يحمل كل من الشرق والغرب وجهات نظر مختلفة في الثقافة والادب والفلسفة، وهذا يعكس بطبيعة الحال الاختلاف في البنية الاجتماعية أيضا. ويعود تاريخ اهتمام المثقفين بقضية لقاء الشرق مع الغرب لعدة قرون خلت. ولكن تزايد الاهتمام في العقود القليلة الأخيرة، فإشكالية شرق/غرب لا تزال قيد الدراسة في عدة مراكز أكاديمية ونجم عن ذلك بالنتيجة نظريات ثقافية واجتماعية بعدة صيغ.
مع التعولم وتزايد الهجرة أصبح الحوار بين الحضارات والمثاقفة متطورا واكثر تأثيرا. وقد تحكم باحتمال الحوار، ان تجد لغة مشتركة بين الطرفين المختلفين راديكاليا وهما الشرق والغرب، املاءات سياسية وبالأخص في المناطق التي انتشر فيها المسلمون والمسيحيون جنبا إلى جنب. وقد انتقل هذا الحوار من العلوم التطبيقية إلى الإنسانيات ووجد أرضا خصبة في الأدب. وحاز لقاء الشرق مع الغرب، ووعي كل منهما بالآخر، على اهتمام خاص من كلا الطرفين، المفكرين الأوروبيين وكذلك الشرقيين.
وشمل مجال الاهتمام المقارنة بين الشرق العربي والغرب الأوروبي وتم الاصطلاح على تسمية ذلك بصراع الحضارات (هنتنغتون: 1997: 1-2).
وخلال عهود الاستعمار، كانت الموضوعات المتعلقة بلقاء العالمين المختلفين تماما، تأخذ شكل صدام بين ثقافتين، وهو ما عبرت عنه النصوص الأدبية. وكان الخطاب الأدبي الأوروبي، وكذلك الشرقي (العربي، حيث تشكل موضوع معركة الشرق مع الغرب)، في الواقع نتيجة للسياسات الغربية الاستعمارية. وهو ما تسبب بخلق نظام كامل حدد أسلوب تعامل أوروبا مع العالم العربي، بما عرف عنه من فرز لأنماط خاطئة، ركزت جهدها لتعذر أو تبرر سياساتها التوسعية. ومن الطبيعي أن يستجيب الشرق لذلك بما يراه مناسبا، وهكذا تزايدت الرغبة في تشكيل شخصيته الخاصة وإنجازها. وعليه كون الشرق أنماطا معاكسة عن الحضارة الغربية.
فالبورتريه الذي رسمه الشرق لنفسه، في الأدب العربي الحديث، كان له شكل فضاء ثقافي موجه ضد الصور السلبية المضادة. ومن الواضح أن ذلك تسبب للخطاب الأدبي برسم نقاط تقاطب لا تدل إلا على المفاهيم الروتينية والصور المتعارضة لهذه العلاقة التنافسية.
حتى أن بعض النصوص الأدبية العربية، التي انتشرت في القرن العشرين خلال فترة الاستقلال والبناء، وطوال فترة تفكيك الاستعمار، قد تحولت إلى نوع من أنواع أسلحة الانتقام. فالموضوع المتكرر عن صدام الثقافات، كان بمعظم الحالات، تعبيرا عن تجارب شخصية لأدباء مروا أنفسهم بمحاولة تخطي الحاجز القائم بين العالمين. وقد خصص المثقفون العرب الذين أوفدوا إلى الغرب جزءا كبيرا من كتاباتهم لبحث هذه المشكلة. ولذلك يمكن النظر إليهم كأبطال لأعمالهم الأدبية سواء حصل ذلك عن عمد أو بالوعي الباطن.
لقد تشابهت الروايات العربية التي ركزت على لقاء الشرق والغرب، حتى أنها تحولت لظاهرة ثابتة. ويمكن القول كان للروايات مضمون متماثل: فالبطل يقف وسط معركة الشرق ضد الغرب. وغالبا يكون قد نشأ في مجتمع إسلامي تقليدي. وسافر إلى أوروبا لمتابعة دراساته، وهناك يمر بأزمة روحية نتيجة الصدمة الثقافية مع معايير الغرب. وقد كانت مشكلة الهوية الثقافية حادة فعلا. فهو يشعر بالانقسام، ويتبدل من داخله، ثم يعود إلى الوطن بشخصية مختلفة. لكن التعايش مع الحضارة الغربية وتقاليدها يسبب له تفاقم الشعور بالاغتراب وتضاعف أزمة الهوية. وكان الجزء الأهم من تشكيل وصياغة شخصية البطل يعود لتمزقه بين امرأتين: أوروبية مضيفة وشرقية (محلية). لقد أصبح هذا المجاز، الذي يأخذ شكل علاقة غرام، ظاهرة عامة في كل الروايات- الرجل الشرقي يضيع بين امرأتين، بمعنى أنه يقف بين ثقافتين متنافستين. فالعلاقة مع المرأة الغربية يقوده إلى حضارتها، وبعد العودة يجاهد للاندماج بمجتمعه المحلي وربما يقترن بامرأة محلية.
وبعض الروايات (مثل أديب لطه حسين أو موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح) تكشف عن صراع يتطور داخل ذهن الكاتب الذي لا يمكنه رؤية طريق باتجاه واحد لحل مشكلته. وتعمد لتوظيف طرق فنية تقدم للقارئ فرصة التعرف على مفهومين: أحدهما راديكالي، والآخر- أكثر اعتدالا. وغالبا تنتهي العلاقة مع الغرب بمأساة تصيب واحدا من الطرفين. وتسمح للثاني بالعودة والاحتفاظ بهويته السابقة.
و من الأمثلة على هذه الصيغة (حسب تاريخ الصدور):
1- أديب لطه حسين (1935).
2- قنديل أم هاشم ليحيى حقي (1944).
3- الحي اللاتيني لسهيل إدريس (1953).
4- موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح (1966).
ويمكن الإشارة لمثالين إضافيين هما: عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم (1938) والدكتور إبراهيم لذي النون أيوب (1939). huaa
وأعتقد أن الكاتب والمفكر المصري طه حسين (1889-1973) هو أهم شخصية مؤثرة في الحداثة العربية خلال القرن العشرين. وهو رائد من العقد الأول، وقد درس في جامعة القاهرة وتابع تحصيله في فرنسا، وهذا ما أثر على تصوراته عن العالم. وقد أيد طه حسين الانفتاح الثقافي على الغرب الأمر الذي سمح للمصريين بالتعرف على أسرار تطوره. وقد وضع طه حسين مصر وأوروبا في جعبة واحدة واعتبر أنهما جزء من الحضارة المتوسطية بشكل عام. وبرأيه، تدين الحضارة الأوروبية لكل من حضارة مصر وللحضارات التي لها أصول أغريقية، بالإضافة للإسلام والمسيحية، ناهيك عن المؤثرات الإغريقية المباشرة.
عموما شجع العثمانيون على الترحال في أوروبا، بينما فضلت مصر أن تكون معزولة. لذلك وقف طه حسين ضد السيادة الأوروبية، ولكن في نفس الوقت تكلم عن الحاجة لتبني نمط التعليم والتثقيف الأوروبي. وقد ألهم هذا الكاتب الشباب، وعلمهم أنه ليس من المفروض أن يتحولوا إلى أوروبيين، ولكن عليهم أن يبذلوا جهدهم لاكتشاف أنفسهم (العناني: 2006). وقد نشر طه حسين روايته (أديب) عام 1935. واستخدم طريقة فنية قارب بها موضوعة لقاء شرق- غرب، ولم يكرر هذه التجربة في بقية أعماله. وقد اختار أن يكون للحبكة خطان أساسيان ، وكان السرد تعليميا بشكل واضح. وذهبت الشخصيتان الأساسيتان – البطل والراوي – باتجاه واحد. كلاهما سافر من مصر إلى باريس بمنحة. وتكلما عن خبراتهما بالكتابة. واصطدما بحضارة أوروبا الحديثة وتأثرا بها. وكانت مشكلتهما هي تحديد الهوية الثقافية بمواجهة الحضارة الأجنبية، وأسهم ذلك بتشكيل ثقافتهما ووجهات نظرهما عن العالم، وخلق تنافرا بينهما وبين الطريقة القديمة أو التقليدية في الحياة. وكانت الأفكار المختلفة والمتعارضة تبرز في الرواية خلال إقامة البطل في الغرب. من جهة مثلت أم أديب دور الشخصية الأساسية التي تتبنى الفكر القديم والتقليدي، فقد اعترضت على سفر ابنها إلى أوروبا. ومن جهة مقابلة، مثل أديب نفسه المشتاق للسفر والدراسة التفكير المعاكس، ولم يوفر جهدا لتحقيق ذلك. حتى أنه طلق زوجته ليصل إلى حلمه. وكانت الثقافة العربية التقليدية تبدو دائما في الروايات العربية بشكل أنثى. وهذا رمز شخصنه طه حسين في (أديب) من خلال صورتي الأم والزوجة المصرية. وقد تكررت نفس الصورة لاحقا بأشكال مختلفة في الروايات العربية التالية.
ومن المهم أن تلاحظ أن طه حسين قدم الأم على أنها تعارض سفر ابنها. وبالضبط كانت الأم الجهة التي لا تسمح لابنها بمغادرة أرض الوطن إلى الغربة. وفي هذه الرواية، يؤكد طه حسين على العزلة الثقافية المفروضة على مصر ويوظف أفكارا نمطية عن العالم الخارجي، وهي أفكار موجودة في ذهن المجتمع المحلي التقليدي، والذي يرى أن رحيل شاب إلى الخارج عبارة عن خطر غير مرحب به. وقد صورت رواية (أديب) موقفه من كلا الثقافتين الوطنية والأوروبية في واحدة من رسائله، التي أرسلها إلى الراوي ويقول فيها: “ولكن اذهب إلى الأهرام… وانفذ إلى أعماق الهرم الكبير.. وستحس اختناقا وسيتصبب جسمك عرقا، وسيخيل إليك أنك تحمل ثقل هذا البناء العظيم وأنه يكاد يهلكك. ثم اخرج من أعماق هذا الهرم واستقبل الهواء الطلق الخفيف. واعلم بعد ذلك أن الحياة في مصر هي الحياة في أعماق الهرم. وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من هذه الأعماق”. (أديب لطه حسين: ص 155).
لكن الخط الأساسي الآخر في الرواية، لا يدعو للتأقلم مع الثقافة المحلية. ولنتوقف عند لحظة وصول (أديب) إلى باريس. ستجد أنها تترافق مع شعوره المزمن بالاغتراب. وعلى الرغم من أنه تبنى أساليب الحياة الغربية وانفصل عن جذوره، فقد فشل في الاندماج، وهو ما أدى في النهاية إلى تفككه وانهياره. وفي حالة الراوي (الشخصية الأستسية الثانية في الحبكة) يتم تخطي أزمة الهوية لأنه لم يفترق عن جذوره، وحاول أن يتبنى فضائل الثقافات الأخرى، دون أن يمنعه ذلك من الاحتفاظ بفضائل ثقافته. وعليه، طور طه حسين في روايته فكرة مفادها: إنه ليس من الضروري أن تبدل وتفقد هويتك الخاصة، أو أن ترفض خصوصياتك وتتبع الآخر على نحو أعمى، ولكن عليك إدارة وتحديث هويتك مع التأكيد على ضرورة الاحتفاظ بها.
ويأتي يحيى حقي (1905-1992) بمكانته بعد طه حسين. فهو الكاتب المصري الأشهر في القرن العشرين، وواحد من مؤسسي جنس الرواية القصيرة في النثر المصري. وروايته القصيرة (قنديل أم هاشم) لا تصور أدبيا فقط التوتر التقليدي بين الشرق والغرب، ولكنها أيضا تتبنى تكنيك الكتابة المتميز الذي يتقمص به الكاتب تصوراته ويبني الجانب العقلاني منها. لقد قدم الكاتب بمهارة تلك الصور التي تعبر عن التعارض القائم بين الشرق والغرب، المادة والروح، حالة العزلة الإنسانية والرغبة بالحركة والتفاعل (غاردافاتس Gardavadze، 2007).
وإسماعيل هو الشخصية الأساسية في الرواية- فقد ترعرع في كنف عائلة مسلمة تقليدية حيث أن الأعياد الدينية والروحانيات والعادات الشعبية جزء من الحياة. ثم يذهب للدراسة في إنكلترا. وبعد سبع سنوات من تفاعل تقاليده الثقافية مع حضارة أوروبا، يعود لموطنه بصورة مختلفة. ومع أنه كان يحمل شهادة بطب العيون لكن يغمره الشعور الحقيقي بالاغتراب.
وللتأكيد على تبدل اسماعيل يوظف الكاتب مجددا مجاز علاقات الغرام. وأهم جزء في وصف شخصية البطل تقوم به ماري، وهي زميلة اسماعيل الأوروبية. إن ماري رمز للثقافة الغربية، وعلاقتها مع إسماعيل تمثل التعارض بين الطرفين. وتبدو الثقافة الغربية هنا نشطة، ومحرضة، بينما الثقافة الشرقية تستقبل هذا النشاط، كأنها جهة تتلقى وتتعلم.
إن دور ماري كان في تحرير اسماعيل من التقاليد والعواطف، ومنحه الثقة بنفسه وبالعلم. وبالنتيجة، يفقد اسماعيل قناعاته الدينية المرتبطة بقوة بقيم ثقافته. ومثل هذا التبدل يسبب له أزمة روحية. وبهذا الخصوص يقول الكاتب:”كانت روحه تئن وتتلوى تحت ضربات معولها، كان يشعر بكلامها كالسكين يقطع من روابط حية يتغذى منها إذ توصله بمن حوله. واستيقظ في يوم فإذا روحه خراب لم يبق حجر على حجر. بدا الدين له خرافة لم تخترع إلا لحكم الجماهير…” (سلسلة ترجمات جديدة، 2009).
وتبدأ ازمة اسماعيل الثانية بعد عودته لموطنه. فطبيب العيون المثقف يواجه عقيدة الشعب وتقاليده بعد أن يصل إلى أرض مصر. كان المواطنون المحليون يؤمنون أن زيت مصباح مسجد أم هاشم (وهو نفسه السيدة زينب) يشفي أمراض البصر لأنه معجزة. وحينما يشاهد اسماعيل كيف تسكب أمه قطرات من زيت مصباح أم هاشم في عيني ابن عمه وخطيبته فاطمة نبوية من أجل العلاج، يثور غضبه ويكسر المصباح في المسجد. وبعد أن يهرب من غضبة الجموع يقرر أن يعالج خطيبته بنفسه. ويحاول جهده وفي النهاية يفشل ويستسلم لمعجزة زيت المصباح.
لقد سقط اسماعيل روحيا حينما ابتعد عن جذوره، ولكن نور الإيمان ينقذه من سقطته في خاتمة المطاف، وعن ذلك يقول:”أين أنت أيها النور الذي غبت عني دهرا؟. مرحبا بك لقد زالت الغشاوة التي كانت ترين على قلبي وعيني”( سلسلة ترجمات جديدة، 2009).
وسيفهم اسماعيل أن المعرفة والعلوم بحاجة للإيمان، وترمز الرواية لذلك بزيت القنديل.
فالشخصية الأساسية توائم بين قيم الشرق والغرب. ولكن يؤكد يحيى حقي على الجانب الروحي من المواجهة التي صورتها أزمة اسماعيل الروحية وانتهت بعودته إلى طقوس دينه.
ويتابع المهمة الكاتب اللبناني سهيل إدريس ويقدم لنا الجانب الاجتماع نفسي من المعركة بين الثقافتين. وروايته (الحي اللاتيني) مثال كلاسيكي عن صدام الثقافات في الأدب العربي كما يقول الدكتور العناني (2006).
يوظف سهيل إدريس أيضا المجاز التقليدي لعلاقات الغرام. ويصور الشرق بشكل رجل عربي، بينما الغرب يرمز له بامرأة أوروبية. ويرافق الراوي/ البطل صديقان يذهبان من بيروت إلى باريس لدراسة الأدب. وتلعب باريس بالنسبة للبطل، وكذلك باقي الطلبة في باريس، دورا معرفا للحرية. يقول:” كأنهم ألقوا أثقال الرصانة التي كانت تثقل أكتافهم في بلادهم، وشعروا شعورا عميقا بأنهم مدعوون إلى أن يسرقوا في باريس حياة منطلقة لا يحد من حريتها قيد، فاستجابوا لهذه الدعوة بكل ذرة من ذرات وجودهم، وخلفوا وراءهم أغلال ماضيهم” (إدريس: 2001: 19).
ومنذ أن اغترب البطل عن بيئته الثقافية- الشرق، وهو يمر بوقت عصيب. فقد كان يبحث عن نفسه من خلال الاحتكاك بالغرب. لكنه انقسم بين الثقافتين، وأصبح وسط صراع مستمر ضد صوته الداخلي. يقول :” كفاك هذرا. أنت تنسى مرة أخرى أنك في باريس.أخرجها من نفسك. بيروتك هذه. أخرجها، فاقتلها ثم ادفنها!. أما باريس فواجهها كما هي. وتأملها مليا ولن تلبث هي نفسها أن تتسلل إلى قلبك فتعيش فيه”. (إدريس: 2001، 22).
والرواية تصور في كل مراحلها كيف أن الطلبة العرب في باريس ينجذبون للمرأة الغربية. والبطل يتحسس من ذلك، وهو يريد أن ينجو بنفسه من هذه الورطة، وأن يجد ملجأ في الشرق. ويقارن حرية النساء الفرنسيات مع محبوبته الشرقية المحافظة ناهدة، وهذا هو سبب افتتانه وتحفظه أيضا. لقد مر البطل بأزمة داخلية أمام الثنائي الذي يصعب المقارنة بين طرفيه، من ناحية المعايير والأخلاق.
وبعد خيبة الأمل الأولية، يجد البطل فتاة أحلامه- جانين، والتي تلعب دورا هاما في تقدم مراحل تحوله. ويقول الكاتب عن علاقته مع المرأة الفرنسية إنها الحب المثالي الذي ينفذ إلى روحه وجسده. ولكن لا يمكن لهذا الحب المثالي أن يتحمل ضغط التقاليد.
وتبدو أم البطل في الرواية كمدافعة عن التقاليد الشرقية. وكانت أمه هي السبب الذي حدا به لإنهاء علاقته مع جانين. والأم هنا ترمز للثقافة الشرقية، المتجذرة عميقا في ضمير البطل، والتي لا يمكنه الفرار منها. وكلمات الأم تهز أوتار قلب ابنها، فالقيم الثقافية هي التي تخلق الأفراد وتضعهم تحت سطوة أحكام العائلة والمجتمع. ونتيجة ذلك يشعر البطل بالتقاطب. إنه يطيع أمه ويكتب رسالة اعتذار إلى جانين يرفضها بها، مع أنه في نفس الوقت كان تحت تأثير أزمة داخلية تعصف به. وبعد العودة إلى باريس، يحرر البطل نفسه من سلاسل التقاليد، ويحاول بيأس أن يجد مكانا له للحياة مع جانين. ويطلب يدها للزواج ويعرب عن استعداده لمرافقتها إلى مسقط رأسه. ولكن جانين، بالرغم من حبها له، تكتب رسالة ترفض فيها اقتراحه وتختفي من حياته للأبد. وتكشف رسالة جانين بوضوح عن نهاية رحلة البحث التي بدأتها الشخصية الأساسية.. فقد لحق به التبدل ولكن عاد لمجتمعه ليتابع مسيرته، تقول الرسالة:” لقد اجتمعت أمس بإنسان لا أعرفه.. فوجدت أن دنياك التي تحلم بها أعظم وأوسع من أن يستطيع الثبات فيها شخص ضعيف مثلي. إنك الآن تبدأ النضال أما أنا فقد فرغت منه.. قرأت أمس في عينيك استعدادا طويلا، طويلا جدا للمقاومة والصراع، إنك إنسان جديد يعرف الذي يريده، ويسعى إليه بثقة وإيمان. لقد وجدت أنت نفسك أما أنا أضعت نفسي… فامض قدما يا حبيبي، ولا تلتفت إلى ما وراءك، أما أنا فسأستمد دائما من حبي لك، وقودا يشع علي. فدعني هنا أتتبع حتى النهاية، وعد أنت يا حبيبي إلى شرقك البعيد الذي ينتظرك ويحتاج إلى شبابك ونضالك (إدريس: 2001، 281-282).
ولكن سهيل إدريس لا يحدد أي نوع من النضال ينتظر من البطل. مع ذلك، إن فكرة القومية العربية والاستقلال والوحدة تهيمن على الرواية. وكذلك مشكلة الخصوصية والرغبة بالتحرر من تأثير التقاليد. ويكتشف البطل أنه بحاجة للحرية الفردية، ويعود إلى مجتمعه جاهزا لتبديل الظواهر الاجتماعية “الان نبدأ” ( إدريس: 2001: 285)، بهذه الجملة تنتهي الرواية.
بعد هذا التأويل الاجتماعي يدخل الكاتب السوداني الطيب صالح لميدان المواجهة الثقافية ويصور الجانب السياسي منها. ويؤكد أكثر من سواه على أن الهوية الثقافية ناجمة عن الصراع بين قيم الثقافتين الشرقية والغربية. ومن الواضح أن فترة ما بعد الاستعمار كانت مشحونة بالسياسة لدرجة التوتر بالمقارنة مع ما كانت عليه في فترة الاستعمار.
ينتمي صالح لمجموعة من الكتاب العرب الذين يحملون “هم ثقافتين”. وموضوعة المواجهة الثقافية تكشف عن نفسها غالبا بشكل جنوسة تقوم على إشكالية.. المرأة بيضاء والرجل أسود. المرأة أوروبية والرجل من أصل إفريقي. وهناك مواجهة بين العالمين تجدها خلف هذه العلاقة، وتأخذ المشكلة أسلوبا دراميا في (موسم الهجرة إلى الشمال)، وبالنتيجة منحت الرواية كاتبها اعترافا دوليا منقطع النظير (Grdzelidze جيرتزليتس، 2009: 107-108). وحازت منذ يوم صدورها (1966) حازت على اهتمام خاص بين الأوروبيين، وكذلك أثارت انتباه النقاد في المشرق. صورت الرواية نتيجة نظام الاستعمار البريطاني في السودان. وكانت الأحوال التاريخية الخاصة تتحدى المثقفين المحليين، فقد وجدوا أنفسهم منقسمين بين الثقافتين العربية/ الإفريقية من جهة والأوروبية من جهة (فيلاندتWielandt: 1981: 487). وفي الراوية يوجد شخصيتان رئيسيتان هما: الاوي ومصطفى سعيد. وهنا يتطور خطان متوازيان في الحكاية.
يعود الراوي إلى قرية مسقط رأسه في السودان بعد سبع سنوات أمضاها في إنكلترا لمتابعة تحصيله العلمي. إنه رجل واحد يلفت انتباه كل القرويين – وكان يشار له بـ “غريب”، مع أنه يحمل اسما محددا وهو مصطفى سعيد.
وبالرغم من أن مصطفى يتمتع باحترام واسع بين القرويين، كان الراوي يفكر بالحقيقة التي وراءه.. من هو في حقيقة الأمر. ونتيجة لفضول الراوي يتعرف القارئ على ماضي حياة مصطفى في انكلترا. وكان أحد أهم مفاتيح الرواية علاقة مصطفى بالسيدات الإنكليزيات: فقد كان يحاول إغواءهن على امتداد 30 عاما، ودائما ينتهي الأمر بانتحارهن. لكن في الخاتمة أمضى مصطفى في السجن 7 سنوات بتهمة قتل زوجته الإنكليزية.
وتصور عدة فقرات علاقة مصطفى سعيد مع النساء الإنكليزيات وكأنها نوع من أنواع الانتقام للاقتصاص من العنف الذي ارتكبته أوروبا خلال فترتها الاستعمارية. ومصطفى ينظر لضحيته، السيدة البريطانية، كما لو أنها مدينة احتلها ووضعها تحت سيطرته. ومن المهم أن تلاحظ أن المرأة الأوروبية، التي ترمز في الرواية للغرب، هي ساذجة وفي نفس الوقت ضحية، بينما يكون تصوير الشرق بهيئة رجل منتقم، يأخد دور المحتل والمستعمر.
وانتاب مصطفى الإحساس أن الصوت الذي يدعو ويغوي الضحايا هو في الواقع ليس صوته، ولكنه نتيجة “المرض” الأوروبي، المصابة به أوروبا، وهو غريزة العدوان والعنف، وهو المرض الذي انتقلت عدواه إلى إفريقيا في طور سابق أو هو “السم” الذي عمدت أوروبا لحقنه في أوردة وشرايين التاريخ البشري الحديث.
ويعود مصطفى سعيد أخيرا إلى السودان ويتزوج من امرأة سودانية، ويتواصل مع أصوله الجغرافية، مع ذلك تتضاعف الفجوة بين أجزاء شخصيته المضعضعة، وتقسمه إلى قطاعين متقابلين. بمعنى أن علاقة مصطفى مع الغرب تنتهي نهاية تراجيدية. إنه يفشل في اكتشاف ذاته في الشرق والغرب على حد سواء، فمصطفى، حتى في موطنه، يبدو غريبا بنظر المواطنين. ويختار دفن نفسه في النيل ليختفي إلى الأبد.
أما الراوي فهو، بعكس مصطفى، يناضل من أجل اكتساب الثقة بالذات والتعرف على النفس، ويحاول تبني الجوانب الإيجابية من الثقافة الأخرى، ويبقى مرتبطا بجذوره المحلية في نفس الوقت. ويستمر التوازن العاطفي عند الراوي طوال هذا الصراع (صالح: 1997، 154-156)، كما حصل في حالة مصطفى، ويدخل في النهر، إنما أيضا ليس مثل مصطفى، ويغادر ساحة المعركة منتصرا. ويختار الراوي الحياة (إلاد بوسكيلا: 1998، 77-78). بالنسبة له، إن آلية التفرد و”العودة إلى الجذور الثقافية” تنتهي بنجاح (صديق: 2003، 104).
وعلى الرغم من حقيقة أن التشابهات الموضوعية والبنيوية والأسلوبية بين الشخصيتين الأساسيتين في الرواية تمثل مصطفى بصورة أنا – آخر الراوي، فإن الصراع الحضاري كان مختلفا تماما بتأثيره عليهما. وهذا جزئيا ناجم عن موقف شخصي مختلف وعن حقيقة أنهما يمثلان جيلين متباينين. وعليه كان لهما تجارب مختلفة مع بريطانيا العظمى.
لقد ذهب مصطفى إلى أكسفورد حينما استعملت إنكلترا العنف المفرط في السودان. واستكمل الراوي دراسته في إنكلترا بعد 30 عاما، حينما انتهى الاستعمار البريطاني للسودان وبعد تبدل موقف بلده من الحضارة البريطانية: فقد تحولت بالنسبة لغالبية السودانيين إلى مجرد مكون من مكوناتهم الثقافية ( فيلاندت، 1981: 493).
وبعكس حملة الانتقام التي شنها مصطفى سعيد، يرفض الراوي مبدأ العنف. وهذا واضح من حقيقة أنه لم يرتكب أي جريمة خلال تواجده في بريطانيا، ولكن أيضا، في نهاية الرواية ينقذ الراوي الغرفة الإنكليزية في بيت مصطفى من الحريق. وهذه الغرفة ترمز للجانب الأوروبي من شخصية مصطفى، والتي خلقها الاستعمار.
إن احتراق الغرفة هو استمرار رمزي لسلسلة العنف الذي تسبب به المستعمر الأوروبي. وعموما اعتقد الراوي أنه على هذه السلسلة أن تنكسر.
وختاما يمكن الإشارة لمجموعة صفات مشتركة وردت في الروايات كلها. وتكررت في النثر العربي طوال القرن العشرين، كلما اقترب من مشكلة صراع شرق / غرب.
1- الفضاءان الثقافيان الشرقي والغربي منفصلان بصرامة. ووقوف الشخصية الأساسية على الحد الفاصل بين الفضائين متذبذب، ويحمل آثار الأزمة الروحية والمصاعب التي مرت بها شخصيات الفضائين.
لقد أدى تبدل العقلية الثقافية لموقف أكثر تسامحا حيال “الآخر”، وفرض هوية هجينة قربت القيم الغربية والشرقية من بعضها بعضا. وعلى الرغم من حقيقة أن الروايات المذكورة تركز على المواجهة المفتوحة بين الثقافة الشرقية (العرب والإسلام) والغربية (أوروبا) كانت تقارن بين الجهتين، وكان الكاتب يؤكد على أفضلية الثقافة الأصيلة، وقد تورطت شخصيات الروايات الأربعة بالحوار الثقافي والذي هو حامل للهوية الثقافية الهجينة التي عبرت عن حياة ملتوية وصعبة مشتتة بين الفضائين الثقافيين.
2- الحبكة في الأعمال الأدبية متشابكة ومربوطة مع الماضي، ومع تراثها نفسه. وأزمة الشخصية الأساسية لا يمكن تجاوزها وكانت في تحطيم الروابط مع الفضاء المحلي. ولكن كان الكاتب يوظف استراتيجية بناء حبكة أخرى، وتكون بالعادة أكثر اعتدالا إذا قارنتها مع سابقتها، وغالبا هي تميل نحو أطروحة ثقافية مركبة.
3 – مر الروائيون كلهم شخصيا بظروف وضعتهم تحت تأثير الثقافة الأوروبية: لقد تعلموا في أوروبا، ومارسوا المهنة فيها ايضا، واستمرت الرحلات بين الشرق والغرب. وقد انعكس ذلك باللاشعور على أعمالهم. ولذلك كان النقد الأكاديمي يضع أحيانا هذا النوع الأدبي من الكتابات في باب السيرة الذاتية.
4- الروايات كلها تشترك بسيناريو واحد- يسافر الشخص الرئيسي إلى أوروبا للدراسة، وتتاح له هناك فرصة مقارنة الثقافتين المختلفتين تماما. ويمكن تمييز علامات معينة تؤشر على الفضاء الشرقي والآخر الغربي: الشرق- تقليدي وروحاني وسلبي، مستسلم لمشيئة الله. أما الغرب: فهو متحرر ومادي ونشط ومصدر للعلوم والثقافة. والرحلة من الشرق إلى الغرب ترتبط بالضرورة بقصة غرام. وفي هذه العلاقة الغرامية يشخصن الرجل الشرق بينما المرأة تأخذ موقع أو موضع الغرب، والحب هو لغة الحوار بينهما. ومن الواضح، أن الحوار ولغته بقيا غير مفهومين بالنسبة للطرفين، غير أن العلاقة تركت أثرا لا يمحى على مكونات الهوية، فهي تبدلها وتجبرها على الإلتفات إلى الماضي، وكان الماضي بدوره يحدد شكل ولون المستقبل. وعليه، احتلت موضوعة شرق – غرب في أدب القرن العشرين الناطق باللغة العربية مكانة هامة وجوهرية وعلى نحو متصاعد.
وقد غطت هذه الروايات فترة بين 1935-1966 وسلطت الضوء على مشكلة هوية الشخصية الأساسية وهي في حالة مواجهة بين ثقافتين مختلفتين. وكانت غاية تلك الشخصيات اكتشاف هويتها الخاصة وتوظيف ثقافتها الغربية للاستفادة منها في بيئتها المحلية.
وإن فشل بطل رواية طه حسين بتخطي أزمة هويته، فقد حطم روابطه مع الشرق و”ضاع” في الغرب، لم يحجب الحبكة الفرعية الثانية للرواية التي تطورت على أساس من اعتدال الراوي. أما يحيى حقي في (قنديل أم هاشم) فقد صور المصاعب التي واجهها البطل في طريقه، وانتهت بالمصالحة بين العلم والإيمان. فقد ركز على الاحتكاك المباشر بين الجانبين، شرق/غرب مع الإشارة للقيم الروحية ودورها في معركة الثقافات. أما سهيل إدريس فقد اهتم بالجوانب الاجتماع – نفسية من هذه المواجهة. وفي نهاية المعركة التي نشبت بين التقاليد الشرقية والتحرر الغربي عاد البطل إلى موطنه بصورة مختلفة وجديدة. لكن الطيب صالح رفع النقاب عن الجانب السياسي من صدام الحضارات، واعتمد على شخصيتين مترادفتين، إحداهما راديكالية، والأخرى معتدلة. لقد كانتعلاقة مصطفى مع الغرب سلاحا بيده وبهانتقم من السياسات الاستعمارية التي طبقتها أوروبا، اما الراوي فقد اكتفى بأن يكون منبعا للثقافة والتحديث.
* منقول عن:
صراع الشرق والغرب في الأدب العربي الحديث نينو سورمافا* ترجمة وإعداد صالح الرزوق
مع التعولم وتزايد الهجرة أصبح الحوار بين الحضارات والمثاقفة متطورا واكثر تأثيرا. وقد تحكم باحتمال الحوار، ان تجد لغة مشتركة بين الطرفين المختلفين راديكاليا وهما الشرق والغرب، املاءات سياسية وبالأخص في المناطق التي انتشر فيها المسلمون والمسيحيون جنبا إلى جنب. وقد انتقل هذا الحوار من العلوم التطبيقية إلى الإنسانيات ووجد أرضا خصبة في الأدب. وحاز لقاء الشرق مع الغرب، ووعي كل منهما بالآخر، على اهتمام خاص من كلا الطرفين، المفكرين الأوروبيين وكذلك الشرقيين.
وشمل مجال الاهتمام المقارنة بين الشرق العربي والغرب الأوروبي وتم الاصطلاح على تسمية ذلك بصراع الحضارات (هنتنغتون: 1997: 1-2).
وخلال عهود الاستعمار، كانت الموضوعات المتعلقة بلقاء العالمين المختلفين تماما، تأخذ شكل صدام بين ثقافتين، وهو ما عبرت عنه النصوص الأدبية. وكان الخطاب الأدبي الأوروبي، وكذلك الشرقي (العربي، حيث تشكل موضوع معركة الشرق مع الغرب)، في الواقع نتيجة للسياسات الغربية الاستعمارية. وهو ما تسبب بخلق نظام كامل حدد أسلوب تعامل أوروبا مع العالم العربي، بما عرف عنه من فرز لأنماط خاطئة، ركزت جهدها لتعذر أو تبرر سياساتها التوسعية. ومن الطبيعي أن يستجيب الشرق لذلك بما يراه مناسبا، وهكذا تزايدت الرغبة في تشكيل شخصيته الخاصة وإنجازها. وعليه كون الشرق أنماطا معاكسة عن الحضارة الغربية.
فالبورتريه الذي رسمه الشرق لنفسه، في الأدب العربي الحديث، كان له شكل فضاء ثقافي موجه ضد الصور السلبية المضادة. ومن الواضح أن ذلك تسبب للخطاب الأدبي برسم نقاط تقاطب لا تدل إلا على المفاهيم الروتينية والصور المتعارضة لهذه العلاقة التنافسية.
حتى أن بعض النصوص الأدبية العربية، التي انتشرت في القرن العشرين خلال فترة الاستقلال والبناء، وطوال فترة تفكيك الاستعمار، قد تحولت إلى نوع من أنواع أسلحة الانتقام. فالموضوع المتكرر عن صدام الثقافات، كان بمعظم الحالات، تعبيرا عن تجارب شخصية لأدباء مروا أنفسهم بمحاولة تخطي الحاجز القائم بين العالمين. وقد خصص المثقفون العرب الذين أوفدوا إلى الغرب جزءا كبيرا من كتاباتهم لبحث هذه المشكلة. ولذلك يمكن النظر إليهم كأبطال لأعمالهم الأدبية سواء حصل ذلك عن عمد أو بالوعي الباطن.
لقد تشابهت الروايات العربية التي ركزت على لقاء الشرق والغرب، حتى أنها تحولت لظاهرة ثابتة. ويمكن القول كان للروايات مضمون متماثل: فالبطل يقف وسط معركة الشرق ضد الغرب. وغالبا يكون قد نشأ في مجتمع إسلامي تقليدي. وسافر إلى أوروبا لمتابعة دراساته، وهناك يمر بأزمة روحية نتيجة الصدمة الثقافية مع معايير الغرب. وقد كانت مشكلة الهوية الثقافية حادة فعلا. فهو يشعر بالانقسام، ويتبدل من داخله، ثم يعود إلى الوطن بشخصية مختلفة. لكن التعايش مع الحضارة الغربية وتقاليدها يسبب له تفاقم الشعور بالاغتراب وتضاعف أزمة الهوية. وكان الجزء الأهم من تشكيل وصياغة شخصية البطل يعود لتمزقه بين امرأتين: أوروبية مضيفة وشرقية (محلية). لقد أصبح هذا المجاز، الذي يأخذ شكل علاقة غرام، ظاهرة عامة في كل الروايات- الرجل الشرقي يضيع بين امرأتين، بمعنى أنه يقف بين ثقافتين متنافستين. فالعلاقة مع المرأة الغربية يقوده إلى حضارتها، وبعد العودة يجاهد للاندماج بمجتمعه المحلي وربما يقترن بامرأة محلية.
وبعض الروايات (مثل أديب لطه حسين أو موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح) تكشف عن صراع يتطور داخل ذهن الكاتب الذي لا يمكنه رؤية طريق باتجاه واحد لحل مشكلته. وتعمد لتوظيف طرق فنية تقدم للقارئ فرصة التعرف على مفهومين: أحدهما راديكالي، والآخر- أكثر اعتدالا. وغالبا تنتهي العلاقة مع الغرب بمأساة تصيب واحدا من الطرفين. وتسمح للثاني بالعودة والاحتفاظ بهويته السابقة.
و من الأمثلة على هذه الصيغة (حسب تاريخ الصدور):
1- أديب لطه حسين (1935).
2- قنديل أم هاشم ليحيى حقي (1944).
3- الحي اللاتيني لسهيل إدريس (1953).
4- موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح (1966).
ويمكن الإشارة لمثالين إضافيين هما: عصفور من الشرق لتوفيق الحكيم (1938) والدكتور إبراهيم لذي النون أيوب (1939). huaa
وأعتقد أن الكاتب والمفكر المصري طه حسين (1889-1973) هو أهم شخصية مؤثرة في الحداثة العربية خلال القرن العشرين. وهو رائد من العقد الأول، وقد درس في جامعة القاهرة وتابع تحصيله في فرنسا، وهذا ما أثر على تصوراته عن العالم. وقد أيد طه حسين الانفتاح الثقافي على الغرب الأمر الذي سمح للمصريين بالتعرف على أسرار تطوره. وقد وضع طه حسين مصر وأوروبا في جعبة واحدة واعتبر أنهما جزء من الحضارة المتوسطية بشكل عام. وبرأيه، تدين الحضارة الأوروبية لكل من حضارة مصر وللحضارات التي لها أصول أغريقية، بالإضافة للإسلام والمسيحية، ناهيك عن المؤثرات الإغريقية المباشرة.
عموما شجع العثمانيون على الترحال في أوروبا، بينما فضلت مصر أن تكون معزولة. لذلك وقف طه حسين ضد السيادة الأوروبية، ولكن في نفس الوقت تكلم عن الحاجة لتبني نمط التعليم والتثقيف الأوروبي. وقد ألهم هذا الكاتب الشباب، وعلمهم أنه ليس من المفروض أن يتحولوا إلى أوروبيين، ولكن عليهم أن يبذلوا جهدهم لاكتشاف أنفسهم (العناني: 2006). وقد نشر طه حسين روايته (أديب) عام 1935. واستخدم طريقة فنية قارب بها موضوعة لقاء شرق- غرب، ولم يكرر هذه التجربة في بقية أعماله. وقد اختار أن يكون للحبكة خطان أساسيان ، وكان السرد تعليميا بشكل واضح. وذهبت الشخصيتان الأساسيتان – البطل والراوي – باتجاه واحد. كلاهما سافر من مصر إلى باريس بمنحة. وتكلما عن خبراتهما بالكتابة. واصطدما بحضارة أوروبا الحديثة وتأثرا بها. وكانت مشكلتهما هي تحديد الهوية الثقافية بمواجهة الحضارة الأجنبية، وأسهم ذلك بتشكيل ثقافتهما ووجهات نظرهما عن العالم، وخلق تنافرا بينهما وبين الطريقة القديمة أو التقليدية في الحياة. وكانت الأفكار المختلفة والمتعارضة تبرز في الرواية خلال إقامة البطل في الغرب. من جهة مثلت أم أديب دور الشخصية الأساسية التي تتبنى الفكر القديم والتقليدي، فقد اعترضت على سفر ابنها إلى أوروبا. ومن جهة مقابلة، مثل أديب نفسه المشتاق للسفر والدراسة التفكير المعاكس، ولم يوفر جهدا لتحقيق ذلك. حتى أنه طلق زوجته ليصل إلى حلمه. وكانت الثقافة العربية التقليدية تبدو دائما في الروايات العربية بشكل أنثى. وهذا رمز شخصنه طه حسين في (أديب) من خلال صورتي الأم والزوجة المصرية. وقد تكررت نفس الصورة لاحقا بأشكال مختلفة في الروايات العربية التالية.
ومن المهم أن تلاحظ أن طه حسين قدم الأم على أنها تعارض سفر ابنها. وبالضبط كانت الأم الجهة التي لا تسمح لابنها بمغادرة أرض الوطن إلى الغربة. وفي هذه الرواية، يؤكد طه حسين على العزلة الثقافية المفروضة على مصر ويوظف أفكارا نمطية عن العالم الخارجي، وهي أفكار موجودة في ذهن المجتمع المحلي التقليدي، والذي يرى أن رحيل شاب إلى الخارج عبارة عن خطر غير مرحب به. وقد صورت رواية (أديب) موقفه من كلا الثقافتين الوطنية والأوروبية في واحدة من رسائله، التي أرسلها إلى الراوي ويقول فيها: “ولكن اذهب إلى الأهرام… وانفذ إلى أعماق الهرم الكبير.. وستحس اختناقا وسيتصبب جسمك عرقا، وسيخيل إليك أنك تحمل ثقل هذا البناء العظيم وأنه يكاد يهلكك. ثم اخرج من أعماق هذا الهرم واستقبل الهواء الطلق الخفيف. واعلم بعد ذلك أن الحياة في مصر هي الحياة في أعماق الهرم. وأن الحياة في باريس هي الحياة بعد أن تخرج من هذه الأعماق”. (أديب لطه حسين: ص 155).
لكن الخط الأساسي الآخر في الرواية، لا يدعو للتأقلم مع الثقافة المحلية. ولنتوقف عند لحظة وصول (أديب) إلى باريس. ستجد أنها تترافق مع شعوره المزمن بالاغتراب. وعلى الرغم من أنه تبنى أساليب الحياة الغربية وانفصل عن جذوره، فقد فشل في الاندماج، وهو ما أدى في النهاية إلى تفككه وانهياره. وفي حالة الراوي (الشخصية الأستسية الثانية في الحبكة) يتم تخطي أزمة الهوية لأنه لم يفترق عن جذوره، وحاول أن يتبنى فضائل الثقافات الأخرى، دون أن يمنعه ذلك من الاحتفاظ بفضائل ثقافته. وعليه، طور طه حسين في روايته فكرة مفادها: إنه ليس من الضروري أن تبدل وتفقد هويتك الخاصة، أو أن ترفض خصوصياتك وتتبع الآخر على نحو أعمى، ولكن عليك إدارة وتحديث هويتك مع التأكيد على ضرورة الاحتفاظ بها.
ويأتي يحيى حقي (1905-1992) بمكانته بعد طه حسين. فهو الكاتب المصري الأشهر في القرن العشرين، وواحد من مؤسسي جنس الرواية القصيرة في النثر المصري. وروايته القصيرة (قنديل أم هاشم) لا تصور أدبيا فقط التوتر التقليدي بين الشرق والغرب، ولكنها أيضا تتبنى تكنيك الكتابة المتميز الذي يتقمص به الكاتب تصوراته ويبني الجانب العقلاني منها. لقد قدم الكاتب بمهارة تلك الصور التي تعبر عن التعارض القائم بين الشرق والغرب، المادة والروح، حالة العزلة الإنسانية والرغبة بالحركة والتفاعل (غاردافاتس Gardavadze، 2007).
وإسماعيل هو الشخصية الأساسية في الرواية- فقد ترعرع في كنف عائلة مسلمة تقليدية حيث أن الأعياد الدينية والروحانيات والعادات الشعبية جزء من الحياة. ثم يذهب للدراسة في إنكلترا. وبعد سبع سنوات من تفاعل تقاليده الثقافية مع حضارة أوروبا، يعود لموطنه بصورة مختلفة. ومع أنه كان يحمل شهادة بطب العيون لكن يغمره الشعور الحقيقي بالاغتراب.
وللتأكيد على تبدل اسماعيل يوظف الكاتب مجددا مجاز علاقات الغرام. وأهم جزء في وصف شخصية البطل تقوم به ماري، وهي زميلة اسماعيل الأوروبية. إن ماري رمز للثقافة الغربية، وعلاقتها مع إسماعيل تمثل التعارض بين الطرفين. وتبدو الثقافة الغربية هنا نشطة، ومحرضة، بينما الثقافة الشرقية تستقبل هذا النشاط، كأنها جهة تتلقى وتتعلم.
إن دور ماري كان في تحرير اسماعيل من التقاليد والعواطف، ومنحه الثقة بنفسه وبالعلم. وبالنتيجة، يفقد اسماعيل قناعاته الدينية المرتبطة بقوة بقيم ثقافته. ومثل هذا التبدل يسبب له أزمة روحية. وبهذا الخصوص يقول الكاتب:”كانت روحه تئن وتتلوى تحت ضربات معولها، كان يشعر بكلامها كالسكين يقطع من روابط حية يتغذى منها إذ توصله بمن حوله. واستيقظ في يوم فإذا روحه خراب لم يبق حجر على حجر. بدا الدين له خرافة لم تخترع إلا لحكم الجماهير…” (سلسلة ترجمات جديدة، 2009).
وتبدأ ازمة اسماعيل الثانية بعد عودته لموطنه. فطبيب العيون المثقف يواجه عقيدة الشعب وتقاليده بعد أن يصل إلى أرض مصر. كان المواطنون المحليون يؤمنون أن زيت مصباح مسجد أم هاشم (وهو نفسه السيدة زينب) يشفي أمراض البصر لأنه معجزة. وحينما يشاهد اسماعيل كيف تسكب أمه قطرات من زيت مصباح أم هاشم في عيني ابن عمه وخطيبته فاطمة نبوية من أجل العلاج، يثور غضبه ويكسر المصباح في المسجد. وبعد أن يهرب من غضبة الجموع يقرر أن يعالج خطيبته بنفسه. ويحاول جهده وفي النهاية يفشل ويستسلم لمعجزة زيت المصباح.
لقد سقط اسماعيل روحيا حينما ابتعد عن جذوره، ولكن نور الإيمان ينقذه من سقطته في خاتمة المطاف، وعن ذلك يقول:”أين أنت أيها النور الذي غبت عني دهرا؟. مرحبا بك لقد زالت الغشاوة التي كانت ترين على قلبي وعيني”( سلسلة ترجمات جديدة، 2009).
وسيفهم اسماعيل أن المعرفة والعلوم بحاجة للإيمان، وترمز الرواية لذلك بزيت القنديل.
فالشخصية الأساسية توائم بين قيم الشرق والغرب. ولكن يؤكد يحيى حقي على الجانب الروحي من المواجهة التي صورتها أزمة اسماعيل الروحية وانتهت بعودته إلى طقوس دينه.
ويتابع المهمة الكاتب اللبناني سهيل إدريس ويقدم لنا الجانب الاجتماع نفسي من المعركة بين الثقافتين. وروايته (الحي اللاتيني) مثال كلاسيكي عن صدام الثقافات في الأدب العربي كما يقول الدكتور العناني (2006).
يوظف سهيل إدريس أيضا المجاز التقليدي لعلاقات الغرام. ويصور الشرق بشكل رجل عربي، بينما الغرب يرمز له بامرأة أوروبية. ويرافق الراوي/ البطل صديقان يذهبان من بيروت إلى باريس لدراسة الأدب. وتلعب باريس بالنسبة للبطل، وكذلك باقي الطلبة في باريس، دورا معرفا للحرية. يقول:” كأنهم ألقوا أثقال الرصانة التي كانت تثقل أكتافهم في بلادهم، وشعروا شعورا عميقا بأنهم مدعوون إلى أن يسرقوا في باريس حياة منطلقة لا يحد من حريتها قيد، فاستجابوا لهذه الدعوة بكل ذرة من ذرات وجودهم، وخلفوا وراءهم أغلال ماضيهم” (إدريس: 2001: 19).
ومنذ أن اغترب البطل عن بيئته الثقافية- الشرق، وهو يمر بوقت عصيب. فقد كان يبحث عن نفسه من خلال الاحتكاك بالغرب. لكنه انقسم بين الثقافتين، وأصبح وسط صراع مستمر ضد صوته الداخلي. يقول :” كفاك هذرا. أنت تنسى مرة أخرى أنك في باريس.أخرجها من نفسك. بيروتك هذه. أخرجها، فاقتلها ثم ادفنها!. أما باريس فواجهها كما هي. وتأملها مليا ولن تلبث هي نفسها أن تتسلل إلى قلبك فتعيش فيه”. (إدريس: 2001، 22).
والرواية تصور في كل مراحلها كيف أن الطلبة العرب في باريس ينجذبون للمرأة الغربية. والبطل يتحسس من ذلك، وهو يريد أن ينجو بنفسه من هذه الورطة، وأن يجد ملجأ في الشرق. ويقارن حرية النساء الفرنسيات مع محبوبته الشرقية المحافظة ناهدة، وهذا هو سبب افتتانه وتحفظه أيضا. لقد مر البطل بأزمة داخلية أمام الثنائي الذي يصعب المقارنة بين طرفيه، من ناحية المعايير والأخلاق.
وبعد خيبة الأمل الأولية، يجد البطل فتاة أحلامه- جانين، والتي تلعب دورا هاما في تقدم مراحل تحوله. ويقول الكاتب عن علاقته مع المرأة الفرنسية إنها الحب المثالي الذي ينفذ إلى روحه وجسده. ولكن لا يمكن لهذا الحب المثالي أن يتحمل ضغط التقاليد.
وتبدو أم البطل في الرواية كمدافعة عن التقاليد الشرقية. وكانت أمه هي السبب الذي حدا به لإنهاء علاقته مع جانين. والأم هنا ترمز للثقافة الشرقية، المتجذرة عميقا في ضمير البطل، والتي لا يمكنه الفرار منها. وكلمات الأم تهز أوتار قلب ابنها، فالقيم الثقافية هي التي تخلق الأفراد وتضعهم تحت سطوة أحكام العائلة والمجتمع. ونتيجة ذلك يشعر البطل بالتقاطب. إنه يطيع أمه ويكتب رسالة اعتذار إلى جانين يرفضها بها، مع أنه في نفس الوقت كان تحت تأثير أزمة داخلية تعصف به. وبعد العودة إلى باريس، يحرر البطل نفسه من سلاسل التقاليد، ويحاول بيأس أن يجد مكانا له للحياة مع جانين. ويطلب يدها للزواج ويعرب عن استعداده لمرافقتها إلى مسقط رأسه. ولكن جانين، بالرغم من حبها له، تكتب رسالة ترفض فيها اقتراحه وتختفي من حياته للأبد. وتكشف رسالة جانين بوضوح عن نهاية رحلة البحث التي بدأتها الشخصية الأساسية.. فقد لحق به التبدل ولكن عاد لمجتمعه ليتابع مسيرته، تقول الرسالة:” لقد اجتمعت أمس بإنسان لا أعرفه.. فوجدت أن دنياك التي تحلم بها أعظم وأوسع من أن يستطيع الثبات فيها شخص ضعيف مثلي. إنك الآن تبدأ النضال أما أنا فقد فرغت منه.. قرأت أمس في عينيك استعدادا طويلا، طويلا جدا للمقاومة والصراع، إنك إنسان جديد يعرف الذي يريده، ويسعى إليه بثقة وإيمان. لقد وجدت أنت نفسك أما أنا أضعت نفسي… فامض قدما يا حبيبي، ولا تلتفت إلى ما وراءك، أما أنا فسأستمد دائما من حبي لك، وقودا يشع علي. فدعني هنا أتتبع حتى النهاية، وعد أنت يا حبيبي إلى شرقك البعيد الذي ينتظرك ويحتاج إلى شبابك ونضالك (إدريس: 2001، 281-282).
ولكن سهيل إدريس لا يحدد أي نوع من النضال ينتظر من البطل. مع ذلك، إن فكرة القومية العربية والاستقلال والوحدة تهيمن على الرواية. وكذلك مشكلة الخصوصية والرغبة بالتحرر من تأثير التقاليد. ويكتشف البطل أنه بحاجة للحرية الفردية، ويعود إلى مجتمعه جاهزا لتبديل الظواهر الاجتماعية “الان نبدأ” ( إدريس: 2001: 285)، بهذه الجملة تنتهي الرواية.
بعد هذا التأويل الاجتماعي يدخل الكاتب السوداني الطيب صالح لميدان المواجهة الثقافية ويصور الجانب السياسي منها. ويؤكد أكثر من سواه على أن الهوية الثقافية ناجمة عن الصراع بين قيم الثقافتين الشرقية والغربية. ومن الواضح أن فترة ما بعد الاستعمار كانت مشحونة بالسياسة لدرجة التوتر بالمقارنة مع ما كانت عليه في فترة الاستعمار.
ينتمي صالح لمجموعة من الكتاب العرب الذين يحملون “هم ثقافتين”. وموضوعة المواجهة الثقافية تكشف عن نفسها غالبا بشكل جنوسة تقوم على إشكالية.. المرأة بيضاء والرجل أسود. المرأة أوروبية والرجل من أصل إفريقي. وهناك مواجهة بين العالمين تجدها خلف هذه العلاقة، وتأخذ المشكلة أسلوبا دراميا في (موسم الهجرة إلى الشمال)، وبالنتيجة منحت الرواية كاتبها اعترافا دوليا منقطع النظير (Grdzelidze جيرتزليتس، 2009: 107-108). وحازت منذ يوم صدورها (1966) حازت على اهتمام خاص بين الأوروبيين، وكذلك أثارت انتباه النقاد في المشرق. صورت الرواية نتيجة نظام الاستعمار البريطاني في السودان. وكانت الأحوال التاريخية الخاصة تتحدى المثقفين المحليين، فقد وجدوا أنفسهم منقسمين بين الثقافتين العربية/ الإفريقية من جهة والأوروبية من جهة (فيلاندتWielandt: 1981: 487). وفي الراوية يوجد شخصيتان رئيسيتان هما: الاوي ومصطفى سعيد. وهنا يتطور خطان متوازيان في الحكاية.
يعود الراوي إلى قرية مسقط رأسه في السودان بعد سبع سنوات أمضاها في إنكلترا لمتابعة تحصيله العلمي. إنه رجل واحد يلفت انتباه كل القرويين – وكان يشار له بـ “غريب”، مع أنه يحمل اسما محددا وهو مصطفى سعيد.
وبالرغم من أن مصطفى يتمتع باحترام واسع بين القرويين، كان الراوي يفكر بالحقيقة التي وراءه.. من هو في حقيقة الأمر. ونتيجة لفضول الراوي يتعرف القارئ على ماضي حياة مصطفى في انكلترا. وكان أحد أهم مفاتيح الرواية علاقة مصطفى بالسيدات الإنكليزيات: فقد كان يحاول إغواءهن على امتداد 30 عاما، ودائما ينتهي الأمر بانتحارهن. لكن في الخاتمة أمضى مصطفى في السجن 7 سنوات بتهمة قتل زوجته الإنكليزية.
وتصور عدة فقرات علاقة مصطفى سعيد مع النساء الإنكليزيات وكأنها نوع من أنواع الانتقام للاقتصاص من العنف الذي ارتكبته أوروبا خلال فترتها الاستعمارية. ومصطفى ينظر لضحيته، السيدة البريطانية، كما لو أنها مدينة احتلها ووضعها تحت سيطرته. ومن المهم أن تلاحظ أن المرأة الأوروبية، التي ترمز في الرواية للغرب، هي ساذجة وفي نفس الوقت ضحية، بينما يكون تصوير الشرق بهيئة رجل منتقم، يأخد دور المحتل والمستعمر.
وانتاب مصطفى الإحساس أن الصوت الذي يدعو ويغوي الضحايا هو في الواقع ليس صوته، ولكنه نتيجة “المرض” الأوروبي، المصابة به أوروبا، وهو غريزة العدوان والعنف، وهو المرض الذي انتقلت عدواه إلى إفريقيا في طور سابق أو هو “السم” الذي عمدت أوروبا لحقنه في أوردة وشرايين التاريخ البشري الحديث.
ويعود مصطفى سعيد أخيرا إلى السودان ويتزوج من امرأة سودانية، ويتواصل مع أصوله الجغرافية، مع ذلك تتضاعف الفجوة بين أجزاء شخصيته المضعضعة، وتقسمه إلى قطاعين متقابلين. بمعنى أن علاقة مصطفى مع الغرب تنتهي نهاية تراجيدية. إنه يفشل في اكتشاف ذاته في الشرق والغرب على حد سواء، فمصطفى، حتى في موطنه، يبدو غريبا بنظر المواطنين. ويختار دفن نفسه في النيل ليختفي إلى الأبد.
أما الراوي فهو، بعكس مصطفى، يناضل من أجل اكتساب الثقة بالذات والتعرف على النفس، ويحاول تبني الجوانب الإيجابية من الثقافة الأخرى، ويبقى مرتبطا بجذوره المحلية في نفس الوقت. ويستمر التوازن العاطفي عند الراوي طوال هذا الصراع (صالح: 1997، 154-156)، كما حصل في حالة مصطفى، ويدخل في النهر، إنما أيضا ليس مثل مصطفى، ويغادر ساحة المعركة منتصرا. ويختار الراوي الحياة (إلاد بوسكيلا: 1998، 77-78). بالنسبة له، إن آلية التفرد و”العودة إلى الجذور الثقافية” تنتهي بنجاح (صديق: 2003، 104).
وعلى الرغم من حقيقة أن التشابهات الموضوعية والبنيوية والأسلوبية بين الشخصيتين الأساسيتين في الرواية تمثل مصطفى بصورة أنا – آخر الراوي، فإن الصراع الحضاري كان مختلفا تماما بتأثيره عليهما. وهذا جزئيا ناجم عن موقف شخصي مختلف وعن حقيقة أنهما يمثلان جيلين متباينين. وعليه كان لهما تجارب مختلفة مع بريطانيا العظمى.
لقد ذهب مصطفى إلى أكسفورد حينما استعملت إنكلترا العنف المفرط في السودان. واستكمل الراوي دراسته في إنكلترا بعد 30 عاما، حينما انتهى الاستعمار البريطاني للسودان وبعد تبدل موقف بلده من الحضارة البريطانية: فقد تحولت بالنسبة لغالبية السودانيين إلى مجرد مكون من مكوناتهم الثقافية ( فيلاندت، 1981: 493).
وبعكس حملة الانتقام التي شنها مصطفى سعيد، يرفض الراوي مبدأ العنف. وهذا واضح من حقيقة أنه لم يرتكب أي جريمة خلال تواجده في بريطانيا، ولكن أيضا، في نهاية الرواية ينقذ الراوي الغرفة الإنكليزية في بيت مصطفى من الحريق. وهذه الغرفة ترمز للجانب الأوروبي من شخصية مصطفى، والتي خلقها الاستعمار.
إن احتراق الغرفة هو استمرار رمزي لسلسلة العنف الذي تسبب به المستعمر الأوروبي. وعموما اعتقد الراوي أنه على هذه السلسلة أن تنكسر.
وختاما يمكن الإشارة لمجموعة صفات مشتركة وردت في الروايات كلها. وتكررت في النثر العربي طوال القرن العشرين، كلما اقترب من مشكلة صراع شرق / غرب.
1- الفضاءان الثقافيان الشرقي والغربي منفصلان بصرامة. ووقوف الشخصية الأساسية على الحد الفاصل بين الفضائين متذبذب، ويحمل آثار الأزمة الروحية والمصاعب التي مرت بها شخصيات الفضائين.
لقد أدى تبدل العقلية الثقافية لموقف أكثر تسامحا حيال “الآخر”، وفرض هوية هجينة قربت القيم الغربية والشرقية من بعضها بعضا. وعلى الرغم من حقيقة أن الروايات المذكورة تركز على المواجهة المفتوحة بين الثقافة الشرقية (العرب والإسلام) والغربية (أوروبا) كانت تقارن بين الجهتين، وكان الكاتب يؤكد على أفضلية الثقافة الأصيلة، وقد تورطت شخصيات الروايات الأربعة بالحوار الثقافي والذي هو حامل للهوية الثقافية الهجينة التي عبرت عن حياة ملتوية وصعبة مشتتة بين الفضائين الثقافيين.
2- الحبكة في الأعمال الأدبية متشابكة ومربوطة مع الماضي، ومع تراثها نفسه. وأزمة الشخصية الأساسية لا يمكن تجاوزها وكانت في تحطيم الروابط مع الفضاء المحلي. ولكن كان الكاتب يوظف استراتيجية بناء حبكة أخرى، وتكون بالعادة أكثر اعتدالا إذا قارنتها مع سابقتها، وغالبا هي تميل نحو أطروحة ثقافية مركبة.
3 – مر الروائيون كلهم شخصيا بظروف وضعتهم تحت تأثير الثقافة الأوروبية: لقد تعلموا في أوروبا، ومارسوا المهنة فيها ايضا، واستمرت الرحلات بين الشرق والغرب. وقد انعكس ذلك باللاشعور على أعمالهم. ولذلك كان النقد الأكاديمي يضع أحيانا هذا النوع الأدبي من الكتابات في باب السيرة الذاتية.
4- الروايات كلها تشترك بسيناريو واحد- يسافر الشخص الرئيسي إلى أوروبا للدراسة، وتتاح له هناك فرصة مقارنة الثقافتين المختلفتين تماما. ويمكن تمييز علامات معينة تؤشر على الفضاء الشرقي والآخر الغربي: الشرق- تقليدي وروحاني وسلبي، مستسلم لمشيئة الله. أما الغرب: فهو متحرر ومادي ونشط ومصدر للعلوم والثقافة. والرحلة من الشرق إلى الغرب ترتبط بالضرورة بقصة غرام. وفي هذه العلاقة الغرامية يشخصن الرجل الشرق بينما المرأة تأخذ موقع أو موضع الغرب، والحب هو لغة الحوار بينهما. ومن الواضح، أن الحوار ولغته بقيا غير مفهومين بالنسبة للطرفين، غير أن العلاقة تركت أثرا لا يمحى على مكونات الهوية، فهي تبدلها وتجبرها على الإلتفات إلى الماضي، وكان الماضي بدوره يحدد شكل ولون المستقبل. وعليه، احتلت موضوعة شرق – غرب في أدب القرن العشرين الناطق باللغة العربية مكانة هامة وجوهرية وعلى نحو متصاعد.
وقد غطت هذه الروايات فترة بين 1935-1966 وسلطت الضوء على مشكلة هوية الشخصية الأساسية وهي في حالة مواجهة بين ثقافتين مختلفتين. وكانت غاية تلك الشخصيات اكتشاف هويتها الخاصة وتوظيف ثقافتها الغربية للاستفادة منها في بيئتها المحلية.
وإن فشل بطل رواية طه حسين بتخطي أزمة هويته، فقد حطم روابطه مع الشرق و”ضاع” في الغرب، لم يحجب الحبكة الفرعية الثانية للرواية التي تطورت على أساس من اعتدال الراوي. أما يحيى حقي في (قنديل أم هاشم) فقد صور المصاعب التي واجهها البطل في طريقه، وانتهت بالمصالحة بين العلم والإيمان. فقد ركز على الاحتكاك المباشر بين الجانبين، شرق/غرب مع الإشارة للقيم الروحية ودورها في معركة الثقافات. أما سهيل إدريس فقد اهتم بالجوانب الاجتماع – نفسية من هذه المواجهة. وفي نهاية المعركة التي نشبت بين التقاليد الشرقية والتحرر الغربي عاد البطل إلى موطنه بصورة مختلفة وجديدة. لكن الطيب صالح رفع النقاب عن الجانب السياسي من صدام الحضارات، واعتمد على شخصيتين مترادفتين، إحداهما راديكالية، والأخرى معتدلة. لقد كانتعلاقة مصطفى مع الغرب سلاحا بيده وبهانتقم من السياسات الاستعمارية التي طبقتها أوروبا، اما الراوي فقد اكتفى بأن يكون منبعا للثقافة والتحديث.
* منقول عن:
صراع الشرق والغرب في الأدب العربي الحديث نينو سورمافا* ترجمة وإعداد صالح الرزوق