقاء اللغة حيّة في قلوب أبنائها بوصفها تراثًا جـمـعيًا، فبدون دانتي آليجيري، مؤلف الكوميديا الإلهية، لم نكن لنحظي بلغة إيطالية موحّدة» مشيرًا إلي شيوع اللهجات المحلية وتعدّدها في وقت دانتي، وافتقار الأراضي الإيطالية آنذاك إلي لغة موحّدة، يتحدّث بها أهل البلاد. يضيف إيكو: »صحيحٌ أن الأمر استغرق بضعة قرونٍ حتي تتحول اللغة التي كتب بها دانتي الكوميديا الإلهية إلي اللغة التي نتكلّم بها اليوم في إيطاليا، لكن النجاح الحقيقي يكمن في إيمان دانتي بقدرة الأدب علي صون كيان اللغة. يواصل إيكو حديثه قائلًا:» من خلال المساعدة علي ابتكار لغةٍ جديدة، يصنع لنا الأدب هويّة حقيقية ومجتمعًا مستقلًا».
يذهب إيكو إلي أنّ الأدب هو الذي يُبقي اللغة حيّة، فالأدب يصنع من الحكايات والشخصيات جسدًا مشتركًا، ينفخ فيه كل كاتبٍ من روحه، ويتركَ علي هذا الجسد بصمته الخاصة. في الفصل الثاني بعنوان »قراءة في فردوس دانتي آلليجيري» وهو قراءة في الجزء الأول من الكوميديا الإلهية كما يفصح العنوان، يعد إيكو الفردوس بمثابة نقطة مفصلية مهمّة لفهم تاريخ القرون الوسطي سواء بالنسبة للمفكّرين أم القراء.
ينتقل إيكو بعدها إلي فصلٍ شائق بعنوان »حول أسلوب البيان الشيوعي». فيبدأ حديثه بالعبارة التالية: »من الصعب تصور أن صفحات قليلة استطاعت وحدها تغيير العالَم». يوصي إيكو بقراءة البيان الشيوعي، لا كنص سياسي، بل كنص أدبي خالص، مُحللًا البيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريش إنلجز بوصفه خطابًا أدبيًا، مؤكدًا أن طريقة كتابة البيان الشيوعي -علي الصعيدين اللغوي والأسلوبي- تعد نموذجًا لافتًا لكيفية كتابة خطابٍ أدبي مفعم بالقوّة، وقادرٍ علي تحريك الجماهير من خلال كلمات دقيقة مركّزة، يقول إيكو: داخل البيان الشيوعي تتوافر كل عناصر النص الأدبي القوي: نصاعة العبارات، قوّة الحجج والمنطق، وهو ما يجب أن يكون عليه نصّ أدبي جيّد. يسوق إيكو مثالًا من البيان الشيوعي لتوضيح وجهة نظره، فيقتبس الأسئلة التالية: »هل تريد الشيوعية إباحة النساء للجميع» ؟ هل تريد الشيوعية تدمير الأمة والأسرة، فتكون الإجابة: البرجوازية هي التي تسلب النساء حقوقهن، البرجوازية هي التي تري في المرأة مجرد أداة إنتاج، بينما تسعي الشيوعية لإلغاء هذا الوضع، فمشاع النساء وُجِد في المجتمع البرجوازي دائمًا، ولا أدلّ علي ذلك من ابتكار بيوت البغاء لقاء مقابل ماليّ. يقول إيكو: »هنا نكتشف سحر الكلمات وقدرتها علي تقديم الحقائق في ثوبٍ مختلف».
اللافت أنّ إيكو قد وظّف منطق في البيان الشيوعي في روايته »مقبرة براج» وتحديدًا في الجزء الأخير الخاص بحوارات سيموني سيمونيني مع جولوفينسكي لمناقشة ثغرات الوثائق التي انتحلها بطل الرواية سيموني سيمونيني.
