تصف الشاعرة سيلفيا بلات في إحدى قصائدها كيف أن في حياتها نارين، نار الجحيم وهي نار عذاب ونار السماء وهي نار تطهير. وبين هاتين النارين كانت حياتها في احتراق دائم. إلى أن لم يبق فيها ما يحترق أو هكذا شعرت فانتحرت. وهذا شأن كثير من المبدعين «فيرجينيا وولف، سيتفن زفايغ، إرنست همنغواي، خليل حاوي، مايا كوفسكي» فهم إذ يعانون النارين الاثنتين، يحاولون أن يحولوا نار الجحيم ونار السماء إلى ذلك اللهب الجوهري المشعشع.
لهب الخلق، يحترق المبدع ويبقى إبداعه في لهيب. وقد تأثرت بهذه الشاعرة صديقة لها كانت ترى أن الحياة ترفع صراخها وزعيقها في رأس كل فنان يمسك بناصية القلم وهي تقول «فلتفعل الحياة ذلك، ولكن على الفنان أن يدون ذلك الصراخ وذلك الزعيق، وعليه أن يتذكر أن أي شيء يكتبه الآن من هذا القبيل كيفما جاء وكيفما كان شكله يتحول مع الزمن إلى ذهب. إنه بملاحقة هذا الصراخ الداخلي إنما يخلق منجما يكتشفه في ما بعد الآخرون ويغترفون منه» كان العديد من شعرائنا القدامى من عارفي هذا الصراخ الداخلي فكانوا يستلهمون أزماتهم الداخلية ويتحايلون في اقتحامها حتى في منابرهم الموجهة لآخرين فيعترفون اعترافا كاملا بجزئيات من محنهم النفسية. وكان بعض من أعظم شعرهم حصيلة لتأملاتهم وكذا التناقضات التي تضطرب بها حياتهم وتوزعهم بين نار الجحيم ونار السماء، بل تدفعهم إلى المجازفة بالكشف عن دواخلهم وخصوصياتهم. وكثيرا ما وجدوا في شعرهم وسيلة جهر وبوح للإيصال الجماعي. الوسيلة الوحيدة للتدوين المضمر الذاتي لخلق ذلك المنجم الثمين، الذي مازلنا نكتشفه كل يوم ونغترف من معينه. ما أروع أن يعترف شاعر جاهلي كميمون الأعشى بتجربته في الحب وهو يحترق بنار جنونه:
علقتها عرضا وعلقت رجلا = غيري وعلق غيرها الرجل
وعلقته فتاة ما يحاولها = ومن بني عمها ميت بها وهل
وعلقتني أخيرى ما تلائمني = فاجتمع الحب حب كله تبل
فكلنا مغرم يهذي بصاحبه = ناء ودان ومخبول ومختبل
جرى الاهتمام في القرون الثلاثة الأخيرة بما يتركه الأدباء والفنانون من رسائل أو مذكرات أو اعترافات أو سير ذاتية.
في آدابنا الحديثة لا نكتفي بما يتركه لنا الأديب أو الفنان من آثاره الإبداعية، فترانا نريد الدنو من حياته وتجاربه من الجانب الآخر، أي من الجانب الشخصي الجواني حيث يضرب العمل الإبداعي بجذوره. ولذا جرى الاهتمام في القرون الثلاثة الأخيرة بما يتركه الأدباء والفنانون من رسائل أو مذكرات أو اعترافات أو سير ذاتية. وحين اشتد الاهتمام منذ الحركة الرومانسية بتحليل بواطن ورموز المنجز الإبداعي واكتشاف مدلولاته الأعمق فيه، اشتد الاهتمام بخصوصيات العقل الذي أنتجه والبحث عن الصلات الخفية الموحية بين الذات والموضوع. وبنوع من ردة الفعل رأينا منذ منتصف هذا القرن انعطافا حادا نحو معالجة العمل الفني كشيء قائم بحد ذاته مستقل عن صاحبه يطالب الناقد باستغواره .مع ذلك كله فقد بقيت الرسائل والمذكرات والسير الذاتية صنف أدبيا فريدا قد يطلب لما فيه من إضاءة للعمل الإبداعي. كان الشاعر الألماني ريلكه واحدا من هؤلاء الذين استطاعوا لا ملاحقة الصراخ الذي في حياته وحسب، بل وملاحقة الصمت والتأمل والنشوة ودقائق مشاهد التجربة الخارجية والداخلية في رسائله التي كان يكتبها كل يوم بكثرة إلى أصدقاء وصديقات ومعارف مختلفين. فجاءت في النهاية وكأنها المنجم الدافق بالمعدن الخام، ذلك المعدن الذي في ساعات الوحي كان يصفيه ويركزه ويبدع صنعه في قصائده. وغذت بذلك رسائله في الوقت نفسه إضافة أخرى إلى شعره لا تقل عنه روعة وكشفا.
