في ذلك التبادل اللامتناهي بين الحلم و اللاحلم، كانت الأبواب تشرع على حوار آخر أكثر شمولية و اتساعا، ليتوزع بين الانتصار الكلي للذات و الألغاء التام لها. عالم يمد مدراجه لينسفها الآخرـ فتستعير الأشياء تجليات و أشكالا مستنسخة لتعوضها جوار كنهها الخالص من أجل مغالطة الحقيقة للظفر بآماد مؤقتة داخل الحياة، قبل أن توضع في النهاية تحت رحمة قانون صارم لا يتحدث إلا ابجدية وحيدة.
كانت مسامع جدتي إحدى تلك اللحظات المنفلتة من المصادرة. تصغي لكل خيالاتي دون ان تعمد إلى نسفها. بل كانت تحرضني على أن أشرع أشرعتي و أجدف منطلقا نحو المدى المجهول القادر وحده على جعلي أولد من جديد. هل كانت جدتي تسكن هي الاخرى الكون الأخرس نفسه؟
كان الامر يبدو مثيرا، فإنسان في قمة هرم عمره ، يفترض فيه أن يكون تفكيره متمركزا خارج دائرة الحياة التي عاشها، مستندا على إدراكه الواعي لما يعنيه له انفلات الحياة و عدم قابليتها للامتلاك، خصوصا حين يكون على أهبة مغاردتها. و اذا افترضت العكس باعتبار أن الخيال او الحلم هو مطلق يتحدى مطلقا ، لصبح المحدود رحمة يقي شر الإنهاك و اللاجدوى و الكف عن مغامرة تأثيث كون تتلف مساحاته المتوالدة باستمرار كل المعالم و الآثار التي توضع فيه. إذا افترضت أن هذا كان يدور في ذهن جدتي، فما الحلم الذي كان يتبقى لديها و المعبر عن مسالمة بين ذلك الجنوح الجنوني للإبحار في اللامحدود، و بين تصويب كان يفترض حدوثه يجعلها تعيش حياة هادئة ككل الناس؟
لدي شبه يقين أنها كانت ترغب في أن تعيد الحياة إلى منعطف ما من أجل تصويب مسارها وهو يتجه إلى نقطة أضاعت فيها سندها في الحياة. لكنها لم تخسر ممتلكاتها فقط، بل لم يسامحها أحد. وحين كان أولادها الذين استثنهتم من كرمها يفتحون أبوابهم في وجهها، فقد كانوا يفعلون ذلك مخافة كلام الآخرين لا غير. إلا أنهم كانوا يعرفون كيف يثأرون لأنفسهم.
حين رمى بها من خصته بميراثها إلى الشارع،تقدمت بخطى حثيثة نحو مأساتها. وتحولت جولات البحث عن مأوى إلى فصول محاكمات في منتهى القسوة على امتداد ما تبقى من عمرها.
أذكرها وهي تقطع المشاوير بين بيت و آخر. شكلها لا يمكن ان يغرب عن ذهني. جسد كان فارع الطول قبل أن تثقله النكسات و العمر ليكسر استقامته راسما زاوية قائمة، و ليجعل الرأس متقدما خطوة عن القدمين تسبقه يد نحيلة تمسك عصا تتحسس بها المسالك بعد أن تعطلت فعالية البصر و البصيرة.
أحيانا كانت تقع على الأرض/ فبظهر شعرها الأحمر الطويل، و يرتفع صوتها المفعم بالأنين و المعاتبة للموت و الحياة.
حين كانت تفتح لها الأبواب بعد طقوس الاستقبال القاسية التي كانت تبدأ على بعد عشرات الأمتار من وصولها، كانت تعي جيدا ما السلوك الذي يجب ان تتحلى به خلال إقامتها غير المرحب بها. أي كلام و أي تدخل او فعل صادر منها يعقب بمحاضر تكتبها النظرات القاتلة و المداخلات المليئة بالعنف و النقد الجارح و الصراخ الرهيب الذي كان يصنع جو ا يتجاوز اللحظات و الأشخاص، و يظل ماثلا على وجوه الصغار الذين كانوا يلوذون بزوايا الغرف متحولين إلى اجزاء من الجدران مخافة ان يتحول مجرى ذلك النهر الرهيب نحوهم.
