تعريف: حكمة الاستخلاف هي فلسفة إسلامية، مضمونها محاولة تحديد العلاقة بين المستخلف- بكسر اللام - ” الله تعالى” والمستخلف - بفتح اللام - ”الإنسان” والمستخلف فيه “ الكون”- اى محاوله تحديد العلاقة بين أطراف علاقة الاستخلاف – وذلك باتخاذ المفاهيم ألقرانيه الكلية ( التوحيد والاستخلاف والتسخير) مسلمات أولى ، ثم محاوله استنباط النتائج الحكمية”الفلسفية” لهذه المفاهيم الكلية، متخذه من اجتهادات أهل السنة – بمذاهبهم المتعددة- العقدية “الكلامية ” – نقطه بداية- وليس نقطه نهاية – لهذا الاجتهاد.
الحكمة والمفهوم الاسلامى للفلسفة: و ننطلق في تحديد حكمه الاستخلاف من المفهوم الاسلامى للفلسفة ، سواء استخدمنا مصطلح” الحكمة ” أو مصطلح “الفلسفة” ، فالدلالة الأصلية لمصطلح فلسفة يرجع إلى لفظ يوناني مشتق من كلمتي (فيلو) و (سوفيا) أي محبة الحكمة، وهناك من يرى أن هذا اللفظ قال به فيثاغورس الذي رأى أن الإله وحده الحكيم أما الإنسان فيجب أن يكتفي بمحبة الحكمة ،.أما تعريفات الفلسفة في الفلسفة الغربية فقد تعددت طبقاً لتعدد الفلسفات ومناهج المعرفة المستخدمة في تعريفها. و إذا كان القدماء اليونانيين قد اكتفوا بوصف الإنسان بأنه محب للحكمة ، فان القران الكريم قد جمع بين وصف الله تعالى بالحكمة، كما في قوله تعالى(والله عزيز حكيم) (المائدة: 38)، ووصف الإنسان بالحكمة، كما في قوله تعالى( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ..)، مع وجوب أن نضع في الاعتبار أن الحكمه إلالهيه مطلقه ،والحكمة الانسانيه محدودة ، بناء على هذا فإننا نرى إن مصطلح (حكمة ) هو المصطلح القرآني المقابل لمصطلح (فلسفة) في الفكر الغربي ، وهذا ما يمكن استنباطه من ورود مصطلح الحكمة في القرآن بمعاني كالعقل والعلم والفهم والإصابة في القول ( ابن كثير، تفسير القرآن العظيم/ زبده التفسير من فتح القدير، ص540.) غير أننا نرى انه لا حرج من استخدام مصطلح الفلسفه ، ما دام هذا الاستخدام للفظ ذو دلاله لا تتناقض مع مفاهيم وقيم وقواعد الوحي الكلية ، وهنا نستأنس بتقرير العلماء لقاعدة (لا مشاحة في الألفاظ بعد معرفة المعاني)( المستصفى: 1/23 ) ، وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أنه ليس في القرآن ” كلام مركب من ألفاظ أعجمية ” يعطي معنى من هذا التركيب ،فأنهم قد اجمعوا أيضا على أن في القرآن ” أسماء أعلام أعجمية ” يقول القرطبي في مقدمة تفسيره ( لا خلاف بين الأئمة أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العرب ، وأن في القرآن أسماء أعلاماً لمن لسانه غير لسان العرب كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط ) (تفسير القرطبي : 1 / 68 ) ، كما العديد من علماء الإسلام قد استخدموا مصطلح الفلسفة ، يقول أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ( الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه (البيهقي ، معرفة السنن والآثار (1/118 ). وابن عساكر ، تاريخ دمشق 51/350).
مذهب الشمول الشرعي لمصطلح ” أهل السنة” : كما نستخدم مصطلح “أهل السنة” طبقا لمذهب الشمول الشرعي ، وليس طبقا لمذهب التضييق المذهبي. فالأخير هو مذهب يقصر دلاله مصطلح ” أهل السنة ” على مذهب معين، وبالتالي يرى انه لا يجوز أن نصف به غيره من المذاهب، ووجه الخطأ في هذا المذهب هو انه يفترض أن لمصطلح ” أهل السنة ” دلاله واحده .آما الأول “مذهب الشمول الشرعي” فهو المذهب الصحيح ، و يقوم على أساس أن لمصطلح أهل السنة دلالات متعددة: خاصة تتمثل في وصف مذهب معين من هذه المذاهب بمصطلح ” أهل السنة ” وعامه مضمونها كل مسلم متمسك بالكتاب والسنة ، يقول الإمام ابن تيميه (فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة)( مجموع الفتاوى (3/346) ،وتندرج تحت هذه الدلالة العامة المذاهب الفقهية:الحنبلي والشافعي والمالكي والحنفي…والمذاهب ألاعتقاديه الكلامية: الحنبلي و الظاهري و الماتريدي والطحاوي والاشعرى والتصوف السني الذي يشكل المذهب الأخير” الاشعرى ” أساسه العقدي . يقول الإمام ابن تيمية ( فلفظ السنة يراد به من أثبت الخلفاء الثلاثة ، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلاّ الرافضة )(منهاج السنة 2/ 221) ، واستنادا إلى هذا فانه يرى ان وصف مذهب معين بهذا المصطلح ” أهل السنة ” على وجه الخصوص، لا يعنى أن هذا المصطلح مقصور عليه، لذا يجوز ان نصف به غيره من المذاهب على وجه العموم، مادامت هذه المذاهب مقيده بضوابط المصطلح الشرعية..