والروائي توماس مان بدوره يعطينا قصة حياته ورسائل تربو على العشرين ألف رسالة. إنها قصة من الداخل تضيء زوايا التجربة والنمو وزوايا الذهن والتأمل. زوايا العمل الدائب على الخلق. فضلا عن تصوير حقبة تقارب الستين سنة من حياته حافلة بالأحداث الجسام. والمعلوم أن توماس مان كان من دأبه أن يخفي في أعماله الروائية عناصر أوتوبيوغرافية تمدها بالكثير من طاقته الخلاقة، بل إنه جعل من أعماله كلها كما جعل غوتييه من كتاباته شذرات اعتراف كبير. لقد عبر أكثر من مرة عن شكوكه في كتابة سيرة ذاتية بكل حذافيرها لأكثر من سبب، حيث قال «إنني أشعر عموما بالوجل إزاء الكتابة الأوتوبيوغرفية المباشرة، التي تبدو لي أصعب أنواع الكتابة كلها، بل مهمة مستحيلة إذا نظرت إليها من زاوية الكياسة الأدبية» وقد كتب معظم رسائله بدون التفكير قطعا بأنها ستنشر في يوم مقبل، فجاءت صريحة وأحيانا قاسية في حكمها على نفسه وعلى الذين خذلوه. وفي الوقت نفسه كان يحتفظ بمذكرات تفصيلية طلب أن لا تنشر إلا بعد موته بعشرين عاما. وقد نشرت مؤخرا في عدة مجلدات خصص إحداها للفترة التي قضاها في زوريخ عام 1933، حيث كان يختبئ من أعين جواسيس الجستابو الشرطة السرية لألمانيا النازية. وهو يصف مذكرات هذه السنة بقوله «هذه الملاحظات اليومية التي استأنفها في أيام مرض سببه لي التوتر النفسي الشديد واللوعة وفقدان شهية الحياة. لكن الكتابة كانت دوما راحة وعونا لي، ولسوف أستمر فيها بمحتوها الروحي والذهني لكي أبقي نفسي في وعي دائم وخدر لذيذ، وفي التزام مستمر بتفحص أيامي المتعاقبة».
بعض أدبائنا العرب في مصر وضعوا شيئا من ذواتهم في رواية أو قصة، كما فعل العقاد والمازني.
نار الجحيم ونار السماء لا تتحدان بسهولة لأن جهد الفنان وهو يتابع صراخه الداخلي هو بعض من ذلك الطريق الشائك الوعر إلى ينبوع الخلق وفردوسه. أسوق هذه الإشارات لشيء شغلني الاهتمام به وهو أدب الاعتراف «اعترافات جون جاك روسو، رسائلي إلى لامبير للكاتب نفسه «ما مدى ما لدينا من أدب الاعتراف، أدب الرسائل، أو المذكرات أو السير؟ قليل جدا لدرجة البؤس. أنا معني هنا بما يتركه لنا الأدباء والفنانون دون غيرهم. ففي ربع القرن الأخير ظهرت مذكرات لعدد من السياسيين بعضها يؤخذ بحذر شديد من القارئ. لأن ما من سياسي إلا ويريد أن يوحي في أواخر حياته بأنه كان في أيام نشاطه السياسي أعرف من غيره ببواطن الأمور ونتائجها، بل وأبعد نظرا من غيره في أحداث زمانه، فضلا عن أنه يميل إلى الإيحاء إلى القارئ ببطولات وهمية. وبين الحين والآخر تنفرد بعض المجلات بنشر مذكرات لهذا أو ذاك أو لأحداث سياسية أو حربية، بغية أن تلقى كتاباتهم اهتماما كبيرا. أما الذي أبحث عنه فهو ما يكتبه بينهم وبين أنفسهم أولئك الذين عاشوا بالكلمة وللكلمة ورفعتهم لأيام وخفضتهم وبقي بحــثهم الفكري المتصل بلواعج النفس من ناحية وتحولات العصر من ناحية أخرى سبيلا إلى دمج نار السماء بنار الجحيم.