أما في فصل »ثغرات الشكل» فيناقش إيكو العناصر الرئيسة المكوّنة لبنية النص السردي، متسائلًا: إذا كان جمال العمل الفنيّ نابعًا مِن تكامل وحدات النصّ، فكيف نحدّد الأجزاء الضرورية؟ وإن كانت ثمّة عناصر رئيسة، فهل يعني ذلك أنّ كل ما سواها »ديكور» أو »حشو زائد» ؟ وهل سيبقي جمال العمل الفنيّ بعدها إذا ما حذفنا العناصر غير الضرورية ؟ وماذا عن محاولات الكاتب لسدّ الثغرات؟ أي من خلال الأجزاء السردية الصغيرة (الاسترجاعات الزمنية، التفاصيل، التعليقات غير المباشرة، إلخ)، التي تعزّز من تدفق مسار السرد، وتضمن انسجام النصّ وترابط مكوناته؟
يعود إيكو إلي نصّه الأثير، الكوميديا الإلهية، محللًا هذا السِفر الضخم من وجهة النظر القائلة إنّ المضمون هو روح الشكل، فيقول » إن جمال نصّ الكوميديا الإلهية النابع من البنيةّ اللاهوتية (الفردوس، الجحيم، المطهر) يفوق جمال الأبيات الشعرية التي كُتبَ بها النصّ، فالأبيات الشعرية في الكوميديا الإلهية تنقل إلينا شيئًا عرضيًا، ثانويًا، بينما قوام الكوميديا الإلهية هو المعمار اللاهوتي، لا الأبيات الشعرية. ولكن هل يُمكن حذف الشعـر من النصّ؟ بالطبع لا. هناك مثال آخر وهو رواية يوليسيس لجيمس جويس، فالشكل الملحمي لأوديسة هوميروس التي تتخلّل نسيج رواية »يوليسيس» يقف ــ من الناحية الجمالية ــ علي قدم المساواة مع المونولوج الطويل لبطلة الرواية موللي بلوم في نهاية العمل، وهو المونولوج الذي لم يكن ليخلق الأثر نفسه علي القارئ، لو لم يشيّد جويس روايته علي النسق الهوميري».
في فصل آخر بعنوان »مفارقة التناص ومستويات القراءة» يتناول إيكو بشكل مسهبٍ روايته »اسم الوردة» معترفًا أنه كاتب شغوفٌ بحفر طبقات دلالية متعددة داخل نصوصه الروائية، وعلي الأخصّ رواية اسم الوردة، إذ ليس في وسع جميع القراء الوصول إلي مستويات النصّ جميعها، فبعض القُرّاء محتاج إلي قدر معين من الثقافة لسبر أغوار النصّ وتأويله، لكنه في الوقت نفسه، لم يبخل علي سائر القرّاء في الاستمتاع بالرواية كنصّ أدبي من خلال شكل الرواية البوليسية التي غـلّفَ بها أفكاره.
أما في فصل "بين دون كيخوته دي لا مانشا ومكتبة بابل فيعقد إيكو مقارنة شائقة بين موقف الفارس النبيل دون كيخوته في رواية سرفانتس الشهيرة وبين قصّة مكتبة بابل الشهيرة للقاصّ الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. عند سرفانتس يغادر دون كيخوته مكتبته، ويفارق كتب الفروسية التي كان غارقًا فيها ليكتشف العالم الحقيقي، بينما يهرب بطل »مكتبة بابل» لبورخيس إلي قلب المكتبة، والتي كان يصفها الآخرون بأنها جنّة، ليكتشف العالم الحقيقي من خلال الكتب. وهي مقارنة مائزة يري فيها إيكو أنّ الكلمات هي بداية العالم (في حالة الكيخوته)، ونهايته المحتومة (في حالة مكتبة بابل لبورخيس).
كان إيكو قد صرّح في مفتتح الكتاب أن روح بورخيس ترفرف علي فصول العمل، إذ لا يكاد يخلو فصل من إشارة ولو هامشية إلي بورخيس، الأمر الذي دفعه لأن يفرد فصلًا مستقلًا تحت عنوان »بورخيس وقلقي من التأثّر». في هذا الفصل ينقل إلينا إيكو مشاعر القلق المتزايد التي استولتْ عليه بسبب تأثير الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس عليه، وهو التأثير الذي لازمه منذ بداية رحلته مع الكتابة، وحتي الانتهاء من تأليف روايته الأولي »اسم الوردة» حيث جعل إيكو أمينَ مكتبة الدير البندكتي، رجلًا أعمي، ومنحه اسم »يورجس في إشارةٍ إلي خورخي ل. بورخيس بطبيعة الحال، فضلًا عن فكـرة المخطوط الذي عثر عليه بطل الرواية، وهي فكرة وإن كانت قديمة، لكن إيكو يقول إنّ قصة بورخيس الشهيرة »طلون، أوربس تورتيس» كان لها تأثير بالغ في أثناء كتابة اسم الوردة.
