عبدالله البقالي - أسليس..

في صيف 1977، جرت أول انتخابات برلمانية بعد رفع حالة الإستثناء التي عمرت طويلا.و التي من خلالها تم ترتيب أشياء كثيرة ، منها أن السلطات أعادت ترتيب البيت الداخلي وفق ما يرضيها و يخدم استمراريتها بالشكل الي تراه مناسبا، و يجعلها الآمرة النهاية. كما أن ذلك كان يعني نجاحها في تقليم أظافر الخصوم و تمكنها من إحداث تحول عميق في طريقة تفكير المواطنين، مشطبة ما كان قد ترسب في أذهانهم من أوهام أيام حرب التحرير. كما انها نجحت في تدمير السلط الرمزية للمجتمع التقليدي من خلال الإجهاز على رمزية القبيلة و الجماعة و تثبيت السلطة في يد اعوانها .
غير أنه بالرغم من ذلك، فحين تم الإعلان عن تنظيم انتخابات، تحدث الناس عن ذلك وفق تصوراتهم و احلامهم، لا كما هي مسطرة في القوانين. و اعتقدوا على سبيل المثال أن المنتخبين ستكون لهم سلطة فعلية تفوق سلطة أعوان الإدارة. و أنهم من خلال الانخراط في العملية، سيعملون على إنجاح المرشح المعبر عن تطلعاتهم، و أنه بتلك الوسيلة فقط، سيعيدون الاعتبار لأنفسهم، و يحتلون المكانة التي تليق بهم كمكافحين قدموا التضحيات من أجل تحرير الوطن. و قد يتعدى الأمر ذلك إلى محاسبة من استفادوا من نضالهم من دون ان يكونوا قد قدموا شيئا للوطن.
كان هذا هو الشائع بين الناس، خصوصا و ان من تزعم هذا التحول نحو النضال السياسي، كان هو نفسه من تزعم الكفاح المسلح محليا، وهو ما جعله أكثر من مجرد مرشح يتقدم للانتخابات. لقد كان يحتل نفس الموقع مرة أخرى كزعيم، و كانوا هم في نفس الموقع كأتباع، و بنفس القدر من الانصياع و الاستعداد للتضحية، و كأن الزمن لم يتحرك أبدا منذ نزولهم من الجبال. و قد زاد من حدة ذلك،خطابات"المكناسي" المدينة لما آل إليه الوضع، موضحا أن الحياة التي يحيونها لا علاقة لها بذلك المجتمع المستقبلي الذي بذلوا التضحيات من أجل الوصول إليه.
قبل يومين من الانتخابات، كان التجمع الأخير لكل المتنافسين. و هي فرصة لكل مرشح لتقييم نتائج حملته. و قد كانت الانظار مركزة على حملتين. حملة مرشح السلطة "محمد بن اسماعيل العلوي" و حملة " أحمد المكناسي" الذي خاض الانتخابات تحت لواء "الاتحاد الاشتراكي " وقد بدا من خلال الاستعراض الهائل الذي شارك فيه كل المقاومين بالدائرة، تفاهة حشد مرشح السلطة. فبالرغم من الدعم المطلق و المياشر للسلطة، فحملته لم تستقطب سوى بضعة مئات من الناس، في حين كانت مسيرة المكانسي تتجاوز العشرة آلاف . و لذلك بدا مستحيلا إيجاد فضاء وسط غفساي يستوعب ذلك الحشد الهائل من اليشر . و لم يكن هناك من خيار سوى التوجه إلى سوق "الحد". و اختار منظمو المسيرة المرور عبر مقر السلطة" البيرو"
كان القايد يومذاك أحد الشباب الحديث العهد بالتخرج. و قد عبر عن حماسة زائدة و غير مسبوقة في تاريخ القياد الذين مروا بغفساي. فقد كان اول من يستيقظ، و آخر من ينام. و لا يتوقف لحظة عن التباهي و التعبير عن كونه رجل سلطة. و قد كانت رؤوس الشباب أهم مجالات غزواته. إذ لم يكن يتوانى لحظة عن اعتقال من يرى ان شعره طويل. فيعمل على حلقه. كما ان دورياته كانت تصل حتى إلى الربى البعيدة عن القرية، حيث كان يلجأ إليها الشباب في الصيف للسهر بعيدا عن مضايقاته.
