كنا مجموعة قليلة، لا تزيد علي عشرة، بدا لي إنهم جميعا قاهريين، ممن كانوا في حجز قسم السيدة زينب، وتم ترحيلهم إلى ذلك السجن المجهول، فقد مضت السيارة اللوري التي أقلّتنا في طريق غامض، وعجز زملاؤنا من العارفين عن تحديده، ولكن سرعان ما كشف لنا السجن عن نفسه، فهو لا يشبه أمثاله مطلقا مما سبق لنا التردد عليه.
بعد أن انتهت إجراءات تسليمنا في أحد المكاتب، مضوا بنا إلي زنازيننا ، وأوقفونا في منتصف الطريق، وبدأوا في تغميتنا بأقنعة سوداء، رفضنا بالطبع، بل واستهزأنا بهم، وقال أحدنا ما معناه إننا سياسين ولن نسمح لأحد بتغميتنا. كرر الصول الذي كان يتولي المسألة طلبه وكررنا رفضنا ، فقال لنا إن علينا أن نستعد لمواجه ما سيجري لنا.
بعد دقيقتين أو ثلاثة ، انشقت الأرض عن ثُلة من الجنود بالشدة الثقيلة المعتبرة، يتقدمون نحونا بعصيهم وخوذاتهم. كان عددهم أضعاف عددنا، فضلا عن تسليحهم. لكن المسألة لم تكن هنا، المسألة كانت في جو الإرهاب الذي جرى فرضه منذ اللحظة الأولي بحسم وسرعة.
الحقيقة أننا لم نقاوم ولم يكن ممكنا لنا أن نفكر في المقاومة. وهكذا تم تغميتنا وساقونا نحو زنازيننا، ولم ينزعوا العصابة إلا بعد إدخالنا الزنازين بالفعل. كانت الزنزانة حديثة البناء، معدة لمسجون واحد، بينما ألقي بي ومعي الصديق يوسف فاخوري الذي كنت أتعرف عليه للمرة الأولي: كان مازال طالبا بقسم اللغة الإنجليزية بإحدي كليات آداب الصعيد، وكان السبب المباشر للقبض عليه هو اشتراكه في نشاط الكنيسة في تمثيل مسرحيات شكسبير. يوسف من أسوان وزاملته طوال الفترة التي أقمنا فيها في سجن المرج، وأتيح لي أن أشاهد تحولاته، فقد كان سنه حول العشرين وتلك تجربة سجنه الأولي، وأجزم أنه لم يكن يجول في خاطره مطلقا أن التدريب في الكنيسة علي مسرحيات شكسبير يمكن أن يقوده إلي الاتهام بالشيوعية والعياذ بالله، بل وبعضوية تنظيم سري شيوعي.
بطبيعة الحال كان مصدوما ومضطربا في البداية ولا يصدق ما يجري له، لكنه استطاع رويدا أن يتماسك ، ومالبث أن انخرط معنا في التجربة، وعاش الأهوال التي عشناها بثبات ، خصوصا بعد أن تم ترحيلنا إلي سجن القناطر رجال، عندما كنا قد أوشكنا علي تنظيم إضراب بسبب ما كان يجري من تعذيب كل مساء علي مدي عدة أيام لاثنين من المساجين اللذين تم عزلهما في مكان ما، وكنا فقط سمع أصوات تألمهما القوية وهما عائدان ومحمولان تقريبا بسبب ضراوة التعذيب.
مازلتُ أذكر اسم أحدهما وهو مجدي عبد الحافظ بينما غاب اسم الثاني عن الذاكرة للأسف. ومازلت حتي الآن أشعر بالذنب لأننا لم نستطع إيقاف التعذيب في وقته، لكن التجربة بكاملها كانت جد مختلف عما سبق أن واجهناه، وعليّ أن أضيف هنا أن تلك الحبسة كادت تخلو من زملائنا المخضرمين المدربين علي مواجهة تلك الحالات الطارئة، والتي لم نستطع مواجهتها.
علي أي حال كانت الزنزانة المعدة لمسجون واحد يسكنها اثنان. زنزانة مظلمة بلا نوافذ ويضيئها مصباح كهربائي لا يكفي ضوؤه لتبين أي شئ,
في الأسبوع القادم أستكمل إذا امتد الأجل..
محمود الورداني
5/11/2019
منقول عن:
* زمن القليوبي ( 99 ) الحقيقة أننا لم نقاوم
بعد أن انتهت إجراءات تسليمنا في أحد المكاتب، مضوا بنا إلي زنازيننا ، وأوقفونا في منتصف الطريق، وبدأوا في تغميتنا بأقنعة سوداء، رفضنا بالطبع، بل واستهزأنا بهم، وقال أحدنا ما معناه إننا سياسين ولن نسمح لأحد بتغميتنا. كرر الصول الذي كان يتولي المسألة طلبه وكررنا رفضنا ، فقال لنا إن علينا أن نستعد لمواجه ما سيجري لنا.
بعد دقيقتين أو ثلاثة ، انشقت الأرض عن ثُلة من الجنود بالشدة الثقيلة المعتبرة، يتقدمون نحونا بعصيهم وخوذاتهم. كان عددهم أضعاف عددنا، فضلا عن تسليحهم. لكن المسألة لم تكن هنا، المسألة كانت في جو الإرهاب الذي جرى فرضه منذ اللحظة الأولي بحسم وسرعة.
الحقيقة أننا لم نقاوم ولم يكن ممكنا لنا أن نفكر في المقاومة. وهكذا تم تغميتنا وساقونا نحو زنازيننا، ولم ينزعوا العصابة إلا بعد إدخالنا الزنازين بالفعل. كانت الزنزانة حديثة البناء، معدة لمسجون واحد، بينما ألقي بي ومعي الصديق يوسف فاخوري الذي كنت أتعرف عليه للمرة الأولي: كان مازال طالبا بقسم اللغة الإنجليزية بإحدي كليات آداب الصعيد، وكان السبب المباشر للقبض عليه هو اشتراكه في نشاط الكنيسة في تمثيل مسرحيات شكسبير. يوسف من أسوان وزاملته طوال الفترة التي أقمنا فيها في سجن المرج، وأتيح لي أن أشاهد تحولاته، فقد كان سنه حول العشرين وتلك تجربة سجنه الأولي، وأجزم أنه لم يكن يجول في خاطره مطلقا أن التدريب في الكنيسة علي مسرحيات شكسبير يمكن أن يقوده إلي الاتهام بالشيوعية والعياذ بالله، بل وبعضوية تنظيم سري شيوعي.
بطبيعة الحال كان مصدوما ومضطربا في البداية ولا يصدق ما يجري له، لكنه استطاع رويدا أن يتماسك ، ومالبث أن انخرط معنا في التجربة، وعاش الأهوال التي عشناها بثبات ، خصوصا بعد أن تم ترحيلنا إلي سجن القناطر رجال، عندما كنا قد أوشكنا علي تنظيم إضراب بسبب ما كان يجري من تعذيب كل مساء علي مدي عدة أيام لاثنين من المساجين اللذين تم عزلهما في مكان ما، وكنا فقط سمع أصوات تألمهما القوية وهما عائدان ومحمولان تقريبا بسبب ضراوة التعذيب.
مازلتُ أذكر اسم أحدهما وهو مجدي عبد الحافظ بينما غاب اسم الثاني عن الذاكرة للأسف. ومازلت حتي الآن أشعر بالذنب لأننا لم نستطع إيقاف التعذيب في وقته، لكن التجربة بكاملها كانت جد مختلف عما سبق أن واجهناه، وعليّ أن أضيف هنا أن تلك الحبسة كادت تخلو من زملائنا المخضرمين المدربين علي مواجهة تلك الحالات الطارئة، والتي لم نستطع مواجهتها.
علي أي حال كانت الزنزانة المعدة لمسجون واحد يسكنها اثنان. زنزانة مظلمة بلا نوافذ ويضيئها مصباح كهربائي لا يكفي ضوؤه لتبين أي شئ,
في الأسبوع القادم أستكمل إذا امتد الأجل..
محمود الورداني
5/11/2019
منقول عن:
* زمن القليوبي ( 99 ) الحقيقة أننا لم نقاوم