أما الفصل المعنون »قـوّة الكذب» فهو قطعة نثرية وفلسفية خالصة. يدرس إيكو في هذا الفصل تأثير الأكاذيب والتزوير علي مدار التاريخ، وكيف يُمكن للكذب تحويل عوالم تخييلية إلي حقائق لا يمكن الطعن عليها، فيختار نماذج مثل »بروتوكولات حكماء صهيون» والذي كان محور روايته الشهيرة مقبرة براج، وجماعة »الصليب الوردي» وهي جماعة باطنية نشأت في أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي وتردّد ذكرها في رواية »بندول فوكو» فضلًا عن رسالة الكاهن يوحنا (*الكاهن يوحنا ملك مسيحي أسطوري قيل إنه كان يحكم آسيا الوسطيأو إثيوبيا في القرون الوسطي، وقد حِيكتْ حول أعماله حكايات مُلفـقة، وهناك من يشكّك في وجوده التاريخي من الأساس).
يقول إيكو: »كانت رسالة الكاهن يوحنا المنحولة باعثًا قويًا لقيام الغرب المسيحي بغزو الشرق تحت مسمي الحملات الصليبية». يحفل هذا الفصل بالأمثلة علي قوّة الكذب/الانتحال، وقدرته علي تحويل الأكاذيب والحكايات الملفقّة إلي حقائق راسخة، بل ومُحدّدة لمسار التاريخ.
>>>
في فصل آخر بعنوان »عن الأسلوب» يشرح إيكو مفهومه »الأسلوب» داخل العمل الفنيّ. فيحدّد ثلاث طرائق لدراسة الأسلوب. الطريقة الأولي هي أن يقوم الكاتب بوصف شعوره في أثناء إنتاج العمل الفني، والطريقة الثانية هي أن ينهج نهج الفلاسفة، شارحًا سبب أن نـصِف عملًا ما بأنه عمل فنيّ جميل، مُبـرزًا السمات الفنية التي تؤهل عملًا أدبيًا لأن يوسَم بالجمال. والطريقة الثالثة هي طريقة إيكو نفسه، أي طريقة التحليل السيميائي (تحليل العلامات داخل النصّ)، ضاربًا المثل بروايته الأولي اسم الوردة، فيسهب في شرح هذه النقطة. تبدأ رواية اسم الوردة بتدريب سيميائي حقيقي، حيث يؤول المحقّـق الفرنشسكاني »جوليالمودا» علامات مادية مختلفة، بهدف الاستدلال علي حادثة لم يكن حاضراً فيها، وهي فرار جَـواد رئيس الدير. ويتضح للقارئ من خلال الاستراتيجية التي اتبعها المحقّق »جوليالمودا» أن العلامات تكون مُحمَّلة بعدة معانٍ إذا ما كانت موجودة مسبقاً في تجربة الشخص، وأن علامةً ما قد تكون بلا معني إذا وُجِدت بمعزلٍ عن شبكة العلامات المحيطة بها. ففي الوقت الذي لم ينتبه فيه بطل الرواية الراهب المبتدئ "إدسو دي مالك" إلي وجود علامات كبقايا الوبر الأسود، والآثار علي الثلج، تنبّه المحقّق غوليالمودا إلي وجود هذه العلامات، ووضعها بحكم تجربته في علاقاتها المتبادلة، ليستدلّ منها علي مرور جواد، وعلي صفات ذلك الجواد، من حيث اللون والقامة والرشاقة، ثمّ تكهّن بمالِك الجواد واسمه، وبالوجهة التي اتخذها.
>>>
أما الفصل الأخير، وهو من أكثر فصول الكتاب إمتاعًا واقترابًا من روح إيكو الساخرة، فيحمل عنوان »كيف أكتب»؟ يتناول إيكو في هذا الفصل طريقته في الكتابة، ومنهجه في تشييد عوالمه الروائية، متناولًا روايات »اسم الوردة» و»بندول فوكو» و»باودولينو» و»جزيرة اليوم السابق» معرجًا علي تجربته الشخصية في أثناء كتابة هذه الروايات. من بين الفقرات اللافتة، نصائح يوجهها إيكو إلي نفسه، وإلي المهتمّين بالكتابة الإبداعية بوجه خاص، انتقيتُ منها الفقرتيْن التاليتين (ص 334 من الترجمة الإنجليزية):
> "هناك شيء واحدٌ فقط تكتبه من أجل نفسكَ: قائمة التسوّق؛ فهي تساعدكَ علي تذكّر ما تحتاج شراءه، وحالما تنتهي من شراء ما تريد، يمكنكَ تمزيقها، لأنها لا تهمّ أحدًا. فيما عدا ذلك، فأي شيء تكتبه، إنما يُكتبُ لكي تقول شيئًا ما إلي شخصٍ ما".
> طالما سألتُ نفسي: هل سأواصل الكتابة لو أخبروني أنّ كارثة كونية ستدمّر العالم غدًا، وأن أحدًا لن يقرأ ما كتبته اليوم؟ أول إجابة ستقفز إلي ذهني ستكون: لا؛ ولماذا أكتبُ طالما أن أحدًا لن يقرأني؟ أما فطرتي فستقول نعم، لا لشيءٍ إلا لأنني دائمًا أتمسّك بالأمل الواهن، فقد يفلتُ نجمٌ ما من هذا الكارثة، وربما يظهر شخصٌ في المستقبل يستطيع فكّ شفرة العلامات التي وضعتها داخل رواياتي. عندها، ستصير الكتابة شيئًا ذا معني، حتي لو سبقت نهاية العالم بساعات".
أخبار الأدب (مصر) 1/5/2019
علي مدار ثمانية عشر فصلًا يحاول إيكو تحليل سِـرّ شغفه بعالم الأدب والكلمات، بداية من تأثير كتاب »فن الشعر» لأرسطو، مرورًا بتأملات عميقة في »الفردوس» في كوميديا دانتي الإلهية، وكذلك رؤيته لعوالم كاتبيه الأثيريْن جيمس جويس وخورخي لويس بورخيس، منتقلًا بعدها إلي موضوعه المفضل، الذي كتب عنه أغلب رواياته، وهو قـوة التزوير والكذب في صناعة الواقع، بل وكتابة التاريخ (علي نحو ما نري في روايات اسم الوردة، باودولينو، بندول فوكو، مقبرة براج وروايته الأخيرة الرقم صفر)، وصولًا إلي الفصل الأخير، وهو الأكثر تشويقًا، والذي يناقش إيكو فيه أسلوبه في الكتابة من خلال تسليط الضوء علي ظروف تأليف الروايات السابقة.
>>>
يحمل الفصل الأول عنوان: »حول بعض وظائف الأدب». هنا يؤكد إيكو علي حقيقة يبني عليها أطروحاته: »الأدب هو ما يكفل بقاء اللغة حيّة في قلوب أبنائها بوصفها تراثًا جـمـعيًا، فبدون دانتي آليجيري، مؤلف الكوميديا الإلهية، لم نكن لنحظي بلغة إيطالية موحّدة» مشيرًا إلي شيوع اللهجات المحلية وتعدّدها في وقت دانتي، وافتقار الأراضي الإيطالية آنذاك إلي لغة موحّدة، يتحدّث بها أهل البلاد. يضيف إيكو: »صحيحٌ أن الأمر استغرق بضعة قرونٍ حتي تتحول اللغة التي كتب بها دانتي الكوميديا الإلهية إلي اللغة التي نتكلّم بها اليوم في إيطاليا، لكن النجاح الحقيقي يكمن في إيمان دانتي بقدرة الأدب علي صون كيان اللغة. يواصل إيكو حديثه قائلًا:» من خلال المساعدة علي ابتكار لغةٍ جديدة، يصنع لنا الأدب هويّة حقيقية ومجتمعًا مستقلًا».
يذهب إيكو إلي أنّ الأدب هو الذي يُبقي اللغة حيّة، فالأدب يصنع من الحكايات والشخصيات جسدًا مشتركًا، ينفخ فيه كل كاتبٍ من روحه، ويتركَ علي هذا الجسد بصمته الخاصة. في الفصل الثاني بعنوان »قراءة في فردوس دانتي آلليجيري» وهو قراءة في الجزء الأول من الكوميديا الإلهية كما يفصح العنوان، يعد إيكو الفردوس بمثابة نقطة مفصلية مهمّة لفهم تاريخ القرون الوسطي سواء بالنسبة للمفكّرين أم القراء.
ينتقل إيكو بعدها إلي فصلٍ شائق بعنوان »حول أسلوب البيان الشيوعي». فيبدأ حديثه بالعبارة التالية: »من الصعب تصور أن صفحات قليلة استطاعت وحدها تغيير العالَم». يوصي إيكو بقراءة البيان الشيوعي، لا كنص سياسي، بل كنص أدبي خالص، مُحللًا البيان الشيوعي لكارل ماركس وفريدريش إنلجز بوصفه خطابًا أدبيًا، مؤكدًا أن طريقة كتابة البيان الشيوعي -علي الصعيدين اللغوي والأسلوبي- تعد نموذجًا لافتًا لكيفية كتابة خطابٍ أدبي مفعم بالقوّة، وقادرٍ علي تحريك الجماهير من خلال كلمات دقيقة مركّزة، يقول إيكو: داخل البيان الشيوعي تتوافر كل عناصر النص الأدبي القوي: نصاعة العبارات، قوّة الحجج والمنطق، وهو ما يجب أن يكون عليه نصّ أدبي جيّد. يسوق إيكو مثالًا من البيان الشيوعي لتوضيح وجهة نظره، فيقتبس الأسئلة التالية: »هل تريد الشيوعية إباحة النساء للجميع» ؟ هل تريد الشيوعية تدمير الأمة والأسرة، فتكون الإجابة: البرجوازية هي التي تسلب النساء حقوقهن، البرجوازية هي التي تري في المرأة مجرد أداة إنتاج، بينما تسعي الشيوعية لإلغاء هذا الوضع، فمشاع النساء وُجِد في المجتمع البرجوازي دائمًا، ولا أدلّ علي ذلك من ابتكار بيوت البغاء لقاء مقابل ماليّ. يقول إيكو: »هنا نكتشف سحر الكلمات وقدرتها علي تقديم الحقائق في ثوبٍ مختلف».
اللافت أنّ إيكو قد وظّف منطق في البيان الشيوعي في روايته »مقبرة براج» وتحديدًا في الجزء الأخير الخاص بحوارات سيموني سيمونيني مع جولوفينسكي لمناقشة ثغرات الوثائق التي انتحلها بطل الرواية سيموني سيمونيني.
أما في فصل »ثغرات الشكل» فيناقش إيكو العناصر الرئيسة المكوّنة لبنية النص السردي، متسائلًا: إذا كان جمال العمل الفنيّ نابعًا مِن تكامل وحدات النصّ، فكيف نحدّد الأجزاء الضرورية؟ وإن كانت ثمّة عناصر رئيسة، فهل يعني ذلك أنّ كل ما سواها »ديكور» أو »حشو زائد» ؟ وهل سيبقي جمال العمل الفنيّ بعدها إذا ما حذفنا العناصر غير الضرورية ؟ وماذا عن محاولات الكاتب لسدّ الثغرات؟ أي من خلال الأجزاء السردية الصغيرة (الاسترجاعات الزمنية، التفاصيل، التعليقات غير المباشرة، إلخ)، التي تعزّز من تدفق مسار السرد، وتضمن انسجام النصّ وترابط مكوناته؟
يعود إيكو إلي نصّه الأثير، الكوميديا الإلهية، محللًا هذا السِفر الضخم من وجهة النظر القائلة إنّ المضمون هو روح الشكل، فيقول » إن جمال نصّ الكوميديا الإلهية النابع من البنيةّ اللاهوتية (الفردوس، الجحيم، المطهر) يفوق جمال الأبيات الشعرية التي كُتبَ بها النصّ، فالأبيات الشعرية في الكوميديا الإلهية تنقل إلينا شيئًا عرضيًا، ثانويًا، بينما قوام الكوميديا الإلهية هو المعمار اللاهوتي، لا الأبيات الشعرية. ولكن هل يُمكن حذف الشعـر من النصّ؟ بالطبع لا. هناك مثال آخر وهو رواية يوليسيس لجيمس جويس، فالشكل الملحمي لأوديسة هوميروس التي تتخلّل نسيج رواية »يوليسيس» يقف ــ من الناحية الجمالية ــ علي قدم المساواة مع المونولوج الطويل لبطلة الرواية موللي بلوم في نهاية العمل، وهو المونولوج الذي لم يكن ليخلق الأثر نفسه علي القارئ، لو لم يشيّد جويس روايته علي النسق الهوميري».