أما السير الذاتية في أدبنا المعاصر فتكاد لا توجد. بعض أدبائنا العرب في مصر وضعوا شيئا من ذواتهم في رواية أو قصة، كما فعل العقاد والمازني. وجازف اثنان أو ثلاثة منهم فكتبوا سيرة حياتهم، كما فعل عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه الجميل «الأيام» وأحمد أمين في كتابه «حياتي»، أوسلامة موسى «تربية سلامة موسى» وربما كانت تجربة أحد جهابذة الأدب اللبناني ميخائيل نعيمة أكبر هذه التجارب في السيرة الذاتية، عندما كتب «سبعون» فأنت تحصي عشرة كتب أو أكثر قليلا وينتهي الإحصاء. ويتذكر المرء عشرات السير الذاتية وكتب الاعترافات التي خلفها أدباء العالم. فيدهش لهذه الشحة في اعترافات أدبائنا وفي محاولاتهم فهم حياتهم أو وصلها بأزماتهم. نتذكر اعترافات القديسة «تيريزا» وجان جاك روسو وتولستوي، وتلك السيرة الذاتية المذهلة التي كتبها ماكسيم غوركي عن عذاباته. وهمنغواي في كتابه «العيد المتنقل» والقائمة طويلة. ولا نجد شيئا من ذلك في أدبنا الحديث يبل ريق الظامئ. ورحم الله أحمد فارس الشدياق الذي جازف بالحديث عن حياته بالكثير من الصراحة واللوعة قبل مئة سنة أو أكثر في كتابه «الساق على الساق فيما هوا الغارياق» لولا أنه أخذه الجنون باللغة أكثر مما أخذه الجنون بتفاصيل خبراته وصراعاته. ولئن تكن السيرة الذاتية مهمة شاقة فإننا نتمنى لو نرى على الأقل رسائل الأدباء والفنانين تنشر على نحو ما سواء في حياتهم أو بعد موتهم.
أدب الرسائل من أغنى المصادر في دراسة أي مبدع. ففي آداب الأمم الأخرى نكاد لا نجد ديوان شاعر أو كتابات روائي أو سيرة فنان بدون أن نجد معها مجلدا أو أكثر يرفدها برسائله.
إن أدب الرسائل من أغنى المصادر في دراسة أي مبدع. ففي آداب الأمم الأخرى نكاد لا نجد ديوان شاعر أو كتابات روائي أو سيرة فنان بدون أن نجد معها مجلدا أو أكثر يرفدها برسائله. فلولا ذلك لكان الأدب الإنكليزي أفقر بكثير لولا رسائل جون كيتس وشيلي وبايرون أو يتييس أو هكسلي أو فيرجينيا وولف وغيرهم. رسائل بودلير تعطي المفتاح لغوامض قصائده وشخصيته الغريبة. وهل ننسى رسائل فان غوخ وهي تعج بالشقاء والحب وصور الإنسانية في عريها وتوقها وتمزقها، أو رسائل غوغان التي تسترسل في بحثها الدؤوب عن الله والحلم والخلاص عن طريق الفن. رسائل كافكا مهمة بتراكيبها العاتية المظلمة أهمية رواياته «تيار الرواية الجديدة أو الرواية المونولوجية». ورسائل عزرا باوند سجلت للكثير من أسس الحداثة في أوروبا وأمريكا. جبران خليل جبران من بين أدبائنا، حظيت رسائله باهتمام كبير في ربع القرن الأخير ربما لأنه كتب معظمها بالإنكليزية. وكم كان رائعا ومثيرا ما قام به الأديب ماجد السامرائي عندما جمع رسائل بدر شاكر السياب. إنها رسائل كانت تفضح عصره فمهما تمتلئ قصائده بإدانة لزمانه، فإن رسائله تكشف في ما تكشف كيف يحطم مجتمع عباقرته بسادية فظيعة.
مذكرات الأدباء الغربيون بدءا بمذكرات السيرياليين والدادائيين إلى مذكرات كافكا المترعة بالحيرة والتساؤل ومحاولة اختراق اللغز. ثم مذكرات أندريه مالرو التي تسمى «انتيميموار» أي المذكرات الضد. ثم مذكرات فرانك هاريس المجونية إلى مذكرات الكاتبة الأمريكية الإسبانية الأصل أناييس نين العاجة بالصور الشخصية والتفاصيل الساخنة. أدب المذكرات أو أدب الاعتراف أو أدب الرسائل هو شجرة غنية الخضرة، غنية الفاكهة ما أحوجنا إليه في زمن اللؤم العميم.
ناصر الحرشي
8 - نوفمبر - 2018
* أدب السيرة الذاتية بين لوعة الاحتراق وبحة الاعتراف | ناصر الحرشي
لهب الخلق، يحترق المبدع ويبقى إبداعه في لهيب. وقد تأثرت بهذه الشاعرة صديقة لها كانت ترى أن الحياة ترفع صراخها وزعيقها في رأس كل فنان يمسك بناصية القلم وهي تقول «فلتفعل الحياة ذلك، ولكن على الفنان أن يدون ذلك الصراخ وذلك الزعيق، وعليه أن يتذكر أن أي شيء يكتبه الآن من هذا القبيل كيفما جاء وكيفما كان شكله يتحول مع الزمن إلى ذهب. إنه بملاحقة هذا الصراخ الداخلي إنما يخلق منجما يكتشفه في ما بعد الآخرون ويغترفون منه» كان العديد من شعرائنا القدامى من عارفي هذا الصراخ الداخلي فكانوا يستلهمون أزماتهم الداخلية ويتحايلون في اقتحامها حتى في منابرهم الموجهة لآخرين فيعترفون اعترافا كاملا بجزئيات من محنهم النفسية. وكان بعض من أعظم شعرهم حصيلة لتأملاتهم وكذا التناقضات التي تضطرب بها حياتهم وتوزعهم بين نار الجحيم ونار السماء، بل تدفعهم إلى المجازفة بالكشف عن دواخلهم وخصوصياتهم. وكثيرا ما وجدوا في شعرهم وسيلة جهر وبوح للإيصال الجماعي. الوسيلة الوحيدة للتدوين المضمر الذاتي لخلق ذلك المنجم الثمين، الذي مازلنا نكتشفه كل يوم ونغترف من معينه. ما أروع أن يعترف شاعر جاهلي كميمون الأعشى بتجربته في الحب وهو يحترق بنار جنونه:
علقتها عرضا وعلقت رجلا = غيري وعلق غيرها الرجل
وعلقته فتاة ما يحاولها = ومن بني عمها ميت بها وهل
وعلقتني أخيرى ما تلائمني = فاجتمع الحب حب كله تبل
فكلنا مغرم يهذي بصاحبه = ناء ودان ومخبول ومختبل
جرى الاهتمام في القرون الثلاثة الأخيرة بما يتركه الأدباء والفنانون من رسائل أو مذكرات أو اعترافات أو سير ذاتية.
في آدابنا الحديثة لا نكتفي بما يتركه لنا الأديب أو الفنان من آثاره الإبداعية، فترانا نريد الدنو من حياته وتجاربه من الجانب الآخر، أي من الجانب الشخصي الجواني حيث يضرب العمل الإبداعي بجذوره. ولذا جرى الاهتمام في القرون الثلاثة الأخيرة بما يتركه الأدباء والفنانون من رسائل أو مذكرات أو اعترافات أو سير ذاتية. وحين اشتد الاهتمام منذ الحركة الرومانسية بتحليل بواطن ورموز المنجز الإبداعي واكتشاف مدلولاته الأعمق فيه، اشتد الاهتمام بخصوصيات العقل الذي أنتجه والبحث عن الصلات الخفية الموحية بين الذات والموضوع. وبنوع من ردة الفعل رأينا منذ منتصف هذا القرن انعطافا حادا نحو معالجة العمل الفني كشيء قائم بحد ذاته مستقل عن صاحبه يطالب الناقد باستغواره .مع ذلك كله فقد بقيت الرسائل والمذكرات والسير الذاتية صنف أدبيا فريدا قد يطلب لما فيه من إضاءة للعمل الإبداعي. كان الشاعر الألماني ريلكه واحدا من هؤلاء الذين استطاعوا لا ملاحقة الصراخ الذي في حياته وحسب، بل وملاحقة الصمت والتأمل والنشوة ودقائق مشاهد التجربة الخارجية والداخلية في رسائله التي كان يكتبها كل يوم بكثرة إلى أصدقاء وصديقات ومعارف مختلفين. فجاءت في النهاية وكأنها المنجم الدافق بالمعدن الخام، ذلك المعدن الذي في ساعات الوحي كان يصفيه ويركزه ويبدع صنعه في قصائده. وغذت بذلك رسائله في الوقت نفسه إضافة أخرى إلى شعره لا تقل عنه روعة وكشفا.
والروائي توماس مان بدوره يعطينا قصة حياته ورسائل تربو على العشرين ألف رسالة. إنها قصة من الداخل تضيء زوايا التجربة والنمو وزوايا الذهن والتأمل. زوايا العمل الدائب على الخلق. فضلا عن تصوير حقبة تقارب الستين سنة من حياته حافلة بالأحداث الجسام. والمعلوم أن توماس مان كان من دأبه أن يخفي في أعماله الروائية عناصر أوتوبيوغرافية تمدها بالكثير من طاقته الخلاقة، بل إنه جعل من أعماله كلها كما جعل غوتييه من كتاباته شذرات اعتراف كبير. لقد عبر أكثر من مرة عن شكوكه في كتابة سيرة ذاتية بكل حذافيرها لأكثر من سبب، حيث قال «إنني أشعر عموما بالوجل إزاء الكتابة الأوتوبيوغرفية المباشرة، التي تبدو لي أصعب أنواع الكتابة كلها، بل مهمة مستحيلة إذا نظرت إليها من زاوية الكياسة الأدبية» وقد كتب معظم رسائله بدون التفكير قطعا بأنها ستنشر في يوم مقبل، فجاءت صريحة وأحيانا قاسية في حكمها على نفسه وعلى الذين خذلوه. وفي الوقت نفسه كان يحتفظ بمذكرات تفصيلية طلب أن لا تنشر إلا بعد موته بعشرين عاما. وقد نشرت مؤخرا في عدة مجلدات خصص إحداها للفترة التي قضاها في زوريخ عام 1933، حيث كان يختبئ من أعين جواسيس الجستابو الشرطة السرية لألمانيا النازية. وهو يصف مذكرات هذه السنة بقوله «هذه الملاحظات اليومية التي استأنفها في أيام مرض سببه لي التوتر النفسي الشديد واللوعة وفقدان شهية الحياة. لكن الكتابة كانت دوما راحة وعونا لي، ولسوف أستمر فيها بمحتوها الروحي والذهني لكي أبقي نفسي في وعي دائم وخدر لذيذ، وفي التزام مستمر بتفحص أيامي المتعاقبة».
بعض أدبائنا العرب في مصر وضعوا شيئا من ذواتهم في رواية أو قصة، كما فعل العقاد والمازني.
نار الجحيم ونار السماء لا تتحدان بسهولة لأن جهد الفنان وهو يتابع صراخه الداخلي هو بعض من ذلك الطريق الشائك الوعر إلى ينبوع الخلق وفردوسه. أسوق هذه الإشارات لشيء شغلني الاهتمام به وهو أدب الاعتراف «اعترافات جون جاك روسو، رسائلي إلى لامبير للكاتب نفسه «ما مدى ما لدينا من أدب الاعتراف، أدب الرسائل، أو المذكرات أو السير؟ قليل جدا لدرجة البؤس. أنا معني هنا بما يتركه لنا الأدباء والفنانون دون غيرهم. ففي ربع القرن الأخير ظهرت مذكرات لعدد من السياسيين بعضها يؤخذ بحذر شديد من القارئ. لأن ما من سياسي إلا ويريد أن يوحي في أواخر حياته بأنه كان في أيام نشاطه السياسي أعرف من غيره ببواطن الأمور ونتائجها، بل وأبعد نظرا من غيره في أحداث زمانه، فضلا عن أنه يميل إلى الإيحاء إلى القارئ ببطولات وهمية. وبين الحين والآخر تنفرد بعض المجلات بنشر مذكرات لهذا أو ذاك أو لأحداث سياسية أو حربية، بغية أن تلقى كتاباتهم اهتماما كبيرا. أما الذي أبحث عنه فهو ما يكتبه بينهم وبين أنفسهم أولئك الذين عاشوا بالكلمة وللكلمة ورفعتهم لأيام وخفضتهم وبقي بحــثهم الفكري المتصل بلواعج النفس من ناحية وتحولات العصر من ناحية أخرى سبيلا إلى دمج نار السماء بنار الجحيم.
