علي الرغم من اتكائي واعتمادي علي تجاربي الحياتية والشخصية في أغلب ما كتبته من أعمال قصصية وروائية، إلا أن تجربة الوادي الجديد لم تجد هوي في نفسي، ولم أفكر فيها مطلقا باعتبارها مادة للكتابة.
ويبدو لي ، وأنا في هذه السن، أن الكاتب مهما اعتمد علي تجاربه الشخصية والحياتية، لايعيد إنتاجها أو يعيد سردها من جديد، مهما بدت أمامنا قريبة مما نعرفه عن الكاتب.. والأمثلة لاحصر لها : فهيمنجواي كتب عن الحرب العالمية ورحلات أفريقيا، بينما كتب تولستوي عن عالم النبلاء الذين عاش بينهم، وكتب مالرو عن الحرب الأهلية الإسبانية التي كان قريبا منها في روايته »الأمل»..والأمثلة لاحصر لها.. (بطبيعة الحال لاأجرؤ علي إقحام نفسي بين تلك القامات لكنني أتحدث عن أمثلة) .
يبدو لي أولا أن الكاتب لابد له أن ينصاع ويمتثل للمنطق الداخلي الذي تقوده إليه روايته أو قصته القصيرة، ولذلك لابد له أن يفارق ماحدث بالفعل ليكتب أحداثا أخري ووقائع مختلفة، مخلصا لعمله الفني وليس مخلصا للواقع، وكما عبّر صنع الله إبراهيم في أحد حواراته أن الرواية كذبة.
ويبدو لي ثانيا أنه ليس من الضروري أن يعتمد الكاتب بوضوح علي التجارب الحياتية، وهناك عملية معقدة للغاية تجري للكاتب عندما يختزن، ثم يتأمل، تجاربه، وأخيرا عندما يستخدمها في الكتابة، ومع ذلك فالواحد لايكتب ماجري لأن ماحدث قد حدث بالفعل في العالم الواقعي، بينما الكتابة تكتب ما جري في الرواية أو القصة.
لكل هذا لم أجدني قريبا في أي وقت من الأوقات من تجربة العيش في الوادي الجديد علي الرغم من أهميتها القصوي لأسباب عديدة حاولت أن أوضحها في السطور السابقة. وباستثناء قصة »اعتقال ومحاكمة العسكري سيف ونس »في مجموعة» النجوم العالية» الصادرة عام 1985 لم أقترب من عالم الوادي الجديد، بل ولم أشعر مطلقا بالرغبة في الاقتراب منه. كما أنني كنت قد توقفت أصلا لعدة سنوات عن الكتابة، ورأيتُ آنذاك أن انخراطي في صفوف المنظمة هو مايستحق أن أتفرغ له.
أعود إلي لحظات الوادي الجديد الأخيرة.. أمضينا - عائشة - وأنا نحو عشر ساعات في الباص الذي أقّلنا من مدينة الخارجة وحتي القاهرة. ظللت متشككا طوال تلك الساعات في حقيقة الموافقة علي نقلنا مرة أخري إلي القاهرة، بعد السجن والمحاكمة الهزلية، ثم انتهيتُ إلي أنه ليس من المستبعد أن يعيدوني مرة أخري إلي الوادي الجديد ويصححوا الخطأ الذي ارتكبوه، وإلا فلماذا أبعدوني ونقلوني أصلا إلي الوادي الجديد تنفيذا لقرار ممدوح سالم رئيس الوزراء بإبعاد كل من اتُهم بالاشتراك أو أدين في أحداث 18 و19 يناير 1977.
مازلت حتي الآن، وبعد مرور عدة عقود، عاجزا عن الوصول لتفسير مقنع، إلا أننا وصلنا في نهاية الأمر لمحطة جديدة في حياتنا. كان حظنا أكثر من طيب. لدينا شقة في أحراش الوراق، كما سبق أن ذكرت، لكنها شقتنا وسوف تلمنا معا. سوف أعود أيضا إلي عملي في صفوف المنظمة، وهو ما كنت أتطلع إليه بنفاد صبر.
استطاعت عائشة أن تجد لها مكانا كأمينة مكتبة في إحدي مدارس وسط البلد، بينما نُقلت أنا إلي مدرسة تجارية ثانوية تقع في حي عريق، وقريبة من باب الخلق والدرب الأحمر والقلعة والأزهر والباطنية، والسنوات القليلة التي عشتها أخصائيا اجتماعيا بين أسوارها، تعد من الخبرات الثمينة جدا، واستعدتُ بفضلها معرفتي وفهمي لما كان يجري حولي من تغيرات عنيفة، واكتشفتُ كم كنت جاهلا بما يجري .
في الأسبوع القادم أستكمل إذا امتد الأجل.
أخبار الأدب
زمن القليوبي ( ٨٨ ) الرواية ككذبة!
ويبدو لي ، وأنا في هذه السن، أن الكاتب مهما اعتمد علي تجاربه الشخصية والحياتية، لايعيد إنتاجها أو يعيد سردها من جديد، مهما بدت أمامنا قريبة مما نعرفه عن الكاتب.. والأمثلة لاحصر لها : فهيمنجواي كتب عن الحرب العالمية ورحلات أفريقيا، بينما كتب تولستوي عن عالم النبلاء الذين عاش بينهم، وكتب مالرو عن الحرب الأهلية الإسبانية التي كان قريبا منها في روايته »الأمل»..والأمثلة لاحصر لها.. (بطبيعة الحال لاأجرؤ علي إقحام نفسي بين تلك القامات لكنني أتحدث عن أمثلة) .
يبدو لي أولا أن الكاتب لابد له أن ينصاع ويمتثل للمنطق الداخلي الذي تقوده إليه روايته أو قصته القصيرة، ولذلك لابد له أن يفارق ماحدث بالفعل ليكتب أحداثا أخري ووقائع مختلفة، مخلصا لعمله الفني وليس مخلصا للواقع، وكما عبّر صنع الله إبراهيم في أحد حواراته أن الرواية كذبة.
ويبدو لي ثانيا أنه ليس من الضروري أن يعتمد الكاتب بوضوح علي التجارب الحياتية، وهناك عملية معقدة للغاية تجري للكاتب عندما يختزن، ثم يتأمل، تجاربه، وأخيرا عندما يستخدمها في الكتابة، ومع ذلك فالواحد لايكتب ماجري لأن ماحدث قد حدث بالفعل في العالم الواقعي، بينما الكتابة تكتب ما جري في الرواية أو القصة.
لكل هذا لم أجدني قريبا في أي وقت من الأوقات من تجربة العيش في الوادي الجديد علي الرغم من أهميتها القصوي لأسباب عديدة حاولت أن أوضحها في السطور السابقة. وباستثناء قصة »اعتقال ومحاكمة العسكري سيف ونس »في مجموعة» النجوم العالية» الصادرة عام 1985 لم أقترب من عالم الوادي الجديد، بل ولم أشعر مطلقا بالرغبة في الاقتراب منه. كما أنني كنت قد توقفت أصلا لعدة سنوات عن الكتابة، ورأيتُ آنذاك أن انخراطي في صفوف المنظمة هو مايستحق أن أتفرغ له.
أعود إلي لحظات الوادي الجديد الأخيرة.. أمضينا - عائشة - وأنا نحو عشر ساعات في الباص الذي أقّلنا من مدينة الخارجة وحتي القاهرة. ظللت متشككا طوال تلك الساعات في حقيقة الموافقة علي نقلنا مرة أخري إلي القاهرة، بعد السجن والمحاكمة الهزلية، ثم انتهيتُ إلي أنه ليس من المستبعد أن يعيدوني مرة أخري إلي الوادي الجديد ويصححوا الخطأ الذي ارتكبوه، وإلا فلماذا أبعدوني ونقلوني أصلا إلي الوادي الجديد تنفيذا لقرار ممدوح سالم رئيس الوزراء بإبعاد كل من اتُهم بالاشتراك أو أدين في أحداث 18 و19 يناير 1977.
مازلت حتي الآن، وبعد مرور عدة عقود، عاجزا عن الوصول لتفسير مقنع، إلا أننا وصلنا في نهاية الأمر لمحطة جديدة في حياتنا. كان حظنا أكثر من طيب. لدينا شقة في أحراش الوراق، كما سبق أن ذكرت، لكنها شقتنا وسوف تلمنا معا. سوف أعود أيضا إلي عملي في صفوف المنظمة، وهو ما كنت أتطلع إليه بنفاد صبر.
استطاعت عائشة أن تجد لها مكانا كأمينة مكتبة في إحدي مدارس وسط البلد، بينما نُقلت أنا إلي مدرسة تجارية ثانوية تقع في حي عريق، وقريبة من باب الخلق والدرب الأحمر والقلعة والأزهر والباطنية، والسنوات القليلة التي عشتها أخصائيا اجتماعيا بين أسوارها، تعد من الخبرات الثمينة جدا، واستعدتُ بفضلها معرفتي وفهمي لما كان يجري حولي من تغيرات عنيفة، واكتشفتُ كم كنت جاهلا بما يجري .
في الأسبوع القادم أستكمل إذا امتد الأجل.
أخبار الأدب
زمن القليوبي ( ٨٨ ) الرواية ككذبة!