نظريه الوجود: تستند حكمه الاستخلاف إلى نظريه في الوجود ، تنطلق من ثلاثة مفاهيم قرانيه هي:
ا/ مفهوم التوحيد : ومضمونه إفراد الربوبية والالوهيه لله تعالى ، فهو بالتالي ينقسم إلى توحيد الربوبية الذي مضمونه أن الله تعالى ينفرد بكونه الفاعل المطلق ” الدائم كونه فاعلا فتعبير ابن تيميه “، يقول الإمام ابن تيميه في معرض رفضه لاستدلال المتكلمين على وجود الله بطريقه الأعراض الدالة على حدوث الأجسام ( إن هذا المسلك مبنى على امتناع دوام كون الرب فاعلا وامتناع قيام الأفعال الاختيارية بذاته) (ابن تيميه، درء التعارض،1/98.)، أما مضمون توحيد الإلوهية فهو أن الله تعالى ينفرد بكونه الغاية المطلقة ”الغاية المطلوب بتعبير ابن تيميه”، يقول ابن تيمية ( …. ولكن المراد المستعان على قسمين: منه ما يراد لغيره ….. ومنه ما يراد لنفسه فمن المرادات ما يكون هو الغاية المطلوب فهو الذي يذل له الطالب ويحبه وهو الإله المعبود ومنه ما يراد لغيره)..فالتوحيد بقسميه(توحيد الربوبية و الالوهيه) يتعلق إذا بإفراد الوجود المطلق – فعلا وغاية- لله تعالى، والوجود المطلق هو الوجود القائم بذاته وكل وجود سواه قائم به ، وبتعبير الغزالي( فهو القيوم لان قوامه بذاته ،وقوام كل شيء به ،وليس ذلك إلا الله تعالى)( الغزالي، المقصد الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى).
الظهور الصفاتى والذاتي للربوبية : وللفعل المطلق الذي عبر عنه القران الكريم بمصطلح “الربوبية”، ظهور صفاتي وظهور ذاتي :
ا/الظهور الصفاتى : ومضمونه أن عالم الشهادة قائم على ظهور صفات الربوبية ” اى ما دل على الفعل المطلق لله تعالى”، يقول ابن القيم ( فالكون كما هو محل الخلق والأمر ، مظهر الأسماء والصفات ، فهو بجميعه شواهد وأدله وآيات دعا الله سبحانه عباده إلى النظر فيها)، ولهذا الظهور شكلين: الشكل الأول تكويني: يتمثل في الكون، والسنن الإلهية التي تضبط حركته ، يقول ابن تيميه(المخلوقات كلها آيات للخالق والفرق بين الايه والقياس إن الايه تدل على عين المطلوب الذي هو أيه وعلامة عليه)( ابن تيميه، مجموع الفتاوى،1/48)، والشكل الثاني تكليفي :يتمثل في الوحي ومفاهيمه وقيمه وقواعده الكلية يقول ابن القيم( القران كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته) ، ولهذا الوجود الشهادى درجتان هما: الوجود التسخيرى "الطبيعي" والوجود الاستخلافى "الانسانى"، لذا يتصل بتفسير الوجود الشهادى تناول مفهومي التسخير والاستخلاف :
ب/ مفهوم التسخير: ومضمونه أن الأشياء والكائنات التي لها درجه التسخير تظهر صفات ربوبية والوهيه الله تعالى ، على وجه الإجبار ، فهي دائما آيات داله على وجوده المطلق ، يقول ابن القيم ( فالكون كما هو محل الخلق والأمر مظهر الأسماء والصفات فهو بجميعه شواهد وأدله وآيات دعا الله سبحانه عباده إلى النظر فيها). ويترتب على مفهوم التسخير قاعدتان هما:
أولا. الموضوعية: وتنقسم إلى قسمين هما : الموضوعية التكوينية " وتتمثل في الوجود الموضوعي للكون"، والموضوعية التكلفية "وتتمثل في الوحي كوضع الهي مطلق"، وقسما الموضوعية يترتب عليهما تقرير أن الوجود الانسانى غير منفصل عن العالم الطبيعي وقوانينه "سننه الالهيه" ، أو الوحي ومفاهيمه وقيمه وقواعده الكلية.
ثانيا: السببية: وطبقا لها فان مضمون السنن الالهيه “الكلية والنوعية “التي تضبط حركه الوجود الشهادى ، هو تحقق المسبب بتوافر السبب وتخلفه بتخلف السبب. ويترتب على قاعدة السببية تقرير أن الضرورة ( ممثلة في انضباط حركة الوجود الشهادي بسنن إلهية لا تتبدل) هي شرط – وليس إلغاء – للوجود الانسانى ، أي أن تحقق الوجود الإنساني يتوقف على معرفة والتزام حتمية هذه السنن الإلهية.
ج/ مفهوم الاستخلاف : ومضمونه إظهار الإنسان لربوبية وإلوهيته الله تعالى في الأرض ،على المستوى الصفاتى، على وجه الاختيار، وهو ما يكون بالعبودية والعبادة، يقول الالوسى ( فلابد من إظهار من تم استعداده وقابليته ليكون مجليا لي ومراه لاسمائى وصفاتي)( روح المعنى،ص223) ، وإظهار صفات الالوهيه يكون بتوحيد الالوهيه والعبادة، وللاخيره معنى خاص ومعنى عام ، ومضمون الأخير كل فعل الغاية المطلقة منه الله تعالى يقول الإمام ابن تيميه ( العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) (رسالة العبودية ، ص 38) ، والعبادة – طبقا لهذا التعريف – هي ضمان موضوعي مطلق لتحقيق البعد الايجابي للوجود الانسانى(على المستوى الذاتي) ، لأن اتخاذ الله تعالى غاية مطلقة، يمد الذات بإمكانيات غير محدودة للترقي”الروحي” ، لأنه لا تتوافر للذات الإنسانية إمكانية التحقيق النهائي لها. أما إظهار صفات الربوبية فيكون بتوحيد الربوبية والعبودية، التي تعنى تحديد الفعل الانسانى – وليس إلغائه – وذلك باتخاذ مقتضى صفات الربوبية ضوابط موضوعيه مطلقه له ، والعبودية- طبقا لهذا التعريف – ضمان موضوعي مطلق لتحقيق البعد الإيجابي للوجود الانسانى (على المستوى الموضوعي)، لان الفعل الالهى المطلق عندما يحدد الفعل الانسانى ، فانه يكمله ولا يلغيه.
ب/ الظهور الذاتي ( الحياة الاخره): ومضمونه ظهور ذات الفعل المطلق ، وقد عبر عنه القران بمصطلح التجلي كما في قوله تعالى (…فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 143)، ولهذا الظهور الذاتي شكلين:
الشكل الأول : مقيد: ويتم في الحياة الدنيا وله شكل تكويني يتمثل في معجزات الأنبياء، وشكل تكليفي يتمثل في نزول الوحي على الأنبياء.
الشكل الثاني : مطلق: ويتم في الاخره ، فالحياة الاخره هي درجه من درجات الوجود قائمه على الظهور الذاتي (التجلي) ، قال تعالى (وأشرقت الأرض بنور ربها)، هذا التجلي يترتب عليه تغيير الوجود الشهادى المحدود بالزمان والمكان ، والقائم على الظهور الصفاتى، بوجود غيبي، قائم على الظهور الذاتى قال تعالى (كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ) ،وقال تعالى(يوم يبدل الله الأرض غير الأرض والسماوات)، غير أن هذا الظهور الذاتي أو التجلي( بالنسبة إلي الناس) ليس شاملا لجميعهم، بل هو مقصور على المؤمنين، وهو ما عبر عنه أهل السنة برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة،استنادا إلى العديد من النصوص كقوله تعالى (وجوهٌ يومئذٍ ناضرة، إلى ربِّها ناظرة).
نظريه المعرفة: كما تستند حكمه الاستخلاف إلى نظريه في المعرفة مضمونها أن العلم صفة ألوهية،وبالتالي ذات مضمون دال على كونه تعالى غاية مطلقة ،وهذه الصفة تظهر في عالم الشهادة من خلال شكلين:
ا/ شكل تكويني: يتمثل في عالم الشهادة"المتضمن للكون المسخر والإنسان المستخلف" كمصدر للمعرفة – والإحساس والتفكير المجرد(التذكير والإدراك والتصور) والرؤية الصادقة كوسائل لمعرفته.
ب/ شكل تكليفي: يتمثل في عالم الغيب كمصدر للمعرفة والوحي كوسيلة لمعرفته. يقول ابن القيم (وهذا البيان نوعان: بيان بالآيات المسموعة المتلوة ، وبيان بالآيات المشهودة المرتبة، وكلاهما أدلة وآيات علة توحيد الله وأسمائه وصفاته وكلامه). ومضمون الاستخلاف هنا إظهار صفه العلم الالهيه في الأرض، وذلك بإفراد العلم المطلق لله ، واتخاذ صفة العلم الإلهية مثل أعلى مطلق يسعى الإنسان لتحقيقه في واقعه المحدود، دون أن تتوافر له أمكانيه التحقيق النهائى له ، وهو ما يتم باتخاذ مقتضى هذه الصفة كضوابط موضوعية مطلقة تحدد المعرفة الإنسانية ولا تلغيها .فالوحي يحدد – ولا يلغى – جدل المعرفة القائم على الانتقال من الموضوعي "المشكلة العينية" إلي الذاتي "الحل المجرد" ، إلي الموضوعي"الواقع" مرة أخرى من أجل تغييره ، فيكون بمثابة ضمان موضوعي مطلق لاستمرار فاعليته.
نظريه القيم: كما تستند حكمه الاستخلاف إلى نظريه في القيم مضمونها التمييز بين نوعين من القيم: قيم مطلقة تمثل المستوى المطلق للقيمة مصدرها الله تعالى(المستخلف بكسر اللام)،وقيم محدودة تمثل المستوى المحدود للقيمة مصدرها الإنسان(المستخلف بفتح اللام) هذا التمييز بين النوعين من القيم أو بين المستويين من مستويات القيمة مصدره توحيد الإلوهية، إذ انه قائم على إفراد المطلق من الصفات- القيم "كالعدل والرحمة والحكمة والعلم..." لله تعالى، فالإلوهية لا تنصب على هذه الصفات في ذاتها بل على المطلق منها "باعتبار أن مضمونه كونه تعالى الغاية المطلقة" وهذا هو علة وصف القرآن الله تعالى والإنسان بهذه الصفات.فالرحمة قيمة وصف ذاته تعالى بها كما في الآيات ( ربك الغني ذو الرحمة) (الأنعام: 132)، كما وصف الإنسان بها كما في الآيات ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (النمل: 77) فالرحمة كقيمة مطلقة عند الله تعالى محدودة عند الإنسان كما تدل الآيات ( ورحمتي وسعت كل شئ) (لأعراف: 156 )، يقول ابن القيم (اختلف النظار في الأسماء التي تطلق على الله وعلى العباد كالحي والسميع والبصير والعليم والقدر والملك ونحوه ثم يورد رأيين... ويقول عن الثالث الذي يرجحه (أنها حقيقة فيهما وللرب تعالى ما يليق بجلاله وللعبد ما يليق به)( ابن القيم، بدائع الفوائد، ص 164). واستنادا إلى هذا التمييز تضع هذه النظرية في القيم نسق من الإجابات على الاسئله التي تطرحها نظريه القيم وهى:
أولا: أنماط القيم: هل هناك قيم أساسيه وأخرى ثانوية، وفى حاله الاجابه بنعم ما هي القيم الاساسيه ؟ كل القيم المطلقة التي مصدرها الله تعالى " اى صفات الالوهيه" أساسيه، وبالتالي لا يمكن تقسيمها إلى أساسيه وثانوية، أما القيم المحدودة التي مصدرها الإنسان فيمكن تقسيمها إلى أساسيه وثانوية طبقا لمعايير متعددة " منها تعدد مجالاتها"، مع وجوب تقرير أن هذا التقسيم نسبى لذا فهو محل خلاف.
ثانيا: هل القيم تتصف بالوحده ام التعدد؟ : تعدد القيم المطلقة التي مصدرها الله تعالى هو تعدد شكلي- اجرائى ، وهى ترجع إلى وحده أصيله ، لان وراء التعدد الصفاتى" اى تعدد صفات الالوهيه" وحده ذاتيه" اى وحده الذات الالهيه".
ثالثا: ما هى طبيعة القيم؟ : وتتناول مشكلة تعريف القيمة من خلال أربعة مشاكل(أ) هل القيم مطلقه " لا تخضع للتغير في المكان و التطور خلال الزمان"، أم نسبية "تخضع للتغير في المكان والتطور خلال الزمان؟ . (ب) هل القيم موضوعية" اى لها وجود مستقل عن عقل الإنسان وغير متوقف عليه"، أم ذاتيه" إي من وضع العقل البشرى واختراعه" ؟. (ج) هل القيم غاية في ذاتها أم مجرد وسيلة إلى غاية غيرها؟ . (د) هل القيم معيارية " إي تنصب على ما ينبغي أن يكون"، أم وصفية" أي تقتصر على ما هو كائن"؟. والاجابه التي تقدمها هذه النظرية في القيم على هذه الاسئله هي أن القيم المطلقة التي مصدره الله تعالى "المستخلف بكسر اللام" هي قيم: (1) مطلقه" فهي ثابتة" لا تخضع للتغير أو التطور في المكان أو خلال الزمان"، (2) موضوعيه "ولها شكلين :موضوعيه تكوينيه تتمثل في الفطرة كمصدر للقيم، وموضوعيه تكليفيه وتتمثل في الوحي كمصدر للقيم" ، (3)غاية في ذاتها " لذا قرر القرآن بصيغ مختلفة أن الله تعالى ينبغي أن يكون هو الغاية المطلقة وراء الغايات المحدودة لأي نشاط فكري أو مادي يقوم به الإنسان:(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) (الأنعام: 162)، (4) معياريه . بينما القيم المحدودة التي مصدرها الإنسان "المستخلف بفتح اللام" فهي قيم: (1) نسبيه ، ( 2) يمكن أن تتضمن قيم ذاتيه، (3) ووسيلة إلى غاية غيرها "كالمنفعة " ( حيث اخذ المنظور القيمى الاسلامى بمعيار المنفعة الذي قرره القرآن في عدة مواضع:(وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (الرعد: 17)، واتساقا مع هذا قرر علماء أصول الفقه أن حماية المصالح من مقاصد التشريع الاسلامى استدلالا بقوله نعالي (وما أرسلناك إلا رحمه للعلمين)،واعتبروا المصالح المرسلة كمصدر من مصادر التشريع التبعية. ولكن وجه الاختلاف مع مذهب المنفعة في الفلسفة الغربية أن المنظور القيمى الاسلامى ميز بين منفعة "مصلحه" مطلقه وضعها الله تعالى، ومنفعة محدودة نسبيه وضعها الإنسان، كما جعل الاخيره مشروطة بعدم التعارض مع أصول الدين النصية الثابتة يقول الغزالي: (إن المصلحة المرسلة إذا كانت ضرورية كلية قطعية يحتج لها فإن فقدت شروط هذه الشروط لا يعمل بها)، (4) وصفيه. أما الجمع بين نسقى القيم: (المطلقة/الموضوعية/المعيارية /الغائية) و(النسبية/ الذاتية /الوصفية /الوسليه) فيتم طبقا لمنهج المعرفة الاسلامى وسنه " الكدح إلى الله " والتي مضمونها " التكليفى "أن تأخذ حركه الإنسان شكل فعل غائي محدود بفعل مطلق"الربوبية" وغاية مطلقه " الالوهيه "، فمضمون الاخيره أن الله تعالى ينفرد بكونه غاية مطلقة ، وأن صفات إلوهيته من حيث هي قيم مطلقة ،يسعى الإنسان لتحقيقها في واقعه المحدود دون أن تتوافر له أمكانيه التحقيق النهائي لها يقول الإمام ابن تيمية ( .... ولمن المراد المستعان على قسمين: منه ما يراد لغيره ..... ومنه ما يراد لنفسه فمن المرادات ما يكون هو الغاية المطلوب فهو الذي يبذل له الطالب ويحبه وهو الإله المعبود ومنه ما يراد لغيره)
حكمة الاستخلاف فلسفة إنسانية– روحيه”دينيه”، وسطيه متجاوزه لكل من الفلسفات المادية والمثالية :
بعد العرض السابق نخلص إلى أن حكمه الاستخلاف فلسفه إنسانيه– روحيه” دينيه”، لأنها قائمه على التأكيد على قيمه الوجود الانسانى، وإثباتها لهذا الوجود بأبعاده المتعددة،كوجود محدود تكليفيا بالسنن الالهيه ، التي تضبط حركه الوجود” الشهادى “، فهي تجعل العلاقة بين الوجود الالهى والوجود الانسانى بأبعاده المتعددة علاقة تحديد وتكامل- من خلال تقريرها أن الوجود الالهى يحدد الوجود الانسانى ، فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه – وليست علاقة إلغاء وتناقض كما في الفلسفات الانسانيه الغربية . كما أن حكمه "فلسفه الاستخلاف" قائمه على أن الوجود الانسانى “ المستخلف” ليس وجود بسيط ، بل هو وجود مركب من أبعاد ماديه”حسية شهاديه” وروحيه”غيبيه” متفاعلة ، وضرورة تحقيق التوازن بين هذه الأبعاد المتعددة- استنادا إلى مفهوم الوسطية – فهى ترفض إشباع حاجاته المادية وتجاهل حاجاته الروحية”وهو ما يلزم من الفلسفات المادية” ، كما ترفض إشباع حاجاته الروحية وتجاهل حاجاته المادية”وهو ما يلزم من الفلسفات المثالية “،وتدعو إلى إشباع حاجاته المادية والروحية معا قال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(القصص:77)، وقال تعالى(قلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ). (الأعراف:32)
للاطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زيارة الموقع التالي:
الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات https://drsabrikhalil.wordpress.com
د. صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم
الحكمة والمفهوم الاسلامى للفلسفة: و ننطلق في تحديد حكمه الاستخلاف من المفهوم الاسلامى للفلسفة ، سواء استخدمنا مصطلح” الحكمة ” أو مصطلح “الفلسفة” ، فالدلالة الأصلية لمصطلح فلسفة يرجع إلى لفظ يوناني مشتق من كلمتي (فيلو) و (سوفيا) أي محبة الحكمة، وهناك من يرى أن هذا اللفظ قال به فيثاغورس الذي رأى أن الإله وحده الحكيم أما الإنسان فيجب أن يكتفي بمحبة الحكمة ،.أما تعريفات الفلسفة في الفلسفة الغربية فقد تعددت طبقاً لتعدد الفلسفات ومناهج المعرفة المستخدمة في تعريفها. و إذا كان القدماء اليونانيين قد اكتفوا بوصف الإنسان بأنه محب للحكمة ، فان القران الكريم قد جمع بين وصف الله تعالى بالحكمة، كما في قوله تعالى(والله عزيز حكيم) (المائدة: 38)، ووصف الإنسان بالحكمة، كما في قوله تعالى( ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً ..)، مع وجوب أن نضع في الاعتبار أن الحكمه إلالهيه مطلقه ،والحكمة الانسانيه محدودة ، بناء على هذا فإننا نرى إن مصطلح (حكمة ) هو المصطلح القرآني المقابل لمصطلح (فلسفة) في الفكر الغربي ، وهذا ما يمكن استنباطه من ورود مصطلح الحكمة في القرآن بمعاني كالعقل والعلم والفهم والإصابة في القول ( ابن كثير، تفسير القرآن العظيم/ زبده التفسير من فتح القدير، ص540.) غير أننا نرى انه لا حرج من استخدام مصطلح الفلسفه ، ما دام هذا الاستخدام للفظ ذو دلاله لا تتناقض مع مفاهيم وقيم وقواعد الوحي الكلية ، وهنا نستأنس بتقرير العلماء لقاعدة (لا مشاحة في الألفاظ بعد معرفة المعاني)( المستصفى: 1/23 ) ، وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أنه ليس في القرآن ” كلام مركب من ألفاظ أعجمية ” يعطي معنى من هذا التركيب ،فأنهم قد اجمعوا أيضا على أن في القرآن ” أسماء أعلام أعجمية ” يقول القرطبي في مقدمة تفسيره ( لا خلاف بين الأئمة أنه ليس في القرآن كلام مركب على أساليب غير العرب ، وأن في القرآن أسماء أعلاماً لمن لسانه غير لسان العرب كإسرائيل وجبريل وعمران ونوح ولوط ) (تفسير القرطبي : 1 / 68 ) ، كما العديد من علماء الإسلام قد استخدموا مصطلح الفلسفة ، يقول أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ( الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه (البيهقي ، معرفة السنن والآثار (1/118 ). وابن عساكر ، تاريخ دمشق 51/350).
مذهب الشمول الشرعي لمصطلح ” أهل السنة” : كما نستخدم مصطلح “أهل السنة” طبقا لمذهب الشمول الشرعي ، وليس طبقا لمذهب التضييق المذهبي. فالأخير هو مذهب يقصر دلاله مصطلح ” أهل السنة ” على مذهب معين، وبالتالي يرى انه لا يجوز أن نصف به غيره من المذاهب، ووجه الخطأ في هذا المذهب هو انه يفترض أن لمصطلح ” أهل السنة ” دلاله واحده .آما الأول “مذهب الشمول الشرعي” فهو المذهب الصحيح ، و يقوم على أساس أن لمصطلح أهل السنة دلالات متعددة: خاصة تتمثل في وصف مذهب معين من هذه المذاهب بمصطلح ” أهل السنة ” وعامه مضمونها كل مسلم متمسك بالكتاب والسنة ، يقول الإمام ابن تيميه (فمن قال بالكتاب والسنة والإجماع كان من أهل السنة والجماعة)( مجموع الفتاوى (3/346) ،وتندرج تحت هذه الدلالة العامة المذاهب الفقهية:الحنبلي والشافعي والمالكي والحنفي…والمذاهب ألاعتقاديه الكلامية: الحنبلي و الظاهري و الماتريدي والطحاوي والاشعرى والتصوف السني الذي يشكل المذهب الأخير” الاشعرى ” أساسه العقدي . يقول الإمام ابن تيمية ( فلفظ السنة يراد به من أثبت الخلفاء الثلاثة ، فيدخل في ذلك جميع الطوائف إلاّ الرافضة )(منهاج السنة 2/ 221) ، واستنادا إلى هذا فانه يرى ان وصف مذهب معين بهذا المصطلح ” أهل السنة ” على وجه الخصوص، لا يعنى أن هذا المصطلح مقصور عليه، لذا يجوز ان نصف به غيره من المذاهب على وجه العموم، مادامت هذه المذاهب مقيده بضوابط المصطلح الشرعية..
نظريه الوجود: تستند حكمه الاستخلاف إلى نظريه في الوجود ، تنطلق من ثلاثة مفاهيم قرانيه هي:
ا/ مفهوم التوحيد : ومضمونه إفراد الربوبية والالوهيه لله تعالى ، فهو بالتالي ينقسم إلى توحيد الربوبية الذي مضمونه أن الله تعالى ينفرد بكونه الفاعل المطلق ” الدائم كونه فاعلا فتعبير ابن تيميه “، يقول الإمام ابن تيميه في معرض رفضه لاستدلال المتكلمين على وجود الله بطريقه الأعراض الدالة على حدوث الأجسام ( إن هذا المسلك مبنى على امتناع دوام كون الرب فاعلا وامتناع قيام الأفعال الاختيارية بذاته) (ابن تيميه، درء التعارض،1/98.)، أما مضمون توحيد الإلوهية فهو أن الله تعالى ينفرد بكونه الغاية المطلقة ”الغاية المطلوب بتعبير ابن تيميه”، يقول ابن تيمية ( …. ولكن المراد المستعان على قسمين: منه ما يراد لغيره ….. ومنه ما يراد لنفسه فمن المرادات ما يكون هو الغاية المطلوب فهو الذي يذل له الطالب ويحبه وهو الإله المعبود ومنه ما يراد لغيره)..فالتوحيد بقسميه(توحيد الربوبية و الالوهيه) يتعلق إذا بإفراد الوجود المطلق – فعلا وغاية- لله تعالى، والوجود المطلق هو الوجود القائم بذاته وكل وجود سواه قائم به ، وبتعبير الغزالي( فهو القيوم لان قوامه بذاته ،وقوام كل شيء به ،وليس ذلك إلا الله تعالى)( الغزالي، المقصد الاسنى في شرح أسماء الله الحسنى).
الظهور الصفاتى والذاتي للربوبية : وللفعل المطلق الذي عبر عنه القران الكريم بمصطلح “الربوبية”، ظهور صفاتي وظهور ذاتي :
ا/الظهور الصفاتى : ومضمونه أن عالم الشهادة قائم على ظهور صفات الربوبية ” اى ما دل على الفعل المطلق لله تعالى”، يقول ابن القيم ( فالكون كما هو محل الخلق والأمر ، مظهر الأسماء والصفات ، فهو بجميعه شواهد وأدله وآيات دعا الله سبحانه عباده إلى النظر فيها)، ولهذا الظهور شكلين: الشكل الأول تكويني: يتمثل في الكون، والسنن الإلهية التي تضبط حركته ، يقول ابن تيميه(المخلوقات كلها آيات للخالق والفرق بين الايه والقياس إن الايه تدل على عين المطلوب الذي هو أيه وعلامة عليه)( ابن تيميه، مجموع الفتاوى،1/48)، والشكل الثاني تكليفي :يتمثل في الوحي ومفاهيمه وقيمه وقواعده الكلية يقول ابن القيم( القران كلام الله وقد تجلى الله فيه لعباده بصفاته) ، ولهذا الوجود الشهادى درجتان هما: الوجود التسخيرى "الطبيعي" والوجود الاستخلافى "الانسانى"، لذا يتصل بتفسير الوجود الشهادى تناول مفهومي التسخير والاستخلاف :
ب/ مفهوم التسخير: ومضمونه أن الأشياء والكائنات التي لها درجه التسخير تظهر صفات ربوبية والوهيه الله تعالى ، على وجه الإجبار ، فهي دائما آيات داله على وجوده المطلق ، يقول ابن القيم ( فالكون كما هو محل الخلق والأمر مظهر الأسماء والصفات فهو بجميعه شواهد وأدله وآيات دعا الله سبحانه عباده إلى النظر فيها). ويترتب على مفهوم التسخير قاعدتان هما:
أولا. الموضوعية: وتنقسم إلى قسمين هما : الموضوعية التكوينية " وتتمثل في الوجود الموضوعي للكون"، والموضوعية التكلفية "وتتمثل في الوحي كوضع الهي مطلق"، وقسما الموضوعية يترتب عليهما تقرير أن الوجود الانسانى غير منفصل عن العالم الطبيعي وقوانينه "سننه الالهيه" ، أو الوحي ومفاهيمه وقيمه وقواعده الكلية.
ثانيا: السببية: وطبقا لها فان مضمون السنن الالهيه “الكلية والنوعية “التي تضبط حركه الوجود الشهادى ، هو تحقق المسبب بتوافر السبب وتخلفه بتخلف السبب. ويترتب على قاعدة السببية تقرير أن الضرورة ( ممثلة في انضباط حركة الوجود الشهادي بسنن إلهية لا تتبدل) هي شرط – وليس إلغاء – للوجود الانسانى ، أي أن تحقق الوجود الإنساني يتوقف على معرفة والتزام حتمية هذه السنن الإلهية.
ج/ مفهوم الاستخلاف : ومضمونه إظهار الإنسان لربوبية وإلوهيته الله تعالى في الأرض ،على المستوى الصفاتى، على وجه الاختيار، وهو ما يكون بالعبودية والعبادة، يقول الالوسى ( فلابد من إظهار من تم استعداده وقابليته ليكون مجليا لي ومراه لاسمائى وصفاتي)( روح المعنى،ص223) ، وإظهار صفات الالوهيه يكون بتوحيد الالوهيه والعبادة، وللاخيره معنى خاص ومعنى عام ، ومضمون الأخير كل فعل الغاية المطلقة منه الله تعالى يقول الإمام ابن تيميه ( العبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة) (رسالة العبودية ، ص 38) ، والعبادة – طبقا لهذا التعريف – هي ضمان موضوعي مطلق لتحقيق البعد الايجابي للوجود الانسانى(على المستوى الذاتي) ، لأن اتخاذ الله تعالى غاية مطلقة، يمد الذات بإمكانيات غير محدودة للترقي”الروحي” ، لأنه لا تتوافر للذات الإنسانية إمكانية التحقيق النهائي لها. أما إظهار صفات الربوبية فيكون بتوحيد الربوبية والعبودية، التي تعنى تحديد الفعل الانسانى – وليس إلغائه – وذلك باتخاذ مقتضى صفات الربوبية ضوابط موضوعيه مطلقه له ، والعبودية- طبقا لهذا التعريف – ضمان موضوعي مطلق لتحقيق البعد الإيجابي للوجود الانسانى (على المستوى الموضوعي)، لان الفعل الالهى المطلق عندما يحدد الفعل الانسانى ، فانه يكمله ولا يلغيه.
ب/ الظهور الذاتي ( الحياة الاخره): ومضمونه ظهور ذات الفعل المطلق ، وقد عبر عنه القران بمصطلح التجلي كما في قوله تعالى (…فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) (الأعراف: 143)، ولهذا الظهور الذاتي شكلين:
الشكل الأول : مقيد: ويتم في الحياة الدنيا وله شكل تكويني يتمثل في معجزات الأنبياء، وشكل تكليفي يتمثل في نزول الوحي على الأنبياء.
الشكل الثاني : مطلق: ويتم في الاخره ، فالحياة الاخره هي درجه من درجات الوجود قائمه على الظهور الذاتي (التجلي) ، قال تعالى (وأشرقت الأرض بنور ربها)، هذا التجلي يترتب عليه تغيير الوجود الشهادى المحدود بالزمان والمكان ، والقائم على الظهور الصفاتى، بوجود غيبي، قائم على الظهور الذاتى قال تعالى (كلا إذا دكت الأرض دكا دكا ) ،وقال تعالى(يوم يبدل الله الأرض غير الأرض والسماوات)، غير أن هذا الظهور الذاتي أو التجلي( بالنسبة إلي الناس) ليس شاملا لجميعهم، بل هو مقصور على المؤمنين، وهو ما عبر عنه أهل السنة برؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة،استنادا إلى العديد من النصوص كقوله تعالى (وجوهٌ يومئذٍ ناضرة، إلى ربِّها ناظرة).
نظريه المعرفة: كما تستند حكمه الاستخلاف إلى نظريه في المعرفة مضمونها أن العلم صفة ألوهية،وبالتالي ذات مضمون دال على كونه تعالى غاية مطلقة ،وهذه الصفة تظهر في عالم الشهادة من خلال شكلين:
ا/ شكل تكويني: يتمثل في عالم الشهادة"المتضمن للكون المسخر والإنسان المستخلف" كمصدر للمعرفة – والإحساس والتفكير المجرد(التذكير والإدراك والتصور) والرؤية الصادقة كوسائل لمعرفته.
ب/ شكل تكليفي: يتمثل في عالم الغيب كمصدر للمعرفة والوحي كوسيلة لمعرفته. يقول ابن القيم (وهذا البيان نوعان: بيان بالآيات المسموعة المتلوة ، وبيان بالآيات المشهودة المرتبة، وكلاهما أدلة وآيات علة توحيد الله وأسمائه وصفاته وكلامه). ومضمون الاستخلاف هنا إظهار صفه العلم الالهيه في الأرض، وذلك بإفراد العلم المطلق لله ، واتخاذ صفة العلم الإلهية مثل أعلى مطلق يسعى الإنسان لتحقيقه في واقعه المحدود، دون أن تتوافر له أمكانيه التحقيق النهائى له ، وهو ما يتم باتخاذ مقتضى هذه الصفة كضوابط موضوعية مطلقة تحدد المعرفة الإنسانية ولا تلغيها .فالوحي يحدد – ولا يلغى – جدل المعرفة القائم على الانتقال من الموضوعي "المشكلة العينية" إلي الذاتي "الحل المجرد" ، إلي الموضوعي"الواقع" مرة أخرى من أجل تغييره ، فيكون بمثابة ضمان موضوعي مطلق لاستمرار فاعليته.
نظريه القيم: كما تستند حكمه الاستخلاف إلى نظريه في القيم مضمونها التمييز بين نوعين من القيم: قيم مطلقة تمثل المستوى المطلق للقيمة مصدرها الله تعالى(المستخلف بكسر اللام)،وقيم محدودة تمثل المستوى المحدود للقيمة مصدرها الإنسان(المستخلف بفتح اللام) هذا التمييز بين النوعين من القيم أو بين المستويين من مستويات القيمة مصدره توحيد الإلوهية، إذ انه قائم على إفراد المطلق من الصفات- القيم "كالعدل والرحمة والحكمة والعلم..." لله تعالى، فالإلوهية لا تنصب على هذه الصفات في ذاتها بل على المطلق منها "باعتبار أن مضمونه كونه تعالى الغاية المطلقة" وهذا هو علة وصف القرآن الله تعالى والإنسان بهذه الصفات.فالرحمة قيمة وصف ذاته تعالى بها كما في الآيات ( ربك الغني ذو الرحمة) (الأنعام: 132)، كما وصف الإنسان بها كما في الآيات ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) (النمل: 77) فالرحمة كقيمة مطلقة عند الله تعالى محدودة عند الإنسان كما تدل الآيات ( ورحمتي وسعت كل شئ) (لأعراف: 156 )، يقول ابن القيم (اختلف النظار في الأسماء التي تطلق على الله وعلى العباد كالحي والسميع والبصير والعليم والقدر والملك ونحوه ثم يورد رأيين... ويقول عن الثالث الذي يرجحه (أنها حقيقة فيهما وللرب تعالى ما يليق بجلاله وللعبد ما يليق به)( ابن القيم، بدائع الفوائد، ص 164). واستنادا إلى هذا التمييز تضع هذه النظرية في القيم نسق من الإجابات على الاسئله التي تطرحها نظريه القيم وهى:
أولا: أنماط القيم: هل هناك قيم أساسيه وأخرى ثانوية، وفى حاله الاجابه بنعم ما هي القيم الاساسيه ؟ كل القيم المطلقة التي مصدرها الله تعالى " اى صفات الالوهيه" أساسيه، وبالتالي لا يمكن تقسيمها إلى أساسيه وثانوية، أما القيم المحدودة التي مصدرها الإنسان فيمكن تقسيمها إلى أساسيه وثانوية طبقا لمعايير متعددة " منها تعدد مجالاتها"، مع وجوب تقرير أن هذا التقسيم نسبى لذا فهو محل خلاف.
ثانيا: هل القيم تتصف بالوحده ام التعدد؟ : تعدد القيم المطلقة التي مصدرها الله تعالى هو تعدد شكلي- اجرائى ، وهى ترجع إلى وحده أصيله ، لان وراء التعدد الصفاتى" اى تعدد صفات الالوهيه" وحده ذاتيه" اى وحده الذات الالهيه".
ثالثا: ما هى طبيعة القيم؟ : وتتناول مشكلة تعريف القيمة من خلال أربعة مشاكل(أ) هل القيم مطلقه " لا تخضع للتغير في المكان و التطور خلال الزمان"، أم نسبية "تخضع للتغير في المكان والتطور خلال الزمان؟ . (ب) هل القيم موضوعية" اى لها وجود مستقل عن عقل الإنسان وغير متوقف عليه"، أم ذاتيه" إي من وضع العقل البشرى واختراعه" ؟. (ج) هل القيم غاية في ذاتها أم مجرد وسيلة إلى غاية غيرها؟ . (د) هل القيم معيارية " إي تنصب على ما ينبغي أن يكون"، أم وصفية" أي تقتصر على ما هو كائن"؟. والاجابه التي تقدمها هذه النظرية في القيم على هذه الاسئله هي أن القيم المطلقة التي مصدره الله تعالى "المستخلف بكسر اللام" هي قيم: (1) مطلقه" فهي ثابتة" لا تخضع للتغير أو التطور في المكان أو خلال الزمان"، (2) موضوعيه "ولها شكلين :موضوعيه تكوينيه تتمثل في الفطرة كمصدر للقيم، وموضوعيه تكليفيه وتتمثل في الوحي كمصدر للقيم" ، (3)غاية في ذاتها " لذا قرر القرآن بصيغ مختلفة أن الله تعالى ينبغي أن يكون هو الغاية المطلقة وراء الغايات المحدودة لأي نشاط فكري أو مادي يقوم به الإنسان:(قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) (الأنعام: 162)، (4) معياريه . بينما القيم المحدودة التي مصدرها الإنسان "المستخلف بفتح اللام" فهي قيم: (1) نسبيه ، ( 2) يمكن أن تتضمن قيم ذاتيه، (3) ووسيلة إلى غاية غيرها "كالمنفعة " ( حيث اخذ المنظور القيمى الاسلامى بمعيار المنفعة الذي قرره القرآن في عدة مواضع:(وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) (الرعد: 17)، واتساقا مع هذا قرر علماء أصول الفقه أن حماية المصالح من مقاصد التشريع الاسلامى استدلالا بقوله نعالي (وما أرسلناك إلا رحمه للعلمين)،واعتبروا المصالح المرسلة كمصدر من مصادر التشريع التبعية. ولكن وجه الاختلاف مع مذهب المنفعة في الفلسفة الغربية أن المنظور القيمى الاسلامى ميز بين منفعة "مصلحه" مطلقه وضعها الله تعالى، ومنفعة محدودة نسبيه وضعها الإنسان، كما جعل الاخيره مشروطة بعدم التعارض مع أصول الدين النصية الثابتة يقول الغزالي: (إن المصلحة المرسلة إذا كانت ضرورية كلية قطعية يحتج لها فإن فقدت شروط هذه الشروط لا يعمل بها)، (4) وصفيه. أما الجمع بين نسقى القيم: (المطلقة/الموضوعية/المعيارية /الغائية) و(النسبية/ الذاتية /الوصفية /الوسليه) فيتم طبقا لمنهج المعرفة الاسلامى وسنه " الكدح إلى الله " والتي مضمونها " التكليفى "أن تأخذ حركه الإنسان شكل فعل غائي محدود بفعل مطلق"الربوبية" وغاية مطلقه " الالوهيه "، فمضمون الاخيره أن الله تعالى ينفرد بكونه غاية مطلقة ، وأن صفات إلوهيته من حيث هي قيم مطلقة ،يسعى الإنسان لتحقيقها في واقعه المحدود دون أن تتوافر له أمكانيه التحقيق النهائي لها يقول الإمام ابن تيمية ( .... ولمن المراد المستعان على قسمين: منه ما يراد لغيره ..... ومنه ما يراد لنفسه فمن المرادات ما يكون هو الغاية المطلوب فهو الذي يبذل له الطالب ويحبه وهو الإله المعبود ومنه ما يراد لغيره)
حكمة الاستخلاف فلسفة إنسانية– روحيه”دينيه”، وسطيه متجاوزه لكل من الفلسفات المادية والمثالية :
بعد العرض السابق نخلص إلى أن حكمه الاستخلاف فلسفه إنسانيه– روحيه” دينيه”، لأنها قائمه على التأكيد على قيمه الوجود الانسانى، وإثباتها لهذا الوجود بأبعاده المتعددة،كوجود محدود تكليفيا بالسنن الالهيه ، التي تضبط حركه الوجود” الشهادى “، فهي تجعل العلاقة بين الوجود الالهى والوجود الانسانى بأبعاده المتعددة علاقة تحديد وتكامل- من خلال تقريرها أن الوجود الالهى يحدد الوجود الانسانى ، فيكمله ويغنيه ولكن لا يلغيه – وليست علاقة إلغاء وتناقض كما في الفلسفات الانسانيه الغربية . كما أن حكمه "فلسفه الاستخلاف" قائمه على أن الوجود الانسانى “ المستخلف” ليس وجود بسيط ، بل هو وجود مركب من أبعاد ماديه”حسية شهاديه” وروحيه”غيبيه” متفاعلة ، وضرورة تحقيق التوازن بين هذه الأبعاد المتعددة- استنادا إلى مفهوم الوسطية – فهى ترفض إشباع حاجاته المادية وتجاهل حاجاته الروحية”وهو ما يلزم من الفلسفات المادية” ، كما ترفض إشباع حاجاته الروحية وتجاهل حاجاته المادية”وهو ما يلزم من الفلسفات المثالية “،وتدعو إلى إشباع حاجاته المادية والروحية معا قال تعالى (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)(القصص:77)، وقال تعالى(قلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ). (الأعراف:32)
للاطلاع على مقالات أخرى للدكتور صبري محمد خليل يمكن زيارة الموقع التالي:
الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات https://drsabrikhalil.wordpress.com
د. صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم