جعفر كمال - التشكيلي ضياء الخزاعي: يترجم الإحساس المعنوي، بإيقاعية التعبير التشكيلي



يقول أدوار عازوري: " أن الفن لا زمن له، إلاَّ أن لكل زمن ذوقه ومقاييسه الجمالية*" فإذا كان الرسم يمثل حالة إشباع لرغبة ما تحقق عملاً فنياً يثير تنويعات تخاصرت ألوانها بمساق تدويرها، حتى تجعلنا نتواضع بإخلاص بين إلهام الرسام، وصلاحية أسلوب التعبير، الذي يجنح إلى تحقيق النجاح، وبين تصاعد الوعي في منجزٍ يفيض عفوية، فهذا كما لو أننا نتعهد أن لا نمنع ارادتنا عن أن نتدخل بقراءة صارمة إذا تبين العكس، خاصة إذا اعتبرنا أن التجريد الجمالي لا يبتعد كثيرا عن الفصامية على اعتباره فنا عفويا، وهذا يعني أن أغلب التشكيل التقليدي المعاصر لا يتوصل بأي شكل من الأشكال إلى الإلهام الفصامي، وهنا اشير إلى الفصامية التي تتوحد وتتفاعل عند الرسام في زمن الرسم، فنقول تلك اللوحة الساحرة التي ترسم عالمها الممكن وفق قيَّمها وحداثتها، كما هو الحال عند التشكيلي المشاكس اللبناني الساحر محمد شمس الدين. ولهذا فالرسم بدأ مع بدء الإنسان بممارسة حياته الأولى، فالخربشة رسم، ونحت الكلمات على الحجر رسم، والكتابة على البردية والجلود رسم، وطيران الطيور رسم، والطبخ رسم، والرياضة رسم، والسباحة رسم، والغيوم في كبد السماء تتحرك بتشكيل فني، والحفريات رسم، والغابات رسم، والمخلوقات رسم، كل حسب تفاصيله وقياساته العضوية وبعده التطويري.

أمَّا اللوحة الفنية التي لا يرسمها الفصامي فهي خالية من الإدهاش في تشكيلاتها، أو حتى في التجريد المعلن على المساق التوليفي، سواء كان التأوب الفني ينطوي على استئثار يتراءى له كخطوط هندسية يحركها الجنوح الرومانسي، المصاحب لمساحات مختصرة بتموضع حركة اشكالها اللونية المتأصلة في أساليبه التعبيرية المستديمة، باعتبارها تتحرك بعواملها المستعارة أو المقلدة أو المناقلة لفن جوابات الإمكان البحثي في الزمن الممتد من الإصباح حتى الإمساء، دون أن يحقق الفنان شيئاً ذا قيمة تذكر. لأن التعامل الأسلوبي النفساني يترك أثرا معيوناً يصالح المغزى الجمالي أنْ ينتشر على مساحات النقد النوعي، كون التعابير الجامحة المولدة للجنون الذاتي أو الفصامي هي قيم معنوية تساهم في إشراك الذات المتحولة، من تحولات خصوصية التجريد البصري إلى الرؤية الخاصة الخالصة، وعليه فالتفاعلات الإنسانية هي نواتج محسوسات يساقيها الاحتراف، لكونه يساهم مساهمة تثويريه في إحداث هزات ذات معنى يطبع بصمته على صفحات التاريخ، حيث يتم التفاعل من إقبال يستفيض المشاهد للقناعة بمقدار القيمة الحاصلة في حركية اللغة المرسومة، من وحي بناء تأويلات الكلاسيك منها أو التكعيبي، مفعلة بثرى ما يلبي الرسام لمشتهى المؤول، بسياق يرضي ذوق المتلقي.