يتدفق الصمت في الصمت. تتعاقب موجات الرهبة سابحة في الفضاء و باحثة عن اجساد تولنها بسطوتها المخلصة للنقمة و الثأر من أجل شئ كان يولد كل ذلك القدر من العذاب. لكنه في العمق المتمنع عن الرقابة، كان يتدفق تضامنا بلا حدود مع الجدة. و تكبر الرغبة في انتشالها و جعلها خارج تلك الدائرة الرهيبة التي حشرت فيها.
لم أعرف كائنا ناجى الموت بذلك الصدق و الإصرار مثلما فعلت جدتي. و لم أسمع معاتبة و مؤاخذة بتلك الشدة و الحرقة. كانت تذكر أسماء كل الراحلين من أقرانها وتتساءل لماذا كانت هي الاستثناء. بل تسائل الموت لماذا يمعن في التشفي منها. و لم اعرف من قبل ان الموت امتيازا لا يكون إلا من نصيب المحظوظين. لكن جدتي جعلتني أعتقد ذلك.
هل كنا نحن -الصغار - البديل بالنسبة لجدتي ما دمنا انا كنا الوحيدين الذي تعاملوا معها بعيدات عن حكاية الميراث؟ وهل كنا فعلا نقطة الضوء المتبقية في حياتها بالرغم من انهم كانوا يتهمونها بأنها تسرق لقمتنا؟
كنت أشعر انها تمضغ الحجر. و ان صومها المتواصل لم يكن بهدف آخر غير اعتقادها بأنها هي أيضا كانت تومن انها تعيش بلقمة الآخرين. و أنها كانت ترغب فيما لو امكنها أن تعيش من غير اكل.
حين كانت الضواري تنسحب و يهدا الزئير، لم تكن الحياة تستعيد أجواءها الطبيعية يلقائيا. كانت الأعطاب تظل ماثلة و شاهدة على مدى الحدة التي خلفت كل تلك الانكسارات و العاهات التي تسكن جماجم مشتعلة. وبتناغم مع ذلك الجو الكئيب، يسمع نحيب الجدة مضيفا اللمسة المتبقية للوحة التي كانت تستعد للانتقال إلى متحف الروح لتضاعف من شدة الحساسية اتجاه المشاعر و التعابير و تضاريس الوجوه. اتجاه الأصوات و الإشارات. اتجاه كل اشكال الوأد، أكان ظاهرا أم داخليا. وفي لحظة كتلك، كان كل شئ يتهاوى و تنغلق المسالك. و تصم الآذان لتظل منفتحة على نداء وحيد. نداء الحلم الذي يفتح مداخله ليتم الوصول إليه عبر بوابات مشرعة خارج المنام.
كنت اعي أني لم أكن الحالم الوحيد. عيون الأخرين و تطلعاتهم كانت تفصح عن ذلك. لم تكن لي رغبة كبيرة في أن استمع إلى كل قصص أحلامهم. لا لأنهم كانوا يفتقدون مهارة الحكي المشوق، ولا بسبب وصفهم الذي كان يحتاج إلى الكثير من الدقة، بل لأني كنت اجد أحلامي أكثر التهابا و دفئا. و لأني في معظم الاوقات كنت أفضل ان اجالس نفسي لأستعيد الحلم تلو الحلم، و أستعرض المشهد وراء المشهد، و الوجه بعد الوجه، و أنسكب مع روحي في متاهات و فضاءات كانت تتحدى قدرتي على المضي إلى البعيد. وفي لحظات الاسترخاء و التقاط الانفاس، كنت احاول أن أوجد منفذا لسلطتي داخل ذلك العالم الذي كان ينفتح على مصراعيه بعد ان اضع رأسي على وسادتي.
أوقف شرائط الأحلام وهي تتجه إلى لحظة تحول تفقد الحكاية معها الكثير من البريق في أشواطها اللاحقة. أضع الافتراضات. أعيد تشكيل نفسي. أرسم ملامح أكثر إثارة للوجه الذي يثيرني و أتصنع عدم الاكتراث به. اتصرف في مقاطع الحوار لأجعله ينطق بالكثير من الإفصاح و اجعل اجوبتي أكثر إبهاما و غموضا لتصبح الإثارة كامنة في ذلك التأويل المحير. يتصاعد اعتراض من خارج سلطتي يفسد علي إعادة الصياغة لأجد نفسي خارج الحلم.
أبحث عن منطقة وسطى بين الحلم و اللاحلم. أراها. هي نفسها بكل ملكيتها و توهجها. بكل تفاصيلها و جزئياتها. اميرة تاهت عن مملكة الاحلام. لكن كل شئ فيها يؤكد هويتها. ابنة الربيع التي أدفات نطفتها البلاطات و قمطتها الألقاب المبجلة، ومدت خطاها فاتتها الأفاق لتمر تحت قدميها سراعا ، و ليستقيم في النهاية بساط ذهبي يناطح الأعالي. غير ان شيئا منها كان يمشي على الأرض. ظل ليس ككل الظلال. وتماثل متنافس مع أصله ليتنفض فيه الصدى على مصدره. و لان كل شئ يمضي نحو عمق غرابة بلا قرار، فالحلم يصير حينها هو ان لا تحلم.
أنظر حولي. أستعرض العالم الرجولي الذي يلفني. كل من حولي رجالا. حتى امي كنت اجدها رجلا. بل أقوى من كل الرجال. حنانها كان مطموسا تحت مئات الأطنان من الوقائع القاسية و المريرة دكت معها قواميس الرقة و الأمومة و العطف. و اختفت بعده خلف قناع عظيم السمك، فنست معه هي نفسها شكل وجهها. و لأن خيبتها من العالم كانت بلا حدود، فلم تشا سوى ان تهديه صخورا تتحدى صلابته و شراسته. و لأنه في كل السنين المتوارية لم تعمل إلا على تحقيق ذلك، فلم يكن بوسعي ان أرى غير التماثيل النحاسية. غير أني كنت طفلا. كنت اريد أن أشعر باني طفل. و أن الغذاء لم يكن مطلبي الوحيد. كنت في حاجة ماسة إلى حنان وعطف. لكن ذلك كان مستحيلا.
أعود إليها بعد أن أغلق كل المنافذ التي تفسد علي الهروب إلى كوني الخالص. أقطع المسافات عبر توالي لفات الألوان المتتالية التي تنتقل من القتامة الشديدة لتنفتح تدريجيا. وحين تلوح الالوان الهادئة، أكون قد تخلصت من كل النعوت و الاوصاف و الملوثات و الأسمال، وكل ما يشعرني بأني قادم من عالم وجدت نفسي فيه بطريق الخطأ.
عبدالله البقالي
* Log in or sign up to view
كانت مسامع جدتي إحدى تلك اللحظات المنفلتة من المصادرة. تصغي لكل خيالاتي دون ان تعمد إلى نسفها. بل كانت تحرضني على أن أشرع أشرعتي و أجدف منطلقا نحو المدى المجهول القادر وحده على جعلي أولد من جديد. هل كانت جدتي تسكن هي الاخرى الكون الأخرس نفسه؟
كان الامر يبدو مثيرا، فإنسان في قمة هرم عمره ، يفترض فيه أن يكون تفكيره متمركزا خارج دائرة الحياة التي عاشها، مستندا على إدراكه الواعي لما يعنيه له انفلات الحياة و عدم قابليتها للامتلاك، خصوصا حين يكون على أهبة مغاردتها. و اذا افترضت العكس باعتبار أن الخيال او الحلم هو مطلق يتحدى مطلقا ، لصبح المحدود رحمة يقي شر الإنهاك و اللاجدوى و الكف عن مغامرة تأثيث كون تتلف مساحاته المتوالدة باستمرار كل المعالم و الآثار التي توضع فيه. إذا افترضت أن هذا كان يدور في ذهن جدتي، فما الحلم الذي كان يتبقى لديها و المعبر عن مسالمة بين ذلك الجنوح الجنوني للإبحار في اللامحدود، و بين تصويب كان يفترض حدوثه يجعلها تعيش حياة هادئة ككل الناس؟
لدي شبه يقين أنها كانت ترغب في أن تعيد الحياة إلى منعطف ما من أجل تصويب مسارها وهو يتجه إلى نقطة أضاعت فيها سندها في الحياة. لكنها لم تخسر ممتلكاتها فقط، بل لم يسامحها أحد. وحين كان أولادها الذين استثنهتم من كرمها يفتحون أبوابهم في وجهها، فقد كانوا يفعلون ذلك مخافة كلام الآخرين لا غير. إلا أنهم كانوا يعرفون كيف يثأرون لأنفسهم.
حين رمى بها من خصته بميراثها إلى الشارع،تقدمت بخطى حثيثة نحو مأساتها. وتحولت جولات البحث عن مأوى إلى فصول محاكمات في منتهى القسوة على امتداد ما تبقى من عمرها.
أذكرها وهي تقطع المشاوير بين بيت و آخر. شكلها لا يمكن ان يغرب عن ذهني. جسد كان فارع الطول قبل أن تثقله النكسات و العمر ليكسر استقامته راسما زاوية قائمة، و ليجعل الرأس متقدما خطوة عن القدمين تسبقه يد نحيلة تمسك عصا تتحسس بها المسالك بعد أن تعطلت فعالية البصر و البصيرة.
أحيانا كانت تقع على الأرض/ فبظهر شعرها الأحمر الطويل، و يرتفع صوتها المفعم بالأنين و المعاتبة للموت و الحياة.
حين كانت تفتح لها الأبواب بعد طقوس الاستقبال القاسية التي كانت تبدأ على بعد عشرات الأمتار من وصولها، كانت تعي جيدا ما السلوك الذي يجب ان تتحلى به خلال إقامتها غير المرحب بها. أي كلام و أي تدخل او فعل صادر منها يعقب بمحاضر تكتبها النظرات القاتلة و المداخلات المليئة بالعنف و النقد الجارح و الصراخ الرهيب الذي كان يصنع جو ا يتجاوز اللحظات و الأشخاص، و يظل ماثلا على وجوه الصغار الذين كانوا يلوذون بزوايا الغرف متحولين إلى اجزاء من الجدران مخافة ان يتحول مجرى ذلك النهر الرهيب نحوهم.
يتدفق الصمت في الصمت. تتعاقب موجات الرهبة سابحة في الفضاء و باحثة عن اجساد تولنها بسطوتها المخلصة للنقمة و الثأر من أجل شئ كان يولد كل ذلك القدر من العذاب. لكنه في العمق المتمنع عن الرقابة، كان يتدفق تضامنا بلا حدود مع الجدة. و تكبر الرغبة في انتشالها و جعلها خارج تلك الدائرة الرهيبة التي حشرت فيها.
لم أعرف كائنا ناجى الموت بذلك الصدق و الإصرار مثلما فعلت جدتي. و لم أسمع معاتبة و مؤاخذة بتلك الشدة و الحرقة. كانت تذكر أسماء كل الراحلين من أقرانها وتتساءل لماذا كانت هي الاستثناء. بل تسائل الموت لماذا يمعن في التشفي منها. و لم اعرف من قبل ان الموت امتيازا لا يكون إلا من نصيب المحظوظين. لكن جدتي جعلتني أعتقد ذلك.
هل كنا نحن -الصغار - البديل بالنسبة لجدتي ما دمنا انا كنا الوحيدين الذي تعاملوا معها بعيدات عن حكاية الميراث؟ وهل كنا فعلا نقطة الضوء المتبقية في حياتها بالرغم من انهم كانوا يتهمونها بأنها تسرق لقمتنا؟
كنت أشعر انها تمضغ الحجر. و ان صومها المتواصل لم يكن بهدف آخر غير اعتقادها بأنها هي أيضا كانت تومن انها تعيش بلقمة الآخرين. و أنها كانت ترغب فيما لو امكنها أن تعيش من غير اكل.
حين كانت الضواري تنسحب و يهدا الزئير، لم تكن الحياة تستعيد أجواءها الطبيعية يلقائيا. كانت الأعطاب تظل ماثلة و شاهدة على مدى الحدة التي خلفت كل تلك الانكسارات و العاهات التي تسكن جماجم مشتعلة. وبتناغم مع ذلك الجو الكئيب، يسمع نحيب الجدة مضيفا اللمسة المتبقية للوحة التي كانت تستعد للانتقال إلى متحف الروح لتضاعف من شدة الحساسية اتجاه المشاعر و التعابير و تضاريس الوجوه. اتجاه الأصوات و الإشارات. اتجاه كل اشكال الوأد، أكان ظاهرا أم داخليا. وفي لحظة كتلك، كان كل شئ يتهاوى و تنغلق المسالك. و تصم الآذان لتظل منفتحة على نداء وحيد. نداء الحلم الذي يفتح مداخله ليتم الوصول إليه عبر بوابات مشرعة خارج المنام.
كنت اعي أني لم أكن الحالم الوحيد. عيون الأخرين و تطلعاتهم كانت تفصح عن ذلك. لم تكن لي رغبة كبيرة في أن استمع إلى كل قصص أحلامهم. لا لأنهم كانوا يفتقدون مهارة الحكي المشوق، ولا بسبب وصفهم الذي كان يحتاج إلى الكثير من الدقة، بل لأني كنت اجد أحلامي أكثر التهابا و دفئا. و لأني في معظم الاوقات كنت أفضل ان اجالس نفسي لأستعيد الحلم تلو الحلم، و أستعرض المشهد وراء المشهد، و الوجه بعد الوجه، و أنسكب مع روحي في متاهات و فضاءات كانت تتحدى قدرتي على المضي إلى البعيد. وفي لحظات الاسترخاء و التقاط الانفاس، كنت احاول أن أوجد منفذا لسلطتي داخل ذلك العالم الذي كان ينفتح على مصراعيه بعد ان اضع رأسي على وسادتي.
أوقف شرائط الأحلام وهي تتجه إلى لحظة تحول تفقد الحكاية معها الكثير من البريق في أشواطها اللاحقة. أضع الافتراضات. أعيد تشكيل نفسي. أرسم ملامح أكثر إثارة للوجه الذي يثيرني و أتصنع عدم الاكتراث به. اتصرف في مقاطع الحوار لأجعله ينطق بالكثير من الإفصاح و اجعل اجوبتي أكثر إبهاما و غموضا لتصبح الإثارة كامنة في ذلك التأويل المحير. يتصاعد اعتراض من خارج سلطتي يفسد علي إعادة الصياغة لأجد نفسي خارج الحلم.
أبحث عن منطقة وسطى بين الحلم و اللاحلم. أراها. هي نفسها بكل ملكيتها و توهجها. بكل تفاصيلها و جزئياتها. اميرة تاهت عن مملكة الاحلام. لكن كل شئ فيها يؤكد هويتها. ابنة الربيع التي أدفات نطفتها البلاطات و قمطتها الألقاب المبجلة، ومدت خطاها فاتتها الأفاق لتمر تحت قدميها سراعا ، و ليستقيم في النهاية بساط ذهبي يناطح الأعالي. غير ان شيئا منها كان يمشي على الأرض. ظل ليس ككل الظلال. وتماثل متنافس مع أصله ليتنفض فيه الصدى على مصدره. و لان كل شئ يمضي نحو عمق غرابة بلا قرار، فالحلم يصير حينها هو ان لا تحلم.
أنظر حولي. أستعرض العالم الرجولي الذي يلفني. كل من حولي رجالا. حتى امي كنت اجدها رجلا. بل أقوى من كل الرجال. حنانها كان مطموسا تحت مئات الأطنان من الوقائع القاسية و المريرة دكت معها قواميس الرقة و الأمومة و العطف. و اختفت بعده خلف قناع عظيم السمك، فنست معه هي نفسها شكل وجهها. و لأن خيبتها من العالم كانت بلا حدود، فلم تشا سوى ان تهديه صخورا تتحدى صلابته و شراسته. و لأنه في كل السنين المتوارية لم تعمل إلا على تحقيق ذلك، فلم يكن بوسعي ان أرى غير التماثيل النحاسية. غير أني كنت طفلا. كنت اريد أن أشعر باني طفل. و أن الغذاء لم يكن مطلبي الوحيد. كنت في حاجة ماسة إلى حنان وعطف. لكن ذلك كان مستحيلا.
أعود إليها بعد أن أغلق كل المنافذ التي تفسد علي الهروب إلى كوني الخالص. أقطع المسافات عبر توالي لفات الألوان المتتالية التي تنتقل من القتامة الشديدة لتنفتح تدريجيا. وحين تلوح الالوان الهادئة، أكون قد تخلصت من كل النعوت و الاوصاف و الملوثات و الأسمال، وكل ما يشعرني بأني قادم من عالم وجدت نفسي فيه بطريق الخطأ.
عبدالله البقالي
* Log in or sign up to view