النظرية الاجتماعية ترمي إلي غاية بعيدة هي أن ترجع إلي اﻟﻤﺠتمع وتفسر بالروح الاجتماعية جميع الظاهرات التي تحدثها إرادة الإنسان أو يراها فكرة أو يجدها ضميره وبمعنى آخر جميع مظاهر النشاط البشري بما في ذلك ما قد يعتقد أحيانًا أن أصوله فيالسماء أو في صميم النفس الإنسانية.
وتعتبر هذه النظرية الدين ظاهرة من الظاهرات الاجتماعية مثله مثل فكرة الله، وتحاول أن تترمم خطواﺗﻬا وتتبع آثارها من أول بدء الإنسان بالحياة في اﻟﻤﺠتمع وتساير تطورها ونموها حتى تبلغ منتهاها الذي هي عليه الآن.
وكذلك دوركيم يرى أن فكرة الله ليست فكرة بسيطة تدرك بذاﺗﻬا بالبصيرة والفطرة كما يقول بعض الفلاسفة ولكنها في الواقع قمة تركيب وﻧﻬاية حياة متطورة، وهو يردها إلي المقدس الذي كان يعبده أجدادنا الهمج في طور من أطوار حياﺗﻬم ويرى أن هذا المعبود يترجم عن روح اﻟﻤﺠتمع وقداسته وتشتق روحه من روحه.
فهل حقيقي أن فكرة الله ترجع إلي فكرة أبسط هي المقدس ؟ والجواب عن دور كيم بإيجاب وتؤكده عنده الأساطير فدراستها تدلنا دلالة واضحة على أن فكرة الآلة المتحققة ذاته في شخصيته أو الآلة المشخص تسبق في العقل البشري بتصور عام قوة
مقدسة غير مشخصة.
وكذلك معرفة أحوال القبائل البدائية التي تناهت في بدايتها تدلنا على أن فكرة الألوهية بمعناها مفقودة بينهم فليس الذي يقدسونه كائنا أو شيئا مميزًا له خواص مقدسة ولكنه موزع بين قوى غير محدودة، غير متميزة الذات حقيقة بأن تقارن بالقوى الطبيعية.
وهي قوى "مانا" ففي بعض اﻟﻤﺠتمعات البدائية يسود الاعتقاد فيما يسمى بالمانا خفية سرية تحمل في الأشياء والكائنات ويرجع إليها ما يتميز به الشئ من قوة أو فضل، فهذه القوى العامة غير المشخصة هي التي آلت فيما بعد إلي الآلهة كما نعرفهم.
فإذا سلمنا مع دور كيم بأن فكرة الله ترجع إلي فكرة المقدس العام وأﻧﻬا كما نتصورها فكرة مركبة مشتقة من غيرها، فيبقى أن نسأل من أين للإنسان ﺑﻬذا التصور عن القوة المقدسة الأولي وعلى هذا السؤال يجيب دوركيم بأﻧﻬا تأتي من اﻟﻤﺠتمع وتتكون وتنمو
فيه، و يشرح ذلك فيقول أنه في الأعياد والاجتماعات والاحتفالات العامة حيث يلتقي الفرد ببقية اﻟﻤﺠموع ويشاركهم فيما يدعو إليه الحفل من غرض ويتأثر وإياهم بشعور واحد، يجد الفرد إحساسًا بقوة جديدة يتغلغل فيه ويسمو به ويمده بحياة لا يستطيع أن يحياها بمفرده. فإذا كان بصدد التفكير والتأمل في هذه القوة الجديدة عجز عن أن يردها إلي أصلها الحقيقي وهو اﻟﻤﺠتمع وروح الجماعة فيرجعها عقله البسيط إلي قوة غريبة خفية فوق ما يتناوله عقله من النظام الطبيعي.
ومما أثبت لدوركيم أن هذه القوة المقدسة هي اﻟﻤﺠتمع بالذات أمران أﻧﻬا تحوز الصفات التي يتصف ﺑﻬا اﻟﻤﺠتمع في نظره فهي مثله تسيطر على نفس الفرد من مكانة سامية تعلو على الجميع، ومع ذلك يشعر ﺑﻬا كل فرد كما لو كانت تنبع من صميم نفسه وقلبه، وهي قوة ليست كالأشياء الطبيعية لأنه يضيف إليها صفات إنسانية ويضعها موضع التجلة والاحترام.
والأمر الثاني الذي يدل على انتهاء فكرة الله إلي اﻟﻤﺠتمع أن التطور الاجتماعي يفترق دائمًا أبدًا بتطور في فكرة الله لا تخفي أوجه التشابه والتقابل بينهما.
ففكرة القوة غير المحدودة الغامضة توجد في اﻟﻤﺠتمع البدائي حيث تنعدم شخصية الفرد وتمتزج بشخصية اﻟﻤﺠموع فلا يشعر بضميره الفردي متميزًا واضحًا مستق ً لا وعندما يأخذ هذا اﻟﻤﺠتمع في الترقي ويبدأ انقسامه الأول إلي قبائل مختلفة يوجد في كل قبيلة مقدس خاص ﺑﻬا تختاره تارة في نوع من النبات أو نوع من الحيوان تعتقد بحلول ألمانا فيه وهو ما يعرف بطوطم القبيلة. فلما أن تقدم الزمن ﺑﻬذه القبائل واجتمعت باختيارها أو بقهر بعضها للبعض الآخر وتألفت فيها سلطة واحد لها حق السيطرة على الجميع وجد المانا العام المطلق بجانب الآلهة المبعثرة المتميزة واقترن وجوده بوجود رئيس القبيلة الأعظم.
نثبت بذلك عند الاجتماعيين أن الله فكرة مركبة خضعت لتطور طويل على ممر السنين وأﻧﻬا ترجع إلي أفكار أبسط منها منشئوها اﻟﻤﺠتمع بالذات.
ووجه الاعتراض على الرأي الاجتماعي أن الدين يحوي من الأفكار السامية ما يتجاوز بسموه حدود اﻟﻤﺠتمعات مهما كان رقيها فأي مجتمع من اﻟﻤﺠتمعات يوحي بأفكار هي مهما ترتقي وتتسامي تحوم حول شخصه ومنفعته، فهي دائمًا مشبعة بالأنانية وحب
الذات وكره الغير والرغبة في الاستيلاء والغلبة، أما الإخاء والعدالة والكمال فهي تصورات لا يتأتى للمجتمع أن يبديها ولابد لها من منبع سواه سواء أكان في السماء أم في جوهر النفس البشرية.
ويوجد سبيل آخر للاهتداء إلي الله وهو التصوف والحال هنا يختلف عما أسلفنا وصفه في عرض وجهتي نظر الفلاسفة وعلم الاجتماع فالله هنا ليس فكرة مجردة بسيطة نبلغها بالمنطق والفكر ولا هو فكرة مركبة يهدي إليها استقراء أحوال اﻟﻤﺠتمعات البشرية ولكنه ماهية عليا حافلة بالحياة نشعر ﺑﻬا في أعماق نفوسنا ونسعد ﺑﻬذا الشعور بعد جهد
جهيد تتكلفه النفس في التأمل والتسامي.
ومما يلاحظ على المذاهب الصوفية أن أهلها يعنون بتلك التجربة النفسية العليا التي تجذﺑﻬم إليها جذبًا عنيفًا يجعلهم قليلي الاحتفال بالتقاليد الدينية المحفوظة والطقوس الشكلية والكتب والتعاليم لأﻧﻬم يجدون جميع هذا بالإضافة إلي ما يشعرون باردًا لا حياة فيه، ولهذا وجد دائمًا بين المذاهب الصوفية والسنية تنافر وجفاء.
ولكن لا محيد للصوفية عن التأثر بالدين السائد لأن الصوفي كغيره ينشأ على دين يتأثر به شطرا كبيرًا من حياته فمهما تفاني في الجوهر فلا يمكن أن ينسي – نسيانًا تامًا _ الصور والإشكال. فهنا يمكن القول بأن الصوفية كالفلسفة لا تنجو من أثر اﻟﻤﺠتمع
وروحه.
وﺑﻬذا ينتهي تصور الله الذي وجدناه في بعض اﻟﻤﺠتمعات قوة عامة غير محدودة ولا شخصية إلى إله فردي شخصي حي يتفجر وحيه من قلب المتصوف العارف.
وقد وجدت الصوفية تأييدًا من بعض الفلاسفة أنفسهم فباسكال يقرر أنه توجد ثلاث وسائل للاعتقاد: العقل والتقليد والإلهام، و الإلهام وحده هو الذي يهدينا إلى الله، وأما العقل والتقليد فيمهدان ويساعدان ويتعذر أن يوفيا بالغرض وحدهما، فالبراهين
الميتافيزيقية تمتنع على غير كبار المفكرين وحتى هؤلاء لا يدوم تأثيرها فيهم إلا حين يتأملوﻧﻬا، ولا يأمنون الزيغ عند انصراف عقولهم عنها إلى غيرها مما يسترعى التفكير والتأمل أما الشعور بالله شعورًا أبديًا فيتحقق بالسمو إليه والاتصال بذاته والامتزاج
بجوهره.
وفلسفة برجسون تعتبر امتدادًا لفلسفة باسكال وتتصل عن قرب بالصوفية وبرجسون يتكلم في فلسفته عن وسط تنطلق منه العوالم كالأسهم النارية، وهو ليس شيئا جامدًا ولكنه حياة مستمرة منطلقة حرة. هذا الوسط هو الله وهو خالق حر خلق
المادة والحياة وخلق الإنسان، وقد وجدت في الإنسان قوة مبدعة من شأﻧﻬا أن تتم عمل الله في الخلق والإبداع فكان قوة الله المبدعة لا تنحصر في ذاته ولكنها تمتد إلي المخلوقات الراقية.
والآن فلنسأل أنفسنا هذا السؤال: ما الذي تتركه في النفس جميع هذه الآراء من الأثر ؟
أن البراهين العقلية تمهيد حسن ولفت قيم ولكنها لا تبلغ بالإنسان درجة الاعتقاد الحقيقي، وأني لأجد نفسي بعد الإطلاع عليها حيث كنت من القلق والاضطراب.
والرأي الصوفي يقف الإنسان حياله مكتوف اليدين لأنه حياة لا يشعر ﺑﻬا إلا من يحياها، ولكن تجربته تشمل الحياة بأسرها وهي أعز من أن يجازف ﺑﻬا الإنسان. على أن الله موجود في صميم القلب بمعنى آخر إذ توجد عاطفة التدين في النفس
الإنسانية وهي شعور أنسأني جوهرة السمو ومظهره آيات التقديس والجلال التي نعبدها في النفس والطبيعة وقد يغالى الاجتماعيون عندما يردون هذا الشعور إلى اﻟﻤﺠتمع كما قد يخدع الفلاسفة عندما يتصورونه أفكارا مجردة قوامها المنطق.
نعم أن الله الذي تعرفنا به الكتب المقدسة فوق كل برهان أو دليل ولا حيلة للانسأن في الإيمان به أو الإنكار له ولكن يبقى لنا إيماننا الطبيعي الذي به نقدس ونفيد كل جليل وجميل في النفس والكون.
نجيب محفوظ
وتعتبر هذه النظرية الدين ظاهرة من الظاهرات الاجتماعية مثله مثل فكرة الله، وتحاول أن تترمم خطواﺗﻬا وتتبع آثارها من أول بدء الإنسان بالحياة في اﻟﻤﺠتمع وتساير تطورها ونموها حتى تبلغ منتهاها الذي هي عليه الآن.
وكذلك دوركيم يرى أن فكرة الله ليست فكرة بسيطة تدرك بذاﺗﻬا بالبصيرة والفطرة كما يقول بعض الفلاسفة ولكنها في الواقع قمة تركيب وﻧﻬاية حياة متطورة، وهو يردها إلي المقدس الذي كان يعبده أجدادنا الهمج في طور من أطوار حياﺗﻬم ويرى أن هذا المعبود يترجم عن روح اﻟﻤﺠتمع وقداسته وتشتق روحه من روحه.
فهل حقيقي أن فكرة الله ترجع إلي فكرة أبسط هي المقدس ؟ والجواب عن دور كيم بإيجاب وتؤكده عنده الأساطير فدراستها تدلنا دلالة واضحة على أن فكرة الآلة المتحققة ذاته في شخصيته أو الآلة المشخص تسبق في العقل البشري بتصور عام قوة
مقدسة غير مشخصة.
وكذلك معرفة أحوال القبائل البدائية التي تناهت في بدايتها تدلنا على أن فكرة الألوهية بمعناها مفقودة بينهم فليس الذي يقدسونه كائنا أو شيئا مميزًا له خواص مقدسة ولكنه موزع بين قوى غير محدودة، غير متميزة الذات حقيقة بأن تقارن بالقوى الطبيعية.
وهي قوى "مانا" ففي بعض اﻟﻤﺠتمعات البدائية يسود الاعتقاد فيما يسمى بالمانا خفية سرية تحمل في الأشياء والكائنات ويرجع إليها ما يتميز به الشئ من قوة أو فضل، فهذه القوى العامة غير المشخصة هي التي آلت فيما بعد إلي الآلهة كما نعرفهم.
فإذا سلمنا مع دور كيم بأن فكرة الله ترجع إلي فكرة المقدس العام وأﻧﻬا كما نتصورها فكرة مركبة مشتقة من غيرها، فيبقى أن نسأل من أين للإنسان ﺑﻬذا التصور عن القوة المقدسة الأولي وعلى هذا السؤال يجيب دوركيم بأﻧﻬا تأتي من اﻟﻤﺠتمع وتتكون وتنمو
فيه، و يشرح ذلك فيقول أنه في الأعياد والاجتماعات والاحتفالات العامة حيث يلتقي الفرد ببقية اﻟﻤﺠموع ويشاركهم فيما يدعو إليه الحفل من غرض ويتأثر وإياهم بشعور واحد، يجد الفرد إحساسًا بقوة جديدة يتغلغل فيه ويسمو به ويمده بحياة لا يستطيع أن يحياها بمفرده. فإذا كان بصدد التفكير والتأمل في هذه القوة الجديدة عجز عن أن يردها إلي أصلها الحقيقي وهو اﻟﻤﺠتمع وروح الجماعة فيرجعها عقله البسيط إلي قوة غريبة خفية فوق ما يتناوله عقله من النظام الطبيعي.
ومما أثبت لدوركيم أن هذه القوة المقدسة هي اﻟﻤﺠتمع بالذات أمران أﻧﻬا تحوز الصفات التي يتصف ﺑﻬا اﻟﻤﺠتمع في نظره فهي مثله تسيطر على نفس الفرد من مكانة سامية تعلو على الجميع، ومع ذلك يشعر ﺑﻬا كل فرد كما لو كانت تنبع من صميم نفسه وقلبه، وهي قوة ليست كالأشياء الطبيعية لأنه يضيف إليها صفات إنسانية ويضعها موضع التجلة والاحترام.
والأمر الثاني الذي يدل على انتهاء فكرة الله إلي اﻟﻤﺠتمع أن التطور الاجتماعي يفترق دائمًا أبدًا بتطور في فكرة الله لا تخفي أوجه التشابه والتقابل بينهما.
ففكرة القوة غير المحدودة الغامضة توجد في اﻟﻤﺠتمع البدائي حيث تنعدم شخصية الفرد وتمتزج بشخصية اﻟﻤﺠموع فلا يشعر بضميره الفردي متميزًا واضحًا مستق ً لا وعندما يأخذ هذا اﻟﻤﺠتمع في الترقي ويبدأ انقسامه الأول إلي قبائل مختلفة يوجد في كل قبيلة مقدس خاص ﺑﻬا تختاره تارة في نوع من النبات أو نوع من الحيوان تعتقد بحلول ألمانا فيه وهو ما يعرف بطوطم القبيلة. فلما أن تقدم الزمن ﺑﻬذه القبائل واجتمعت باختيارها أو بقهر بعضها للبعض الآخر وتألفت فيها سلطة واحد لها حق السيطرة على الجميع وجد المانا العام المطلق بجانب الآلهة المبعثرة المتميزة واقترن وجوده بوجود رئيس القبيلة الأعظم.
نثبت بذلك عند الاجتماعيين أن الله فكرة مركبة خضعت لتطور طويل على ممر السنين وأﻧﻬا ترجع إلي أفكار أبسط منها منشئوها اﻟﻤﺠتمع بالذات.
ووجه الاعتراض على الرأي الاجتماعي أن الدين يحوي من الأفكار السامية ما يتجاوز بسموه حدود اﻟﻤﺠتمعات مهما كان رقيها فأي مجتمع من اﻟﻤﺠتمعات يوحي بأفكار هي مهما ترتقي وتتسامي تحوم حول شخصه ومنفعته، فهي دائمًا مشبعة بالأنانية وحب
الذات وكره الغير والرغبة في الاستيلاء والغلبة، أما الإخاء والعدالة والكمال فهي تصورات لا يتأتى للمجتمع أن يبديها ولابد لها من منبع سواه سواء أكان في السماء أم في جوهر النفس البشرية.
ويوجد سبيل آخر للاهتداء إلي الله وهو التصوف والحال هنا يختلف عما أسلفنا وصفه في عرض وجهتي نظر الفلاسفة وعلم الاجتماع فالله هنا ليس فكرة مجردة بسيطة نبلغها بالمنطق والفكر ولا هو فكرة مركبة يهدي إليها استقراء أحوال اﻟﻤﺠتمعات البشرية ولكنه ماهية عليا حافلة بالحياة نشعر ﺑﻬا في أعماق نفوسنا ونسعد ﺑﻬذا الشعور بعد جهد
جهيد تتكلفه النفس في التأمل والتسامي.
ومما يلاحظ على المذاهب الصوفية أن أهلها يعنون بتلك التجربة النفسية العليا التي تجذﺑﻬم إليها جذبًا عنيفًا يجعلهم قليلي الاحتفال بالتقاليد الدينية المحفوظة والطقوس الشكلية والكتب والتعاليم لأﻧﻬم يجدون جميع هذا بالإضافة إلي ما يشعرون باردًا لا حياة فيه، ولهذا وجد دائمًا بين المذاهب الصوفية والسنية تنافر وجفاء.
ولكن لا محيد للصوفية عن التأثر بالدين السائد لأن الصوفي كغيره ينشأ على دين يتأثر به شطرا كبيرًا من حياته فمهما تفاني في الجوهر فلا يمكن أن ينسي – نسيانًا تامًا _ الصور والإشكال. فهنا يمكن القول بأن الصوفية كالفلسفة لا تنجو من أثر اﻟﻤﺠتمع
وروحه.
وﺑﻬذا ينتهي تصور الله الذي وجدناه في بعض اﻟﻤﺠتمعات قوة عامة غير محدودة ولا شخصية إلى إله فردي شخصي حي يتفجر وحيه من قلب المتصوف العارف.
وقد وجدت الصوفية تأييدًا من بعض الفلاسفة أنفسهم فباسكال يقرر أنه توجد ثلاث وسائل للاعتقاد: العقل والتقليد والإلهام، و الإلهام وحده هو الذي يهدينا إلى الله، وأما العقل والتقليد فيمهدان ويساعدان ويتعذر أن يوفيا بالغرض وحدهما، فالبراهين
الميتافيزيقية تمتنع على غير كبار المفكرين وحتى هؤلاء لا يدوم تأثيرها فيهم إلا حين يتأملوﻧﻬا، ولا يأمنون الزيغ عند انصراف عقولهم عنها إلى غيرها مما يسترعى التفكير والتأمل أما الشعور بالله شعورًا أبديًا فيتحقق بالسمو إليه والاتصال بذاته والامتزاج
بجوهره.
وفلسفة برجسون تعتبر امتدادًا لفلسفة باسكال وتتصل عن قرب بالصوفية وبرجسون يتكلم في فلسفته عن وسط تنطلق منه العوالم كالأسهم النارية، وهو ليس شيئا جامدًا ولكنه حياة مستمرة منطلقة حرة. هذا الوسط هو الله وهو خالق حر خلق
المادة والحياة وخلق الإنسان، وقد وجدت في الإنسان قوة مبدعة من شأﻧﻬا أن تتم عمل الله في الخلق والإبداع فكان قوة الله المبدعة لا تنحصر في ذاته ولكنها تمتد إلي المخلوقات الراقية.
والآن فلنسأل أنفسنا هذا السؤال: ما الذي تتركه في النفس جميع هذه الآراء من الأثر ؟
أن البراهين العقلية تمهيد حسن ولفت قيم ولكنها لا تبلغ بالإنسان درجة الاعتقاد الحقيقي، وأني لأجد نفسي بعد الإطلاع عليها حيث كنت من القلق والاضطراب.
والرأي الصوفي يقف الإنسان حياله مكتوف اليدين لأنه حياة لا يشعر ﺑﻬا إلا من يحياها، ولكن تجربته تشمل الحياة بأسرها وهي أعز من أن يجازف ﺑﻬا الإنسان. على أن الله موجود في صميم القلب بمعنى آخر إذ توجد عاطفة التدين في النفس
الإنسانية وهي شعور أنسأني جوهرة السمو ومظهره آيات التقديس والجلال التي نعبدها في النفس والطبيعة وقد يغالى الاجتماعيون عندما يردون هذا الشعور إلى اﻟﻤﺠتمع كما قد يخدع الفلاسفة عندما يتصورونه أفكارا مجردة قوامها المنطق.
نعم أن الله الذي تعرفنا به الكتب المقدسة فوق كل برهان أو دليل ولا حيلة للانسأن في الإيمان به أو الإنكار له ولكن يبقى لنا إيماننا الطبيعي الذي به نقدس ونفيد كل جليل وجميل في النفس والكون.
نجيب محفوظ