كانت هناك، إلى جانب الطريق الـرئيس، من الطرف الآخر، عمارات من أربعة طوابق أغلب شبابيكها مغلقة، وهناك مساحات أخرى إما مستوية أو محفورة بـين شتى العمارات، نبتت فيها أعشاب قصيرة متوحشة، أو تكوّمت فيها أتربة من مخلفات الحفر. ومثل هذه العمارات المغلقة النوافذ أو التي لم يستكمل بناؤها والمنتشرة هنا وهناك لا بد و أن يحتلها بعض السكان الغرباء إلى حين قرب الـصيف، موعد عودة أصحابها الذين يشتغلون في أي شيء في أوروبا، وينامون في أي مكان حتى ولو كان حظيرة أو زريبة، و يقتاتون مما يمكنه أن يملأ البطن، وفي نهاية العمر يعودون إلى الـوطن من أجل تحصيل ثمن الكراء بعد أن يكون الجسد قد أُنهك.وبطيعة الحال فإن مجموعة من هؤلاء الذين يحتلون تلـك البنايات قد لا تكون هم صعوبات حتى ولو كان لهم أبناء؛ فهم ينجبون والسلام. فكما وُلدوا في البادية بدون هوية وبدون علم من الدولة فهم يفعلون نفس الشيء في الـضواحي أو في أماكن أخرى مثلما يفعل الذباب والصراصير والزنابير، وهم بدون هوية دائماً إلا وقت الاتتخابـات؛ إذ يخرجون كجرذان ليقولوا - بصوت واحد - «نعم» وبعد ذلك يعودون إلى جحورهم المظلمة. عين المقدم تمر بكل تأكيد في كل زقـاق وتتسرب إلى أية بناية مسكونة أو مهجورة وهو يعرف أسماء أصحابها الأصليين واحدا واحدا، كذلك فإن الساكن الغريب الطارئ لا بد وأن يدفع دون أن يبلغ جاره، وحتى لا يبلغ الجارُ جارَهُ، حتى لا يسمع مسؤول كبير بذلك. فالمقدم مجرد منفذ، وكان السكان الغرباء يفهمون ذلك جيدًا، ويعرفون أنهم مطرودون في هذه اللحظة أو في تلك، بل قد يتعرضون للسجن؛ لذلك، وبعيدًا عن هذه البنايات تكومت مجموعة من أكواخ الصفيح الواطئة المتربة، هي في الغالب ملكُُ لهؤلاء الغرباء مغتصبي أملاك غيرهم، أو هي ملك لأقاربهم، فعندما تُشَمُّ أدنى رائحة، أو يُسمع أدنى طنين فإن الغريب يجرّ أبناءه ويهرب إلى تلك الأكواخ وإذا لم يكن له جحر هناك، فإنه يتربص على قارعة الطريق ويننظر أول ....