إذن فالرسم يمثل المعنى الجمالي من انشغالات تعابيره اللونية المتصاعدة بفعلية الباثولوجيا المعاصرة، التي امتعت مصادر المحرك الدلالي للبصيرة، وهذه الفترة منذ بدئها وحتى يومنا هذا امتدت مراحلها منذ العهد الأسطوري الأول، وهي تتواصل مع العهد الملحمي بنتاجات مختلفة، حتى المرحلة الرومانسية التي ابتدأها التشكيل الإيطالي، وانتقالها شيئا فشيئا إلى عموم أوروبا الغربية، وتلتها أوروبا الشرقية، وعندما وصل العهد الرومانسي إلى قمة توزعه بين الشرق والغرب، سواء أكان في الشعر أو النثر أو في التعابير الفنية الأخرى، أصبح انتشاره واضحاً، فكان تأثيره ملبياً للحضارات القديمة ومنها الحضارة البابلية، والحضارة المصرية. وبهذا التأثر أصبح التجريد موئلا للجمال، حيث نجد القيمة الفنية توسعت أدواتها المنهجية، يقول "فولما" "أن الفن الملازم للرومانسية يشكل مقولاً من أعظم مقولات الخيالي، هذا الخيالي الذي يدرك ما ينتجه العقل البشري في عالم الفانتازيا*" إذن فلكون التجريد اعتمد الخيال مصدرا من مصادر تنويعاته، اختلفت أسلوبية اللوحة في غناها المعرفي، وأشكال تعابيرها التصويرية، فكان الفنانون يعبرون عن إبداعاتهم الفنية والأكاديمية كل حسب الكم والأثر التشكيلي الإيحائي.

الخيال التفاعلي:

إذا أردنا البحث في لعبة الموهبة الأكاديمية عند الخزاعي نجده في حالات تعددت أشكاله التجريدية، من خلال حالاته المعبرة عن ذائقة الوعي بينه وبين الوسط التشكيلي المحاط بفنون مبعثرة، وفي هذه الحالة التي هو عليها يخرج علينا بإنتاج تتفتح من خصوبته اللاقحة، مصبات يمكن مقارنتها بدقة مع حوارات ساهمت بصناعة ثقافته الخاصة جدا، متجها إلى انتاج تناص مع المتحولات المرتبطة بالفن الباثولوجي حتى امتداده إلى الفن الحديث، فأنشغل الفنان المعاصر بدينامية قوانين الخطوط والألوان عبر تجليات خاصة، تتمحور فيها سعة الغرابة والانفعال، وهي تفحص امتداد مدركات الرؤى المعبرة عن استدلالات منفتحة على معالجة تخمرات الفكرة من حيث مساحة وحيَّها، لتأكد صناعة انتاج تعبيري محوري ينشأ فيه الوعي المنفي كشكل من أشكال كينونته المولدة لميوله الغريزية التي تظهر على سطح اللوحة بتثوير يتكشف عن اسقاط إضاءة الرموز عن حيويتهِ الواضحةِ في دلالاتها ووعيها وانسجام مساحتها الهاتفة بإحساسها المعنوي، وهذا دليل تحكمه مرتبة عليا تموضع التفكير المتخيل في أمكنة تُشاهد على أنها اختراق حسي لمقاييس تتجاوز مساحة البصيرة، وكأنها موصولة عبر مجنسات يحاور تمثلها الرسام من منطقة يكون فيها الذهن بقدرة تستطيع أن تنقلنا إلى دهشة تحقق مساحة أنظمة تمزج بين طرائق الوحي الخيالي التصويري، وبين قدرة الفنان على التركيز في مطابقة وتفنين ما يجري في خطوطه المحسوبة بغايتها على اللوح، بحيث يشعر المشاهد بحال أنه يَجِدُ تطابقا ملموسا بين الخيال الحسي، والواقعي الجوهري، حيث لا بدائل للتفكير غير المنطقي لقارئ اللوحة أن يستمر متجانسا بإيثارٍ يلامس منطقة الحلم الفصامي بقراءة فاحصة تكشف له عن خفايا وضعها الرسام في مكان ما.

هناك ثمة تفسير آخر تموضعَ ليكون فاصلا حيويا يبين مساحة تشابك الفانتازيا التجريدية، بالتعبيري الوحشي، الذي يخضع لتدخل اللاوعي التفاعلي بالمعيون البصري، المستفيض بثلاثي الأبعاد المرتبطة ارتباطا مباشرا بإحساسات تنطوي على امتيازات تمثل الرسام، كما فعل "فان غوغ" في الحلزونيات الضوئية المزدوجة، كذلك ما فعله "شاغال"، و"بيكاسو" و "فوتور" ولا أخال أبدا أن التجريد عند ضياء هو تجريد افتراضي، بل هو كما وجدته في أعماله المتعددة سروح موحيات تتصل في أماكن تعتشها الخيالات المنسجمة مع الحلم بتوليفاتها الأميبية المتحولة بأشكالها ومبادئها، غاية تخليق نتائج ملموسة مع هكذا نمط تتحد أجزاءه فيوضع وضعاً منسجما على انفتاح الذات الفنية، كتوليد ذكي يمتزج فيه اللون بالمفاصل المتاحة أبعادها، لتحقيق الحافز الذي يركز على تعابيره التشكيلية في زوايا المزيّة الحاصلة في البنية اللونية، وذلك لوضع المشاهد الحسية أن تكون ناطقةً بحركتها التي تحدد الوعي المنتج عبر المتخيلات الدالة، وذا ناتج عن اشتراك تفاعل الرسام بتقنية تجسد حركة التشكيل الذاتي في سياق اللاوعي، حين يكون الرسام بحالة انسجام تلقائي مع أوسع المؤثرات الفنية التي تبسط تميزه البارز مع قامات أثرت تأثيرا فاعلا على الساحة التشكيلية العالمية أمثال: ضياء العزاوي، وكاظم خليفة، وعلاء السريح وفيصل لعيبي، ومروة العلاق. ومن لبنان: محمد شمس الدين، ووجيه نحله، ورشيد وهبي. ومن سوريا: علي فرزات، وهيثم شكور، وهيام سلمان ونسرين بخار. ومن تونس: فوزي الشتوري، ونجيب بلخوخة. وهؤلاء يحملون فنا ناضجا فيه الكثير من خبرات وتقنيات تحديثية اجتازوا المتاهة التأليفية، فأصبحوا مسلحين بالوعي الحداثي حيث نتأمله في ذواتنا الناقدة، تلك القباسة التي تعالج احساسات المتخيل التصويري من ومضات فنية وأسلوبية المبني على التلقائية المخصبة بالخيوط الطليقة بأحلامها.

وقد برز من بين هؤلاء التشكيلي ضياء الخزاعي وهو يؤسس لأسلوبية تتناص مع ثقافة الرسام الخلاق، أي تأثيرات الفن الحديث، الذي يجعل من الفنان له بصمة تميزه عن الكثير ممن هم من أبناء جيله، والجيل الذي قبله، اولئك الذين تعددت محاولاتهم على مستوى التجديد، بجواز انحصار أعمالهم بالعمل على التصورات الكلاسيكية المباشرة، والمشاهد الطبيعية غير الملازمة لتقنية خصبة، وبعض تجريد ممل، ومن أجل هذا وجدنا الخزاعي قد حقق التشكيل المتدفق من طبيعية المجاز التصويري، بحيث أصبحت تلك الأشكال هي واقعاً أصر الفنان أن تميزه بمعالجات اهتمت بصياغة آثرت أن تجعل من التجريد الناضج مؤثرا بأعماله المختلفة، على مجموعة من فنون الرعيل الأول، الذين متعوا قيام التعابير التشكيلية على أسس تطورات فن النهضة المعاصر، أولئك ممن شقوا الطريق لحركة فنية جديرة بالبقاء، أخرجت الفن العراقي من دائرة الهواة الفطريين، إلى آفاق الأساتذة المحترفين. حتى أصبح توقيع الخزاعي يمثل مكانة أراد لها أن تستفيض فنا قادرا على محاكاة المثقف، والناقد النوعي، عبر ملامسات لها صيغتها ومعاشرتها الخاصة، فأصبح الخزاعي واحة لا طوعية تؤسس معاصرة عراقية تنافس الحركة التشكيلية العالمية، خاصة اولئك الذين ينتمون إلى مدارس فنية تعددت انجازاتها العميقة، بمستوى الارادة التلقائية التي تحاكي الوعي التعبيري الذي يطرح معاهدة بين الالهام وأسلوبية الافاضة العفوية، التي تحاكي الأشياء بتدويرها المتخيل بإمتاع الرؤية المتمدنة الحاكية للفكر التطوري، المحاكي للانطباعية فالتجريدية والسريالية، وصولا إلى الحداثة المتممة لأشكال التثويرين الذين تميزوا بتمثيلات الأصالة والخصوصية وجمالية سحر اللوحة، كما فعل ماتيس وكلي.

تطورات الوعي الأسلوبي عند الخزاعي:

أقام الفنان المُحدث ضياء الخزاعي معرضه الشخصي الرابع على قاعة برج بابل في العاصمة بغداد يوم السبت المصادف 11 – 4 - 2015 وقد حضر العرض مجموعة من المثقفين والأدباء والتشكيلين والباحثين والنقاد، وكما هو معروف فإن العرض ذاك كان يحمل جوابات تتصل بكيان التعابير المُحْدِثَة، التي تتجاوز كينونات الرسم الأكاديمي، لتدخل المرسوم بمفهومهِ الفصامي عن الواقع المتوقع، وفق القيم الترميزية ودفعها باتجاه تنظيم تأسيس الرؤيا الدفينة من مصبات داخلية تفعلها غريزة الذات، المحكمة بتطبيقات تحصد تقنية المسار السوريالي، عبر تشكيلات لا تنضب فنيتها إلاّ باختلاف الهوية المعبرة عن اكتشاف مسعى غذّى الشغف الذي ينتظره المتلقي بانذهال مفاجئ، لأن الشحنات التي صاغها الفنان هي شحنات تلامس المبهج الدائري في الصورة التي تحقق قيمتها الباطنة بالمعالجات التصويرية الحاكية للقارئ، تلك التكوينات الآتية بمفاعيلها الحقيقية. ومن الحاصل الذي لمستهُ، فأوصلت الرأي على أن كل ما حققه الخزاعي من بسط المحسوسات، جعلهُ يفتح باباً ظل مؤارباً على اكتشافات جريئة، وفي هذا التنوير يرى كاندانسكي "أن الشكل المجرد إنما ينتج عن المبدأ الصحيح*" وبتقديرات أخرى فأن التنويرين عندما ابتعدوا عن التشابه إنما أرادوا طرح المفاهيم التي تعالج القيم المستقلة، وعزلها عن هزال تكرار المعالجة التي يعكسها التحديث السطحي، ولهذا لم يقف سفر الفنان مع الهموم التي تصاحب التشرد والجوع والإهمال والتسكع، وهي على وفرتها تدور بريشتها المساهمة بمعالجة النشيج العراقي الذي يهاتف الضمير الإنساني، وربما يوقظ الصرخة الصامتة لتطلق الجنح الممهور بالشماتة العربية.

وبهذا العرض وجدته يعبر عن ظاهرة صحية، وهي أن اختلاف اتجاهات وتعدد أعمل الفنان الخزاعي هي تلويح باتساع مساحته الإبداعية، وهذا ما عودنا على جديده المتسع بتميزه الدائم في خلواته التعبيرية، فالمكان عنده يصبح عملاً فنيا يصاحب شغف السفر بأدوات تسكن الخيال الخصب بتفاعلها الزمني، لأن التشكيلي الناجح هو من يدخل في وحي الأمكنة ليستخدمها لتطويرات عطاء يبني على أساسها خصوصية هويته، فيكون الفنان قد تجاوب مع تنوير مختلف يخالق حالاته الريادية من أدوات المحيط المثالي. وأنَّ الرحلة الصغرى التي أشير إليها بدأت من مدينته الديوانية الى بغداد عاصمة اللوحة والقصيدة، لتعرض في عواصم عربية أخرى، ومنها تونس عاصمة الكتاب والنشر والثقافة وشعراء اللون المدهش، الدافئ في إضاءات اللوحة التي أنتَجَها الخزاعي بقدرات توسعت معطياتها، بخاصة زيارته إلى العاصمة التونسية أُقرَت تميّزَ الفنان باختلاف ثقافته المولدة لتطورات أدواته المهتمة بفنونه، وتعبيراتها المعلنة، وهناك حاز الخزاعي على احترام جميع التشكيلين التوانسة.

واليوم وانت تقف وجها لوجه أمام لوحة الخزاعي تقرأ المختلف يطفو على وجه المحاسنة في تدفق المعنى، وهذا دليل الاعلان التعبيري الظاهر على بوح المنهجية التي تتسق مع صناعة المنتج لفتح آفاق جديدة، وهذه هي الطبيعة الانسانية التي تمتع شغف كل ما هو معبر ومطلوب فنيا، خاصة الأعمال التي تناولت حالات التعدي على الإنسانية بمفهومها التحليلي النفسي، فنجد المتلقي يقرأ نصوصا مرسومة تحاكي التعبير الجماعي بواسطة الحقائق الباطنة، لذا فأن دراسة اللوحة ليس بالأمر الهين، في مسالك واتجاهات ومضمون المعلن في التجريد السيمائي، إذا أخذنا بنظر الاعتبار أن الفنان عامل يشتغل بأدوات غير منظورة سواء أكانت عند اسلافه أو عند معاصريه، أولئك الرسامين الرؤيويين خاصة في حالات ضياء العزاوي، وكاظم خليفة، وجير علوان، وفاطمة العبيدي.

أنَّ لَمَعة الابتكار التي تتصل بكيانات الفنان تتنتج وعيَّها التعبيري من الذات العارفة، لتكون سياقات التجريد تشكل امتدادا موسوعياً في جوهرها، تعبر عن شخصيته وبنيته العقلية، وهذا يمتحن تميزه الذي سيبقيه مؤثرا في الحركة الأدبية العربية، وان اعماله تأخذ منحاً تدريسيا يصبح مطبوعا على صفحات النقد، تتابع الفنان في الزمان والمكان. ومما زاد في شهرة الخزاعي هو ذلك الطيف الإنساني الذي يغذي تحبيذ التأثير الحقيقي المعكوس على لوحته السامرة، باعتماده اللون حكاية موحية في سلاسته التي تأخذ المتلقي بشغف إلى سهولة القراءة، وفي الوقت ذاته تلبي الطموحات القابلة للرضا، بجواز موصلة معانيها بواسطة قدراته التي يختلف بها عن الفنان الآخر، وهذا ما يريده المتلقي بالضبط علاقة ذاتية تنطوي على قناعة بين الرسام ومتلقيه، عبر موائمة مستقلة من نوع خاص بالمطلق.. كما هو الحال عند الفنان العظيم المبدع بكل اعماله وهو الفنان ضياء العزاوي، ولكل واحد من التشكيلين العراقيين ريشته الخاصة التي تختلف تماما عن الرِيَّشْ الاخرى، وفي العراق اسماء كبيرة وعديدة مؤثرة في الوسط الفني التشكيلي العالمي المميز بكل الاحوال، فقد قدموا الكثير من الأعمال الفنية المهمة في حياتهم الابداعية المستمرة في صناعة الجديد المنشغل في تشكيل المؤثرات الوجدانية التي أخذت تعالج اسلوب التطور التقني المباشر إلى الاتجاه الصحيح، بعيدا عن الوهم الاسطوري الاقل أجناسا من الحقيقة، ولأن الخزاعي امتاز بالأزرق البعيد المنبعث من العلن في تجاوز المألوف المتحول في الضوء المفتوح، وهذا هو فعل المسار الخلاق، أو المنتج الفكري الابداعي الذي يتعدى طموح الذات، ولهذا نقول هذا الفنان مبدع بجماهيريته، والتكريم الذي حاز عليه الفنان العراقي، أصبح سيرة أهل الثقافة على اختلاف مستوياتهم، خاصة بعد أن اشتغل التشكيلي على تطورات ثلاثية اللوحة الموزعة بين التجريد، والتكعيب، واللوحة الانطباعية كما نرى:

أولاً: احادية اللون الرؤيوي التي تتشكل حالات إصباح يمتد حتى الضحى على رؤية التجريد.

ثانياً: حركيات الحرف حيث يضئ الرسام مناطق يكون فراغها موحي بحروف ترتكز على بنية تعبر عن ارتباط المعنى بتشكيلاته الثلاثية الأخرى في الاتجاه الانطباعي.

ثالثاً: طبيعة القماشة الممتدة بالاستطالة أو التربيع أو التثليث حتى تستقر الأشكال كلا بجناس حالاتها، ليكون الرمز مختارا في تزيين مكانه، باعتباره المحرك الحقيقي لأفعاله وسلوكه ومبتغاه.

وهذا العمل الذي اشْتَغَلَ عليه الخزاعي حقق له أكثر من منجزٍ نقديٍ، لأنه أكد أن الرؤية الفنية الكلية هي مسألة وجود من خلال تركيزه على الكيفية التي تبيح للمبتكر تأثير وجوده مع الآخر، لأن الجناس المختلف برؤيته الفاحصة يكرس من الحضور الكلي، عبر مواضيع مختلفة لا تعرف لها حدودا في اتصالها بالوجود المطلق، من كونها تحمل إشارات ومفاتيح من ذات نفسها، تقرأ بلاغتها كما هو الحال عند الحلاج في حججه ومراميه التصويرية لصورة الله، لأن لغة اللوحة غير الإجرائية، يستخدمها الناقد كلغة تتعامل مع التراكيب النوعية التي تضبط بيانات التحكم بالمعاني بواسطة قواعد ترتبط بالفرز والتصفية والبحث، مع الفارق الفني واللغوي والتعبيري، ومنها مواضعة الملحمة.

يتابع الخزاعي تناوبات ثوابت الإيقاع، وفنية الأشكال المتحولة بنوعيتها، على أسس الأبعاد الفكرية المعتمدة بعفويتها، وهذا طبعا من خلال اتصال الفنان المرهف بكل ما هو تناقضي يتشاكل مع تنوعات الفنتازيا المتمردة، التي تستمد بيناتها من معالجة الفنان لديناميكية الحركة والضوء، وبهذا فهو يتدنى من حمى اللوحة العالمية، عبر مشاريعه المزدحمة بالتجانس الخصب، الذي يتخذ من الوعي الانفعالي إحياء خيالات اللاوعي على الواقع المعيون، كما فعل دالي بمكننته الشاذة التي هي تمثل الغرابة المعرفية، حيث امتزجت رؤاه بمعالجات التحديث الساخر. ومن أجل ما تقدم أجد الخزاعي بلوحته يعتني كثيرا بحالات الهذيان المغرية للقارئ، بدءا من الموروث المثالي المستمد من المدارس القديمة "العصور الوسطى" الذي كان رائدها يحيى الواسطي، فالمدرسة الخمسينية على يد جواد سليم، ولذا فلكل زمن طفرة نوعية تروم الخلود كما فعل المكسيكي سيكيرس وريفيرا، ونحن اليوم أمام ضياء آخر يتفجر إصباحاه على إيقاع أعمال صاحبت ثلاثيات امتزجت بها التعابير المؤلمة بالإحساس اليومي المعاش، بتحويرات تداعيات الحركة الفنية حول اشتغال يروم بناء الذاكرة كمنجز خلاق. أمّا الغاية التي تصاحب تثبيت الحدث على صفحات التاريخ، كما هو الحال في لغز ابتسامة " موناليزا " للفنان الكبير دانتشي، و" نصب الحرية " للفنان الكبير جواد سليم، والفنان المميز محمد شمس الدين في انجازه مشروع لوحة " السحر " وما الى ذلك من الانجازات الرائعة لفنانين عظام ابدعوا في نواح عديدة ومهمة بقيت خالدة، ولكي نتواصل بهدف إلقاء الضوء على قراءة اللوحة بصريا في مشهد الرسم الغني بمكوناته الاسطورية والملحمية عند الخزاعي نلتقي بالخطوط الظاهرة في المشهد الذي يمنح الرؤى شرائع اللغة اللحنية نكهتها الظاهرة للمتلقي الموهوب، الذي يوظف عمق بصرياته الفكرية، ما بين مهارة بصريات حركية اللون الموغلة في نسج الحالة التي تروم الى صناعة التكوين الذي هو وراء مظاهر صيرورة معرفة المنهج الذي يقوم ببناء أصلين:

الأول: هو المادي الذاتي المبتدأ بما حوله.

والثاني: هو الخيال وتبدياته المعلنة في موروث الفنان.

وبين المبدأ الأول والثاني وما بينهما من متغير وثابت، يمكن جعل بصمته تتشكل قيمتها الفنية منجزا فنيا كبيراً، وهو بالتالي يحاور انجازا للموروث العربي، وهذا هو ديدن الفن العراقي المعلن في مكوناته الحضارية التي امتدت في عمق الازمان، وحملها خصوبة التربة البابلية من مشاهير عظام خدموا الانسانية والمعرفة والابداع بكل الوانه على امتداد المعمورة، وعلى هذا البساط يحق لنا ان نقول إن معرضه يبقى موصولا بفسحة أمل بليغة التأثر بالآخر نحو نجاحات دائمة ومهمة في حياة الفنان.

ثمة عوامل اخرى تمنح الفنان القيمة الاعتبارية في ثقافته ولوحته، تبدأ في القراءة الاولى للتعابير والاشارات والزوايا، والقدرة على المحاكات والجدل والهمس الايمائي بين الخطوط ودلالاتها المبنية على الاختلاف المرموز بين حضارة الشرق ورومانسية الغرب، كما هو الحال مع الرسام الكوني "اوغست رينوار" بكل أعماله المحيرة، التي شكلت خواص مجتمع ممزق بشكله وعمقه، مع أنها مادة قد تستعصي على القارئ في بعض تشكيلاته، من حيث تفسير وتحليل مكامن لغة اللون والخطوط، التي تحمل بين مداخلها نواح فلسفية مثيرة لتحليل حيرة المكان وما حوله من نتاج الطبيعة وعواملها الاخرى، فلو وقفنا أمام لوحة الخزاعي لوجدنا ان الرسم وكأنه معكوس في ذات القارئ شفهيا، حتى إذا كان ذلك القارئ غير قادر على التحليل والكشف عن اغوار اللوحة ومقاصدها وفلسفتها.

ففي البدء نقرأ اللوحة بوضوح الاسس المعرفية الفنية التي ارادها الفنان ان تشكل ملامحه التعبيرية وثقافته وقدرته على صناعة الفيض الجمالي على فضاء القماشة، ولكي نخرج من الصمت نمشي مع الرسم وما يمثله الصعود والنزول والدوران الداخلي والتدفق الممزوج في اختيار اللون على المكان ومصاهرته بالأبعاد الفنية والجمالية والايحائية الاخرى، وبغض الطرف عن المزاوجة بين اللون والموضوع، أو اللون والايحاء التعبيري، او اللون وفضاءاته، ثمة فيض جمالي آخر لا حدود له يكتسي الهمس الداخلي والروحي المنبعث من جوانبه المنبسطة أبعادها بالخيالات والرؤى، التي تجمع بين الواقعية والخيال المندهش بإسقاطات الواقع، والمنجز هنا تجريد ينمو خلف خطوط ويتجذر بحركية الأحداث التي تعكس سيرة العراقي المندهش بما يجري حوله، هو المطلوب نحته على جدار الذاكرة في سلم يأخذ بالصعود وهو يعالج بصريات القيم الإنسانية المتحولة.

بقلم: جعفر كمال

مراجع:

1 – ادوار عازوري ، جنون العبقرية أم عبقرية الجنون.

2 – فولما: أنظر ويكيبيديا العالم

3 – كاندانكسي: نفس المصدر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى