شغل أمر لومومبا وعملية اغتياله، الناس في السودان في تلك الأيام؛ (وسمعنا به وكنا حينها في منتصف المدرسة الأولية) واشتهر اسمه بين عوام الناس وخاصتهم، حتى أن لاعبا في فريق المريخ كان يلقب بإسم “لومومبا”، وكانت تلك فترة اشتهر فيها الجمهور الرياضي السوداني بتسمية اللاعبين بالمشهورين في مختلف الميادين، فنجد مثلا اللاعب جعفر قاقرين (رائد الفضاء الروسي) والماوماو (وهو اسم لجماعة مسلحة في كينيا ثارت ضد المستعمر البريطاني) وهكذا. ولد باتريس لومومبا في 2/7/ 1925م، وتعلم وعمل موظفا في البريد في ليبولدفيل (الآن كينشاسا).
التحق في عام 1955م بالحزب الليبرالي البلجيكي موزعا لمطبوعات الحزب، وفي ذات العام دبرت له تهمة كاذبة من أنه اختلس أموالا من البريد فسجن وأطلق سراحه بعد عام من الاعتقال. في عام 1958م كون مع زملائه حركة وطنية كانت تؤمن بالوحدة الأفريقية (تأثرا بأفكار كوامي نيكروما الزعيم الغاني)، وبعدها بعام اعتقل لتنظيمه مظاهرات ضد المستعمر البلجيكي، وفي عام 1960م حضر مؤتمر مائدة مستديرة في بلجيكا لتقرير مصير الكنغو، أعقبته انتخابات عامة كسبها حزبه متحالفا مع آخرين. وانتخب لومومبا رئيساً للوزراء وكازافوبو رئيسا للجمهورية. بعد عشرة أسابيع من انتخابه انقلب عليه الجيش (بقيادة موبوتو)، وتم اعتقاله واغتياله في ظروف غامضة تتهم فيها مخابرات بلجيكا والولايات المتحدة. استمرت “أزمة الكنغو” (والتي شملت فيما بعد انفصال إقليم “كاتنجا” من الكنغو) حتى عام 1966م. و لقي حتفه في أثناء تلك الأزمة داج همرشولد أمين عام الأمم المتحدة في حادث طائرة في سماء الكونغو، لا يزال غامضا. يجدر هنا التذكير بأن السودان كان من ضمن الدول التي بعثت بقوات للكنغو في تلك الأيام لحفظ السلام هنالك، رغم أن قوى سياسية عديدة في السودان كانت تتهم حكومة الفريق عبود بخذلان لومومبا في محنته، والضلوع (ولو بطريق غير مباشر) مع الغرب في عملية تصفيته التي حدثت في يناير 1961م بعد تعذيب وحشي على يد جنود كاتنجا بقيادة من وصف ب”العميل الانفصالي” تشومبي”.
بمقدوري أن أتذكر ذلك اليوم تماما كما أتذكر الأمس…قبل خمسين عاما بالتحديد، عندما أعلن رئيس غانا د/كوامي نيكروما عبر إذاعته لبيان خاص للأمة وبصوت حزين النبرات عن أنه تلقي معلومات تفيد بأن رئيس وزراء الكنغو “باتريس لومومبا” قد اغتيل.
تم اعتقال لومومبا أولا بواسطة جنود يتبعون لموبوتو، ثم أرسل إلى مقاطعة “كاتنجا”، حيث مقر رئيسها وألد أعدائه “مويس تشومبي”، وقواته الانفصالية التي كانت تسيطر على الإقليم رغما عن وجود قوات للأمم المتحدة به. لم يفصح الرئيس الغاني نيكروما بالطبع عن مصدر معلوماته، بيد أن الجميع كان يعلم أن للرجل صلات وثيقة بالإتحاد السوفيتي، والذي كان يملك جهازا قويا للمخابرات واسع الإطلاع، لذا لم يتطرق الشك لذهن أحد من سامعيه بأن ما أتى به هو خبر يقين. أعطى نيكروما مزيدا من التفاصيل عن عملية الاغتيال، فصرح أن شرطيا بلجيكيا هو من قتل لومومبا. كان الجميع يظن أن نيكروما كان يتنبأ أو يفترض مجرد افتراض أن جنسية القاتل لابد أن تكون بلجيكية، حتى تم نشر كتاب في بلجيكا في عام 2001م بعنوان “اغتيال باتريس لومومبا” للكاتب البلجيكي لودو دي فيتي أظهر للملأ تفاصيل ما جرى بالفعل، وتبين صدق ما قاله نيكروما قبل نحو خمسين عاما.
صدم الغانيون للنبأ الحزين الذي أتى به نيكروما، فلقد ظل رئيسهم يحرص على إخبارهم بمحاولاته المتواصلة لإنقاذ لومومبا من مؤامرات البلجيكيين وحيلهم، بل وأرسل بقوات من جيشه للكنغو في أول سابقة من نوعها لجيش من دولة أفريقية مستقلة ليخدم في أراضي دولة أفريقية مستقلة أخرى. لم يكتف بذلك، بل بعث بجيش من الخبراء من كل صنف…الأطباء والمهندسين وفنيي الآبار الارتوازية، وحتى الصحفيين والإذاعيين.
كيف تأتى لباتريس لومومبا أن يغدو “أيقونة” مشهورة في عالم السياسة ومسرحها الدولي، وأن يصبح على قمة قائمة أبطال أفريقيا ،وهو الرجل المغمور الذي لم يعرف عالميا إلا بعد أن شهد مؤتمر شعوب أفريقيا الذي عقد بالعاصمة الغانية أكرا في ديسمبر من عام 1958م. لا ريب أن لومومبا الآن يعد من أهم أبطال أفريقيا، و أهم من يخطر على البال عند ذكر قائمة المناضلين من ساستها،لا يسبقه في ذلك الشرف العظيم إلا نيلسون مانديلا. وحتى عند المقارنة بمانديلا، نجد أن لومومبا كان له أعداء أكثر وأشد بأسا، فلقد كانت تلاحقه وكالة الأستخبارات الأميركية والمخابرات البلجيكية، ومن خلفهما حلف الناتو! ليس هذا فحسب، ولكننا نجد عند المقارنة أن مانديلا قد جاهد وقاسى، ولكنه انتصر في نهاية المطاف، بينما نعلم أن لومومبا قد خسر المعركة، وفقد سلطته وبلده بل وحياته أيضا. وربما كانت تلك هي المرة الأولى في التاريخ التي تكالب فيها تحالف فريد من قوى كانت تعد يومها الأعتى في العالم، لتسلب من رجل واحد سلطته وبلده وحياته.
وصف الكاتب البلجيكي لودو دي فيتي مقتل لومومبا بأنه “أهم اغتيال سياسي في القرن العشرين”. والعجب كل العجب أن لومومبا لم يكن قد فعل شيئا ضد من أرادوا قتله. كل ما في الأمر أنهم تصوروا أنه سيقف حجر عثرة أمام مصالحهم (و”مصالحهم” هنا يمكن أن تعني ثروات الكنغو…فهي بلد غني بكثير من الثروات التي كان من قتلوه يحسبون أنه لن يمكنهم منها). لا ينبغي النظر للومومبا نظرة الرجل الضحية الذي تكالبت عليه قوى عظمى لا قبل له بها، فأردته قتيلا، بل ينبغي أن ينظر إليه كرجل كان يعي تماما قوة من أرادوا التخلص منه، وتصدى لهم بذكاء وشجاعة وحنكة وواجههم بكل ما لديه، محاولا – حتى آخر لحظة في حياته- إنقاذ بلاده.
لم يكن للروائي “جوزيف كونراد” مؤلف “قلب الظلام” أن يتصور، ولو للحظة، صورة لومومبا وهو بين يدي جلاديه من جنود الإقليم المنشق “كاتنجا” في مدينة “اليزابيث فيل” (تسمي الآن لبومباشي) وهم يعذبون رئيس وزرائهم المنتخب، ثم يربطونه إلى جذع شجرة في غابة قريبة ويمطرونه بوابل من الرصاص. دفنه الجنود على عجل، ثم نبشوا قبره في اليوم التالي لقرب المكان الذي قبروه فيه للطريق العام، واستلوا جثته وقطعوها إربا إربا، وأذابوها في حامض الكبريتيك المركز (ماء النار). وهل كان بمقدور ذلك الروائي أن يتصور أن أحدهم كسر فك ضحيته وانتزع سنين من أسنانه ليتحفظ بهما على سبيل التذكار، وليريهما لأحفاده في بروكسل (عاصمة بلجيكا) في مقبل السنوات، مع تذكار آخر هو واحدة من الرصاصات التي قضت على الرجل؟! إن ما حدث من جريمة بشعة في تلك الغابة القريبة من مدينة “اليزابيث فيل” قبل نحو خمسين عاما مضت، كان نتيجة منطقية جدا للحملة الشرسة العنيفة التي قامت بها بلجيكا (بمساندة الولايات المتحدة) في الكنغو عام 1960م لتضمن عدم تمكين لومومبا من حكم بلاده التي انتخبته رئيسا للوزراء.
وبسبب مقتل الرجل، فلا أحد يعلم يقينا إن كان لومومبا سيصبح حاكما صالحا أم لا؟ وهذا مما يزيد من أهميته التاريخية، فهو لم يغتال كشخص، ولكن تم اغتياله كفكرة. ما هي تلك الفكرة؟ كانت الفكرة ببساطة هي قيام دولة الكنغو الحرة المستقلة غير المنحازة والمؤمنة بالوحدة الأفريقية. كان لومومبا يتمتع بقدرة عجيبة على إقامة التحالفات السياسية مع مختلف الأحزاب والكتل. فبعد انتخابات عام 1960م، تحالف مع أحزاب عديدة لتكوين حكومة ائتلافية. كانت غلطته الفادحة (والأخيرة)، والتي أودت به بعد أسابيع، هي قبوله – عن طيبة- في 24 يونيو 1960م بمعارضه السيد “كازافوبو” كرئيس للجمهورية. كان “كازافوبو” في واقع الأمر عميلا بلجيكيا بالغ الخطورة. ملأ البلجيكيون جيوب الرجل بالمال، ورأسه بكلام معسول محرض عن أن لومومبا شاب غر قليل التجربة، وعن أنه يجب عليه أن يحد من غلوه وتطرفه، وأن يتصدى له؛ بل وزرع البلجيكيون في مكتب لومومبا الرئاسي عميلهم جوزيف موبوتو (الذي غدا بعد سنوات حاكم البلاد لسنوات طويلة) ليعمل كمساعد و”يد يمنى” لرئيس الوزراء. كان البلجيكيون قد سبق لهم تجنيد جوزيف موبوتو عند حضوره لأحد المعارض في بروكسل التي كان يقيم فيها كطالب يدرس “الصحافة”.
تكالبت على لومومبا عوامل خارجية (تمثلت في بلجيكا ومن خلفها الولايات المتحدة)، وعوامل داخلية تمثلت في ثلة من العملاء والمعارضين والانفصاليين، الذين نجحوا أخيراً في القضاء عليه وعلى حلمه بوطن حر ومستقل وغير منحاز ومؤمن بالوحدة الأفريقية .
هذا تلخيص موجز لبعض ما جاء في مقال عن الزعيم الكنغولي المناضل باتريس لومومبا الذي عمل لأسابيع قليلة كرئيس وزراء الكنغو في بداية ستينات القرن الماضي. نشر المقال في مجلة “نيو آفريكان” العدد 505 بتاريخ أبريل 2011م .
التحق في عام 1955م بالحزب الليبرالي البلجيكي موزعا لمطبوعات الحزب، وفي ذات العام دبرت له تهمة كاذبة من أنه اختلس أموالا من البريد فسجن وأطلق سراحه بعد عام من الاعتقال. في عام 1958م كون مع زملائه حركة وطنية كانت تؤمن بالوحدة الأفريقية (تأثرا بأفكار كوامي نيكروما الزعيم الغاني)، وبعدها بعام اعتقل لتنظيمه مظاهرات ضد المستعمر البلجيكي، وفي عام 1960م حضر مؤتمر مائدة مستديرة في بلجيكا لتقرير مصير الكنغو، أعقبته انتخابات عامة كسبها حزبه متحالفا مع آخرين. وانتخب لومومبا رئيساً للوزراء وكازافوبو رئيسا للجمهورية. بعد عشرة أسابيع من انتخابه انقلب عليه الجيش (بقيادة موبوتو)، وتم اعتقاله واغتياله في ظروف غامضة تتهم فيها مخابرات بلجيكا والولايات المتحدة. استمرت “أزمة الكنغو” (والتي شملت فيما بعد انفصال إقليم “كاتنجا” من الكنغو) حتى عام 1966م. و لقي حتفه في أثناء تلك الأزمة داج همرشولد أمين عام الأمم المتحدة في حادث طائرة في سماء الكونغو، لا يزال غامضا. يجدر هنا التذكير بأن السودان كان من ضمن الدول التي بعثت بقوات للكنغو في تلك الأيام لحفظ السلام هنالك، رغم أن قوى سياسية عديدة في السودان كانت تتهم حكومة الفريق عبود بخذلان لومومبا في محنته، والضلوع (ولو بطريق غير مباشر) مع الغرب في عملية تصفيته التي حدثت في يناير 1961م بعد تعذيب وحشي على يد جنود كاتنجا بقيادة من وصف ب”العميل الانفصالي” تشومبي”.
بمقدوري أن أتذكر ذلك اليوم تماما كما أتذكر الأمس…قبل خمسين عاما بالتحديد، عندما أعلن رئيس غانا د/كوامي نيكروما عبر إذاعته لبيان خاص للأمة وبصوت حزين النبرات عن أنه تلقي معلومات تفيد بأن رئيس وزراء الكنغو “باتريس لومومبا” قد اغتيل.
تم اعتقال لومومبا أولا بواسطة جنود يتبعون لموبوتو، ثم أرسل إلى مقاطعة “كاتنجا”، حيث مقر رئيسها وألد أعدائه “مويس تشومبي”، وقواته الانفصالية التي كانت تسيطر على الإقليم رغما عن وجود قوات للأمم المتحدة به. لم يفصح الرئيس الغاني نيكروما بالطبع عن مصدر معلوماته، بيد أن الجميع كان يعلم أن للرجل صلات وثيقة بالإتحاد السوفيتي، والذي كان يملك جهازا قويا للمخابرات واسع الإطلاع، لذا لم يتطرق الشك لذهن أحد من سامعيه بأن ما أتى به هو خبر يقين. أعطى نيكروما مزيدا من التفاصيل عن عملية الاغتيال، فصرح أن شرطيا بلجيكيا هو من قتل لومومبا. كان الجميع يظن أن نيكروما كان يتنبأ أو يفترض مجرد افتراض أن جنسية القاتل لابد أن تكون بلجيكية، حتى تم نشر كتاب في بلجيكا في عام 2001م بعنوان “اغتيال باتريس لومومبا” للكاتب البلجيكي لودو دي فيتي أظهر للملأ تفاصيل ما جرى بالفعل، وتبين صدق ما قاله نيكروما قبل نحو خمسين عاما.
صدم الغانيون للنبأ الحزين الذي أتى به نيكروما، فلقد ظل رئيسهم يحرص على إخبارهم بمحاولاته المتواصلة لإنقاذ لومومبا من مؤامرات البلجيكيين وحيلهم، بل وأرسل بقوات من جيشه للكنغو في أول سابقة من نوعها لجيش من دولة أفريقية مستقلة ليخدم في أراضي دولة أفريقية مستقلة أخرى. لم يكتف بذلك، بل بعث بجيش من الخبراء من كل صنف…الأطباء والمهندسين وفنيي الآبار الارتوازية، وحتى الصحفيين والإذاعيين.
كيف تأتى لباتريس لومومبا أن يغدو “أيقونة” مشهورة في عالم السياسة ومسرحها الدولي، وأن يصبح على قمة قائمة أبطال أفريقيا ،وهو الرجل المغمور الذي لم يعرف عالميا إلا بعد أن شهد مؤتمر شعوب أفريقيا الذي عقد بالعاصمة الغانية أكرا في ديسمبر من عام 1958م. لا ريب أن لومومبا الآن يعد من أهم أبطال أفريقيا، و أهم من يخطر على البال عند ذكر قائمة المناضلين من ساستها،لا يسبقه في ذلك الشرف العظيم إلا نيلسون مانديلا. وحتى عند المقارنة بمانديلا، نجد أن لومومبا كان له أعداء أكثر وأشد بأسا، فلقد كانت تلاحقه وكالة الأستخبارات الأميركية والمخابرات البلجيكية، ومن خلفهما حلف الناتو! ليس هذا فحسب، ولكننا نجد عند المقارنة أن مانديلا قد جاهد وقاسى، ولكنه انتصر في نهاية المطاف، بينما نعلم أن لومومبا قد خسر المعركة، وفقد سلطته وبلده بل وحياته أيضا. وربما كانت تلك هي المرة الأولى في التاريخ التي تكالب فيها تحالف فريد من قوى كانت تعد يومها الأعتى في العالم، لتسلب من رجل واحد سلطته وبلده وحياته.
وصف الكاتب البلجيكي لودو دي فيتي مقتل لومومبا بأنه “أهم اغتيال سياسي في القرن العشرين”. والعجب كل العجب أن لومومبا لم يكن قد فعل شيئا ضد من أرادوا قتله. كل ما في الأمر أنهم تصوروا أنه سيقف حجر عثرة أمام مصالحهم (و”مصالحهم” هنا يمكن أن تعني ثروات الكنغو…فهي بلد غني بكثير من الثروات التي كان من قتلوه يحسبون أنه لن يمكنهم منها). لا ينبغي النظر للومومبا نظرة الرجل الضحية الذي تكالبت عليه قوى عظمى لا قبل له بها، فأردته قتيلا، بل ينبغي أن ينظر إليه كرجل كان يعي تماما قوة من أرادوا التخلص منه، وتصدى لهم بذكاء وشجاعة وحنكة وواجههم بكل ما لديه، محاولا – حتى آخر لحظة في حياته- إنقاذ بلاده.
لم يكن للروائي “جوزيف كونراد” مؤلف “قلب الظلام” أن يتصور، ولو للحظة، صورة لومومبا وهو بين يدي جلاديه من جنود الإقليم المنشق “كاتنجا” في مدينة “اليزابيث فيل” (تسمي الآن لبومباشي) وهم يعذبون رئيس وزرائهم المنتخب، ثم يربطونه إلى جذع شجرة في غابة قريبة ويمطرونه بوابل من الرصاص. دفنه الجنود على عجل، ثم نبشوا قبره في اليوم التالي لقرب المكان الذي قبروه فيه للطريق العام، واستلوا جثته وقطعوها إربا إربا، وأذابوها في حامض الكبريتيك المركز (ماء النار). وهل كان بمقدور ذلك الروائي أن يتصور أن أحدهم كسر فك ضحيته وانتزع سنين من أسنانه ليتحفظ بهما على سبيل التذكار، وليريهما لأحفاده في بروكسل (عاصمة بلجيكا) في مقبل السنوات، مع تذكار آخر هو واحدة من الرصاصات التي قضت على الرجل؟! إن ما حدث من جريمة بشعة في تلك الغابة القريبة من مدينة “اليزابيث فيل” قبل نحو خمسين عاما مضت، كان نتيجة منطقية جدا للحملة الشرسة العنيفة التي قامت بها بلجيكا (بمساندة الولايات المتحدة) في الكنغو عام 1960م لتضمن عدم تمكين لومومبا من حكم بلاده التي انتخبته رئيسا للوزراء.
وبسبب مقتل الرجل، فلا أحد يعلم يقينا إن كان لومومبا سيصبح حاكما صالحا أم لا؟ وهذا مما يزيد من أهميته التاريخية، فهو لم يغتال كشخص، ولكن تم اغتياله كفكرة. ما هي تلك الفكرة؟ كانت الفكرة ببساطة هي قيام دولة الكنغو الحرة المستقلة غير المنحازة والمؤمنة بالوحدة الأفريقية. كان لومومبا يتمتع بقدرة عجيبة على إقامة التحالفات السياسية مع مختلف الأحزاب والكتل. فبعد انتخابات عام 1960م، تحالف مع أحزاب عديدة لتكوين حكومة ائتلافية. كانت غلطته الفادحة (والأخيرة)، والتي أودت به بعد أسابيع، هي قبوله – عن طيبة- في 24 يونيو 1960م بمعارضه السيد “كازافوبو” كرئيس للجمهورية. كان “كازافوبو” في واقع الأمر عميلا بلجيكيا بالغ الخطورة. ملأ البلجيكيون جيوب الرجل بالمال، ورأسه بكلام معسول محرض عن أن لومومبا شاب غر قليل التجربة، وعن أنه يجب عليه أن يحد من غلوه وتطرفه، وأن يتصدى له؛ بل وزرع البلجيكيون في مكتب لومومبا الرئاسي عميلهم جوزيف موبوتو (الذي غدا بعد سنوات حاكم البلاد لسنوات طويلة) ليعمل كمساعد و”يد يمنى” لرئيس الوزراء. كان البلجيكيون قد سبق لهم تجنيد جوزيف موبوتو عند حضوره لأحد المعارض في بروكسل التي كان يقيم فيها كطالب يدرس “الصحافة”.
تكالبت على لومومبا عوامل خارجية (تمثلت في بلجيكا ومن خلفها الولايات المتحدة)، وعوامل داخلية تمثلت في ثلة من العملاء والمعارضين والانفصاليين، الذين نجحوا أخيراً في القضاء عليه وعلى حلمه بوطن حر ومستقل وغير منحاز ومؤمن بالوحدة الأفريقية .
هذا تلخيص موجز لبعض ما جاء في مقال عن الزعيم الكنغولي المناضل باتريس لومومبا الذي عمل لأسابيع قليلة كرئيس وزراء الكنغو في بداية ستينات القرن الماضي. نشر المقال في مجلة “نيو آفريكان” العدد 505 بتاريخ أبريل 2011م .