في فصل آخر بعنوان »مفارقة التناص ومستويات القراءة» يتناول إيكو بشكل مسهبٍ روايته »اسم الوردة» معترفًا أنه كاتب شغوفٌ بحفر طبقات دلالية متعددة داخل نصوصه الروائية، وعلي الأخصّ رواية اسم الوردة، إذ ليس في وسع جميع القراء الوصول إلي مستويات النصّ جميعها، فبعض القُرّاء محتاج إلي قدر معين من الثقافة لسبر أغوار النصّ وتأويله، لكنه في الوقت نفسه، لم يبخل علي سائر القرّاء في الاستمتاع بالرواية كنصّ أدبي من خلال شكل الرواية البوليسية التي غـلّفَ بها أفكاره.
أما في فصل "بين دون كيخوته دي لا مانشا ومكتبة بابل فيعقد إيكو مقارنة شائقة بين موقف الفارس النبيل دون كيخوته في رواية سرفانتس الشهيرة وبين قصّة مكتبة بابل الشهيرة للقاصّ الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. عند سرفانتس يغادر دون كيخوته مكتبته، ويفارق كتب الفروسية التي كان غارقًا فيها ليكتشف العالم الحقيقي، بينما يهرب بطل »مكتبة بابل» لبورخيس إلي قلب المكتبة، والتي كان يصفها الآخرون بأنها جنّة، ليكتشف العالم الحقيقي من خلال الكتب. وهي مقارنة مائزة يري فيها إيكو أنّ الكلمات هي بداية العالم (في حالة الكيخوته)، ونهايته المحتومة (في حالة مكتبة بابل لبورخيس).
كان إيكو قد صرّح في مفتتح الكتاب أن روح بورخيس ترفرف علي فصول العمل، إذ لا يكاد يخلو فصل من إشارة ولو هامشية إلي بورخيس، الأمر الذي دفعه لأن يفرد فصلًا مستقلًا تحت عنوان »بورخيس وقلقي من التأثّر». في هذا الفصل ينقل إلينا إيكو مشاعر القلق المتزايد التي استولتْ عليه بسبب تأثير الكاتب الأرجنتيني الكبير خورخي لويس بورخيس عليه، وهو التأثير الذي لازمه منذ بداية رحلته مع الكتابة، وحتي الانتهاء من تأليف روايته الأولي »اسم الوردة» حيث جعل إيكو أمينَ مكتبة الدير البندكتي، رجلًا أعمي، ومنحه اسم »يورجس في إشارةٍ إلي خورخي ل. بورخيس بطبيعة الحال، فضلًا عن فكـرة المخطوط الذي عثر عليه بطل الرواية، وهي فكرة وإن كانت قديمة، لكن إيكو يقول إنّ قصة بورخيس الشهيرة »طلون، أوربس تورتيس» كان لها تأثير بالغ في أثناء كتابة اسم الوردة.
أما الفصل المعنون »قـوّة الكذب» فهو قطعة نثرية وفلسفية خالصة. يدرس إيكو في هذا الفصل تأثير الأكاذيب والتزوير علي مدار التاريخ، وكيف يُمكن للكذب تحويل عوالم تخييلية إلي حقائق لا يمكن الطعن عليها، فيختار نماذج مثل »بروتوكولات حكماء صهيون» والذي كان محور روايته الشهيرة مقبرة براج، وجماعة »الصليب الوردي» وهي جماعة باطنية نشأت في أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي وتردّد ذكرها في رواية »بندول فوكو» فضلًا عن رسالة الكاهن يوحنا (*الكاهن يوحنا ملك مسيحي أسطوري قيل إنه كان يحكم آسيا الوسطيأو إثيوبيا في القرون الوسطي، وقد حِيكتْ حول أعماله حكايات مُلفـقة، وهناك من يشكّك في وجوده التاريخي من الأساس).
يقول إيكو: »كانت رسالة الكاهن يوحنا المنحولة باعثًا قويًا لقيام الغرب المسيحي بغزو الشرق تحت مسمي الحملات الصليبية». يحفل هذا الفصل بالأمثلة علي قوّة الكذب/الانتحال، وقدرته علي تحويل الأكاذيب والحكايات الملفقّة إلي حقائق راسخة، بل ومُحدّدة لمسار التاريخ.
>>>
في فصل آخر بعنوان »عن الأسلوب» يشرح إيكو مفهومه »الأسلوب» داخل العمل الفنيّ. فيحدّد ثلاث طرائق لدراسة الأسلوب. الطريقة الأولي هي أن يقوم الكاتب بوصف شعوره في أثناء إنتاج العمل الفني، والطريقة الثانية هي أن ينهج نهج الفلاسفة، شارحًا سبب أن نـصِف عملًا ما بأنه عمل فنيّ جميل، مُبـرزًا السمات الفنية التي تؤهل عملًا أدبيًا لأن يوسَم بالجمال. والطريقة الثالثة هي طريقة إيكو نفسه، أي طريقة التحليل السيميائي (تحليل العلامات داخل النصّ)، ضاربًا المثل بروايته الأولي اسم الوردة، فيسهب في شرح هذه النقطة. تبدأ رواية اسم الوردة بتدريب سيميائي حقيقي، حيث يؤول المحقّـق الفرنشسكاني »جوليالمودا» علامات مادية مختلفة، بهدف الاستدلال علي حادثة لم يكن حاضراً فيها، وهي فرار جَـواد رئيس الدير. ويتضح للقارئ من خلال الاستراتيجية التي اتبعها المحقّق »جوليالمودا» أن العلامات تكون مُحمَّلة بعدة معانٍ إذا ما كانت موجودة مسبقاً في تجربة الشخص، وأن علامةً ما قد تكون بلا معني إذا وُجِدت بمعزلٍ عن شبكة العلامات المحيطة بها. ففي الوقت الذي لم ينتبه فيه بطل الرواية الراهب المبتدئ "إدسو دي مالك" إلي وجود علامات كبقايا الوبر الأسود، والآثار علي الثلج، تنبّه المحقّق غوليالمودا إلي وجود هذه العلامات، ووضعها بحكم تجربته في علاقاتها المتبادلة، ليستدلّ منها علي مرور جواد، وعلي صفات ذلك الجواد، من حيث اللون والقامة والرشاقة، ثمّ تكهّن بمالِك الجواد واسمه، وبالوجهة التي اتخذها.
>>>
أما الفصل الأخير، وهو من أكثر فصول الكتاب إمتاعًا واقترابًا من روح إيكو الساخرة، فيحمل عنوان »كيف أكتب»؟ يتناول إيكو في هذا الفصل طريقته في الكتابة، ومنهجه في تشييد عوالمه الروائية، متناولًا روايات »اسم الوردة» و»بندول فوكو» و»باودولينو» و»جزيرة اليوم السابق» معرجًا علي تجربته الشخصية في أثناء كتابة هذه الروايات. من بين الفقرات اللافتة، نصائح يوجهها إيكو إلي نفسه، وإلي المهتمّين بالكتابة الإبداعية بوجه خاص، انتقيتُ منها الفقرتيْن التاليتين (ص 334 من الترجمة الإنجليزية):
> "هناك شيء واحدٌ فقط تكتبه من أجل نفسكَ: قائمة التسوّق؛ فهي تساعدكَ علي تذكّر ما تحتاج شراءه، وحالما تنتهي من شراء ما تريد، يمكنكَ تمزيقها، لأنها لا تهمّ أحدًا. فيما عدا ذلك، فأي شيء تكتبه، إنما يُكتبُ لكي تقول شيئًا ما إلي شخصٍ ما".
> طالما سألتُ نفسي: هل سأواصل الكتابة لو أخبروني أنّ كارثة كونية ستدمّر العالم غدًا، وأن أحدًا لن يقرأ ما كتبته اليوم؟ أول إجابة ستقفز إلي ذهني ستكون: لا؛ ولماذا أكتبُ طالما أن أحدًا لن يقرأني؟ أما فطرتي فستقول نعم، لا لشيءٍ إلا لأنني دائمًا أتمسّك بالأمل الواهن، فقد يفلتُ نجمٌ ما من هذا الكارثة، وربما يظهر شخصٌ في المستقبل يستطيع فكّ شفرة العلامات التي وضعتها داخل رواياتي. عندها، ستصير الكتابة شيئًا ذا معني، حتي لو سبقت نهاية العالم بساعات".
أخبار الأدب (مصر) 1/5/2019