هل يمكن تصور دور ما للفلسفة في سياق فكري وسياسي ونفسي عربي يحتل فيه ضجيج الفتاوى ونزوعات التكفير ضد العقل والتفكير والإبداع والحرية مواقع وقنوات متنوعة المصادر والمقاصد؟ ما المكانة المؤسسية والبيداغوجية والفكرية المناسبة التي يتعين منحها حقولَ الفلسفة والعلوم الإنسانية في ظل التحولات الجارفة الجارية على الصعيد العربي والدولي؟ هل يحتمل زمن العالم، بانكساراته وأزماته وحسابات النجاعة والمردودية الاقتصادية، إمكانية إدخال هوامش من التأمل والتفكير؟ ما أدوار الفلسفة في المجهودات التربوية والمؤسسية لتشكيل واستنبات حس نقدي لدى الناشئة وفي الفكر العربي عامة؟
يحضر هذا النمط من الأسئلة بشكل كبير في العالم العربي كلما جرى التعرض إلى الفلسفة كحقل للتفكير وكمادة للتدريس. ففي زمن الردة الفكرية والثورة المعلوماتية وهوس الربح والتسابق على المواقع، لتأمين أكثر معاني المصلحة سطحيةً وتوحُّشًا، وفي سياقات الاحتراب وتنازع الهويات ماذا يبقى للفلسفة من مشروعية ومن حضور، بوصفها نمطًا خصوصيًّا في النظر والممارسة؟
هناك من يميل من المشتغلين بالفلسفة إلى القول: إن لهذا الحقل الفكري والتربوي دورًا لا جدال فيه لسببين اثنين: الأول يتمثل في كون التراث الفلسفي العالمي يزخر بأدوات فكرية لا حصر لها، من شأنها أن تسعفنا على فهم التحولات الجارية أمامنا، في مجتمعاتنا وفي العالم، وأن يمدنا بما يلزم من أدوات التفكير الذاتي والحس النقدي ومحاصرة الانغلاق والفكر السحري؛ خصوصًا أنه لا يزال هناك فلاسفة، وأساتذة فلسفة، ومتخرجون من قسم الفلسفة، في مختلف بلدان العالم، بما فيها بعض البلدان العربية.
ومن هذا المنظور تمثل الفلسفة مدرسة حقيقية للحرية وحقلًا لتنشيط العقل والقول الحر والسلوك المتحرر والمبادرة. وهو ما تلتقي عنده أغلب أدبيات منظمة اليونيسكو؛ وأما السبب الثاني، فإنه يعود إلى الطبيعة التربوية للفلسفة، بحكم ارتباط الفلسفة بالمؤسسة التعليمية، أي أن الآخر، في أبعاده البيداغوجية، ظل هاجسًا دائمًا بالنسبة للتراث الفلسفي.
أنتج الفكر العربي الإسلامي المعاصر العديد من الأفكار والمشاريع النقدية التي دارت وتدور في الأوساط الفلسفية والفكرية العربية، ابتداءً من ستينيات القرن الماضي، وبالأخص طيلة العقود الثلاثة الأخيرة إلى اليوم، من أجل تقديم بعض عناصر الجواب عن قضايا فكرية كبرى من قبيل: الحداثة، والتراث، والنهضة، والحرية، والاستقلال الفلسفي، والغرب، والذاتية، والهوية، والخصوصية الثقافية، والدين، والتنوير، والنقد، والأيديولوجيا… إلخ.
وقد عملت هذه المجهودات على تأطير تفكيرها من منطلق الانشغالات التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية ومسلسل الاستقلالات من الاستعمار، والمجهودات التي بذلتها منظمة اليونيسكو لتطوير برامج تركز على أهمية إدماج الأفكار الفلسفية في المنظومات التربوية لمحاصرة أسباب العنف والحروب، وذلك من خلال اكتساب مهارات التفكير الذاتي والحس النقدي.
تدريس الفلسفة في مناخ يعاند التفكير النقدي
وفي هذا الإطار لعل المهتم بقضايا الفلسفة في البلدان العربية يجد نفسه، باستمرار، مطالَبًا: أولًا، بالتساؤل عن كيفيات تدريس الفلسفة في مناخ سياسي واجتماعي وذهني يعاند التفكير النقدي؛ ثانيًا؛ بإبراز شروط تشكل هذا الإنتاج في سياق أسئلة تتعلق بالهوية، والخصوصية، والآخر، والعالم…؛ ثالثا؛ بتأطير هذا الإنتاج ضمن تحدّي إعادة قراءة موقع ودلالة التراث الفلسفي العربي الإسلامي الكلاسيكي؛ ورابعًا؛ بـ«جرد» و«تقييم» الإنتاج الفلسفي العربي الحديث والمعاصر الذي تبلور، كما هو معلوم، في سياق يتميز بالقمع السياسي، وأزمة الثقافة، والتعبئة الدينية، والتنمية المُعاقة.
وهكذا إذا رأينا أن الفلسفة تُعلّم التساؤل، وإبداع أو استعمال المفاهيم، والتأمل الذي يفيد العودة إلى الذات والعقل والاعتماد عليهما، والتفكير الدائم في أنماط التفكير، والبحث عن قدر من التوافق، وتقديم نظر عقلاني ممكن (بما يفيد استعمال العقل الذي يفضي إلى فن الحياة وفن العيش)، فإن الفلسفة، فضلًا عن هذه المقاييس، هي نقد للمسبقات والأوهام، وللأيديولوجيات. لذلك تعدّ الفلسفة عملًا، بل كفاحًا سلاحه العقل وأعداؤه تعبيرات البَلاهَة، والتعصب والانغلاق، وحلفاؤه مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الدقيقة، وهدفه الحكمة والسعادة. هذا ما جعل آبيقور يُعرف الفلسفة بأنها «نشاط يمنحنا الحياة السعيدة من خلال الخطاب والبرهنة».
وما دامت الممارسة الحقيقية للفلسفة مرتبطة، عضويًّا، بعملية تدريسها، وما دامت الفلسفة تضطر للتنازل عن تجريديتها للتحول إلى بيداغوجيا، فإن اضطراب هويتها الثقافية، ينعكس، بشكل قوي، على عملية تبليغها وتلقينها. ومن ثم يعيش الدرس الفلسفي في العديد من الأقطار العربية، سواء كان جامعيًّا أو ثانويًّا، مجموعة إشكالات، منها ما هو مؤسسي، وما هو رهين بالسياق المادي، ومنها ما يتصل بالوضعية النظرية التي يتحرك ضمنها، وبالمناخ الثقافي والسياسي العام الذي يتفاعل معه إنْ سلبًا أو إيجابًا.
وعلى الرغم من كل الملاحظات التي تسجّل على الفكر الفلسفي العربي فإن كل التيارات الفلسفية العالمية وجدت أصداء لها، بنسب متفاوتة، في الدرس كما في التأليف الفلسفي في العالم العربي، سواء تعلق الأمر بالديكارتية، أو بالشخصانية، أو بالوضعية، والوجودية أو الماركسية، أو فلسفة العلم، إلى فلسفة التفكيك… إلخ. لكن النزعة الغالبة في الخطاب الفلسفي العربي تجعله يبدو كأنه يتكئ، دومًا، على مرجع منفصل عن سياقه الثقافي، وهو ما جعل هذا الخطاب يعاني غربةً مزدوجةً؛ غربةً عن الواقع الثقافي الذي كثيرًا ما يعاند كل تفكير عقلاني وتنويري، وغربةً عن الروح الفلسفية من ناحية هي قوة سلب، وميل نحو خلق المسافة مع المألوف والتحرر من النصوص؛ أو بما هي «معرفة فرحة» تنشط بالسؤال وفيه، وتصغي لتحولات المرحلة لالتقاط مكوناتها وتفاصيلها.
ترتب على هذا الواقع لجوء المشتغلين بالفلسفة، في كثير من الإنتاجات والمؤلفات حتى في فضاءات الدرس، إلى تناول موضوعات وقضايا بأساليب أقرب إلى ما أسماه هشام جعيط بـ«فلسفة الثقافة» أكثر مما هي في صلب التفكير الفلسفي. صحيح أن أسئلة عديدة تهم الذات والهوية والآخر والتقدم والسلطة والتاريخ طرحت منذ مدة، ولا تزال تصاغ بأشكال مختلفة. وصحيح كذلك أن موضوعات الأيديولوجيا والإبستمولوجيا عُولجت، سواء من خلال الترجمة أو مناقشة مفاهيم معرفية أو أيديولوجية. ولكن المشكلة لا تتلخص فقط في الموضوع، الذي له أهميته القصوى في الفلسفة، لكنها تتجلى في أسلوب التناول، في الكتابة كما في التوصيل. لذلك يبدو أن الوعي الفلسفي في حاجة إلى منح الخطاب الفلسفي ما يلزم من شروط لضمان تجذره الثقافي وتأثيره التربوي.
الحاجة إلى أفق تنويري
ويبدو أن واقع الفلسفة في العالم العربي في حاجة موضوعية إلى أفق تنويري يستوجب معاينات من المفترض فيها الانطلاق من: أولًا؛ تشخيص تاريخي ونظري للوضع الفلسفي العربي ومآلاته، بالوقوف على مظاهر حضوره، مؤسسيًّا وتربويًّا وثقافيًّا، وتطوره، أو تراجعه– ضمن المدة الزمنية التي يمكن اختيارها- وذلك بإبراز العوائق التي حالت دون القيام بالأدوار المنتظرة من الفلسفة، والمجهودات التي بذلت، على الرغم من تلك العوائق، على مستوى التأليف، والبحث، والتكوين، والترجمة.
ثانيًا؛ تشخيص واقع حال تدريس الفلسفة في المؤسسات العمومية والخاصة (جامعات، معاهد، مراكز تكوين…) مع اقتراح خريطة، ولو كانت أولية؛ لتدريس الفلسفة في الأقطار العربية. وما يتعلّق بتدريسها ليس فقط على مستوى الدرس الفلسفي «المتخصص»، بل أيضًا على صعيد ممكنات استثمار الفلسفة في المجالات المعرفية الأخرى (علوم إنسانية واجتماعية، دراسات التراث…)، بما يستدعي ذلك من مجهودات التبيئة النظرية والبيداغوجية.
ثالثًا؛ قضايا البحث الفلسفي وما يعرفه من غموض ومشاكل على مستوى التأليف، والتكوين، والتأطير، وما يفترضه من تجديد في آليات وتوفير الشروط الضرورية لممارسته واستمراره (من قبيل التكوين في البحث Formation à la recherche والتكوين بالبحث recherche Formation par la..
فضلًا عن الحاجة إلى الوقوف على المرجعيات المعيارية والتنظيمية للدرس الفلسفي العربي في الأقطار التي تدرجه في التكوينات، سواء الثانوية أو الجامعية، وتعميق التفكير في المستندات البيداغوجية التي تُؤَطِّر شروط ضمان جودة الدرس الفلسفي والتكوين على القيام به، والنصوص المُنظمة لهذا البحث، وتقييم حصيلته النوعية قياسًا إلى انتماءاته الأكاديمية، في ارتباط بواقع البحث العلمي في العالم العربي عمومًا.
من ناحية أخرى، يبدو من الصعب الحديث عن مقاربة أوضاع الفكر الفلسفي في العالم العربي من دون استحضار نوعية ودرجة حضور التفكير الفلسفي في الممارسات الثقافية العربية في المجالات الفكرية والإبداعية المختلفة (دراسات التراث، وفلسفة الدين، والإبداع الفني والجماليات، والفلسفة السياسية…).
رابعًا؛ إن عملًا تشخيصيًّا للممارسة الفلسفية في العالم العربي يقتضي استدعاء قضايا التأليف الفلسفي والإنتاج المعرفي المكرّس لصالح الدرس الفلسفي، تنظيرًا وممارسة، والوقوف على سيرورة الإنتاج الفلسفي، ومسالكه وآلياته، وطرق تداوله، من خلال النشر والتوزيع، وتوافر أو محدودية توافر مجلات فلسفية مُحكّمة، وما تسمح به من فتح آفاق البحث والتفكير والتداول، والوصول إلى المصادر والمراجع التي تساعد الطلاب والباحثين على اكتساب المعرفة الفلسفية، علمًا أن هناك نقصًا كبيرًا في الموسوعات العربية المساعدة على ولوج المعارف الفلسفية؛
خامسًا؛ الانخراط الجدي في معالجة مسألة الترجمة بالشكل المطلوب وهي، كما هو معلوم، مسألة تنسحب على المباحث والمجالات والعلوم كافة على الصعيد العربي، كميًّا ونوعيًّا. ذلك أنه لا يمكن الاقتصار في الحديث عن الترجمة على جوانبها التقنية، إنما يتعين إبراز مظاهر الخَصَاص الذي يعانيه المشتغل في الفلسفة من صعوبات الحصول على المصادر الأصلية Les classiques مُترجمة بشكل احترافي، مقبول ومفهوم، – حتى إن كان هذا المشتغل مُتمكنًا من لغات أجنبية فإن أغلبية الطلبة لا يحسنون القراءة والتحرير باللغات الأجنبية- مع تنويع مصادر الترجمة والاهتمام باللغات الأجنبية الأخرى، غير الإنجليزية والفرنسية، للانفتاح على أكثر من لغة ومن اتجاه، بحيث يحصل التفاعل الفكري المطلوب ويُستحضَر النقاش الفلسفي العالمي في المجال العربي. والحال أن العديد من الترجمات تكتفي بالتلخيصات والمختصرات، في غياب تام للاتفاق على المصطلحات والمفاهيم، وتوحيدها ومَعْيَرتها. وينطبق الأمر، أيضًا، على النصوص الفلسفية التي ألفها فلاسفة عرب بلغات أجنبية لم تجد طريقها إلى العربية، أو إلى القارئ، مثل مؤلفات محمد عزيز الحبابي، أو روني حبشي، أو نجيب بلدي، أو غيرهم.
أما موضوع ترجمة التأليف الفلسفي العربي إلى لغات أخرى فلا شك أنه يستحق اهتمامًا خاصًّا، حتى إن رأينا أن الفلاسفة العرب المعاصرين لم يسهموا بقسط بارز في الخطاب الفلسفي العالمي (من خلال ترجمات بعض مؤلفات عبدالله العروي، هشام جعيط، وناصيف نصّار، ومحمد عابد الجابري…).
خريطة للدرس الفلسفي
وخلاصة القول أن هذه الملاحظات تتضمن في ذاتها ما يفيد توصيات في أفق استكمال التشخيص، التاريخي والنظري، للفكر الفلسفي العربي المعاصر، ووضع خريطة للدرس الفلسفي، في الثانوي والجامعي، والوقوف على معطيات تدريس المادة ورهاناتها التربوية والفكرية، وواقع البحث الفلسفي، والتأليف والنشر في المجلات والكتب، فضلًا عن إشكاليات الترجمة؛ قبل أن نجعل منه رهانًا كبيرًا لمحاصرة الفكر السحري أو الظلامي.
وعلى الرغم من التدهور الظاهر على الدرس الفلسفي، في الثانوي وفي الجامعة، وانقطاع الدارسين عن الأصول والمظانّ الفلسفية، وسيطرة التقليد، والأصولية الدينية، والعنعنة، والترجمة المتسرّعة، فإن ذلك لا يمنع من معاينة تشكل فرق بحث، ومختبرات، وتكوّن بؤر فلسفية واعدة في أقسام الفلسفة ببعض الجامعات، حتى في الطور الثانوي، بحيث تؤكد وجود كفاءات فلسفية واعدة تبدد بعض التشاؤم الذي يستبد ببعض الراصدين لتطور الفكر الفلسفي في العالم العربي. من هنا كانت الحاجة إلى إدماج الدرس الفلسفي في المقررات التعليمية للبلدان التي لم تقم بذلك بعد، وتطوير مناهج وأساليب توصيله لتكوين ناشئة وجيل يكتسب طرق كيف يتعلم، وكيف يفكر اعتمادًا على ذاته، وكيف يبادر وكيف يحل المشكلات؛ وبإيجاز امتلاك عقل نقدي يقظ قادر على مقاومة تيارات الاستقطاب للفكر المغلق والتطرف العنيف.
ومن المؤكد أن إدماج الفلسفة ومبادئ التفكير النقدي في المنظومة التعليمية والثقافية لم يعد مجرد اختيار إنما ضرورة حيوية لتكوين عقل يجرؤ على السؤال والاستفهام، ويؤمن بالحاجة إلى العمل والمبادرة والمشاركة، ولا سيما في زمن الثورة الرقمية وتنوع وسائل الاتصال والتواصل بين الناس، وفي سياق انتعشت فيه نزوعات التكفير، ودعوات التواكل والقدرية، ومظاهر التضييق على التفكير النقدي باسم أصوليات مختلفة، سواء أكانت أصولية السوق، أو أصولية الدين، كل الأصوليات الدينية.
محمد نور الدين أفاية
* نقلا عن
الفلسفة والحاجة إلى استنبات الفكر النقدي | مجلة الفيصل
الفلسفة والحاجة إلى استنبات الفكر النقدي
يحضر هذا النمط من الأسئلة بشكل كبير في العالم العربي كلما جرى التعرض إلى الفلسفة كحقل للتفكير وكمادة للتدريس. ففي زمن الردة الفكرية والثورة المعلوماتية وهوس الربح والتسابق على المواقع، لتأمين أكثر معاني المصلحة سطحيةً وتوحُّشًا، وفي سياقات الاحتراب وتنازع الهويات ماذا يبقى للفلسفة من مشروعية ومن حضور، بوصفها نمطًا خصوصيًّا في النظر والممارسة؟
هناك من يميل من المشتغلين بالفلسفة إلى القول: إن لهذا الحقل الفكري والتربوي دورًا لا جدال فيه لسببين اثنين: الأول يتمثل في كون التراث الفلسفي العالمي يزخر بأدوات فكرية لا حصر لها، من شأنها أن تسعفنا على فهم التحولات الجارية أمامنا، في مجتمعاتنا وفي العالم، وأن يمدنا بما يلزم من أدوات التفكير الذاتي والحس النقدي ومحاصرة الانغلاق والفكر السحري؛ خصوصًا أنه لا يزال هناك فلاسفة، وأساتذة فلسفة، ومتخرجون من قسم الفلسفة، في مختلف بلدان العالم، بما فيها بعض البلدان العربية.
ومن هذا المنظور تمثل الفلسفة مدرسة حقيقية للحرية وحقلًا لتنشيط العقل والقول الحر والسلوك المتحرر والمبادرة. وهو ما تلتقي عنده أغلب أدبيات منظمة اليونيسكو؛ وأما السبب الثاني، فإنه يعود إلى الطبيعة التربوية للفلسفة، بحكم ارتباط الفلسفة بالمؤسسة التعليمية، أي أن الآخر، في أبعاده البيداغوجية، ظل هاجسًا دائمًا بالنسبة للتراث الفلسفي.
أنتج الفكر العربي الإسلامي المعاصر العديد من الأفكار والمشاريع النقدية التي دارت وتدور في الأوساط الفلسفية والفكرية العربية، ابتداءً من ستينيات القرن الماضي، وبالأخص طيلة العقود الثلاثة الأخيرة إلى اليوم، من أجل تقديم بعض عناصر الجواب عن قضايا فكرية كبرى من قبيل: الحداثة، والتراث، والنهضة، والحرية، والاستقلال الفلسفي، والغرب، والذاتية، والهوية، والخصوصية الثقافية، والدين، والتنوير، والنقد، والأيديولوجيا… إلخ.
وقد عملت هذه المجهودات على تأطير تفكيرها من منطلق الانشغالات التي شهدها العالم بعد الحرب العالمية الثانية ومسلسل الاستقلالات من الاستعمار، والمجهودات التي بذلتها منظمة اليونيسكو لتطوير برامج تركز على أهمية إدماج الأفكار الفلسفية في المنظومات التربوية لمحاصرة أسباب العنف والحروب، وذلك من خلال اكتساب مهارات التفكير الذاتي والحس النقدي.
تدريس الفلسفة في مناخ يعاند التفكير النقدي
وفي هذا الإطار لعل المهتم بقضايا الفلسفة في البلدان العربية يجد نفسه، باستمرار، مطالَبًا: أولًا، بالتساؤل عن كيفيات تدريس الفلسفة في مناخ سياسي واجتماعي وذهني يعاند التفكير النقدي؛ ثانيًا؛ بإبراز شروط تشكل هذا الإنتاج في سياق أسئلة تتعلق بالهوية، والخصوصية، والآخر، والعالم…؛ ثالثا؛ بتأطير هذا الإنتاج ضمن تحدّي إعادة قراءة موقع ودلالة التراث الفلسفي العربي الإسلامي الكلاسيكي؛ ورابعًا؛ بـ«جرد» و«تقييم» الإنتاج الفلسفي العربي الحديث والمعاصر الذي تبلور، كما هو معلوم، في سياق يتميز بالقمع السياسي، وأزمة الثقافة، والتعبئة الدينية، والتنمية المُعاقة.
وهكذا إذا رأينا أن الفلسفة تُعلّم التساؤل، وإبداع أو استعمال المفاهيم، والتأمل الذي يفيد العودة إلى الذات والعقل والاعتماد عليهما، والتفكير الدائم في أنماط التفكير، والبحث عن قدر من التوافق، وتقديم نظر عقلاني ممكن (بما يفيد استعمال العقل الذي يفضي إلى فن الحياة وفن العيش)، فإن الفلسفة، فضلًا عن هذه المقاييس، هي نقد للمسبقات والأوهام، وللأيديولوجيات. لذلك تعدّ الفلسفة عملًا، بل كفاحًا سلاحه العقل وأعداؤه تعبيرات البَلاهَة، والتعصب والانغلاق، وحلفاؤه مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية والعلوم الدقيقة، وهدفه الحكمة والسعادة. هذا ما جعل آبيقور يُعرف الفلسفة بأنها «نشاط يمنحنا الحياة السعيدة من خلال الخطاب والبرهنة».
وما دامت الممارسة الحقيقية للفلسفة مرتبطة، عضويًّا، بعملية تدريسها، وما دامت الفلسفة تضطر للتنازل عن تجريديتها للتحول إلى بيداغوجيا، فإن اضطراب هويتها الثقافية، ينعكس، بشكل قوي، على عملية تبليغها وتلقينها. ومن ثم يعيش الدرس الفلسفي في العديد من الأقطار العربية، سواء كان جامعيًّا أو ثانويًّا، مجموعة إشكالات، منها ما هو مؤسسي، وما هو رهين بالسياق المادي، ومنها ما يتصل بالوضعية النظرية التي يتحرك ضمنها، وبالمناخ الثقافي والسياسي العام الذي يتفاعل معه إنْ سلبًا أو إيجابًا.
وعلى الرغم من كل الملاحظات التي تسجّل على الفكر الفلسفي العربي فإن كل التيارات الفلسفية العالمية وجدت أصداء لها، بنسب متفاوتة، في الدرس كما في التأليف الفلسفي في العالم العربي، سواء تعلق الأمر بالديكارتية، أو بالشخصانية، أو بالوضعية، والوجودية أو الماركسية، أو فلسفة العلم، إلى فلسفة التفكيك… إلخ. لكن النزعة الغالبة في الخطاب الفلسفي العربي تجعله يبدو كأنه يتكئ، دومًا، على مرجع منفصل عن سياقه الثقافي، وهو ما جعل هذا الخطاب يعاني غربةً مزدوجةً؛ غربةً عن الواقع الثقافي الذي كثيرًا ما يعاند كل تفكير عقلاني وتنويري، وغربةً عن الروح الفلسفية من ناحية هي قوة سلب، وميل نحو خلق المسافة مع المألوف والتحرر من النصوص؛ أو بما هي «معرفة فرحة» تنشط بالسؤال وفيه، وتصغي لتحولات المرحلة لالتقاط مكوناتها وتفاصيلها.
ترتب على هذا الواقع لجوء المشتغلين بالفلسفة، في كثير من الإنتاجات والمؤلفات حتى في فضاءات الدرس، إلى تناول موضوعات وقضايا بأساليب أقرب إلى ما أسماه هشام جعيط بـ«فلسفة الثقافة» أكثر مما هي في صلب التفكير الفلسفي. صحيح أن أسئلة عديدة تهم الذات والهوية والآخر والتقدم والسلطة والتاريخ طرحت منذ مدة، ولا تزال تصاغ بأشكال مختلفة. وصحيح كذلك أن موضوعات الأيديولوجيا والإبستمولوجيا عُولجت، سواء من خلال الترجمة أو مناقشة مفاهيم معرفية أو أيديولوجية. ولكن المشكلة لا تتلخص فقط في الموضوع، الذي له أهميته القصوى في الفلسفة، لكنها تتجلى في أسلوب التناول، في الكتابة كما في التوصيل. لذلك يبدو أن الوعي الفلسفي في حاجة إلى منح الخطاب الفلسفي ما يلزم من شروط لضمان تجذره الثقافي وتأثيره التربوي.
الحاجة إلى أفق تنويري
ويبدو أن واقع الفلسفة في العالم العربي في حاجة موضوعية إلى أفق تنويري يستوجب معاينات من المفترض فيها الانطلاق من: أولًا؛ تشخيص تاريخي ونظري للوضع الفلسفي العربي ومآلاته، بالوقوف على مظاهر حضوره، مؤسسيًّا وتربويًّا وثقافيًّا، وتطوره، أو تراجعه– ضمن المدة الزمنية التي يمكن اختيارها- وذلك بإبراز العوائق التي حالت دون القيام بالأدوار المنتظرة من الفلسفة، والمجهودات التي بذلت، على الرغم من تلك العوائق، على مستوى التأليف، والبحث، والتكوين، والترجمة.
ثانيًا؛ تشخيص واقع حال تدريس الفلسفة في المؤسسات العمومية والخاصة (جامعات، معاهد، مراكز تكوين…) مع اقتراح خريطة، ولو كانت أولية؛ لتدريس الفلسفة في الأقطار العربية. وما يتعلّق بتدريسها ليس فقط على مستوى الدرس الفلسفي «المتخصص»، بل أيضًا على صعيد ممكنات استثمار الفلسفة في المجالات المعرفية الأخرى (علوم إنسانية واجتماعية، دراسات التراث…)، بما يستدعي ذلك من مجهودات التبيئة النظرية والبيداغوجية.
ثالثًا؛ قضايا البحث الفلسفي وما يعرفه من غموض ومشاكل على مستوى التأليف، والتكوين، والتأطير، وما يفترضه من تجديد في آليات وتوفير الشروط الضرورية لممارسته واستمراره (من قبيل التكوين في البحث Formation à la recherche والتكوين بالبحث recherche Formation par la..
فضلًا عن الحاجة إلى الوقوف على المرجعيات المعيارية والتنظيمية للدرس الفلسفي العربي في الأقطار التي تدرجه في التكوينات، سواء الثانوية أو الجامعية، وتعميق التفكير في المستندات البيداغوجية التي تُؤَطِّر شروط ضمان جودة الدرس الفلسفي والتكوين على القيام به، والنصوص المُنظمة لهذا البحث، وتقييم حصيلته النوعية قياسًا إلى انتماءاته الأكاديمية، في ارتباط بواقع البحث العلمي في العالم العربي عمومًا.
من ناحية أخرى، يبدو من الصعب الحديث عن مقاربة أوضاع الفكر الفلسفي في العالم العربي من دون استحضار نوعية ودرجة حضور التفكير الفلسفي في الممارسات الثقافية العربية في المجالات الفكرية والإبداعية المختلفة (دراسات التراث، وفلسفة الدين، والإبداع الفني والجماليات، والفلسفة السياسية…).
رابعًا؛ إن عملًا تشخيصيًّا للممارسة الفلسفية في العالم العربي يقتضي استدعاء قضايا التأليف الفلسفي والإنتاج المعرفي المكرّس لصالح الدرس الفلسفي، تنظيرًا وممارسة، والوقوف على سيرورة الإنتاج الفلسفي، ومسالكه وآلياته، وطرق تداوله، من خلال النشر والتوزيع، وتوافر أو محدودية توافر مجلات فلسفية مُحكّمة، وما تسمح به من فتح آفاق البحث والتفكير والتداول، والوصول إلى المصادر والمراجع التي تساعد الطلاب والباحثين على اكتساب المعرفة الفلسفية، علمًا أن هناك نقصًا كبيرًا في الموسوعات العربية المساعدة على ولوج المعارف الفلسفية؛
خامسًا؛ الانخراط الجدي في معالجة مسألة الترجمة بالشكل المطلوب وهي، كما هو معلوم، مسألة تنسحب على المباحث والمجالات والعلوم كافة على الصعيد العربي، كميًّا ونوعيًّا. ذلك أنه لا يمكن الاقتصار في الحديث عن الترجمة على جوانبها التقنية، إنما يتعين إبراز مظاهر الخَصَاص الذي يعانيه المشتغل في الفلسفة من صعوبات الحصول على المصادر الأصلية Les classiques مُترجمة بشكل احترافي، مقبول ومفهوم، – حتى إن كان هذا المشتغل مُتمكنًا من لغات أجنبية فإن أغلبية الطلبة لا يحسنون القراءة والتحرير باللغات الأجنبية- مع تنويع مصادر الترجمة والاهتمام باللغات الأجنبية الأخرى، غير الإنجليزية والفرنسية، للانفتاح على أكثر من لغة ومن اتجاه، بحيث يحصل التفاعل الفكري المطلوب ويُستحضَر النقاش الفلسفي العالمي في المجال العربي. والحال أن العديد من الترجمات تكتفي بالتلخيصات والمختصرات، في غياب تام للاتفاق على المصطلحات والمفاهيم، وتوحيدها ومَعْيَرتها. وينطبق الأمر، أيضًا، على النصوص الفلسفية التي ألفها فلاسفة عرب بلغات أجنبية لم تجد طريقها إلى العربية، أو إلى القارئ، مثل مؤلفات محمد عزيز الحبابي، أو روني حبشي، أو نجيب بلدي، أو غيرهم.
أما موضوع ترجمة التأليف الفلسفي العربي إلى لغات أخرى فلا شك أنه يستحق اهتمامًا خاصًّا، حتى إن رأينا أن الفلاسفة العرب المعاصرين لم يسهموا بقسط بارز في الخطاب الفلسفي العالمي (من خلال ترجمات بعض مؤلفات عبدالله العروي، هشام جعيط، وناصيف نصّار، ومحمد عابد الجابري…).
خريطة للدرس الفلسفي
وخلاصة القول أن هذه الملاحظات تتضمن في ذاتها ما يفيد توصيات في أفق استكمال التشخيص، التاريخي والنظري، للفكر الفلسفي العربي المعاصر، ووضع خريطة للدرس الفلسفي، في الثانوي والجامعي، والوقوف على معطيات تدريس المادة ورهاناتها التربوية والفكرية، وواقع البحث الفلسفي، والتأليف والنشر في المجلات والكتب، فضلًا عن إشكاليات الترجمة؛ قبل أن نجعل منه رهانًا كبيرًا لمحاصرة الفكر السحري أو الظلامي.
وعلى الرغم من التدهور الظاهر على الدرس الفلسفي، في الثانوي وفي الجامعة، وانقطاع الدارسين عن الأصول والمظانّ الفلسفية، وسيطرة التقليد، والأصولية الدينية، والعنعنة، والترجمة المتسرّعة، فإن ذلك لا يمنع من معاينة تشكل فرق بحث، ومختبرات، وتكوّن بؤر فلسفية واعدة في أقسام الفلسفة ببعض الجامعات، حتى في الطور الثانوي، بحيث تؤكد وجود كفاءات فلسفية واعدة تبدد بعض التشاؤم الذي يستبد ببعض الراصدين لتطور الفكر الفلسفي في العالم العربي. من هنا كانت الحاجة إلى إدماج الدرس الفلسفي في المقررات التعليمية للبلدان التي لم تقم بذلك بعد، وتطوير مناهج وأساليب توصيله لتكوين ناشئة وجيل يكتسب طرق كيف يتعلم، وكيف يفكر اعتمادًا على ذاته، وكيف يبادر وكيف يحل المشكلات؛ وبإيجاز امتلاك عقل نقدي يقظ قادر على مقاومة تيارات الاستقطاب للفكر المغلق والتطرف العنيف.
ومن المؤكد أن إدماج الفلسفة ومبادئ التفكير النقدي في المنظومة التعليمية والثقافية لم يعد مجرد اختيار إنما ضرورة حيوية لتكوين عقل يجرؤ على السؤال والاستفهام، ويؤمن بالحاجة إلى العمل والمبادرة والمشاركة، ولا سيما في زمن الثورة الرقمية وتنوع وسائل الاتصال والتواصل بين الناس، وفي سياق انتعشت فيه نزوعات التكفير، ودعوات التواكل والقدرية، ومظاهر التضييق على التفكير النقدي باسم أصوليات مختلفة، سواء أكانت أصولية السوق، أو أصولية الدين، كل الأصوليات الدينية.
محمد نور الدين أفاية
* نقلا عن
الفلسفة والحاجة إلى استنبات الفكر النقدي | مجلة الفيصل
الفلسفة والحاجة إلى استنبات الفكر النقدي