يرى إبراهيم العريس أنه لم يكن خوض إيكو الكتابة الروائية منذ البداية سوى نوع من تزجية الوقت، نوع من المزاح. بل لنقل ان معظم ما كتبه في هذا السياق يبدو أقرب الى الفكر منه الى العمل الروائي. إيكو استخدم السرد الروائي، غالباً، لإيصال أفكار، او لدحض افكار، وليس للتوغل في حيوات شخصيات أو تصوير علاقات. بدا غالباً وكأنه يحوّل التاريخ – نوعاً خاصاً من التاريخ – إلى سرد روائي وليس العكس. كان ذلك دأبه منذ «اسم الوردة» – التي زاد تحويلها فيلماً من شعبيتها، وأنقص من قيمتها الفكرية -. فهو في هذه الرواية انما أراد ان يقدم اطروحة ضد الجمود الفكري وضد غلبة التزمت على متعة الفكر والحياة. وهو لئن وضع روايته الأولى تلك في العصور الوسطى وفي مكان يحرّم رؤساؤه قراءة ما كتبه ارسطو عن الشعر ووصل الى هناك من طريق ابن رشد وغيره من المفكرين والمترجمين العرب، كان من الواضح أن قراءه أدركوا – وقراؤه دائماً من الصنف الذكي – أن مرافعته في الرواية معاصرة وحديثة، وأن حبكتها البوليسية تنتمي إلى أيامنا وليس إلى العصور الوسطى.
( ينظر: ابراهيم العريس، «بندول فوكو» لأمبرتو إيكو: حين يتسلى الفيلسوف بـ «المؤامرة الكونية»، صحيفة الحياة، الثلاثاء 23 شباط 2016م، على الرابط الآتي:http://www.alhayat.com/m/opinion/14109852…).
تتكلم رواية أمبرتو إيكو الأخرى "العدد صفر" (دار العربي الجديد) عن رجل إيطالي من منطقة تريستي المحاذية للنمسا، وعن تعلّمه اللغة الألمانية منذ صغره، دون الانتهاء من دراسته الجامعية، لأنه شُغل بترجمة كتب ألمانية من الدرجة الرابعة. ولكنه سرعان ما ملّ من هذا العمل، فأصبح مربياً لطفل ألماني غبي لمدة سنة. وانتهى أخيراً إلى مراجعة الكتب لثلاث دور نشر. وتزوّج، وفشل بسرعة في زواجه. فصار يؤلف روايات بوليسية للآخرين. وفي الخمسين من عمره تحوّل إلى الصحافة. رواية " العدد صفر"، هي الرواية الأخيرة التي نشرها أمبرتو إيكو عام 2015 قبيل رحيله بأشهر والتي ترجمها من الإيطالية إلى العربية المترجم اللامع أحمد الصمعي، الذي سبق له أن ترجم أربعة كتب لهذا الكاتب العملاق المختص أساسياً بالسيميائية والذي ترجمت روايته "اسم الوردة" إلى أكثر من ثلاثين لغة، وأصبحت فيلماً مشهوراً..
( ينظر: جمال شحيّد، أمبرتو إيكو يهجو الصحافة في رواية "العدد صفر"، ضفة ثالثة،
6 مارس 2017م، على الرابط الآتي:https://www.alaraby.co.uk/…/أمبرتو-إيكو-يهجو-الصحافة-في-روا… ).
يعترف إيكو في سياق عرضه لطريقته في الكتابة، أن كل رواية من رواياته كانت حاصل فكرة تملّكته. ففي رواية «جزيرة اليوم السابق»، أراد أن يخرج من الفضاءات الضيّقة في رواياته السابقة، إلى فضاء أوسع فأرسل بطله إلى جزيرة خالية من السكان. أما في رواية «اسم الوردة» عبّرت عن تعلّقه بصورة راهب تسمّم وهو يقرأ كتاباً. صورة مرتبطة بذكرى تجربة عاشها وهو في السادسة من عمره، أما في «بندول فوكو»، فكانت هناك صورتان عالقتان في ذهنه. الصورة الأولى خاصة بندول ليون فوكو الذي رآه أوّل مرة منذ ثلاثين سنة في باريس وأثار دهشته. أما الصورة الثانية فهي صورته وهو يلعب بآلة الترومبيت في مراسم دفن مقاوم إيطالي. ويعترف إيكو أنه حتى عام 1978، عام صدور روايته «اسم الوردة» وكان قد بلغ الخمسين من عمره، كان سعيداً لكونه سيميائياً وفيلسوفاً، أما بعد صدور هذه الرواية فأصبح أكثر سعادة لأنه اكتسب لقب روائي.
( ينظر: ابراهيم العريس، «بندول فوكو» لأمبرتو إيكو: حين يتسلى الفيلسوف بـ «المؤامرة الكونية»، المقال السابق)…
يقول أمبرتو إيكو: " وهكذا، وإلى حدود عام 1978، كنت سعيداً لكوني كنت فيلسوفاً وسيميائياً، بل قلت في إحدى المرات، بقليل من الوقاحة الأفلاطونية، إنني أعتبر الشعراء والفنانين عامة أسرى أكاذيبهم الخاصة، فهم يحاكون المحاكاة، والحال أنني، باعتباري فيلسوفاً، أمتلك مفاتيح العالم الأفلاطوني الحقيقي للأفكار".
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 20).
ويبين إيكو كيف حصل معه التفكير في كتابة رواية، فيقول: " في بداية سنة 1978 قالت لي صديقة كانت تشتغل في دار نشر صغيرة إنها طلبت من غير الروائيين ( فيلسوف، سوسيولوجي.... إلى آخر) أن يكت كل واحد منهم قصة بوليسية صغيرة، فأجبتها، لأسباب أشرت إليها سابقاً، بأنني لا أهتم بالكتابة الإبداعية، وأنني عاجز عن كتابة حوار جيد. وقد ختمت ردي بقول استفزازي ( ولا أعرف سبب ذلك): إذا كنت مضطراً لكتابة قصة موضوعها تحريات جنائية، فإن عدد صفحات الرواية لن يكون أقل من 500 صفحة، وستدور أحداث القصة في دير قروسطي. وشرحت لي صديقتي بأنها لا تريد نشر كتاب حول التغذية الرديئة، وتوقف الأمر عند هذا الحد.
وبمجرد ما عدت إلى منزلي، يقول أمبرتو إيكو، بدأت أبحث في أدراج مكتبي لأعثر على مسودة تعود إلى السنة التي سبقت هذا الحوار: يتعلق الأمر بورقة دونت فيها أسماء بعض الرهبان. وقد نظرت إلى ذلك باعتباره دلالة على أن فكرة الرواية كانت قد بدأت تختمر في داخلي، لكنني لم أكن واعياً بذلك... هذا كل ما في الأمر. وتلك كانت بداية كتابة روايتي: إسم الوردة".
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 22).
ويعترف أمبرتو إيكو أن كتابة رواية ( إسم الوردة ) تطلب فقط سنتين، لسبب بسيط هو أنه لم يكن محتاجاً القيام ببحث في القرون الوسطى، فإن أطروحته للدكتوراه كانت عن الجماليات القروسطية، وقد أنجز أبحاثاً أخرى في نفس المدة، ولديه خبرة كبيرة في الموضوع بحكم تخصصه، وعندما قرر كتابة الرواية، كان الأمر كما لو أنه يفتح رفاً كبيراً حيث كانت ملفاته مكدسة من أما بالنسبة لرواياته اللاحقة، فقد كان الأمر مختلفاً، ولهذا تطلبت وقتاً أطول: ثمان سنوات من أجل كتابة بندول فوكو، وست سنوات لجزيرة الْيَوْمَ السابق، وأربع سنوات لكتابة الشعلة الغامضة للملكة لوانا، والرواية أخذت وقتاً أقصر لأنها استندت لقرائاته في الطفولة، في الثلاثينيات والأربعينات، وكانت المادة الأولية في حوزته، من مثل الشرائط المصورة والتسجيلات والمجلات والجرائد، وحنينه ولمسات مختلفة أخرى...
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 25- 26).
كان أمبرتو إيكو يجمع الوثائق ويزور الأماكن ويرسم الخرائط، ويدون تصميم البنايات، ويصمم البواخر، كما حدث في جزيرة الْيَوْمَ السابق. أما في إسم الوردة فقد قام بإنجاز بورتريهات لكل شخصية، وكان يقضي سنوات التحضير في ما يشبه القصر المسحور. لا أحد كان على علم بما كان يقوم به، بمن فيهم أفراد عائلته، كان يوهمهم بأنه مشغول بأشياء كثيرة، فقد كان إهتمامه منصباً على التقاط فكرة أو كلمات أو صور تخص روايته. فإذا رأى، وهو يكتب عن القرون الوسطى، سيارة تمر في الشارع يؤثر فيه لونها فإنه يدون هذه التجربة في كراسته أو فقط في ذهنه. وحين كان يحضر لروايته بندول فوكو، فإنه قضى ليال بأكملها يتجول في ردهات معهد الفنون والحرف في باريس، حيث تدور أحداث القصة إلى أن يغلق أبوابه. ومن أجل وصف تجوال كاسوبون ليلاً في باريس من المعهد إلى ساحة ليفوج، ثم إلى برج إيفل، قضى ليالي كثيرة يتجول في المدينة بين الثانية والثالثة صباحاً يهمس في مسجل، مدوناً ملاحظاته حول ما يرى، ولكي لا يخطئ في أسماء الأزقة. ومن أجل التحضير لكتابة جزيرة الْيَوْمَ السابق قام بزيارة بحار الجنوب، في المكان الذي تدور فيه أحدث الكتاب، من أجل مراقبة البحر والسماء على مدار الساعات. وخصص سنتين أو ثلاثة في دراسة الرسوم ونماذج البواخر التي كانت ستعمل في تلك المدة من أجل معرفة أبعاد حجرة القبطان، وكيف يمكن أن يتحرك شخص بداخلها.
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 25- 26).
ويتحدث إيكو عن المؤلف والنص فيشير أن النص ليس مفتوحاً، وذلك في حدود أنه متولد عن التعامل مع ممكنات إنسانية. فعندما نؤلف نصاً ما فإننا نقلص من حقل الإختبارات اللسانية الممكنة. إن النص وهو يقلص من الممكنات المولدة للمسارات اللسانية، يقلص من بعض التأويلات الممكنة. إن القول بأن تأويل نص ما قد يكون لا متناهياً لا يعني أن التأويل لا موضوع له، وأنه لا وجود لأي شيء يمكن أن يتوقف عنده سواء تعلق الأمر بواقعة أو بنص. والقول أن النص قد يكون بلا نهاية، لا يعني أن كل عملية تأويلية يمكن أن تكون لها نهاية سعيدةء. إن القراءة الصحيحة لنص ما، حسب بعض النظريات النقدي المعاصرة، هي قراءة خاطئة، وإن النص لا يمكن أن يوجد إلا من خلال سلسلة ردود الأفعال التي يستثيرها.
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 50- 51).
إن التعرف على قصد النص هو تعرف على إستراتيجية سيميائية. ويمكن في بعض الأحيان الإمساك بهذه الإستراتيجية إنطلاقًاً من أعراف أسلوبية سائدة. فإذا بدأت القصة ب: " حدث ذات مرة"فإنها تعبر عن قصة خرافية، أو أنها تتضمن نفساً ساحراً، ومن ثم فإن النص الذي سيأتي يجب أن يكون موضوعاً لقراءة دقيقة. ومع ذاك، فإن الإهم في هذا هو أن النص أوهمنا بأنه يبدأ بداية الخرافات، حتى وإن كان من الجلي أن الغاية كانت هي هذه القراءة بالذات
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 55).
ويقدم امبرتو إيكو ملاحظات حول الشخصيات التخيلية، فيبين أن النصوص التخيلية تتحدث بطبيعتها عن أحداث وكائنات لا وجود لها، ولهذا السبب بالذات تقوم بتعطيل الشك فينا. وتبعاً لذلك يؤكد إثبات تخيلي من جهة نظر دلالية قائمة على الشرط التصديري، دائماً شيئاً مخالفاً للواقع. ومع ذلك لا ننظر إلى الإثباتات التخيلية على شنها أكاذيب، أو لا نعقد، ونحن نقرأ عملاً تخيلياً، ميثاقاً ضمنياً مع مؤلفه الذي يتظاهر بأن ما يكتبه صحيح، ويدعونا إلى التظاهر بأننا نأخذ ما يقوله على محمل الجد. يتصور كل روائي عالماً ممكناً وتكون كل أفكارنا حول الصحيح والخاطئ متصلة بهذا العالم.
لا تضع النصوص التخيلية، حتى ولو كانت خرافات أو محميات من العلم الخيالي، قصتها في عالم مختلف كلياً عن عالمنا. فحتى في الحالة التي تتحدث عن غابة، فإن هذه الغابة ستكون شبيهة تقريباً نعرفها في عالمنا حيث تعتبر الأشجار نباتات وليس معادن. فإذا قيل لنا من منطق المغامرات، إن الغابة المقصودة مصنوعة من الأشجار المعدنية، فأن مقولتي الشجرة ومعدنية يجب أن تكونا هما ذاتهما كذلك في عالمنا الواقعي. وعادة ما يختار النص التخيلية وضع قصته في عوالم المعيش اليومي، على الأقل فيما يخص خصائصه الأساسية.
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 91- 92).
وقيل، كما يضيف إيكو، أن الشخصيات التخيلية غير محددة، أي أننا لا نعرف عنها سوى بعض من خصائصها، في حين شن الشخصيات الواقعية هي شخصيات محددة بشكل كامل، وأننا قادرون على إستخلاص كل خصائصها المعروفة. فإذا كان هذا صحيحاً من جهة نظر ابستيمولوجية، هو النقيض تماماً: فلا أحد يُزعم أنه قادر على تعداد كل خصائص شخص أو فصيلة ما، وهي خصائص قد تكون لا متناهية. في حين أن خصائص الشخصيات التخيلية هي خصائص محددة ضمن النص السردي، والخصائص التي يشير إليها النص ستكون وحدها أداتنا في التعرف إليها.
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 95).
ومن التقنيات التي يعتمدها أمبرتو أيكو في روايته ( تقنية اللوائح)، فيشير إلى أنه لم يكن في بداية حياته كمؤلف لأعمال تخيلية ميله إلى هذه اللوائح. وبعد أن كتب خمس روايات ومحاولات أدبية أخرى أصبح بإمكانه تحديد لائحة تامة لكل لوائحه. ولكن هذا المجهود سيتطلب كثيراً من الوقت، ولهذا يكتفي بذكر البعض من حالات التعداد في تجربته، ويقارنها، دليلاً على التواضع، ببعض الكتالوجات في تاريخ الأدب العالمي. ومن هذه اللوائح التي يذكرها ( اللوائح العملية واللوائح الشعرية). ويميز بين اللوائح العملية أو البراغماتية وبين اللوائح الأدبية والشعرية. ويبين أنه يمكن للائحة عملية أن تكون خاصة بمشتريات، أو تكون كاتالوغ مكتبة أو جرداً للأشياء الموجودة في مكان ما ( مثلاً مكتب، أرشيف، متحف )، أو لائحة الوجبات التي يقدمها مطعم، أو قد تكون قاموساً يضم كل مفردات لغة ما. إن وظيفة هذه اللوائح هي وظيفة مرجعية خالصة، ذلك أن عناصرها تحيل على أشياء تتطابق مع مسمياتها. فإذا كانت هذه الأشياء غير موجودة، فإن اللائحة لن تكون سوى وثيقة مزيفة. وبما أن هذه اللوائح تشير إلى أشياء موجودة، فإنها يجب أن تكون محدودة، أي حاضرة من خلال وجودها المادي في مكان ما. ولهذا السبب لا يمكن تغييرها ( بالمعنى الذي يكون فيه من العبث أن ندرج في كاتالوغ متحف لوحة لا تنتمي إلى مجموعة من مجموعاته). وعلى العكس من ذلك، فإن اللوائح الشعرية هي لوائح مفتوحة، وتفترض بشكل من الأشكال، الصيغة الاتية: إلى اخره. إنه تهدف إلى إثارة ما لا يحصى من الشخصيات والأشياء أو الأحداث، لأن الكاتب يدرك أن كمية الأحداث كبيرة، لدرجة أنه لا يستطيع تسجيلها جميعها، ولأن الكاتب يستمتع أيضاً بتعداد لا نهاية له، ويتعلق الأمر أحياناً بلذة سمعية. تشتغل اللوائح العملية، بطريقتها الخاصة، بعدها شكلاً، ذلك أنها تضفي وحدة على مجموعة من الأشياء التي تخضع، رغم اختلافها، لإكراهات سياقية، فيما يجمع بينها هو كونها موجودة في المكان نفسه فقط، أو لأنها غاية لمشروع ما ( كما هو الحال مع لائحة المدعوين إلى حفل ما). ولا يمكن للائحة عملية أن تكون مضافاً بلا قيمة، فهي محددة فقط من خلال المعيار الذي تم بواسطته تجميع الأشياء التي تضمها.
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 134 - 138 ).
رواء محمود حسين
الحوار المتمدن-العدد: 5742 - 2017 / 12 / 30
( ينظر: ابراهيم العريس، «بندول فوكو» لأمبرتو إيكو: حين يتسلى الفيلسوف بـ «المؤامرة الكونية»، صحيفة الحياة، الثلاثاء 23 شباط 2016م، على الرابط الآتي:http://www.alhayat.com/m/opinion/14109852…).
تتكلم رواية أمبرتو إيكو الأخرى "العدد صفر" (دار العربي الجديد) عن رجل إيطالي من منطقة تريستي المحاذية للنمسا، وعن تعلّمه اللغة الألمانية منذ صغره، دون الانتهاء من دراسته الجامعية، لأنه شُغل بترجمة كتب ألمانية من الدرجة الرابعة. ولكنه سرعان ما ملّ من هذا العمل، فأصبح مربياً لطفل ألماني غبي لمدة سنة. وانتهى أخيراً إلى مراجعة الكتب لثلاث دور نشر. وتزوّج، وفشل بسرعة في زواجه. فصار يؤلف روايات بوليسية للآخرين. وفي الخمسين من عمره تحوّل إلى الصحافة. رواية " العدد صفر"، هي الرواية الأخيرة التي نشرها أمبرتو إيكو عام 2015 قبيل رحيله بأشهر والتي ترجمها من الإيطالية إلى العربية المترجم اللامع أحمد الصمعي، الذي سبق له أن ترجم أربعة كتب لهذا الكاتب العملاق المختص أساسياً بالسيميائية والذي ترجمت روايته "اسم الوردة" إلى أكثر من ثلاثين لغة، وأصبحت فيلماً مشهوراً..
( ينظر: جمال شحيّد، أمبرتو إيكو يهجو الصحافة في رواية "العدد صفر"، ضفة ثالثة،
6 مارس 2017م، على الرابط الآتي:https://www.alaraby.co.uk/…/أمبرتو-إيكو-يهجو-الصحافة-في-روا… ).
يعترف إيكو في سياق عرضه لطريقته في الكتابة، أن كل رواية من رواياته كانت حاصل فكرة تملّكته. ففي رواية «جزيرة اليوم السابق»، أراد أن يخرج من الفضاءات الضيّقة في رواياته السابقة، إلى فضاء أوسع فأرسل بطله إلى جزيرة خالية من السكان. أما في رواية «اسم الوردة» عبّرت عن تعلّقه بصورة راهب تسمّم وهو يقرأ كتاباً. صورة مرتبطة بذكرى تجربة عاشها وهو في السادسة من عمره، أما في «بندول فوكو»، فكانت هناك صورتان عالقتان في ذهنه. الصورة الأولى خاصة بندول ليون فوكو الذي رآه أوّل مرة منذ ثلاثين سنة في باريس وأثار دهشته. أما الصورة الثانية فهي صورته وهو يلعب بآلة الترومبيت في مراسم دفن مقاوم إيطالي. ويعترف إيكو أنه حتى عام 1978، عام صدور روايته «اسم الوردة» وكان قد بلغ الخمسين من عمره، كان سعيداً لكونه سيميائياً وفيلسوفاً، أما بعد صدور هذه الرواية فأصبح أكثر سعادة لأنه اكتسب لقب روائي.
( ينظر: ابراهيم العريس، «بندول فوكو» لأمبرتو إيكو: حين يتسلى الفيلسوف بـ «المؤامرة الكونية»، المقال السابق)…
يقول أمبرتو إيكو: " وهكذا، وإلى حدود عام 1978، كنت سعيداً لكوني كنت فيلسوفاً وسيميائياً، بل قلت في إحدى المرات، بقليل من الوقاحة الأفلاطونية، إنني أعتبر الشعراء والفنانين عامة أسرى أكاذيبهم الخاصة، فهم يحاكون المحاكاة، والحال أنني، باعتباري فيلسوفاً، أمتلك مفاتيح العالم الأفلاطوني الحقيقي للأفكار".
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 20).
ويبين إيكو كيف حصل معه التفكير في كتابة رواية، فيقول: " في بداية سنة 1978 قالت لي صديقة كانت تشتغل في دار نشر صغيرة إنها طلبت من غير الروائيين ( فيلسوف، سوسيولوجي.... إلى آخر) أن يكت كل واحد منهم قصة بوليسية صغيرة، فأجبتها، لأسباب أشرت إليها سابقاً، بأنني لا أهتم بالكتابة الإبداعية، وأنني عاجز عن كتابة حوار جيد. وقد ختمت ردي بقول استفزازي ( ولا أعرف سبب ذلك): إذا كنت مضطراً لكتابة قصة موضوعها تحريات جنائية، فإن عدد صفحات الرواية لن يكون أقل من 500 صفحة، وستدور أحداث القصة في دير قروسطي. وشرحت لي صديقتي بأنها لا تريد نشر كتاب حول التغذية الرديئة، وتوقف الأمر عند هذا الحد.
وبمجرد ما عدت إلى منزلي، يقول أمبرتو إيكو، بدأت أبحث في أدراج مكتبي لأعثر على مسودة تعود إلى السنة التي سبقت هذا الحوار: يتعلق الأمر بورقة دونت فيها أسماء بعض الرهبان. وقد نظرت إلى ذلك باعتباره دلالة على أن فكرة الرواية كانت قد بدأت تختمر في داخلي، لكنني لم أكن واعياً بذلك... هذا كل ما في الأمر. وتلك كانت بداية كتابة روايتي: إسم الوردة".
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 22).
ويعترف أمبرتو إيكو أن كتابة رواية ( إسم الوردة ) تطلب فقط سنتين، لسبب بسيط هو أنه لم يكن محتاجاً القيام ببحث في القرون الوسطى، فإن أطروحته للدكتوراه كانت عن الجماليات القروسطية، وقد أنجز أبحاثاً أخرى في نفس المدة، ولديه خبرة كبيرة في الموضوع بحكم تخصصه، وعندما قرر كتابة الرواية، كان الأمر كما لو أنه يفتح رفاً كبيراً حيث كانت ملفاته مكدسة من أما بالنسبة لرواياته اللاحقة، فقد كان الأمر مختلفاً، ولهذا تطلبت وقتاً أطول: ثمان سنوات من أجل كتابة بندول فوكو، وست سنوات لجزيرة الْيَوْمَ السابق، وأربع سنوات لكتابة الشعلة الغامضة للملكة لوانا، والرواية أخذت وقتاً أقصر لأنها استندت لقرائاته في الطفولة، في الثلاثينيات والأربعينات، وكانت المادة الأولية في حوزته، من مثل الشرائط المصورة والتسجيلات والمجلات والجرائد، وحنينه ولمسات مختلفة أخرى...
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 25- 26).
كان أمبرتو إيكو يجمع الوثائق ويزور الأماكن ويرسم الخرائط، ويدون تصميم البنايات، ويصمم البواخر، كما حدث في جزيرة الْيَوْمَ السابق. أما في إسم الوردة فقد قام بإنجاز بورتريهات لكل شخصية، وكان يقضي سنوات التحضير في ما يشبه القصر المسحور. لا أحد كان على علم بما كان يقوم به، بمن فيهم أفراد عائلته، كان يوهمهم بأنه مشغول بأشياء كثيرة، فقد كان إهتمامه منصباً على التقاط فكرة أو كلمات أو صور تخص روايته. فإذا رأى، وهو يكتب عن القرون الوسطى، سيارة تمر في الشارع يؤثر فيه لونها فإنه يدون هذه التجربة في كراسته أو فقط في ذهنه. وحين كان يحضر لروايته بندول فوكو، فإنه قضى ليال بأكملها يتجول في ردهات معهد الفنون والحرف في باريس، حيث تدور أحداث القصة إلى أن يغلق أبوابه. ومن أجل وصف تجوال كاسوبون ليلاً في باريس من المعهد إلى ساحة ليفوج، ثم إلى برج إيفل، قضى ليالي كثيرة يتجول في المدينة بين الثانية والثالثة صباحاً يهمس في مسجل، مدوناً ملاحظاته حول ما يرى، ولكي لا يخطئ في أسماء الأزقة. ومن أجل التحضير لكتابة جزيرة الْيَوْمَ السابق قام بزيارة بحار الجنوب، في المكان الذي تدور فيه أحدث الكتاب، من أجل مراقبة البحر والسماء على مدار الساعات. وخصص سنتين أو ثلاثة في دراسة الرسوم ونماذج البواخر التي كانت ستعمل في تلك المدة من أجل معرفة أبعاد حجرة القبطان، وكيف يمكن أن يتحرك شخص بداخلها.
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 25- 26).
ويتحدث إيكو عن المؤلف والنص فيشير أن النص ليس مفتوحاً، وذلك في حدود أنه متولد عن التعامل مع ممكنات إنسانية. فعندما نؤلف نصاً ما فإننا نقلص من حقل الإختبارات اللسانية الممكنة. إن النص وهو يقلص من الممكنات المولدة للمسارات اللسانية، يقلص من بعض التأويلات الممكنة. إن القول بأن تأويل نص ما قد يكون لا متناهياً لا يعني أن التأويل لا موضوع له، وأنه لا وجود لأي شيء يمكن أن يتوقف عنده سواء تعلق الأمر بواقعة أو بنص. والقول أن النص قد يكون بلا نهاية، لا يعني أن كل عملية تأويلية يمكن أن تكون لها نهاية سعيدةء. إن القراءة الصحيحة لنص ما، حسب بعض النظريات النقدي المعاصرة، هي قراءة خاطئة، وإن النص لا يمكن أن يوجد إلا من خلال سلسلة ردود الأفعال التي يستثيرها.
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 50- 51).
إن التعرف على قصد النص هو تعرف على إستراتيجية سيميائية. ويمكن في بعض الأحيان الإمساك بهذه الإستراتيجية إنطلاقًاً من أعراف أسلوبية سائدة. فإذا بدأت القصة ب: " حدث ذات مرة"فإنها تعبر عن قصة خرافية، أو أنها تتضمن نفساً ساحراً، ومن ثم فإن النص الذي سيأتي يجب أن يكون موضوعاً لقراءة دقيقة. ومع ذاك، فإن الإهم في هذا هو أن النص أوهمنا بأنه يبدأ بداية الخرافات، حتى وإن كان من الجلي أن الغاية كانت هي هذه القراءة بالذات
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 55).
ويقدم امبرتو إيكو ملاحظات حول الشخصيات التخيلية، فيبين أن النصوص التخيلية تتحدث بطبيعتها عن أحداث وكائنات لا وجود لها، ولهذا السبب بالذات تقوم بتعطيل الشك فينا. وتبعاً لذلك يؤكد إثبات تخيلي من جهة نظر دلالية قائمة على الشرط التصديري، دائماً شيئاً مخالفاً للواقع. ومع ذلك لا ننظر إلى الإثباتات التخيلية على شنها أكاذيب، أو لا نعقد، ونحن نقرأ عملاً تخيلياً، ميثاقاً ضمنياً مع مؤلفه الذي يتظاهر بأن ما يكتبه صحيح، ويدعونا إلى التظاهر بأننا نأخذ ما يقوله على محمل الجد. يتصور كل روائي عالماً ممكناً وتكون كل أفكارنا حول الصحيح والخاطئ متصلة بهذا العالم.
لا تضع النصوص التخيلية، حتى ولو كانت خرافات أو محميات من العلم الخيالي، قصتها في عالم مختلف كلياً عن عالمنا. فحتى في الحالة التي تتحدث عن غابة، فإن هذه الغابة ستكون شبيهة تقريباً نعرفها في عالمنا حيث تعتبر الأشجار نباتات وليس معادن. فإذا قيل لنا من منطق المغامرات، إن الغابة المقصودة مصنوعة من الأشجار المعدنية، فأن مقولتي الشجرة ومعدنية يجب أن تكونا هما ذاتهما كذلك في عالمنا الواقعي. وعادة ما يختار النص التخيلية وضع قصته في عوالم المعيش اليومي، على الأقل فيما يخص خصائصه الأساسية.
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 91- 92).
وقيل، كما يضيف إيكو، أن الشخصيات التخيلية غير محددة، أي أننا لا نعرف عنها سوى بعض من خصائصها، في حين شن الشخصيات الواقعية هي شخصيات محددة بشكل كامل، وأننا قادرون على إستخلاص كل خصائصها المعروفة. فإذا كان هذا صحيحاً من جهة نظر ابستيمولوجية، هو النقيض تماماً: فلا أحد يُزعم أنه قادر على تعداد كل خصائص شخص أو فصيلة ما، وهي خصائص قد تكون لا متناهية. في حين أن خصائص الشخصيات التخيلية هي خصائص محددة ضمن النص السردي، والخصائص التي يشير إليها النص ستكون وحدها أداتنا في التعرف إليها.
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 95).
ومن التقنيات التي يعتمدها أمبرتو أيكو في روايته ( تقنية اللوائح)، فيشير إلى أنه لم يكن في بداية حياته كمؤلف لأعمال تخيلية ميله إلى هذه اللوائح. وبعد أن كتب خمس روايات ومحاولات أدبية أخرى أصبح بإمكانه تحديد لائحة تامة لكل لوائحه. ولكن هذا المجهود سيتطلب كثيراً من الوقت، ولهذا يكتفي بذكر البعض من حالات التعداد في تجربته، ويقارنها، دليلاً على التواضع، ببعض الكتالوجات في تاريخ الأدب العالمي. ومن هذه اللوائح التي يذكرها ( اللوائح العملية واللوائح الشعرية). ويميز بين اللوائح العملية أو البراغماتية وبين اللوائح الأدبية والشعرية. ويبين أنه يمكن للائحة عملية أن تكون خاصة بمشتريات، أو تكون كاتالوغ مكتبة أو جرداً للأشياء الموجودة في مكان ما ( مثلاً مكتب، أرشيف، متحف )، أو لائحة الوجبات التي يقدمها مطعم، أو قد تكون قاموساً يضم كل مفردات لغة ما. إن وظيفة هذه اللوائح هي وظيفة مرجعية خالصة، ذلك أن عناصرها تحيل على أشياء تتطابق مع مسمياتها. فإذا كانت هذه الأشياء غير موجودة، فإن اللائحة لن تكون سوى وثيقة مزيفة. وبما أن هذه اللوائح تشير إلى أشياء موجودة، فإنها يجب أن تكون محدودة، أي حاضرة من خلال وجودها المادي في مكان ما. ولهذا السبب لا يمكن تغييرها ( بالمعنى الذي يكون فيه من العبث أن ندرج في كاتالوغ متحف لوحة لا تنتمي إلى مجموعة من مجموعاته). وعلى العكس من ذلك، فإن اللوائح الشعرية هي لوائح مفتوحة، وتفترض بشكل من الأشكال، الصيغة الاتية: إلى اخره. إنه تهدف إلى إثارة ما لا يحصى من الشخصيات والأشياء أو الأحداث، لأن الكاتب يدرك أن كمية الأحداث كبيرة، لدرجة أنه لا يستطيع تسجيلها جميعها، ولأن الكاتب يستمتع أيضاً بتعداد لا نهاية له، ويتعلق الأمر أحياناً بلذة سمعية. تشتغل اللوائح العملية، بطريقتها الخاصة، بعدها شكلاً، ذلك أنها تضفي وحدة على مجموعة من الأشياء التي تخضع، رغم اختلافها، لإكراهات سياقية، فيما يجمع بينها هو كونها موجودة في المكان نفسه فقط، أو لأنها غاية لمشروع ما ( كما هو الحال مع لائحة المدعوين إلى حفل ما). ولا يمكن للائحة عملية أن تكون مضافاً بلا قيمة، فهي محددة فقط من خلال المعيار الذي تم بواسطته تجميع الأشياء التي تضمها.
( ينظر: أمبرتو إيكو، إعترافات روائي ناشئ، ص 134 - 138 ).
رواء محمود حسين
الحوار المتمدن-العدد: 5742 - 2017 / 12 / 30