لم يكن الكثيرون مطمئنين من قرار التوجه الى السوق عبر طريق"البيرو" بل كانوا يفضلون طريق "عين بوسفري" لا لأنها الأقرب فقط، بل من شان ذلك أن يجنب اصطداما محتملا مع رجالات السلطة. إلا أن رفع التحدي كانت هي اللغة التي تعلو كل اللغات. ومن ثم انطلقت الجموع إلى السوق.
حين علمت السلطات بتحرك المسيرة، اتخذ قرار اعتراضها و تفريقها عن طريق تفريق الناس و تخويفهم. و لا أحد يعلم ما ان كان ذلك مجرد غرور من القايد، أم تنفيذا لأمر كلف بتطبيقه.
لم يمض بعيدا، إذ على المفترق الطرقي الفاصل بين الاتجاه المؤدي "للديوانه" و " الزريقة" التقى بالطلائع. و كانت المقدمة مشكلة من شيوخ من " السنتية" و ربما هذا ما شجع القائد على التحدث معهم بكلام ما هو أكيد فيه أنه خلا من الاحترام. و حين لم يجد صدى لما قاله، ترجل من السيارة واتجه إلى احد الشيوخ و أوقعه أرضا. ولم يكد يرفع رأسه حتى وجد نفسه مطوقا من كل الاتجاهات و الناس حوله كالنحل. ربما القايد فهم متاخرا أن الناس الذي عهدهم وفق سلوك معين لم يكونوا كذلك تلك اللحظة. فهم كان مصحوبا بكل أنواع الصفع و اللكم و الركل و البصق. و لا شك أنه الان الأقدر على أن يشرح ماذا تعني اللحظات التاريخية. و كيف يتحول الناس فيها إلى ما يشبه الأساطير.
حاول ان يهرب. ان يترك الناس و شانهم و ليفعلوا ما شاءوا. لكن الوقت كان متأخرا. لأنه كان قد تحول إلى ما يشبه ورقة يابسة في مسار إعصار.
كانت المسيرة هائلة لحد أن من كان في آخرها أو حتى وسطها لم يكن يعلم ما يحدث في المقدمة. و كانت الرؤوس يغطيها اللون الأصفر، و الهتافات تعلو على كل شئ . هم في الغالب كانوا فلاحين و تجار و أساتذة وطلبة و تلاميذ. و حتى النساء كن يطلن او يمشين على جنبات المسيرة، حتى أن إحداهن استدعيت لا حقا من قبل السلطات بسبب زغرودة كانت قد اطلقتها و هي بصدد رؤية ذلك الحشد الهائل من البشر التي لم تر له مثيلا من قبل.
استمر تدحرج القايد المحاط من كل جانب. و قبالة بوابة "البيرو" ظهر ما يناهز خمسين فردا من القوات المساعدة حاملين هراوات غليظة. وبرز القائد الممتاز وهو يأمر رجاله بالتدخل من أجل الإفراج عن القايد و انتزاعه من وسط الحشود. تقدم الشاوش آمرا الناس بالتوقف عن ضرب القايد. وحاول اقتحام الجمع. لكن محاولاته ذهبت سدى. رفع هراوته وهم بضرب احد الشبان. لكن شخصا من الخلف انتزع منه الهراوة ووجها مباشرة الى منتصف ظهره. فوقع على الارض. و انذاك ازدادت الجموع هيجانا. وفر القائد الممتاز مغلقا باب البيرو خوفا من اقتحامه من قبل الحشود. كما ولى افراد القوات المساعدة هاربين لا يلوون على شئ.
في اسفل المنحدر المفضي للسي محمد البهلول، تدخل منظمو المسيرة. شكلوا طوقا مكونا من مجموعة من الاساتذة و بعض الفاعلين في الحزب. و عزلوا القايد عن الجموع الهائجة.