أما السير الذاتية في أدبنا المعاصر فتكاد لا توجد. بعض أدبائنا العرب في مصر وضعوا شيئا من ذواتهم في رواية أو قصة، كما فعل العقاد والمازني. وجازف اثنان أو ثلاثة منهم فكتبوا سيرة حياتهم، كما فعل عميد الأدب العربي طه حسين في كتابه الجميل «الأيام» وأحمد أمين في كتابه «حياتي»، أوسلامة موسى «تربية سلامة موسى» وربما كانت تجربة أحد جهابذة الأدب اللبناني ميخائيل نعيمة أكبر هذه التجارب في السيرة الذاتية، عندما كتب «سبعون» فأنت تحصي عشرة كتب أو أكثر قليلا وينتهي الإحصاء. ويتذكر المرء عشرات السير الذاتية وكتب الاعترافات التي خلفها أدباء العالم. فيدهش لهذه الشحة في اعترافات أدبائنا وفي محاولاتهم فهم حياتهم أو وصلها بأزماتهم. نتذكر اعترافات القديسة «تيريزا» وجان جاك روسو وتولستوي، وتلك السيرة الذاتية المذهلة التي كتبها ماكسيم غوركي عن عذاباته. وهمنغواي في كتابه «العيد المتنقل» والقائمة طويلة. ولا نجد شيئا من ذلك في أدبنا الحديث يبل ريق الظامئ. ورحم الله أحمد فارس الشدياق الذي جازف بالحديث عن حياته بالكثير من الصراحة واللوعة قبل مئة سنة أو أكثر في كتابه «الساق على الساق فيما هوا الغارياق» لولا أنه أخذه الجنون باللغة أكثر مما أخذه الجنون بتفاصيل خبراته وصراعاته. ولئن تكن السيرة الذاتية مهمة شاقة فإننا نتمنى لو نرى على الأقل رسائل الأدباء والفنانين تنشر على نحو ما سواء في حياتهم أو بعد موتهم.
أدب الرسائل من أغنى المصادر في دراسة أي مبدع. ففي آداب الأمم الأخرى نكاد لا نجد ديوان شاعر أو كتابات روائي أو سيرة فنان بدون أن نجد معها مجلدا أو أكثر يرفدها برسائله.
إن أدب الرسائل من أغنى المصادر في دراسة أي مبدع. ففي آداب الأمم الأخرى نكاد لا نجد ديوان شاعر أو كتابات روائي أو سيرة فنان بدون أن نجد معها مجلدا أو أكثر يرفدها برسائله. فلولا ذلك لكان الأدب الإنكليزي أفقر بكثير لولا رسائل جون كيتس وشيلي وبايرون أو يتييس أو هكسلي أو فيرجينيا وولف وغيرهم. رسائل بودلير تعطي المفتاح لغوامض قصائده وشخصيته الغريبة. وهل ننسى رسائل فان غوخ وهي تعج بالشقاء والحب وصور الإنسانية في عريها وتوقها وتمزقها، أو رسائل غوغان التي تسترسل في بحثها الدؤوب عن الله والحلم والخلاص عن طريق الفن. رسائل كافكا مهمة بتراكيبها العاتية المظلمة أهمية رواياته «تيار الرواية الجديدة أو الرواية المونولوجية». ورسائل عزرا باوند سجلت للكثير من أسس الحداثة في أوروبا وأمريكا. جبران خليل جبران من بين أدبائنا، حظيت رسائله باهتمام كبير في ربع القرن الأخير ربما لأنه كتب معظمها بالإنكليزية. وكم كان رائعا ومثيرا ما قام به الأديب ماجد السامرائي عندما جمع رسائل بدر شاكر السياب. إنها رسائل كانت تفضح عصره فمهما تمتلئ قصائده بإدانة لزمانه، فإن رسائله تكشف في ما تكشف كيف يحطم مجتمع عباقرته بسادية فظيعة.
مذكرات الأدباء الغربيون بدءا بمذكرات السيرياليين والدادائيين إلى مذكرات كافكا المترعة بالحيرة والتساؤل ومحاولة اختراق اللغز. ثم مذكرات أندريه مالرو التي تسمى «انتيميموار» أي المذكرات الضد. ثم مذكرات فرانك هاريس المجونية إلى مذكرات الكاتبة الأمريكية الإسبانية الأصل أناييس نين العاجة بالصور الشخصية والتفاصيل الساخنة. أدب المذكرات أو أدب الاعتراف أو أدب الرسائل هو شجرة غنية الخضرة، غنية الفاكهة ما أحوجنا إليه في زمن اللؤم العميم.
ناصر الحرشي
8 - نوفمبر - 2018
* أدب السيرة الذاتية بين لوعة الاحتراق وبحة الاعتراف | ناصر الحرشي