حين وصلت الجموع الى رحاب سوق 'الحد"، بدا عليها أنها تعي تماما انها تعيش لحظة تاريخية.لحظة يتحول فيها التاريخ الى ما يشبه قطارا يخير الآدميين بين أمرين:أن يركبوه او أن يدوسهم.ان يمدوه بحرارة تضحياتهم ، او أن يشطب كل اثر لعبورهم لهذا العالم.و يجعلهم مجرد نكرة لا تحمل هوية. وهم كانوا يشعرون انهم قد ركبوه فعلا حين مروا ببوابة عرين السلطة. و أنهم هزموا غطرستها و أذلوا رموزها، و من ثم كان ذلك الشعور بالانتشاء الذي وصل حد تبادل التهاني ، و هم يستعيدون اللقطات و المشاهد المصحوبة بالتعليقات.
لكن المنظمين كانوا يتصرفون و كان شيئا ما قد انكسر، و ان الترتيب قد زاغ عن سكته. و لذلك فانشغالهم كان يتجاوز حدود اللحظة. فقد كانوا يفكرون في الجهد الذي بذلوه في الحملة و الذي يجب ان يتوج بالنجاح. وهم كانوا يرون أن المؤشرات لا تجعلهم متفائلين. ليس في فوز مرشحهم فحسب، بل في المدى الذي سيصله حجم الانتقام الذي ستقوده السلطة ،مستندين في ذلك على خبرتهم و درايتهم بطبع السلطة الشرس المكتسب من تاريخ صراع مرير طويل . لكن التباين بين انشغال الجمع و المؤطرين سرعان ما تلاشى بعد ان حلقت مروحية عسكرية فوق رؤوسهم.لتشد اليها الانظار . فتدخل مروحية في حدث كهذا يعني ان اشياء كثيرة غير محببة ستحدث. و من ضمن ما يعني ذلك ان السلطة المحلية ربما اشعرت السلطة المركزية بحدوث شئ فظيع، و تجاوز الامر طاقتها من اجل تبرير اندحارها.
ساد الصمت المصحوب بالقلق و الخوف و الترقب. و العيون ظلت تتابع حركة الطائرة و هي تبحث عن مكان تربض فيه. و بدا ما سيحدث بعد حين كواقعة حاسمة يبطل معرفة كنهها جدار لا احد بوسعه تخطيه. و لذلك بسط الصمت سطوته، و حين ترجل أحد ركاب المروحية، تصادف أن تعرف على شخصية كانت قد وفدت من مدينة فاس قد تكون تلك الشخصية ا"لدكتور الشامي "من أجل تأطير التجمع. و يبدو أن الرجلين كانت تربطهما علاقة خاصة . لذلك تبادلا المصافحة بحرارة. و كان لهذه المصافحة مفعول انشطار قنبلة . كما كانت مؤشرا لتحول الصمت المطبق الى صخب و فرحة عارمة ، فتعالى التصفيق و الصياح . و ارتفعت مؤشرات المعنويات بشكل صاروخي لاعلى مستوياتها. و تطوع غير قليل من الحاضرين بتأويلات افادت ان كل شئ على ما يرام.
اشياء كثيرة قيلت في ذلك الجمع. لكنها لم تستطع ان تبدد ذلك الخوف الذي سيواجهه كل واحد حين سيصير كل واحد على حدة. مؤشرات كانت بادية بوضوح من خلال تدفق رجال الدرك و االمخزنية الذين كانوا يأخذون مواقع هنا و هناك
و قبل غروب الشمس،وبعد ان تفرق الجمع، بدات أكبر عملية اعتقال لم تشهد المنطقة لها مثيلا . و لتشمل شخصيات من مختلف ربوع الدائرة تقريبا. اعتقالات همت الاساتذة و المقاومين و الفلاحين و التجار. وهو ما أثار الرعب ليس في غفساي وحدها، بل في كل ربوع الدائرة. و خلت الشوارع من الآدميين لتملأها فقط آليات السلطة التي لم تترك مكانا لم تصل إليه. و ظل الجميع في حالة رعب ينتظر انقضاض اللامتوقع. و هكذا تم اعتقال كل الرموز المؤثرة و من ضمنها
الاستاذ محمد الرخيصي
لزعر البوزرقي او محمد الغلامي
المعلم احمد الحداد
الفوال لفضيل
سريع عبد السلام
الغلامي الهادي
عبدالسلام الهواري
محب عبدالقادر
مولاي عبد الشافي البقالي
الحاج الحويسن او بواط
على ولد غيتة
الدهبي احمد
الشيخ الطالب
عبدالرحمن الداودي
علي ولد عائشة المرابط
البواط احمد العطار
لحسن المزموك
بةشتى الحاجي
عبد السلام بن قاسم
علي بن احمد بواط
محمد ولد علي بن احمد بواط
عيد السلام ولد سي الحاج
المفضل مامون
الحاج الطالب
و أسماء أخرى كثيرة أعتقد ان الإخوة سيوافون بها
لكن لا بد من ذكر أن هذا لم يكن الإجراء الوحيد الذي اتخذته السلطة، إذ دشنت خيارا آخر ، و هو تأديب صنف ثان ممن اعتبرهم متمردين في مقرها عن طريق الجلد و الضرب بخضور القائد الممتاز علوش و محم اسماعيل العلوي نفسه، و الشيخ . إذ لم تكتف السلطة بمؤازرة مرشحها ، بل تعدى ذلك إلى ما هو أبشع، و ترسيخ حقيقة مفادها أن الشعب وجد ليخدم السلطة و ليس العكس. و هكذا لم تخل الوقائع من قصص وصلت حد الطرافة. فهناك من اعتقلت لانها زغردت. و هناك من قدم للمحاكمة بتهم غريبة كأتهامها لأحدهم بكونه رجم صورة الملك في" بني موزلات". و انه اطلق عليها حجرا من داخل غرفته. كما انه يجدر القول انه هناك لا ئحة من المتابعين الذين لم تتمكن السلطات من اعتقالهم، الامر يتعلق بمجموعن من ضمنها الاخ محمد الحداد الذي اضطر لترك عمله، و توقيف اجرته. خصوصا و ان مديره لم يكن غير السيد محمد بن اسماعيل العلوي. كما ان هناك طائفة من رجال و نساء التعليم، تم تنقيلها عنوة الى المداشر كإجراء انتقامي لمساندتها مرشد الاتحاد الاشتراكي السيد محمد المكناسي. و لم تتوقف الامور عند هذا الحد. فقد ابدع انصار محمد اسماعيل العلوي في التنكيل بمناصري السيد محمد المكناسي وقاموا بشتى التجاوزات التي مست حقوقهم. و لكن المتضررين لم يتقدموا باي شكاية. فقد كانت السلطة بالنسبة لهم هي ايضا خصما لا يتوقعون منه اي انصاف. و كل ذلك سيشكل مقدمة لاسخن صيف في تاريخ المنطقة، التي ستعيش على ايقاع محاكمة اصحاب الحملة. محاكمة ستتحول الى مشهد سيتابعه المغاربة كلهم عبر تغطية صحيفة "المحرر" لها .
عندما اختارت السلطة سياسة الحديد و النار كلغة حوار مع الاتحاديين و المتعاطفين معهم، كانت تعي أنها بصدد عملية أكبر من دعم مرشح، و إفشال آخر. و لعل مصدر قلقها كان من تأثير الخطاب السياسي الذي راج أثناء الحملة، و الذي لم يكن بمستطاعها فعل اي شئ من أجل تعطيله ومحاصرته. و لهذا كانت تبذل كل ما في وسعها من أجل محاصرة وتطويق تأثير ذلك الخطاب الذي أكسب الناس جراة و جعلهم يتخلصون من سلطة الخوف.و بالتالي وظفت كل الاساليب للحيلولة دون أن يتجذر ذلك في سلوك الناس. و هكذا تم تقديم مجموعة من المعتقلين للمحكمة و في خطوة ثانية، قامت باستقبال أفواج من المعتقلين صنفوا من قبلها كأصحاب الصف الثاني ، و تم جلدهم في مقرها. و أطلقت يد أعوانها من أجل إعادة الناس إلى الجحور. ثم تولت عزل المنطقة عن العالم، محاولة التعتيم و منع الناس من متابعة ما كان يستجد في أطوار محاكمة ما يمكن تسميته ب" معتقلي غفساي". تلك المحاكمة التي نقلت غفساي من مجاهل النسيان ، و جعتلها تتبوأ مكانة بارزة في واجهة القضايا الوطنية، و تتسيد المشهد السياسي لشهور طويلة. خصوصا و انها حظيت بمؤازرة ما يتجاوز الخمسين من أمهر و أشهر المحامين على الصعيد الوطني. و اعتبرتها جريدة "المحرر" من قضاياها الأساسية ، لحد انها أفردت لها تغطيات و مواكبة شاملة مست كل كبيرة و صغيرة تتعلق بها. و لعل هذا ما جعل السلطة امام يقين يفيد ان هذا المارد لن يعود لقمقمه. و في محاولة يائسة من اجل التخفيف من ورطتها، ضغطت بكل الاساليب على مستورد الجرائد من اجل التوقف عن ذلك. و لم يكن هذا الشخص سوى السيدّ "عبد الوهاب المرزوقي" وهو حسب علمي لم يكن اتحاديا. لكن لا شئ كان يحول بينه و بين مناصرة أي صوت معارض. خصوصا و ان عائلته كانت تكتوي بنار حرقة لم تكن السنوات تزيدها إلا تأججا.، جراء فقيدها "أحمد المرزوقي" الذي لم يكن أحد يعلم ما إن كان لا يزال على قيد الحياة أم لا. وهي في سبيل هذه المحاصرة، اعتمدت على فريق محمد بن اسماعيل العلوي من أجل بناء شبكة من المخبرين ضمت حتى النساء من أجل محاولة ضبط قنوات الاتصال التي كانت تسرب ما يحدث في الخارج إلى الداخل. و مرة أخرى أتت النتائج بعكس المتوخى منها.. و عوضا عن ان يتراجع الاهتمام بالقضية، فقد تنامى حب الاستطلاع حتى من قبل من كان عدم الاكتراث من طبعهم. و الواقع أن الإشعاع المرفق بتطور القضية، جعل كل من ينتمي للمنطقة يشعر بالزهو و الفخر في كونه يسنتسب لتلك الرقعة التي شغلت العالم. رقعة شئ لها أن تكون فضاء يتمدد فيه العدم و اللاجدوى، لكنها تحولت الى نقطة تشد الانظار و تطرح التساؤل.
انقلب السحر على الساحر. و بدا أن محاولة تقزيم الخصوم و دحرهم قد أتى بمفعول عكسي. إذ ان الذي حصل هو ان السلطة هي التي تقزمت و عزلت. و بدت بهياكلها و بمخبيرها عاجزة تماما عن التأثير في المشهد. و لاح من خلال التطورات، أن السلطة قد نفذت ذخيرتها. و كان لا بد من تدخل أكبر. وهو ما حدث فعلا.
التدخل لم يكن انفاعليا هذه المرة. بل استند إلى تشخيص دقيق، و تشريح ادق. فقد تم الانتباه إلى ان قاطرة الحركة تتألف أساسا من رجالات المقاومة و جيش التحرير. و بالتالي فالارتباط بين عناصرها لم يكن في العمق سياسيا. بل هو ارتباط بشخص كان رمزا و زعيما في الماضي. لكنه حاليا لا يملك أوراقا كثيرة تجعل من ذلك الارتباط لا فكاك منه. و هنا لاح طيف "سليمان حداد" الذي كان وقتذاك عاملا على اقليم العيون في مرحلة شديدة الحساسية. و سليمان الحداد بدا أنه المفتاح لتغيير قواعد اللعبة من أساسها. فهو أيضا كان قائدا إلى جانب محمد المكناسي. صحيح أنه ليس من نفس الرتبة كزعيم أول. و لكنه خبر الادارة من خلال عمله بالادارة الفرنسية ايام الاستعمار. وهو كحاضر يملك اوراقا كثيرة و اغراءات لا يمتلكها السيد محمد المكناسي. اضافة كما اشرت أنه ينتمي لنفس الموقع الذي بنى منه محمد المكناسي موقعه و قاعدته.
حين اعلن السيد سليمان الحداد عاملا على اقليم تاونات، لاح ان السلطة المحلية في غفساي كانت كبش فداء. علما انه لا يجوز قول هذا في السياسة. فالسلطة هي السلطة، بفروعها و مركزها. لكن المشكلة أن الناس ينظرون الى ما يحدث على اساس أنه فعل أشخاص، و دون ربط ذلك بأي خلفية .غير ان الحدث كخطاب، كان يفيد ان الأسلوب المنتهج من قبل السلطة المحلية قد صار شيئا من الماضي. و في علاقة سليمان الحداد بغفساي، لا بد من الإشارة إلى انه كان قد شكل إلى جانب ترجمان جزائري يسمى " مصطفى" مصدر معلومات لصالح رجال المقاومة. و من هنا بنى مركزه. و ما يحكى عنه انه في اول دخول لجيش التحرير إلى غفساي بعد انسحاب الفرنسيين، دخل السيد سليمان الحداد غفساي دخول الملوك. فقد كان يقف في منتصف سيارة جيب و هو يلبس سريلا قصيرا ، و يتلقى تحيات الناس الذي كانوا يقفون على جنبات مسار موكبه. و معنى ذلك انه احتل من اليوم الاول مركزا قياديا. و يحكى عنه انه كان شديد المراس، غليظ الطبع. و كان وراء قرارات من بينها اجتثاث بصمات الفرنسيين من غفساي. وصلت حد اقتلاع الاشجار التي لم تكن موجودة و التي كان الفرنسيون قد جلبوها معهم. و في هذا المسعى تمت ما يمكن اعتباره جريمة في حق الذاكرة. إذ سيتم إتلاف معالم نصب تذكاري صار يحمل اسم المكان"الموليما" وقد كان عبارة عن قبر أو نصب تذكاري لجنرال فرنسي كان قد قتل في معركة البيبان. و حسب الراحل السيد عبدالسلام السنون، فقد كان مكتوبا في لوحة النصب" هنا يرقد الجنرال "ديزاسطر"الذي سقط في ساحة الشرف "البيبان" في ماي 1925. كما تم في اطار هذه الحملة أتلاف معالم القاعدة العسكرية الصغيرة في "لاس راص" وهنا يرد السؤال: هل كان ما حصل عملا عفويا انفعاليا من قبل الناس، أم كان تدبيرا محكما يهدف إلى إتلاف معالم ذاكرة الأهالي؟
مشروعية هذا السؤال متصلة بشكل وثيق مع أولى مغازلات السيد سليمان حداد لرجالات المقاومة و جيش التحرير. حين قرر إقامة نصب تذكاري تخليدا لمعركة "الغديرا الزرقا" و هي المعركة الوحيدة التي تم الاحتفاء بها . علما أن هناك معارك اخرى اكثر اهمية تركت لتعانق النسيان مثل معركة"عقبة اغزاوة" و معركة "البيان" و "اللبابنة" و غيرها. و من هنا فالاحتفاء بتلك الذكرى لم يكن سوى مجرد توطئة لندشين المصالحة. لكن على اساس إعادة الوضع لما كان عليه. من خلال الاحتفاء بنفس التاريخ و نفس الرمز، ودون اي شرط. مع استبعاد كل من يحول دون ذلك. و لم يكن القصد بهذا غير المطالب السياسية للمعارضة.
على اي حال كانت مهمة السيد سليمان حداد واضحة. محاصرة المد الاتحادي. و اعادة ادماج السلطة في المجتمع. وهو في هذا المسعى لم يترك مدشرا لم يزره. و لم يترك اسما مؤثرا لم يسأل عنه و يستدعيه. و فتح مكتبه و داره لكل من يرغب في الاتصال به. و صار الناس نكاية في السلطة المحلية لا يعرضون قضاياهم الا على سليمان حداد، حتى صارت السلطة المحلية تتملقهم و تستعطفهم. وهو ما حدا بالمرحوم المعلم احمد الحداد أن يقول بمرارة" سليمان حداد راد الناس كلم شكامة"
لقد تجلت الصورة الان. و بدا اننا انتقلنا من " أسليس" إلى "بوتليس" و لمن لا يعرف بوتليس ، فهو ذلك العمى الذي يحول دون الرؤية بعد الغروب. و العجزة كن يردن ذلك إلى كون المصاب به كان يأكل أمخاخ الدجاج . و إذا صدقنا أن هذا المرض مرتبط بأكل الامخاخ، فهل كان المصابون في علاقتهم بهذه الوجبة هم الفاعلين أم المفعول بهم؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى